ديانا قاسم

من بين ثنايا جبال عمان الشامخه اطلت الشمس لكن ليس كعادتها كل صباح، فلونها شاحب وشعاعها منكسر، يبعث في النفس كآبة ، كانها تتمنى لو ظلت نائمة ، ولم تتحرك كعادتها من الشرق الى الغرب لتعود الى الشرق ، حين كانت الطائرة التي تحمل فارس الشعراء محمود درويش في رحلته الاخيرة ليحط في مطار ماركا العسكري بعمان قبل ان يواصل مشواره الى مثواه الاخير.
الساعة الثامنة صباحا ، مضربة انا في البحث عن فستاني الاسود ، مضطربة في وضع الشال على كتفي ، حتى وانا اسرح شعري يدايا ترتجفان ، لا اريد ان اتاخر ، اريد وداعك يا درويش.
الازدحام يكاد يخنقي في طريقي الى ماركا ، الوقت يمر سريعا حتى ادمنت النظر الى الساعة ارجوها ان تخفف سيرها، والناس على الارصفة وبعض الباعة ، والسيارات كل الاشياء حولي كانها تتلهف لرؤية درويش باسما كعادته " شامخا منتصب القامة يمشي، مرفوع الهامة كما هو دوما، لعله يأتي ويقول موتي اشاعة ومزحة ثقيله من آب...

وصلت مطار ماركا بعد نصف ساعة تقريبا كانها الدهر، الشرطة والجنود ملئوا المكان .
تقدمت نحو شرطيتين سالتني احداهن ما اسمك؟ ولماذا اتيت؟؟.. حسنا عرفتهم بنفسي ...جئت لأحضر اسقبال الشاعر الكبير محمود درويش، ابتسمت احداهن وطلبت مني بطاقتي وان اتوجه لمندوب السفارة الفلسطينية الذي يقف امام مكتب صغير كتب عليه بوابة السلاح الجوي، رفض مندوب السفارة السماح لي بالدخول متعللا بالقول "العدد محدود ويقتصر على شخصيات سياسية وثقافية".
قلت وانا مواطنة طالبة في الجامعة الا يحق لي وداع حبيب الشعب، ثم اين هم المدعويين، لا ارى احدا غيري؟
لم ينصت لي الموظف وعاد ليؤكد ان هذه تعليمات رجال الامن .بعدم ادخال غير المدعويين.
تجمع عدد من الكتاب والشعراء ومن بينهم الشاعرة منيرة القهوجي ورفعت يونس وغيرهم، طلبت منهم ان يدخلوني معهم فكان الرد "يا ريت يدخلونا"...وقفنا ساعة كامله وسيارات مواكب السفراء لا تنتهي فهذا السفير الكوري، السفير المصري،السفير الهندي...والسفير الماليزي جاء كل سفراء الدنيا لوداعك يا درويش ، وانا على البوابة الخارجية لا يسمح لي بوداعك فماذ افعل؟.
ازداد عدد الذين ينتظرون مثلي عند البوابة الخارجية الكل في خيرة من امره يتسائلون احيانا يغلظون القول مع الموظف دون فائدة ومنهم من قال انه من اقرباء الشاعر العظيم او من رفاقه او محبيه،
تحدثت مع الكاتب عبد السلام صالح فاخبرني ان الطائرة الاماراتية التي تنقل فقيدنا وصلت ، شعر بحزن شديد ، ها هي المراسم قد بدات ولن يكون لي شرف الوداع.
احد ضباط الامن يبدو انه نقل لمسؤوليه حالنا فاشفقوا علينا وقرر الضابط ادخال من ينتمي لمؤسسات ثقافية او صحافية ، تقدمت من احد الصحافيين ورجوته ان يدخلني معه فانا لست صحفية ولا انمي لرابطة الكتاب انا مجرد مواطنة عاشقة لفلسطين مثل شاعرنا المسجى جسده على بعد امتار، وكان لي ما سعيت من اجله واقلتنا سيارات الامن الى داخل المطار.
تقدمت نحو باب قاعة الاستقبال سمعت شرطي يقول يكفي القاعة غصت بالناس، لا يوجد مكان...أجبته سأزاحم ما يهمك ، دخلت القاعة...فاذ بها تغص بالناس جميعهم اردوا السواد وكثير منهم على اكتافهم الكوفية الفلسطينية، بوسترات لدرويش علقت في كل مكان وكتب عليها مقولته- "قل للغياب نقصتني فحضرت..لأكمله".
أغرقت عيناي بالدموع الحارقة كشمس تموز، مالحه كمياه البحر الميت، نظرت الى مقدمة القاعة حيث وقفت معالي الوزيرة نانسي بكير لتلقي كلمتها واذا بالنعش مسجى، مغطى بعلم فلسطين التي طالما عشقها درويش وعشقته وعليه بعض الورود...

الان فقط صدقت ان درويش في طريقه الى العالم الرحب، عالم حيث لا دول، لا حروب،لا صحافة ولا اخبار...ذهب حيث السكينة، الراحة الجنة والخلود...ذهب "وترك الحصان وحيدا"، ذهب وترك الثقافة وحيدة...ذهب وترك قلمه وحيدا ينتره لعله يمسكه مرة اخرى ويبكي عنه للأوراق...

القت بعض الشخصيات المدعوة كلماتها.. رئيس وزراء فلسطين سلام فياض، النائب العربي في الكنيست احمد الطيبي الذي امتزجت كلماته مع البكاء الغزير...وكذلك الفنان الملتزم مارسيل خليفه الذي اسفت للقائه في هذه المناسبة الحزينة، وقف وقبل النعش وغنى "احن الى خبز امي" بصوت ممزوج بالشجن والحنين لشرب فنجان اخر واخير مع فقيدنا درويش...

غنى مارسيل بالالم والحضور يردد معه بصوت باكيا حزين، ... تابع مارسيل الغناء وغنى "يطير الحمام يحط الحمام" ...ومن ثم عاد لمقعده وانفجر باكيا وبكت الجدران معه...ودع الحضور الفارس، رسول قضية فلسطين، وحمل النعش على الاكتاف الى ساحة المطار حيث تنتظره طائرة الهيلوكبتر لنقله الى رام الله حيث مثواه الاخير.

الحرس يؤدون التحية ، الطائرة تستعد للرحيل، الجميع يلوحون بايديهم مودعين تبلل اعينهم بعض من امطار آب.. يهتفون إلى اللقاء يا رسول الثقافة,إلى اللقاء يا متنبي العصر، الى اللقاء يا رسول قضيتنا، قم يا درويش لا تترك الحصان وحيدا فعلى هذه الارض ما يستحق الحياة...قم..قم ...وبين المودعين والباكين والهاتفين .. كنت انا وحيدة الا من دموعي ... رحل درويش...لن يكون هناك مرة اخرى في مسرح وسط البلد في عمان ينتظر محبيه كل شتاء ليغمرهم بدفئه وحنيته، ليوقع على كتبه ودواوينه،...لن يكون حينما تخبز امه رغيفا اخر...
إلى اللقاء يا حبيبنا..انت في ذاكرتنا وقلوبنا خالدا.. فيا شاعرنا العظيم حينما تعانق تراب الوطن سيرتفع علم الدولة الفلسطينية المستقلة التي كتبت وثيقة استقلالها. سلاما درويش.

ديانا قاسم
22-8-2008