في الكلمة المعبرة، المؤثرة، التي ألقاها الشاعر سميح القاسم أمام جثمان صديقه ورفيق دربه، وأخيه الذي لم تلده أمه، محمود درويش، عبر عن المفارقة الموجعة التي فرضت دفن الشاعر الراحل في رام الله وليس في البروة، مسقط رأسه وأرض آبائه وأجداده في الجليل.
البروة لم تعد قائمة، لقد دمرها المحتلون لحظة تأسيس كيانهم، كما فعلوا مع قرى فلسطينية عديدة في الشطر الفلسطيني الذي صرنا نعرفه باسم أراضي،1948 وأقيمت قرية أخرى يطلق عليها الجديدة.
ومصير البروة يكاد يوجز المأساة الفلسطينية، التي كان محمود درويش شاعر ملحمتها، هو الذي طمح إلى ذلك دائماً، وقال مرةً إن مشروعه الشعري هو أن يجعل من قضيه شعبه ملحمة مكتوبة شعراً.
ولا ننتظر من النقد أن يُقرر ما إذا كان محمود قد حقق طموحه هذا، فحالة الحزن والأسى التي عمت فلسطين والعالم العربي والأوساط الديمقراطية في العالم، برهنت على مكانة محمود في وجدان الناس، إنساناً وشاعراً.
لو أن فلسطين لم تُحتل، ولو لم يعمل فيها الاحتلال تجزيئاً وتشطيراً، لكان من الطبيعي أن يضم الجليل رفات ابنه محمود درويش، فيصبح بوسع الفلسطينيين جميعاً، أينما كانوا، أن يزوروا ضريح شاعرهم الأكبر، ومثلهم يفعل كل العرب فيأتون البروة، التي وهبته إلى فلسطين والى العرب والى الإنسانية كلها، ليس بصفته ضميراً للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية فحسب، وإنما لكونه شاعراً كونياً، سيحتل حيزاً مضيئاً في ذاكرة الشعر العالمي بآفاقه الإنسانية الرحبة، وفي انحيازاته لقيم التسامح والحرية ونبذ كافة أوجه الاضطهاد والعسف.
لكن فلسطين محتلة، والذهاب إلى الجليل عصيّ، كما أن الذهاب إلى رام الله لا يتم إلا عبر حواجز التفتيش “الإسرائيلية”، والتلة التي سيرتاح فيها جثمان الشاعر مطوقة، هي الأخرى، بحراب المحتل وآلياته.
ومحمود الذي أقلق الاحتلال في حياته، حين ألف أن يكون مُجاوراً للمحتل منذ أن كان في حيفا، يدخل من السجن ليعود إليه ثانية، ومنذ أن رأى الجنود الصهاينة يتجولون في رأس بيروت حين اجتاحوها في صيف،1982 وأبى الشاعر، رغم ذلك، مغادرتها، اختار أن يجاور المحتلين في مماته، في مجازٍ بليغ بأن الفلسطيني باقٍ في أرضه، فيما الاحتلال إلى زوال، ككل العابرين في كلامٍ عابر.
22-8-2008