كل فلسطيني على هذه الأرض، يحسّ حتى شغاف الروح، بمرارة الفقدان الخاص به في رحيل الشاعر الكبير محمود درويش الذي قال قبل طرفة عين من رحيله، "أنا لست لي"، مكررا قوله هذا ثلاث مرات، في إحدى قصائده. فهو العارف سلفا أنه للناس أجمعين. فكيف لا ترتجف الروح في الناس فجأة، وهم يتنفسون كلهم من رئة واحدة، هي رئة هذا الشاعر، ورئة هذا الشعر الـمتدفق من روحه؟ وفي صميم هذه الـمعرفة العميقة له وللناس، يتشكل هذا الإحساس الصاعد من الشاعر إلى لغة الأرض والإنسان. وهو في الـمحصلة الوجدانية، إحساس على مدار الكون، من هنا إلى هناك. و"هناك" كما قال الشاعر أيضا، هي ذاتها "هنا" باستمرار. و"هنا" هي فلسطين. فلسطين القلب وفلسطين الأساس. وفلسطين محمود درويش.
وفي هذا التماهي بين الشعر والشاعر والأرض والناس على امتداد الزمان والـمكان، ينبثق الإدراك الراسخ من تفاصيل الإحساس، أن الشعراء الكبار لا يغيبون. هم يرحلون في أنسجة الـمكان والزمان، ولا يغيبون أبدا. والواقع أنهم يزدادون حضورا كلـما اشتد ثقل الغياب. ومحمود درويش يتربع الآن، على سعة الامتلاء الحضاري، في الصدارة الحية من هذا الحضور، واثقا من بقاء الأمل الذي قام على تربيته بين الناس، بصدق وشجاعة وحب، في مواجهة العتمة واليأس والخراب، ومن الأرض التي عليها ما يستحق الحياة، رغم وحشية الاحتلال الإسرائيلي الجاثم فوق شرايينها الـممزقة، ومن الناس أنفسهم، وارثين أوفياء للشعر، ومورثين لـمعانيه الإنسانية، من جيل إلى جيل.
كذلك قالت أشجار الزيتون في فلسطين إنها والشعراء الكبار من نطفة واحدة. لا تغيب، ولو قطعتها أنياب ومخالب جرافات إسرائيل الاحتلالية الاستيطانية. ولا يغيبون تحت أي ظرف. فإذا حسب الـموت أنه قد تغلب عليهم في لحظة ماكرة، يلوحون بأيدهم الـمثقلة بالثمار، وبالينابيع والأغنيات، للريح العاتية، ويعبرون إلى الأبدية بقامات عالية، ثم يصعدون إلى التلال الـمحيطة بالناس، يواصلون الإنشاد لهم بهدوء وثقة، عبر ما تركوه لهم من ذاكرة لا تموت ولا تنكسر، تماما كما تصعد أشجار الزيتون الـمقطعة، سامقة وشامخة في تراب الأفئدة والقصائد.
لا غياب. وهل غاب الـمتنبي عنا منذ أكثر من ألف سنة؟ وهل غاب عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان ومعين بسيسو؟ وهل غاب بدر شاكر السياب وصلاح بعد الصبور وأبو القاسم الشابي؟
ذاكرة شعرية عربية، هي في جدارة الخلود لها وبها، ذاكرة الحياة والحب والثورة والحرية. وهي في هذه اللحظة بالذات، ذاكرة الحصان الذي لـم يتركه محمود درويش وحيدا. بل يعود إليه على شغف في كل مرة ارتبكت أمامنا الرؤية فيها، يربت على عنقه الـمتعب ويمسح عن جبهته العرق والغبار. هو الذي لـم يترجل عنه في أي يوم، وهو الـمستمر في السعي على صهوته، نحو الوصول إلى فلسطين الأرض، وفلسطين الاستقلال، وفلسطين الدولة، وفلسطين الخير والجمال والفرح.
محمود درويش العاشق الـمنشد، والعاشق الـمجدد، والعاشق القادر على تحدي العدم، حين يحاور هذا العدم بالتاريخ والجغرافيا والفن والثقافة، وبقوة الكلـمات التي تحرس النار في وحشة الطريق الـمظلـمة.
يختفي العدم، ويحضر محمود درويش. وفي الساحات والشوارع والدفاتر والكتب، تأخذ القصائد زينتها للناس من فيض هذا الحضور، ومن مئات القناديل التى أشعلها محمود درويش فوق رؤوسنا بالأسئلة عن جدلية الحياة والـموت، وعن الكون والإنسان، وعن العام والخاص، وعن كل القضايا الإنسانية. قناديل لا تنطفئ في أي حال، ولو أحاط بها الحزن الـموغل في مرارة الفقدان.
يرحل محمود درويش، ولا يغيب. فكيف للحزن الـمتقد أن يفهم الـمعنى الأصعب له بين الرحيل وعدم الغياب؟ نفهم نحن أن الهاجس الأكبر لـمحمود درويش كان ولـم يزل قبل الرحيل وبعده، أن يكون الشعر قويا وجميلا وعظيما، بقدر قوة وجمال وعظمة الإنسان نفسه. والإنسان في البدء، هو الفلسطيني الـمخلوع من وطنه، والـمقهور والـمذبوح والناهض من الرماد إلى حقه في الحياة، وفي الـمقاومة، حتى يتحقق العدل والسلام. وهو في السياق كله، عالـمي الشمول لأمم وشعوب القارات، بلا جنسية أو حدود.
محمود درويش العالـمي في هذا الحضور الإنساني، يحمل قضية الكون باعتبارها قضية العصر، لـما هي في الجوهر، قضية فلسطين. فإذا هو على رأس شعراء الـمقاومة. وإذا هو في آن، على رأس شعراء الإنسانية في زهرة اللوز، وفي أثر الفراشة.
كيف يقدر الشعر على كل هذا؟ يقدر بالتجديد والتحديث. يقدر بالتعب والـمثابرة في البناء. بناء الجملة الشعرية، وبناء الذاكرة، وبناء الشاعر نفسه، ليكون هو ذاته، في خلجات كل مواطن، متجددا ومتوثبا نحو الحداثة والتطور. ونحو الحق والحرية. وهو ما بناه محمود درويش للناس أجمعين، على مدار عمر لا قياس له بالسنين العادية، طالـما أنه خالد بهذا الحضور الـمتواصل.
22-8-2008