كلما هممت بالكتابة أو بالحديث عن محمود درويش، أتخيله يطل من عليائه على دنيانا، وقد تخفّف من أعباء المجاملة واللياقة وضرورة أن يتصرف، وهو الكبير، بترفع، فيأخذني التهيب وأرجئ الامر الى لقاء مغلق فأصارحه متوقعاً أن تذوب كلماتي في ثنايا ابتسامة السخرية التي تغطي كامل وجهه وتجعل عينيه أشبه بعيني ثعلب أتعب المكر الطفولي وما تعب، بل ظل متحفزاً لهجوم جديد قد يأتيه من حيث لا يتوقع... فإن لم يأت بادر هو الى الهجوم استباقاً.
الأخطر من محمود درويش، شاعر عصرنا، هو محمود درويش ما قبل الشعر وما بعده: العقل المفتوح على الثقافة الإنسانية، الوجدان اليقظ المتنبه الى موقع العدالة في التصرف وفي القول، من داخل إيمانه بأنه صاحب قضية... بل لعل يقظته الوجدانية قد دفعت به في حالات كثيرة الى اختراق الحدود المحرمة للكلام في المحظور، وجعلته يمشي على الجمر وهو يدرك أن من خلفه قد يرمي عليه حرم الخيانة، في حين أن من أمامه لن يستقبل دعوته بما تستحق من حفاوة منهكة للعقل ومدمرة لاستقراره في قلب أوهامه المحروسة جيداً... بالسلاح النووي.
وعلى امتداد ست وثلاثين سنة من الصداقة تعرفت الى بعض شخصيات محمود درويش، وهي عديدة ومتعددة بحيث انني لا أجرؤ على الادعاء انني قد عرفت »كل« محمود درويش...
مع كل ديوان جديد كنت أكتشف جديداً في محمود درويش، فإذا ما التقينا وتوغلنا في النقاش كنت أتيقن من أن رحلة محمود درويش نحو الاكتمال مستمرة ومتواصلة، تحاول اختراق الصعب في اللغة وفي المعنى، في الفكر السياسي كما في الوجدان الإنساني، وتلامس المحظورات بغير تهيب، اتكاء على الواقع العربي الرسمي الذي يمنع على أية قيادة أن تتخذ لنفسها صفة القاضي أو الكاتب بالعدل.
ومن أسف فإن صعود محمود درويش نحو ذروة التحدي في تناول الأبعاد الفكرية ـ السياسية للقضية التي حولها التخلي أو العجز أو الأمران معاً الى مشكلة، قد تزامن مع هبوط كارثي في مستوى القيادات وبالتالي في مستوى الصراع السياسي الذي كان مقدّراً له أن يستولد الفجر الجديد فإذا به يعجل في إفراغ الصراع من مضمونه الإنساني العظيم، كقضية تتصل بمستقبل شعب وأمة بل انها تتصل بالمستقبل الإنساني جميعا، الى مسألة نزاع حدودي ونقاش بيزنطي حول الادعاءات التاريخية لأهل الأسطورة والحقوق الطبيعية لأهل الأرض.
ولان محمود درويش من أهل الأرض فقد كان ممتلئا بحقه فيها، وإن كان هذا الامتلاء بحقه لم يمنعه من أن يتجاوز »العدو« في الإنسان الآخر الذي جاء يدّعي سبقه فيحاول محاورته، مع وعيه المسبق بخطورة هذه المحاولة، سياسياً واجتماعياً وحتى على المستوى الفكري.
فمحمود درويش، في نهاية المطاف، فرد، في حين أن »محاوره« مؤسسة دولية عاتية، بإمكانات غير محدودة، فكرياً وسياسياً ومادياً، وبتاريخ حافل بالتجارب والمحاورات والصفقات الدولية، التي احتلت بخطورتها جانبا عظيماً من الاهتمامات والمشاغل الدولية على امتداد نصف قرن أو يزيد تمهيداً وإعداداً وتحضيراً، ثم احتلت نصفه الآخر في تأكيد منعتها في مواجهة ذلك الحشد العربي الذي يفتقد أول ما يفتقد الأسباب العملية لوحدته، وبالتالي أبسط مقوّمات صموده أمام الإغراءات والضغوط، ثم أمام القوة العاتية التي يمكنها أن تقرر مصير الأرض وأهلها، بغض النظر عن موقع الحق وأصحابه.
* * *
عندما التقيت محمود درويش، لأول مرة، في القاهرة، مطلع العام ،١٩٧٢ كان حديث الخروج من جنته، مسبوقاً بشهرته الممتازة كمقاوم للاحتلال، تجلله حيثما ذهب قصائده ذات النبرة الحماسية المؤكدة للصمود، بل والى تحدي هذا »العابر« المحصن بقوة القتل.
ولعل صدمته الأولى كانت عبر هذا الاستنجاد الملح من أهل »الخارج«، مصدر الأمل بالتحرير والعودة، بهذه القصيدة التي تكتسب أهميتها أولاً وأخيراً من واقع أنها قيلت في »الداخل« وفي مواجهة من يحتل »الداخل«... وأنها وإن كانت تبشر بصمود أهل »الداخل« ورفضهم الاحتلال الإسرائيلي، فإنها لا يمكن أن تعني أن هؤلاء الأهل المعزولين في »الداخل«، والذين يعاملون كأسرى حرب، سيقدرون على مواجهة العدو وإلحاق الهزيمة به بصمودهم مجرداً... بل إنه صمود بطولي في انتظار أن يتلاقى الأهل، أي الأمة العربية، في ساحة تحرير فلسطين، حيث يمكن لمن في الداخل أن يلعبوا دورهم في الفصل الحاسم في انجاز المهمة بالاتكاء على قوة أهلهم العرب، وليس في التصدي لأعبائها التي تفوق طاقاتهم بما لا يقاس.
كان قد جاء يطلب سيفاً عربياً، ولم يكن ليتصور أن »العرب« سيطلبون منه، كلما التقاه نفر منهم، أن ينشدهم »سجل أنا عربي«.
ولقد بلغ من حدّته في رد فعله على مطالباته بأن يبدأ وينتهي بـ»سجل أنا عربي« بأن صار يهين من يطلبها حتى لو كان يعرف أن البعض كان يطلبها تكريماً لشاعرها، وتوكيداً لالتزامه بالقضية بأبسط تعبير مباشر يتصل بها.
اكتملت الفاجعة عند محمود درويش عندما عرف من قرب حركة المقاومة الفلسطينية، بقادتها الكثر، وخلافاتهم التي لا تنتهي، وعندما رأى بأم العين كيف أفسد المناخ المحيط بالمقاومة الثوار الشبان الذين جاؤوها كي يعودوا الى فلسطين وانتهوا وقوداً لحركة صراع الأنظمة مع التنظيمات المقاومة، أو أفسدهم الطموح الى السلطة في أوطان غير وطنهم وبالسلاح الذي كان منذوراً للتحرير.
وافترض أن تجربة المقاومة الفلسطينية في بيروت، وهي هائلة الغنى، تمتزج فيها البطولات بالتعثر، ويمتزج فيها الإيمان بالحق في وطن بمغريات السلطة التي تجيء الى حامل السلاح فتحرف سلاحه عن هدفه، قد عززت عند محمود درويش اقتناعه بأن »الخارج« مفسدة للفلسطيني فيه، يبعده أكثر فأكثر عن »الداخل« الذي لا بد سيتأثر بوقوعات »الخارج« فيزداد يأساً وقنوطاً.
وجد محمود درويش الثوار يفقدون ـ تدريجاً ـ وجهتهم الأصلية.
عاش قريباً منهم، محتفظاً بمسافة تمكنه من أن يرى ويعرف ويكتشف ويناقش، وينتقد ويعترض.
كان يقدّر البطولة، ولكنه يخاف من التيه،
وكان يتفهم ظروف هؤلاء المقاتلين الشبان الذين وجدوا أنفسهم يدخلون تجربة مفزعة تتمثل في أن يتحولوا الى سلطة بديلة، في وطن ليس لهم، فيبتعدوا عن طريقهم الى وطنهم، وتتبدل أولوياتهم في قلب الصراع. يوماً بعد يوم كان محمود درويش يتابع، بفزع، كيف يتحول الثوار الى ميليشيا في شوارع المدينة التي فتحت لهم قلبها، وكيف يُستدرجون ثم يقبلون بتردد، في بداية الأمر، ثم بشيء من الشهامة، نصرةً لصديق أو رفيق سلاح، بحيث يغدون طرفاً في منازعات داخلية حول السلطة، في هذه الدولة العربية أو تلك، ثم الى طرف في محور عربي مخاصم لمحور عربي آخر، والكل يتبارز بشعار فلسطين الى حد تحطيم المقدس في الشعار وفي القضية.
ولقد عانى محمود درويش تمزقاً هائلاً وهو يقارب بين ما يعرفه عن واقع »الداخل« وما بات يعرفه الآن عن »ثورة الخارج« وما شهد عليه من صراعات داخل كل معسكر، فضلاً عن الصراع الآخر المفتوح دائماً لمحاولة استنفاذ استقلالية القرار الوطني الفلسطيني... وهي محاولة كلفت العديد من قادة الثورة حياتهم، كما كلفت آخرين استقلاليتهم وقدرتهم على اتخاذ القرار... في حين اندفعت قيادات اخرى تحت لواء هذا الشعار الى حد المخاصمة التي كان لا بد أن تنعكس انقساما داخل الصفوف كثيرا ما شارف حد الاقتتال الداخلي.
لكن عبقرية محمود درويش ظلت تتجلى في الفصل القاطع بين موقفه السياسي من هذا النظام أو ذاك وبين علاقته بالبلد المعني، سواء كان مصر أو سوريا أو تونس... أما لبنان فحكاية أخرى.
القضية عظيمة، بجلال قداستها، وشرعية الحق فيها،
وهي قضية عربية، بل هي القضية العربية إذ هي تختزن أحلام أجيال من شباب العرب، في المشرق والمغرب، في التحرير والتحرر، في الوحدة والتقدم... في تحويل الأحلام التي عاش في أفيائها أجيال من المناضلين، فعملوا ما وسعتهم الطاقة، وقدموا زبدة فكرهم وعرق الزنود وصولا الى الدماء في مواجهة الاحتلال، على اختلاف جنسياته، وهم يفترضون أنهم يتقدمون في اتجاه فلسطين باعتبارها الجامع بين الوحدة والتحرر والتقدم.
ولقد تجرع محمود درويش، مثلنا، المرارات وهو يطوف في البلاد العربية فيستقبله الجمهور مغرباً ومشرقاً وكله فلسطيني بعواطفه وبعقله وباستعداده للقتال، فإذا ما دعاه أهل القصر اكتشف أنهم يخافون من فلسطين أكثر مما يخافون من إسرائيل، وربما لهذا هم يخافون من شعوبهم أكثر مما يخافون من مشروع الهيمنة الاميركية الداعم للاحتلال الاسرائيلي.
وبعض وجوه عبقرية محمود درويش انه استطاع الفصل الكامل بين علاقته الرسمية الاضطرارية بأهل النظام في الدول وأشباه الدول التي تردد اليها وبين جماهير شعره التي تكاد تكون حاصل جمع شعوب تلك الدول، رجالاً ونساء، شيوخاً وفتية، وأصحاب مواقع رسمية يتنكرون كي يسمعوه، ويرددون أشعاره حتى وهم يبلغونه ـ برفق ـ أن يخفف الوطء حتى لا يفسد لهم علاقتهم بجمهورهم... أو علاقته بهم.
* * *
بين مزايا محمود درويش أنه قارئ ممتاز،
وليست مبالغة القول إن محمود درويش قد صرف سنوات طوالاً من حياته، لا سيما في الحقبة الأخيرة، على إعادة صياغة لغته.
كانت موهبته، في البدايات، أعظم من لغته وأوسع.
ولقد رأى حتماً عليه أن يوسع لغته لتستوعب موهبته، وهكذا تسنى لنا أن نغرف من بحر محمود درويش لآلئ جديدة. كان ضرورياً لإنتاجه أن يتوغل في اللغة حتى تتسع لفكرته.
إن اللغة في دواوينه الأخيرة ليست أكثر شفافية وغنى في إيحاءاتها وفي مضمونها فحسب، بل إنها أكثر سلاسة وأعمق دلالة وأعظم استيعاباً لديوان الشعر العربي العظيم، بدءاً بالجاهلية وحتى الشعر الحديث، وإن كان المتنبي باب الدخول الى المعنى والى المبنى والمثال الذي يكبر به من يعتمده أستاذاً... خصوصا وقد أمكن لعبقرية محمود درويش أن تحل القضية، الارض، الوطن، التحرير، محل الشخص وطموحاته ومغامراته الدونكيشوتية.
كثير من الشعراء يشيخون مبكراً لأنهم لا يقرأون،
كثير منهم يصمت مبكراً لأنه يهمل لغته فلا يرعاها ولا يكتشف كنوزها التي تسهم في توسيع مدى رؤيته وتعزز قدرته على التعبير عن الرؤى والأخيلة والتوهمات التي غالباً ما تكون إعادة صياغة للأفكار ربما تستحق المزيد من الاهتمام بأناقتها وبأبعادها التي تجعلها »كونية«.
* * *
يسبقني الى البيت، وهو الدقيق في مواعيده الى حدود الإرهاب، فيبادرني بالعقاب القاسي لأني تأخرت: كيف سنهزم إسرائيل ونحن لا نحترم مواعيدنا، مع أن العرب يشترون أغلى الساعات في العالم. الساعة عندكم يالعرب للزينة والتباهي بذهبها. تنسون أن فيها عقارب تتحرك فتصنع أحداثا قد تغير العالم.
... وفي حالات كثيرة، يفاجئني حين أرفع رأسي عن الورق بحضوره. ولا أعاتبه لأنه جاء بغير موعد، وأتركه يعبث بالكتب مبدياً آراء كاريكاتورية سريعة: هذا يكتب الشعر لزوجته فقط!
لقد تزوجها فلماذا يهدر شعره، ألم يكتف بنكبة الزواج؟!
ـ وهل تعرف زوجته...
ـ لا، ولكنها لو كانت ذكية لما تزوجته، ولو كانت أذكى لمنعته من نظم الشعر، أما لو كانت عبقرية فلكانت جعلت منه شاعراً.
إنه في رحلة قصيرة.. وهو عائد ليشذب زهور الحديقة في رام الله، وليسقي الياسمينة الدمشقية، وليجلس الى طاولته فيكمل الديوان الجديد.
صحيح أن كثيرا منا يعتبرون أن محمود درويش قال ما عنده ومضى الى قدره، واثقاً من أن أجيالنا الجديدة ستقرأه فتفهمه أكثر مما فهمناه،
لكن من يعرف كيف تطور محمود درويش، والى أي حد اختلفت مفاهيمه، برغم ثبات يقينه، يدرك أن هذا الشاعر ـ الكاتب المبدع كان يقاتل اليأس بإيمانه... وكان يجدد في لغته ليكون في الغد، معنى ومبنى.
شاعر عصرنا كتبنا جميعاً في دواوينه: كتب أحلامنا وخيباتنا، كتب شوقنا الى النصر وخوفنا منه، كتب لأرضنا وبأرضنا تاريخنا ورسم الطريق الى المستقبل.
هو أمامنا وليس خلفنا،
وهذه تحية، لرفيق عمر تأخر قليلاً عن موعده، ولا بد له عذره، فهو لا يخلف الميعاد أبداً، ويمرض اذا ما تأخر لسبب طارئ وخارج عن إرادته.
مــن أقــوال نســمة
قال لي »نسمة« الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب:
ـ الحب يصنع لــغته. قبل أن أحــب كنت عيياً لا أكاد أعرف كيف أعبر عن نفسي. مع الحب جاءتني فصاحة كادت تجعــلني شاعراً. أكاد أحسد الشاعر لأنه يمـضي حياته بين حبين: حبه لنفسه وحبه لمن يحبه.
22-8-2008