سررت حقا حين قرأت ما كتبه العزيز ''يوسف عبد العزيز'' في ''الرأي الثقافي'' (ع 13827، 15 آب 2008) تحت عنوان ''قلبه الذي مات من شدة الحب''، فقد قدم وداعية لمحمود درويش مُوْجِزَةً السياسي والثقافي والأدبي والخاص الذاتي في صعيد واحد. وقبله هالتني صراحة السّياسيّ الأديب ''سليم الزعنون-أبي الأديب'' في تأبين محمود درويش، لأنها كانت صراحة صادقة، اختلف بها عن الذين ''لفُّوا ولفلفوا'' في كلماتهم. ومعهما أدهشني الحزن النبيل ورحابة الأفق الدافئة التي نديت بها كلمات ''سميح القاسم'' صنو روح درويش، والطرف الراسخ من ثنائية الصبا والشباب والشعر وفلسطين مع محمود. أركّز على هؤلاء لأنهم اعترفوا لدرويش بإنسانيته وشعريته ومبدئيته ولم يصنِّموه؛ ولأنهم رغبوا رغبة حقيقية في الاستجابة لدرويش الذي تغير، وتغير شعره معه، فلمَّح الزعنون وصرَّح عبد العزيز وكشف القاسم رغبة في الإعلان عن دوافع ذلك التغير، والمسكوت عنه الذي تواطأ السياسي والثقافي والشعبي على ستره!.
ما الذي جعل صاحب ''نحن في لحم بلادي.. هي فينا'' يحتاج إلى ''ذاكرة للنسيان''؟ ولماذا أصبح غناؤه القديم ''سقطت ذراعك فالتقطها.. وسقطت قربك فالتقطني.. واضرب عدوك بي.. فأنت الآن حر'' بالياً في نظره، ليعلو غناؤه الجديد: ''وأنت الآن.. أنت الآن حر، يا ابن نفسك، أنت حر من أبيك ولعنة الأسماء''؟ كيف تحول خطاب درويش البدايات من ''وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافر، إنني العاشق والأرض حبيبة''، إلى خطاب نقيض عند درويش حصار بيروت ''وطني حقيبة، وحقيبتي وطني، ولكن.. لا رصيف، ولا جدارْ''، ثم من بعدهما ''وطني قصيدتي الجديدة''؟ لماذا تغير مفهوم المنفى - الوطن عند درويش، من أرضٍ هي الفردوسُ المفقود في البدايات، إلى ''وطني حقيبة، في الروح الغريبة...''، ثم صار المنفى هو البيت ''الآن، في المنفى، نعم في البيت، في الستين من عمر سريع يوقدون الشمع لك''، بل حديقة قبالة ''الوطن الحديقة'' والمنفى ''السياج والتيه'' قديما؟ ولماذا صار درويش قادرا على وصف ''حدائق المنفى'' بعد أن صارت الطريق ''تؤدي إلى طلل البيت تحت حديقة مستوطنة''، وجاهر بدعوة علنية صريحة أن يرفض جيل كامل من ناشئة الشعراء الفلسطينيين التأثر به في رسم صورة غير حقيقية لفردوس أسهم هو نفسه في رسمها، ودعاهم إلى عدم التأثر بالرحيل أو الغياب مثله حينما يرسمون صورة الوطن، والمنفى: ''هناك من تمشي خطاه على خطاي، ومن سيتبعني إلى رؤياي. من سيقول شعرا في مديح حدائق المنفى، أمام البيت، حرا من عبادة أمس، حرا من كناياتي ومن لغتي''، لتتحقق حرية درويش تماما كما تتحقق حرية هؤلاء الخارجين من عباءته عليه: ''فأشهد أنني حي وحر حين أنسى!''؟.
لماذا يتهرب السياسي من نزع صفة ''شاعر المقاومة'' عن محمود درويش ''العادي''؟ ولماذا يرفض الثقافي والنقدي أن يخوض في قراءة تحولات درويش؟ ولماذا يصر الشعبي والجماهيري على وسم درويش بسمات خطبته الحماسية - قصيدته الجميلة يومها ''سجِّل أنا عربي''؟ لماذا تحدثوا عن درويش عضو اللجنة التنفيذية، ومدير الدائرة الثقافية فيها، ثم تجنبوا الحديث عن استقالته منهما، ورفضه الاستيزار للثقافة في السلطة الفلسطينية، واعتزاله في باريس، وقطع المخصَّصات المالية عنه شهورا؟ ولماذا يريد المثقف منه أن يظل ''المسيح الحافي'' على درب الآلام دون أن يقول شعرا ''ذاتيا'' في ''وصف الضَّباب''، أو حتى في ''الذباب الأخضر''؟.
لقد أعلن درويش منذ زمن طويل (1972) أنه يتملكه حس خاص بالشعر، ورغبة جامحة في فك أغلال ''سجل أنا عربي'' عن عنقه، عندما كتب قصيدته الإشكالية الأولى ''سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا''. لكنه على طريقته الجمالية ''يجب أن تكون معنوياتك عالية، حتى لو كنت على خازوق'' - أسهم بخطابه العالي، وشعره المُوَتِّر، في رفع صوت فلسطين والفلسطيني عربيا ودوليا. وظل على ذلك حتى تلبَّسته حالة مقابلة حدَّ المطابقة بين الفلسطيني وإخوته العرب، ويوسف وإخوته الذين ألقوا به في غيابة الحصار في بيروت سنة (1982).
سقط الصوتُ العربيّ حينَها تحت لهيب سياط الحقد والكراهية واللاإنسانية، وصارت ''أنا عربي'' قاصمة لظهره، لكنّها ظلّت ثقافيّا وجماهيريا هي المطلب النّموذج. ولمّا كانت الانتفاضة الأولى - بعد شهور من بدئها تقريبا - كان التّراجع على المستوى الفلسطينيّ ظاهرا، فقد خرجت وثيقة/ رسالة من منظّمة التّحرير الفلسطينيّة تقرّ فيها بحلّ الدّولتين وإمكانية الاعتراف بالعدوّ. ورغم ذلك ظلّت الأجساد العارية تواجه الدّبّابات، ومقاليع الأيدي تواجه المدافع والبنادق... قتلى شهداء، وتهديم وتحريق، وتجهيل وبطالة وفقر، وشعب يؤمن بالتّحرير من النّهر إلى البحر، لكن في المقابل قيادة تسعى للبحث عن دُوَيلة مَسْخ في أيّ مدينة، على أيّ قطعة أرض... الشّهداء والجرحى والمعتقلون المناضلون والجماهير يسعون إلى هدف، والقيادة توهمهم بأنّها توظّف أجسادهم ودماءهم وصبرهم وشقاءهم وبطالتهم وعذاباتهم وجهلهم للهدف نفسه؛ ودرويش شاهد على هذا وشاهد على ذاك!! يرى ما لا يُرَى، ويرى ما لا يُريد... حتّى كانت أوسلو.
لا أريد القول هنا إنّ درويش كان يرفض أوسلو أو يقبلها، فمواقفه السّياسية حيالها معروفة، لكنّ درويش بعد أن استقال، وزار فلسطين للمرّة الأولى منذ خروجه منها سنة 1972، رأى ما لا يستطيع أن يتحمّله. منذ أن قال درويش سنة 1986: ''آن للشّاعر أن يقتل نفسه''، ومنذ بكى في الحقبة نفسها: ''أنا يوسفٌ يا أبي، إخوتي لا يحبّونني''، ومنذ قوله بعدها: ''منذ ثلاثين شتاءْ، وهوَ يحيا خارجي'' كان متوقّعاً منه أن ينكسر. هشاشةُ الشّاعر تقوى على حَمْل أعباء الدّنيا كلّها، إلاّ أن يحسّ أنّه أسهم بشِعره عالي الخِطاب والنّبرة في انضواء الجَماهيريّ والثقافيّ تحت عباءة السّياسيّ، ثمّ يجد السّياسيّ يسعى في خطّ مُغاير لخطّه المُعلَن الذي بسببه قال الشّاعر، وبسببه صدّقه الثقافيّ والجماهيريّ. والذي يقرأ في ديوان درويش ''لا تعتذر عمّا فعلت'' يجد أنّ درويش رفض الاعتذار لأحد: لا السياسيّ ولا الثقافيّ ولا الجماهيريّ لأنّهم جميعا استنزفوه، وأسهموا في احتراقه لينبعث من رمادِه ''عنقاء خضراء''، لكنّه اعتذر لأمّه: حوريّة التي قضى زمنا طويلا بعيدا عنها فحرمها من أن تمارس أمومتَها، وفلسطين التي ''بغيابها كوّن صورتها''، ويجده يقول صارخاً في قصيدته ''زيتونتان ''(ص53-54):
''كلّ الملائكة الذين أحبُّهم
أخذوا الرّبيع من المكان صباحَ
أمسِ، وأورثوني قمّة البركانْ
أنا آدم الثّاني. تعلّمت القراءةَ
والكتابةَ من دُورس خطيئتي،
وغدي سيبدأ من هُنا، والآنْ
إن شئتُ أن أنسى... تذكَّرتُ
انتقيتُ بدايةً، ووُلِدتُ كيفَ أردتُ
لا بطلاً... ولا قُرْبانْ''.
كان ذلك حسّ درويش في تلك المرحلة، خصوصاً بعد الزّيارة التي كشفت له حال الوطن الأرض، وحال الجماهيريّ، وحال السّياسيّ ''الملائكة الذين أحبَّهم''، وحال الثقافيّ أيضا.
أربعة عقود تكشَّفت عن سُلطة هزيلة، وصراعات، وقُبْح، وتنازُلات، ووُعود كاذبة، وسعي للثّراء عن طريق الوكالات، ونهب أموال المساعدات والمشاريع الإنمائيّة السّرابيّة، وتقاسُم حصص... حالَ الوطن مسخاً، مع ما رافق هذا كلّه من تمدّد سرطانيّ استيطانيّ مُريع، وخلافات فئويّة وجهويّة ومصالحيّة ومراكز نفوذ لا حصر لها.
أمام هذا المشهد الدّالّ على تحطّم الحُلم، ومسخ الوطن، وتضاؤل القضيّة، وتشظّي الذّات الجمعيّة، وأمام مشهد فقدِ الآخر أيّ معنى إنسانيّ، وامتداد الدّورة التاريخية الدّائبة التي لم تنتهِ: دورة نزيف الدّم الفلسطينيّ منذ كان حتّى زمانه ذاك، وزماننا هذا، ذاك الذي وصفه بقوله: ''أولى أغانينا دمُ الحبّ الذي سفكتْهُ آلهةٌ، وآخرها دمٌ سفكتهُ آلهةُ الحديد'' - أمام هذا كلّه قال درويش في قصيدته ''كحادثة غامضة'' (ص 152):
''أمّا يبوسُ، فلن تتحمّل أكثر. فالجنرالُ
استعار قِناع النبيّ ليبكي ويسرقَ
دمع الضّحايا: عزيزي العدوَّ!
قتلتُكَ من دون قصدٍ، عدوّي العزيزَ،
لأنّك أزعجتَ دبّابتي''.
لم يكن أمام ذاتٍ شعريّة كذات درويش إلاّ أن تتشظّى، تتحطّم، تنتحر، أو تبحث عن طريق أُخرى تحافظ بها على نفسها. ومنذ ذلك الحين ودرويش يعيشُ ''اثنين'' لا ''واحداً''! لقد ''انكسرت السّروة''، وأصبح يبحث عن حرّيّته: ''أمّا أنا فأقول لاسمي: أعطِني ما ضاع من حرّيّتي''، نعم لقد تعب درويش، وأصبح غير قادر على المتابعة، وليس معنى ذلك أنّه كان راضيا عمّا يحدث: ''أمّا أنا فأقول: أنزِلْني هنا. أنا مثلُهم لا شيءَ يُعجبُني، ولكنّي تعبتُ من السّفر''. أصبح درويش في حاجة ماسّة لمثل قوله ردّا على نفسه حين تساءل: ''ماذا سيبقى من كلامِك أنتَ؟ - نسيانٌ ضروريّ لذاكرة المَكان!''. وقد تمكّن -رغم وعيه بحالةِ ''الفصام الواعي'' التي أوصله إليها السياسيّ والثقافيّ والشّعبيّ- من الإبقاء على الذّات مُقاومة وإن بطريقة أُخرى. ترى هذا في قصيدته ''لو كنتُ غيري'' (ص 112):
''لو كنتُ غيري في الطّريق، لقلتُ
للجيتار: درِّبني على وتر إضافيّ!
فإنّ البيت أبعدُ، والطّريقَ إليه أجملُ
- هكذا ستقول أغنيتي الجديدةُ - كلَّما
طال الطريق تجدَّد المعنى، وصِرتُ اثنينِ
في هذا الطّريقِ: أنا ... وغيري!''..
***
أعيدُ التّساؤل هنا: لماذا تواطأ السّياسيّ والثقافيّ والجماهيريّ على إبقاء هذا كلّه طيّ الأدراج والقلوب والجيوب؟ ولماذا يُصرُّ هذا الثالوث المتواطئ على ''تصنيم'' محمود درويش حتّى وصل الأمر ببعضهم إلى جعلهِ ''شيخ الإسلام''؟..
***
أوّلاً: لأنّ العقليّة العربيّة تعشقُ ''الأصنام والأوثان''، ولا تقوى على العيش من دُونها.
وثانيا: لأنّ الأصنام والأوثان ممّا يسهُل تحطيمُه عندما تزول الحاجة إليه. ألا يرى القارئ الكريم ما فعلتهُ رسائل غسّان كنفاني إلى غادة السمّان -حينما نشرتها- بصُورتِه؟ بل لعلّ الأوثان المصنوعة من ''تَمْر'' تُفيدُ في حالة الجُوع فتُلْتَهم، وإذا كانت من حطب فقد يُستفادُ منها بإحراقها للدّفء أو غيره حين الحاجة! أمّا الإنسان، فإنّ تحطيمَه يستَحيل!.
وثالثا: لأنّ ''تصنيم'' محمود درويش بوصفِه ''شاعر المقاومة'' سيحفظ للجميع رغباتهم، ويؤدّي لهم أهدافهم؛ فالسّياسي ''يُبقي الطّابق مستوراً''، والثقافيّ يحقّق مسعاهُ بالمحافظة على صورة الوطن والصّراع في أذهان الجماهيريّ كما يريد: نقيّة خالصة لا شِيَةَ فيها، والشّعبيّ الذي فقد الوطن على الأرض، سواء أكان في المنفى الشّتات أم في الوطن الذي قضمه الاحتلال شيئا فشيئا، يريد المحافظة على صورة الوطن في القصيدة!.
***
لقد مات ''أنكِيدُو'': درويش الشّاعر المغنّي منذ أواسط الثّمانينيّات، ورتّب جنّازه وقُدّاسه بنفسه منذ كان حصار بيروت ومذابح صبرا وشاتيلاّ والمخيّمات الأخرى سنة 1982 وبعدَها. ولقد اضطرب ''جلجامش'': درويش الإنسان العاديّ المتشظّي الهشّ بحثاً عن سرّ الموتِ وسرِّ الحياة، وبدأت علامات الضّعف والمرض تظهر عليه شيئا فشيئا، حتّى كانت العمليّة الأولى في القلب... ثمّ كانت الثّانية والأخيرة. أولاهما في باريس التي عشقَها، والتي شكَّلت وعيَه من جديد بعد أن قضى فيها شُهوراً وحيداً معزولاً أو معتزلاً بلا مال، وشكّلت انعطافاً في رؤيته للشّعر بعيدا عن السّياسيّ، والأُخرى في بلادِ ''نِيرُون'' سادنِ السّماء، وحامل مفاتيح أروقةِ ''آلهةِ العذابِ المعدنيّ''، في مُفارقةٍ لعلّها أعجب ما يكون!.
مع هذا كلّه، فإنّ شِعر درويش لم يفقد جماليّاته، بل الصّحيح أنّ جماليّاته وشِعريَّتَه وأدبيّته وإيقاعه كلّها تنامت حتّى بلغت الذّروة في ''أثر الفراشة''، ويُعدّ صحيحا القول: إنّ شِعر درويش ونثرَه كانا وما يزالان في قمّة الأدب العربيّ، بل الإنسانيّ: جمالاً وعُمقا وثراء وإيقاعا ولُغة وتشكيلا...
هكذا، مات أنكيدو، ورحل جلجامش، فلا تُحمّلوه الآن، بعد رحيله، أعباءً لم يكُنْ قادراً على حملها قبلَ الرّحيل... ولا تصرّوا على الإثمِ بإلصاقِ ما صار ينفرُ من إلصاقِه به قبل موتِه... اعترفوا بإنسانيّة درويش، ولا تُصنِّموهُ لتحطِّموهُ في حُضوره، كما حطّمتموه في غيابِه... اعترفوا بإنسانيّة درويش لكي تعترفوا بإنسانيّتكم أيضاً، وتعرفوا أنّكم لستُم آلهةً، ولا أصناما ولا أوثانا... اعترفوا بإنسانيّة محمود درويش، وهشاشتِه، ولا تغتالُوه من جديد!
22-8-2008