أعزّ محبّي محمود درويش وأخلصهم يؤكدون بمئات الأمثلة أن الله استخدم عيني محمود الواثقتين لكي يعكس بهما صور الثورة، أو صور الواقع الفلسطيني في زمن التحدي والقهر. لذلك كانت أقسى الصور وأبشعها تنعكس عبر موشور عينيه متلألئة بملايين الألوان، مصحوبة بملايين الانفجارات الضوئية المثيرة. قارئ محمود الخبير أو المبتدئ يستطيع أن يأتينا بعشرات الأمثلة على ذلك. كان محمود مرآة الثورة، مرآتها الملونة، في نظر الجميع، محبيه وحاسديه وأعدائه، منذ أن أنشد سجل أنا عربي حتى بعد أن ترك الحصان وحيدا.
أنا نفسي سجلت له يوما ما صورة اعتقدت حينذاك أنها فريدة، بينت فيها أن الشعر كان سبّاقا الى استخدام سلاح الجسد في مواجهة العدوان الإسرائيلي، كليّ الجبروت. حينما كان الظل عاليا، صالحا للاستخدام في عناوين القصائد، كان محمود يحاول أن يفك الحصار من طريق الالتفاف عليه ومحاصرته بالتاريخ والشجاعة وحب الأرض وباليقين والمكابرة وحتى بالجسد: »حاصر حصارك... لا مفر/ سقطت ذراعك فالتقطها/ واضرب عدوك.../لا مفر/ وسقطت قربك فالتقطني/ واضرب عدوك بي/ فأنت الآن حر/ قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة/ فاضرب بها/ اضرب عدوك... لا مفر«. كانت ساحة الصراع مكشوفة، وكانت البطولات المحرمة ممكنة، في الأقل، لغويا. ففي ذلك الزمان كان بمقدور الفلسطيني إذا جاع أو غضب أن يأكل »لحم مغتصبه«!
لماذا ترك الفلسطيني حصانه أمانة لدى الريح يحرس ملكية مصادرة، ويحفظ للبيت بعض وجوده المستلب؟ لماذا تُرك الحصان الجامح وحيدا، مقطّع الأوصال، يعبث بأعضائه الممزقة في ساحة حرب غير متكافئة؟
حاول البعض الإجابة عن هذا السؤال مبكرا من طريق تصوير استخدام الجسد على أنه ضرب من الحرية الفردية، اللصيقة بالشجاعة والتضحية. وهو أمر صحيح في جانبه الفردي، لكنه من حيث المضمون العام لم يكن سوى جرعة حرية خادعة، ووهم من أوهام الانعتاق، لأنه في جوهره استنفاد تام لمضمون الحرية، الحرية في مواجهة استلابين، استلاب الخارج واستلاب الداخل. إنها العتبة الأخيرة، التي تسبق انغلاق باب الحرية التام والذهاب الى العدم.
جموح الخيال وطهره وكبرياؤه ظلت تُقابل فلسطينيا بواقع عنيد، خال من الرأفة، ما زال يصرّ على تكذيب الرغبات المرائية، الدعائيّة، التي ما انفككنا نستجديها من الشعراء والسياسيين. ظل الواقع يصرّ على تكذيب ذلك كله تكذيبا تاما، ويكذب حتى عواطفنا الصادقة حينما تغرق في شدة أوهامها.
كان الجسد أداة للعراك حينما كانت المعركة لم تزل تحمل بقايا كبريائها عاليا، لكن الجسد أضحى وسيلة إرغامية للدفاع عن الوجود، في ظروف ظل فيها الكبرياء عاليا، ولكن غابت فيها الثقة بالأهداف، وفي أفضل حال، تمزقت ثوابت الأهداف، التي بدت للجميع يوماً ما يقينية، واضحة وضوح الشمس. بعد سنوات الجمر كشفت الذات عن هشاشة يقينيّة خادعة. نعم، خادعة خديعة مرّة، الى حد يخيل للمرء أن من عاشوها وعايشوها كانوا أعضاء في فريق للتمثيل، ساهموا في تمثيل نص سينمائي مرتجل، جرى تصويره خارج أرض فلسطين، على أراض مستعارة، مزينة ب»ديكورات« فلسطينية خادعة، شارك في التمثيل مقاومون وشهداء وخونة وممثلون ثانويون وأنذال، وساهمت جموع كبيرة في التقطيع والإخراج والتصوير والعرض أو المشاهدة. لكن فيلم فلسطين كان فيلماً من نوع خاص، فيلماً اختلط فيه الجمهور بالممثلين، وفي أحوال كثيرة تبادلوا المواقع، واختلطت فيه الأوهام بالحقائق، الصدق بالكذب، القبح بالجمال، والأهم من كل هذا اختلط فيه الوجود القلق بعناصر محو الوجود وتدميره، حتى كاد الوجود أن يكون لا أكثر من كلمات دخانيّة.
لماذا كتب محمود قصيدته أيها المارّون بين الكلمات العابرة؟ هل كان يقارن بين صوره، التي كانت عنده وجوداً حيّا، قائما بذاته، وبين وجود دولة باغية، بكل قعقعاتها وجبروتها، دولة لم تكن عنده سوى ألفاظ ورموز صوتية أو خطيّة: كلمات؟ أكان يكافح، بدون وعي، عناصر تدمير وجوده الحسي الخاص، التي نراها ولا ندركها؟ لماذا تتبادل الكلمات والوجود الأماكن في مخيلة محمود؟ لماذا أضحى الوجود روحاً بعدما تمزقت عقود ملكية البيارات وصدئت مفاتيح البيوت المهجورة؟ لماذا ينقلب الوجود، الذي كان حتى يوم أمس الدليل الحسي الوحيد على البقاء والحق والتاريخ والهوية الى عشق مقدس محض، وعشق منقوش على صخرة، والى رمل ذاكرة، ثم الى تآخ مع فراشة، أثر لا يرى ولكن لا يزول، فراشة مثل أخت صغرى تسترق النظر الى نافذة غرفتها المفتوحة وتتساءل: هل أنا هناك؟ لماذا تدرج الوجود الفلسطيني في التخلي عن صفاته الشخصية الصارمة التقاطيع والملامح ليصبح، شيئا فشيئا، بهذه الضبابية، وبهذه الكثافة العميقة، الغامضة؟ لماذا أضحى أثرا لفراشة، أثرا لا يُرى؟
لماذا حدث ذلك مع انحسار الصوت الجماعي للثورة وتحولها الى واش دولي، يتولى مهمة تصفية خلايا الثورة العالمية النائمة وحتى المتقاعدة، أو مجرد مفاوض خائب، أو صاروخ مضطرب المسار، أو جسد مقنبل؟ ما الذي حدث؟
لماذا اعتاد محمود أن يكرر نفسه؛ الحكايات ذاتها، منطق المحاججة ذاته، على الرغم من أنه لا ينسى أبدا مسؤولية تجديد ثياب الفراشات ومسارتها وهي تبتعد أو تقترب طائرة في حقل المصير؟ أكان يخشى أن تسقط فلسطين سهواً من حقيبته الملأى بالحكايات والوثائق والمفاتيح وعقود الأرض، كما سقطت كلمة »شيوعية« من صفات شغيلة الحقول والمحاجر؟ أم كان يخشى أن ينفرط عقد الفلسطيني وتتبعثر حبات لؤلئه السحرية، فتتمزق وحدة يقينه، ثم تنزلق الى حيث لا نريد، أو الى حيث لا نقوى على تخيل ما يراد منها أن تكون؟
صور خاصة
ما يميز صور محمود عن غيرها من الصور، التي سجلت تاريخ الثورة الفلسطينية وأرّخت لتمزق الذات الفلسطينية، أنها حينما تُطفأ الأنوار وتُرفع الستارة تظل باقية، ثابتة في مكانها. صور محمود لها استقلال ذاتي خاص، استقلال وجودي محسوس يميزها عن الواقع الذي نعتقد أنه أنتجها؛ حضورها المادي والمعنوي حر، مكتف بذاته، غير مرهون بوجود آخر غير وجوده الأنوي؛ صور توجد بذاتها من دون حاجة الى شاشات عرض أو أضواء، تستقل بنفسها وتكوّن معانيها الخاصة، الموازية. صور محمود لم تكن انعكاسا للثورة، ولم تكن تتبعا لتاريخها، لحركاتها وسكناتها، لتأوهاتها وصيحات نصرها، كما يبدو للوهلة الأولى؛ لأنها كانت هي الثورة البديلة، الثورة الموازية، الثورة المقارنة، الثورة المستترة، التي كانت تسير بخطوات فردية، ذاتية، داخل ثورة الحياة العامة. الثورة التي لم تتح لنفسها أن تثور على توازناتها الشخصية وأوهام التوازنات المحيطة بها، الصانعة لتوازنها الفردي وتوازنات استتارها.
شخصية محمود الشعرية تطورت تطورا محسوسا، تدرجيّا، خاليا من الانقلابات الكبيرة المفاجئة. مضت من الشعارية السياسية لمرحلة تصاعد دعاية الكفاح المسلح، الى غنائية حزينة يعلو صوتها وينخفض تبعا لحالة انعدام الوزن القومية والوطنية، ثم أفضت الى تأملية منبرية تحاورية. ترافق هذا التطور الفني مع تطور صلة محمود بالثورة كجسد سياسي، ورافقه مرافقة تكاد تكون لازمة وتامة. كانت رفقة محمود الفنية والعقلية للواقع محيّرة الى حد أننا لا نستطيع أن نفهم جيدا أيهما كان يتحرك ويتقلب ويتبدل: وقع الحياة أم وقع شعره! أيهما كان يستجيب لنداء الآخر؟ أيهما كان يمشي أمام الآخر؟ أيهما كان التابع وأيهما كان المتبوع؟ هذا التلازم الخطير كان جوهر مكونات محمود الأساسي. لذلك لم يكن محمود جسدا منفصلا عن كيان آخر يقع خارجه، رغم توحده المطلق جسدا وروحا بالحلم الفلسطيني. هذه الوحدة المستحيلة، بين الانفصال الحازم، غير المساوم، وبين الاتصال اللصيق التام، غير المساوم، هي عنوان ومضمون قصيدته الأولى والأخيرة.
كان محمود وفيا، فنيا وسياسيا، للمتناقضات: للناس، ولتصوراتهم العامية عن الذات، بما فيه تصور القيادة السياسية الحماسي والنفعي والمبتذل؛ لكنه كان أكثر وفاء لحاجات النفس وتمرداتها وعصيانها الخفي والعلني، حينما يتطلب الأمر خيارا حاسما عقليا وفنيا لا يخلّ بحركته الفردية ضمن شروط اللعبة الشاملة؛ وهو خيار لم يصل عند محمود الى غاياته الثورية عقليا وسياسيا بشكل ناجز، حتى لحظة موته. فالوقائع كلها تثبت أنه كان في الطريق الى تحقيق ثورته المنتصرة، على أنقاض ثوراته السابقات: المدللة المغتربة، والمكابرة المطاردة، والمغدورة، والمستترة، بما لا يلغي أو يتعارض مع في الصورة المحببة، الثابتة، التي رسمتها مخيلاتنا له: رئيس قسم التشريفات في متحف وجود الثورة.
علاقة محمود بالشعب الفلسطيني لم تكن علاقة شاعر أو أيديولوجي أو سياسي، ولم تكن علاقة شرفية ممنوحة أو مأخوذة. من يتأملها عن قرب يجد أنها تحمل خاصية غريبة هي أقرب الى الأنثوية العاطفية. كانت علاقة أمومة، أكثر منها علاقة أبوّة أو علاقة مواطنة. كان محمود يعامل الواقع الفلسطيني معاملة الأمهات لأبنائهن. كان الحنو زاده العاطفي وهو يحاور مستنكرا الطامع والتافه والمرتزق والضال والشريد، بنفس الحنو السخي الذي كان يغدقه على مريده البطل والشهيد والثائر. كان محمود أمّاً للفلسطينيين، أمّاً فلسطينية طيبة، تخشى على أولادها المختلفين فكراً ومصالحَ ووسائلَ. من صنع له هذا الدور؟ دور الأم الفلسطينية الثكلى؟
لم يسع محمود الى تأنيث الثورة، أو الى استغلالها جنسياً، لكنه اجتهد اجتهادا مثابرا في الإفادة من عاطفة الأنوثة، التي تختزنها قدر ما يستطيع. ففي المواجهات الأولى وضع البندقية بينه وبين عيون ريتا. كان إغراء الرصاصة (الرجولة) مطمحاً وطُعماً جديّاً لاجتذاب الأنثى، ومحاججتها بالاختلافات. لكن هذا التجويز العاطفي سقط بسقوط الفحولة الثورية من جسد الثورة. لذلك جرت استعارة صوت الأم، كتعويض عاطفي لصوت الأرض. ومن المعروف أن كلمة أرض الفلسطينية، ذات الإيقاع الحسي، ظلت مفردة التداول الدعائية في الأدب الفلسطيني وفي الشعارات السياسية كلها. وهي كلمة أقل شأنا، من الناحية التجريدية والسياسية من كلمة وطن. أكثر عاميّة وفلاحيّة. وإذا كان الفلسطيني مخلوقاً بلا وطن، فمن سخريات القدر أن يولد اليهودي مرفقاً بوطن قبلي، تم تحديده قبل الولادة بآلاف السنين. لذلك نشأ اعتقاد راسخ بأن الوطن اليهودي يسبق المواطن بالولادة، ومثل هذا الوعاء لا يحتاج الى مواطنين لكي يوجد، على عكس مصير الفلسطيني، الذي لا تُثبت حقيقة وجوده الحسيّة، أي انتساب الى إطار سياسي أو قانوني اسمه الوطن. ففلسطين ليست وطناً، هي إما دولة أو لا دولة. هكذا بنت معادلات السياسة نفسها. كان محمود صوت الضمير المتناقض، الذي يجمع بين عناد العقل وتمرده وليونة ومساومات العاطفة. كان لا بد له من تأنيث المصير، ومن تأنيث البنادق، ومن تذكير الأنوثة، لكي تتم السيطرة على العقل والقوة والعاطفة في وحدة مقبولة منطقياً، وحدة فقدت رجولتها في الواقع.
ربما لهذا السبب ظل شعر محمود يعتمد وهو في أعلى درجات تأمليته نبرة الإلقاء، التي كونت شخصيته الفنية والعاطفية. ظل نصه يتصادم مع بعضه، وهو في أعلى درجات انسجامه مع ذاته؛ يتصادم فنياً بأدواته اللغوية ووسائله التعبيرية المخصصة لصناعة خطاب مرتفع الصوت، يذهب الى الآخر، في أبعد قرية؛ ويتشاحن مع عناصر التأمل وما تقتضيه من انزواء وعزلة واعتكاف مخصصة لمواجهة أعماق النفس وحاجات عقل الصديق والعدو ذي الأسئلة الأبرية. يقف محمود معتكفاً على منبر الخطابة، أو خطيباً في عزلة يلقي قصائده على نفسه من مكبر صوت. كان محمود، أو جُعل، رمزاً لتلك الوحدة الشاقة، وربما المستحيلة، التي كان الناس يريدونها، أو يريدون ترجيح جانب منها على آخر، وحينما يعجزون عن تحقيق ذلك، بسبب عناد محمود أو عناد الواقع، يلجأون الى تأويله وفق ما يشاؤون، ولا يخطئون كثيرا في التأويل. لأن محموداً نفسه ظل يقيم علاقة تأويلية علنية تتقلب بين التأمل والإلقاء، بين الموسيقى الخارجية للنص وهمسات المعنى، بين الدولة والثورة، بين المقاومة والحكم، بين التمرد على قانون جائر ومسؤولية تشريع الجور، بين الحلم ببناء مدينة فاضلة والمفاضلة بين مدن خربة، ميتة. تلك المتناقضات هي محمود درويش، وهي وحدته الفريدة، التي لا نبو فيها، كمنظومة أمومية عاطفية تجميعية، لأنها كانت مستقلة تماما في سبل اختيار حريتها الخاصة وفي توجيه مسار حركتها الداخلية وإشاراتها الخارجية. كانت إحساسا مشبعا بالمأساوية وهي في أوج عنفوانها. كانت نبرة محمود المنسجمة أو المتعارضة تحظى بشرعية الخارج، الذي كان يرى فيها بعض توازنه المفقود في الواقع، المتحقق عاطفياً في الشعر وفي الكلمات الأدبية حسب. كما لو أن محموداً كان يفرض شعاراته الفنية على بيانات السلطة السياسية وعلى رغبات العاطفة الشعبية. لكنه ما كان قادرا على فرضها على نفسه إلا تجاوزا، على مضض، كمن يتناول جرعات من السم يعدّها بنفسه لنفسه، لأنه كان قد ألزم نفسه، أو ألزم، علناً، مسؤولية حماية معادلة التوازن المفقود. كان حارساً للتوازنات المستحيلة، توازنات الأمل الضائع، أكثر من كونه شاعرا للأمل المتمرد، وهذا ما كان يصنع الشعرية السهلة الممتنعة فيه، في نظر الآخرين. كان محمود شاعر الثورة المجازية، المؤولة، الثورة المفرغة من الأخطاء، الثورة التي لا وجود لها على أرض الواقع.
لهذا كان محمود نسيجاً لا يتكرر. كان وحيداً في سر وجوده، كحصان فلسطيني يكبح جموحه الآني، طمعا في لحظة جموح حقيقية كبرى، يشارك فيها فارسه نشوة الانعتاق الجماعي المرتقب تاريخيا، الانعتاق المستحيل وفق معادلات اللعبة المتاحة.
عدم التكافؤ
شعر محمود يحمل في داخله عدم التكافؤ بين الوعي الفلسطيني، المبني على الإيمان المطلق بالانتصار الأكيد وبين الواقع السياسي اليومي المليء بالإحباطات والانكسارات، بين رغبات الفلسطيني المتأججة، ثورته الدائمة، وإخفاقات الحياة اليومية الدائمة. بين ما نريده منه وما يريده هو من نفسه، بين سلطة المؤسسة وسلطة الذات المؤسِسة لشرعية المؤسَسة، بين الدولة الخالبة الخلّب والثورة الغادرة المغدورة.
كان محمود مستقلا، ومتناقضا، ومنسجما، حتى في طريقة ذهابه الى رحلة الموت.
هوس القطيع الأدبي به نابع من أمر واحد هو إدراكهم جميعا أنهم لا يمكن أن يكونوا مثله، ليس لأنه بهي الطلعة وموهوب وذو كبرياء. لا، ولكن، لأنه لم يكن سوى ساحر يصنع ألعابه بنفسه، ويصنع معها نفسه.
فقلما نجد كائنا يحمل في داخله كل هذه التناقضات القاتلة الى حد الانسجام.
انتقالات محمود درويش الفنية والعقلية تأتي دائما بطيئة النمو، وجلة، وربما محسوبة: »أمشي خفيفا لئلا أكسر هشاشتي، وأمشي ثقيلا لكي لا أطير. وفي الحالتين تحميني الأرض من التلاشي في ما ليس من صفاتها«، وبصرف النظر عن تأويل كلمة أرض هنا، تظل خطوات محمود محسوبة بدقّة صيرفي؛ ربما لكي تبدو، أو لكي تقنعنا، بأنها واثقة وأصيلة ووفية لذاتها، الى حد أنها لم تكن تظهر كنقلات تحوليّة إلا بعدما توغل في المسير اللامحسوس، ويشمل هذا حتى نقلاته الأسلوبية من التفعيلة الى نثر الشعر. أكانت حسابات محمود خطوات سير أم ألفة تمويهية، تخفي تحتها خطوات أخرى غير مرئية وغير منظورة؟ أكان محمود يحسب خطواته، أم أنه كان يربّي قارئه على تقبل حسابات تحولاته، ويدربه على التحول معها اليه أينما وجّه وجهه؟ وما تكون تلك الأرض التي كان يقيم لها ذلك الحساب القدري الحاسم؟
تحولات درويش الفنية سايرت ولازمت مسيرة تطوراته السياسية والعقلية واقترنت بها وتضافرت معها.
هذا أمر يعرفه الجميع. ولكن كيف أخذت شكل ظهورها في كل حقبة متغيرة؟ كانت الثورة تتحزب، وكان المتحزبون يريدون إجبار الوجود الفلسطيني على ارتداء أزياء الأحزاب، والتخلص من زي الوطن المضاع، باسم الوطن السياسي، الخلب، الممزوج بالخيال الشعبي عن وطن مفترض، مؤكد التحقق شعاريا. كان محمود ينفتح داخليا كلما ضاقت أكفان الأحزاب الفلسطينية وتضاعفت أعداد التوابيت المرفوعة على الأكتاف. كان يتمدد روحيا ويتعمق ويتجذر عقليا ونفسيا كلما انحسرت مفاهيم الوجود الفلسطيني الحزبية. كان يساير مسايرة تامة مشروع الحياة السياسية، ولكن بالضد منها وبالاتفاق معها في آن واحد. كان شعره يتصاعد في تناقضاته الى ذروة الهمس مع تصاعد فوضى وضوضاء تكسر سلاح الثورة، الذي بدا، مقارنة بشموخ خطوات درويش ووحدته واستقامته، مثل زجاج هش، يترك خلفه نصالا جارحة عقب كل معركة؛ أما ضوع كلماته الداخلي العبق فما انفك يتصاعد بهمس حزين وشمول فاتن كلما تعمقت ملامح الصورة العلنية البشعة للدولة القزم، التي ولدت متعفنة الضمير والجسد. لكأن فوح كلماته استجابة غريزية يطلقها الوجود الفلسطيني الأم، لكي يستر بها عفونة الجثث الحيّة التي غطت أرض المصير الفلسطيني اليومي. فحتى حينما يتكسر زجاج الثورة، تظل مرآة محمود ناصعة، ثابتة، تخفي انكساراتها، وتكابر، فتبدو لنا كما لو أنها مرآة تسقط عليها سهام النار والخيبة، لكنها ترتد منزلقة، عائدة الى أقواسها. كان تطور شعر محمود يعيد ترتيب خارطة الأخطاء والخطايا، يعيد تأسيس مبادئ السياسة الوجودية للفلسطيني، من طريق إخراجها من حسيّة فلسطين كأرض وتاريخ، الى كونية الفلسطيني كمأساة شاملة، يخرجه من نكبة الأرض الى نكبة الإنسان؛ من نكبة التاريخ الى نكبة الحاضر، كان يعيد تمزيق منطق اللعبة الشريرة، المفروضة باسم الوجود المبعثر، القائمة على انتكاسة الأحاسيس وفشل مخططات البراءة التاريخية. ففي ليل حيفا تمارس الحواس هزائمها، كفلسطين، فتذهب الى انشغالاتها السرية بمنأى عن أصحابها الساهرين على الشرفات.
التوازن
إن أبرز عناصر الثبات في شعر محمود درويش وفي شخصيته الأدبية والذاتية هو عنصر الثقة، التي تشبه اليقين المطلق. وهو يقين بدأ مع حلم الثورة الفطري الأول بسيطا واضحا حاسما، كوضوح وحسم استخدام البندقية، التي رُفعت لتحرير الأرض من عقوقها؛ وحتى بعد سلسلة الهزائم لبث اليقين والثقة العالية بالنفس ملمحا علنيا للثورة وهاجسا لمحمود وشعره. وهذا اليقين نابع من مركزية مفترضة، لكنها ثابتة في صورة يقينة قاطعة تشبه القدر، قوامها مركزية الثورة الفلسطينية عالميا، ومركزية الثورة الفلسطينية عربيا، ومركزية الثورة كاحتكار لمنظمة التحرير. كانت مركزية اليقين هذه ضربا من الاحتكار المصيري، كوّن مركزية الثقة في نفس محمود وفي سلوكه، الظاهري، شعريا وسياسيا. وهو عنصر الثبات الذي ظل يلازمه حتى في آخر ما نشره. كان التوازن يبدو له فنيا في هيئة معادلة بين التحليق عاليا والسير على قشرة قابلة للانكسار: »أمشي خفيفا لئلا أكسر هشاشتي، وأمشي ثقيلا لكي لا أطير. وفي الحالتين تحميني الأرض من التلاشي في ما ليس من صفاتها«، وسياسيا كان التوازن له بعده التاريخي والقومي والعالمي والحزبي أيضا: »أنا التوازن/ بين من جاؤوا ومن ذهبوا/ وأنا التوازن/ بين من سلبوا ومن سلبوا/ وأنا التوازن/ بين من صمدوا ومن هربوا/ وأنا التوازن بين ما يجب«.
إن الإحساس بمركزية الفلسطيني لم تخبُ في نفس محمود، بل تضاعفت، في عين الوقت الذي تحولت فيه لدى كثيرين غيره الى إحساس مرضي إرغامي، من طريق التطرف في سبل التعبير عن الذات سياسيا وعسكريا، سواء بالارتماء الذليل في حضن الاستسلام والقبول بالحصار كنتيجة عادلة، أو بالاندفاع نحو الحلول الغامضة، المثيرة، ولكن الشكلية أيضا، في زمن سقط فيه الحصار الخارجي وسقطت معه وسائل مقاومته ومحاصرته. كان الحصار يقوي مركزية محمود الغنائية ويجعل منه وترا سادسا في »كمان« التحدي: »الحصارُ يُحَوِّلني من مُغَنٍّ الى وَتَرٍ سادس في الكمانْ!«، لكن متاريس الحصار ما عادت تطوق الفلسطيني من خارجه، بل تقدمت لتحفر لنفسها خنادقَ داخل الجسد الفلسطيني نفسه. كيف يمكن محاصرة هذا الضرب من الحصار، ومن يستطيع أن يكون وترا في آلة عزف قاتلة، نصبت على هيئة جدار مغروس في أعماق الذات، جدار يوازي قوة الحصار الخارجي، ويتفوق عليه أحيانا في لا منطقيته.
لقد أصيبت هذه اليقينة المركزية بالكثير من التصدع. لذلك أضحى موقف محمود عنصر الثبات فيه وتوازنه الجديد، نابعا لا من توازن مركزيته باعتبارها نقطة ارتكاز قومي وعالمي ووطني، وإنما لكونها نقطة توازن ذاتي وفردي، تعيد ترتيب عملية تفكك عناصر هذه اليقينية المركزية. لقد أضحى محتما على محمود أن يوجد، سرا، عنصر توازن شخصي يلم به رياحا مختلفة تسعى كل منها، منفردة، الى تدمير مركزية اليقين وجر يقينيّة الحياة في اتجاه واحد، يطيح بوحدة المركز. بيد أن الجميع يعلم أن هذا المركز، رغم طابعه الافتراضي أو التأويلي، ظل سائدا لزمن طويل كأسطورة وخرافة وحقيقة، كقوة سياسية وروحية، كلعبة ضرورية أو لعبة مصطنعة، مرتبة، خلقتها سلسلة من العوارض الجانبية، وهو المناخ الذي كوّن لمحمود وللثورة توازنه البعيد المدى، توازنه الخيالي والرمزي. هذا التطور الجديد، لا يعني سوى أمر واحد هو انكفاء الصورة الشامخة لليقين الشخصي والثقافي والوطني على نفسها. فالثقة واليقين اللذان كانا يمتدان تاريخيا من الأندلس الى نكبة فلسطين، ومن ايرلندا حتى جنوب أفريقيا، أضحيا توازنا متواضعا في آفاقه، توازنا بين غزة وأريحا، بين عباس وهنية، بين معاهدة قبول وقرار رفض.
لقد تمكن محمود، بخبرة توازناته الفنية والسياسية العالية أن يظل متمسكا بالثقة، والثبات، والمركزية الروحية، حتى بعدما تقزّم اليقين الى تلك الحدود البائسة. وهذا سر إعجاب الكثيرين به، كمثال على الثبات الأسمى أو الأعلى. لكن هذا كله يخفي، باحتراف وحنكة، السؤال الأكثر خطورة في حياة محمود الشخصية والشعرية: هل كان الوفاء للعبة التوازن قدراً عادلاً فنياً وفكرياً؟ هل كان إخلاصاً للحقيقة، باعتبارها معياراً قيمياً لما هو سام وصحيح، أم أنه مجرد انجرار الى عادة التوازن، أو في أحس الأحوال امتثال مؤلم وقاس للشروط الخارجية الاغتصابية الفظة المؤسسة لأسطورة تفريخ الأمل وتفريغه؟ كم كلّف هذا التوازن محمود درويش عاطفيا وفنيا وثقافيا؟ ما الثمن الذي دفعه روحيا لكي يحافظ على »التوازن بين ما يجب«؟ إن السؤال الحاسم والأكثر خطورة، الذي لم نسأله بعد، هو أن الحياة مزقت تمزيقا لا رجعة فيه ذلك »التوازن بين ما يجب«، وأن الصراع اندفع نحو آفاق جديدة تقوم على معادلة جديدة خالية من كلمة توازن، ولا تحتوي إلا على تعبير واحد هو »ما يجب«. ما هو هذا »اليجب«، الذي ظل محمود يهرب من الوصول اليه، رغم أنه كان الأقدر على رؤيته؟ ولماذا ظلت عيناه تعكسان ذلك بطريقتهما الثابتة: امتصاص خلل التوازن، وتلوين الحلم القتيل بالأمل، الأمل المتعالي في لحظة الصعود، والأمل المكابر في لحظة الصدام، واللائم في لحظة ارتجاج الأرض، والمبكّت في لحظة انغلاق الطرق، والجريح في لحظة تحسس سخونة الدم؟ كم دفع محمود ثمنا لهذا الهروب؟ وهل كان بمقدوره ألا يهرب، أو ألا يتولى مهمة تهريب الأمل من الداخل الى الخارج وبالعكس؟
في أثر الفراشة أراد محمود أن يحقق همسا أعلى درجات التعاطف الوجداني والوجودي والجمالي، أي أعلى درجات التفهم من قبل الآخر، وأعلى درجات القبول بالمساومات العاطفية والفنية. فالفراشة، رمز الجمال والوداعة والطبيعة والحياة الدائمة أضحت هدفه. ولكن ليس الفراشة ذاتها، بل بعض مكوناتها الوجودية، وأي بعض: أثرها! لماذا أثرها؟ وماذا كان الشاعر يبحث في أثر؟ وهل تترك الفراشة أثرا على أرض أو فضاء؟ أي أثر هذا؟ وحتى هذا الأثر لم يكن كغيره من الآثار. كان أثرا لا يُرى. هنا يقف محمود أمام ذاته، ثورته الحقيقية، المختزنة في فرديته العنيدة. لكنه سرعان ما يستدرك، فيقطع عزفه الفردي، ويلتحق بالوجود الجماعي، يلتحق طوعا أو كرها، لا يهم! بنداء الخارج: »هي أثر لا يرى ولكن لا يزول«. مساومات محمود، لم تكن مساومات مع أحد سوى مع وجوده العصيب، الذي بدأ يتبخر من بين أصابعه، لكنه حتى وهو في ذروة تبخره يظل قواما، غير مرئي، ثابت الوجود. مساومات محمود مع الواقع السياسي، ومع الوجدان الشعبي فرضت عليه تناقضات فنية وعقلية كبيرة، لكن خيط انسجام تناقضاته كان ينتظم حينما يصرّ على نقل حسابات الوجود من حدودها الحسية اليومية المتقلبة الى معناها الوجودي. إن تصعيد الوجود الى مستوى الأثر الذي لا يرى ولكن لا يزول تأكيد أخير، غير قابل للمساومة، على ضمور الثقة بمعادلات الواقع، وتجذر المراهنة على المعادلات الثابتة، التي لا تزول: أثر الفراشة.
لم يكن موته مفاجئا لي، لسبب غير مدرك. كنت أشعر أن ذبابة الموت ما انفكت تلح في مطادرته. كما لو أن أحدا ما يجلس في شرفة مطلة على شباك نومه، يتمنى موته، ويترقب هذه اللحظة الرائعة، العظيمة، بصبر وقلق وشوق، لكي يحقق بعضا من وجوده العابر والزائل به. كان زواله أو إقصاؤه مطلوبا وضروريا، للأصدقاء أكثر من الأعداء. فنحن في زمن نترحم فيه على الأعداء من جور الأصدقاء ولؤمهم. كان محمود فلسطينيا في زمن أضحى موت الفلسطيني شأنا عابرا، هامشيا، نراه أمامنا ونحن نتبادل الطرائف. حتى موت عرفات مر عابرا، مخدشا، موسخا، مقزّما. نحن أحوج ما نكون الى إعادة إحياء وتجديد عادة موت الفلسطيني العاطفية، المبكية، التي أدمنّا عليها لعقود خلت. ولم يكن هناك سوى محمود من يمنحنا هذا الموت النموذجي، المفتقد، والضروري. كان يجب أن يموت لكي ندرك إدراكا تاما أن فلسطين استشهدت حقا. كان موته توقيعا شرفيا منه، يمنحنا الحق في تضليل أنفسنا، التي نعمل يوميا على إتمام طقوس خيانتها بدون خجل وبعلنية مريبة. لذلك لم يكن موته الجسدي الصادم، مباغتا. وكثيرا ما خيّل اليّ أنه نكاية بمنتظري موته أخذ جسده وذهب به الى مكان مجهول، ليخفيه عن الأعين. فعل ذلك لسببين، أولهما ذاتي محض: لكي لا يرى الناس انطفاءة النرجس وذبوله؛ فشاعر الياسمين يدرك أكثر من غيره أن أشنع روائح الجثث هي رائحة جثة الإنسان، وأقبح صور البشاعة هي صورة أجمل الزهور في لحظة اسودادها وهلاكها. كان محمود يدافع عن أزلية مرآته وخلودها ونقاوتها وصفائها. كان يريد لعينه أن تظل قزحية ملونة تعكس بهاء العالم الشرير الذي خلّفه وراءه، ولم يعد له وجود فيه. كان يدافع عن حقه في الوجود حيّا بعد موته، في الوقت الذي كنا نجتهد في تثبيت حياته من طريق تمجيد موته، كما لو أننا ندافع عن موتنا المضمر. أما السبب الفني، فهو أن محمودا ذهب آخذا معه جسده الى بقعة خفية، لكي يثبت لنا أن صوره التي تركها خلفه معلقة على شاشات عقولنا، ليست انعكاسا للثورة، لا الثورة الدائمة ولا الثورة المغدورة، ولا أية ثورة أخرى أضاعت خطواتها حينما لبست ثوب الدولة، فما عادت ثورة ولا دولة. كان محمود يريد أن يثبت للجميع أن صوره التي خلّفها بعده مستقلة تماما عن الجميع، حتى عنه شخصيا. مستقلة فنيّا استقلالا مطلقا عن وجوده الجسدي والمادي، عن وجوده الحقيقي ووجوده الافتراضي. لقد عزف محمود مقطوعاته الموسيقية كلها، ولم يعد في أعماقه سوى »موسيقى أخشى عليها من العزف المنفرد«، كما أسرّ لقرّائه يوماً. ما الذي كان يثير خشيته؟ هل كان يخشى حقا؟ هذا السؤال المصيري والطهري لم نسأله قط، لأنه يخدش مخططاتنا عنه، مخططاتنا التي رسمناها في مخيلتنا الكاذبة والمنافقة.
مئات المقالات التي سودت الصحف والمجلات في رثائه تبدو أمام حضوره ميتا مثل شتائم قبيحة تهجو جسدا لا يقبل تقاسم الوجود مع أحد، حتى مع الثورة التي أنجبته وتربى في أحضانها، بل حتى مع الشعر الذي بثته عيناه في مخيلاتنا وأوهامنا عنه، ومن دون شك تتناقض مع الصورة الخادعة التي رسمناها له، أو التي أجبرَنا هو على أن نرسمها له. فلم أر ميتا قبل محمود يرثي هذا القدر من الأحياء عقب موته.
لذلك كله قررت أن أنصب خيمة عزائي، ولكن بعد أن تنتهي أعراس الموت الجماعية.
(كاتب عراقي في السويد)
السفير
4 ديسمبر 2008