حديث الشاعر عن الشعر خاصية للقصيدة، منذ أن وعى الشاعر أن الشعر عن الشعر بعض الشعر ولذلك وصف الشعراء القدماء أشعارهم الخاصة، فخراً وتيهاً، وسعوا إلى تعريف الشعر بالشعر تمييزاً لطرائقهم في الكتابة، وإبانة عن حَدّ الشعر في تصورهم الفردي، أو في تصور المدرسة التي ينتمون إليها، أو حتى في أفق الشعر الذي يريدون تأسيسه ويبدو أن هذا النوع من الشعر على الشعر أصبح خاصية حداثية من منظور مقارب، فالشاعر الحداثي يرى قصيدته أشبه بالزجاج المعشق متعدد الألوان، يجعلنا ننظر إليه في ذاته، ويشد انتباهنا إلى حضوره الذاتي، قبل، أو في الوقت الذي يلفتنا فيه إلى العالم الذي وراءه، فهو كيان جمالي مزدوج الحضور يفضي إلى ما يدل عليه، أو يشير إليه، بالقدر الذي يفضي إلى نفسه، ويدل عليها ولهذا أكثر شعراء الحداثة من الحديث عن الشعر، لا في ثنايا القصائد، وإنما في قصائد كاملة موضوعها الشعر، صحيح أن ما قبلهم من تيارات فعل ذلك، ولكن الأمر مختلف، كمّاً وكيفاً، في الشعر الحداثي الذي جعل الكلام على الكلام، أو الشعر على الشعر، أو حتى الميتا شعر قياساً على الميتا لغة موضوعاً غرضاً؟ قائماً بذاته هذا هو الوضع الطبيعي الذي نعرفه عن شعر الحداثي لكن الأمر يكتسب أهمية خاصة، حين يغدو الشعر، من حيث هو إبداع، مقاومة للموت، ومحاولة لانتزاع الحياة منه، أو إطالة أمدها على الأقل وأحسب أن هذا هو المعنى الذي قصد إليه صلاح عبدالصبور عندما جعل شعار «حتى لا يقهرنا الموت» عنواناً لأحد كتبه، مؤكداً الدلالة التي انطوت عليها «أيوبيات» السياب الذي كان مؤسس «شعرية المرض» في القصيدة المعاصرة، أعني الشعرية التي وصل بها أمل دنقل إلى أفق فريد في قصائد «الغرفة رقم 8» وأخيراً، هي المقصد البارز في «جدارية» محمود درويش، حين نقرأ:
«هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين مِسلّة المصريّ، مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبد هزمتك
وانتصرت، وأفلت من كمائنك
الخلود».
هذا المقصد الذي جعل الإبداع مقاومة للموت يخصص حضوره المقاوم في حالة الشعر، فيحيل الشعر إلى مقاومة للموت، فالشعر مقاومة كما يصفه محمود درويش في «أثر الفراشة» ذلك العمل الذي يبدو ما يخص الشعر فيه أكثر من أي عمل سبقه لمحمود درويش، وأبرز دلالة ويرجع ذلك، في تقديري، إلى أن هاجس الموت ملح على يوميات هذا العمل الذي كُتِب في الأشهر السابقة على موت محمود درويش في العملية الأخيرة للقلب التي حرمتنا من وجوده المادي بيننا، وإن ظل موجوداً بأشعاره التي تقاوم الموت وتنتصر عليه ما بقي الإبداع في الوجود، نقيضاً للموت ونبعاً للحياة وليس من الغريب أن يكثر الشعر عن الشعر في «أثر الفراشة» فهو درع الحياة في مواجهة نقيضها، وعلامة الرغبة العارمة في تحقيق الوجود الذي ينفي العدم. واللافت للانتباه، في هذا السياق، أن نص «أثر الفراشة» نفسه الذي أصبح عنواناً للعمل كله هو نوع من الشعر عن الشعر، فأثر الفراشة هو الحضور الغامض، المراوغ، السري، السحري للقصيدة، أو الإلهام أو الحدس الشعري، حافز الإبداع الذي يضيء فجأة كأنه البواده والبوارق واللوامع الملازمة للحظة الكشف، فهو جاذبية غامضة، تستدرج المعنى، وترحل حين يتضح السبيل، كأنه خفة الأَبَدِيّ في اليومي، حيت يتحول شوق الأعالي إلى إشراق جميل، هو شامة في الضوء، حين يرشد باطننا إلى الكلمات، الكلمات التي هي أغنية تقول ولا تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلال لكنها تظل في تراصفها في النص كأنها:
«أثر الفراشة لا يرى
أثر الفراشة لا يزول».
ويمكن أن نضيف إلى ذلك أن القصيدة تنبثق مثل خاطرة طرأت على البال، تمشي على قلم الشاعر سطراً فسطراً، لعل الشكل ينبثق، فإذا انبثق صفا القلب والأفق، واكتمل النص، وإلا بحث الشاعر عن باده إيقاع آخر، إلى أن يولد المعنى، مصادفة، من الحال الذي يموج بقلق البحث وغواياته في نوع من «ربيع سرمدي» ودال «البحث» يستدعي دوال «الصعود» و «الطريق» و «الرحلة» على السواء وكلها تتجاوب في المجال الدلالي لرمزية البحث التي تنطوي عليها عملية الإبداع، خصوصاً حين «يمشي الشاعر على الشارع»، بحثاً عن مصادفة المعنى، وعن معنى المصادفة وليس «الشارع» سوى «الطريق» في شبكة الدوال الرمزية التي لا تخلو من تجاوبات صوفية يؤكدها نص «الطريق إلى أين» خصوصاً حيث نقرأ:
«نمشي كأنّا سوانا كأن هناك هنا
بين بين كأن الطريق هو الهدف
اللانهائي».
وهي أسطر تؤكد أن متعة السفر هي في الطريق نفسه، وليس في محطة الوصول، فهذا النوع من السفر لا يعرف محطة وصول لا نهائية، إذ تغدو كل محطة علامة تشير إلى ما بعدها الذي يشير إلى ما بعده، وهكذا دواليك، فلا نهاية لسفر الإبداع إلا بالموت الذي يغدو الإبداع، نقيضاً له وفعل مقاومة لحضوره وكثيراً ما وصف الشعراء إبداع القصيدة بالرحلة، متأثرين بالميراث الصوفي وأذكر لصلاح عبدالصبور في «الناس في بلادي» قصائد «رحلة في الليل» و «الرحلة» و «أغنية ولاء» التي هي رحلات شعورية لا تخلو من دلالات انتظار هبوط الشعر على الشاعر، أو مقدمة النوراني وهو معنى يمكن أن تنقلب دلالاته المكانية من الامتداد الأفقي، في فضاء الانتظار، إلى الامتداد الرأسي، في فضاء صعود، حيث ما يشبه دلالة المعراج وهي دلالة تتبطن نص «ما يشبه الخسارة» الذي ينوس ما بين المجاز والكناية، خصوصاً حين نقرأ:
«أصعد من هذا الوادي، على درجات نفسي تقريباً أصعد إلى ربوة عالية لأرى البحر لا أغنية تحملني ولا سوء تفاهم مع الكينونة أتسلى بمراوغة ظلي وبالتفكير، المريح في مآل قوس قزح الذي يلهيني، فجأة، عن ظلي المشتبك بعوسجة جرحته ولم ينزف أنحني عليه لأسعفه من وخزات الشوك، فتنغرس شوكة في يدي وتسيل قطرة دم حمراء خلتها، في البداية، انعكاساً لأحد ألوان قوس قزح».
ودال «الصعود على درجات النفس» يقترن مدلوله بالمجاهدة الروحية التي تسبق الوصول إلى ما يشبه الكشف وهي دلالة تكتمل بدوال الربوة العالية والبحر الذي طالما كان رمزاً للاشعور، مثله في رمزيته مثل قوس قزح، أما الشوكة التي تسيل منها قطرة دم حمراء كالوردة فهي دوال رمزية مصاحبة لعذاب رحلة الصعود لكي تتحقق الرؤية الكاشفة التي إذا تحققت، هبطت النفس كما يقول النص:
«وحين نزلت على درجات نفسي من الربوة العالية إلى الوادي، تذكرت أني نسيت ظلي عالقاً بعوسجة وقلت غداً أصعد إلى ربوة أعلى لأرى البحر لكني سأربط ظلي برَسَنٍ لئلا أضيعه مرة ثانية».
والأسطر تؤكد المعنى المضمر لمدلول الصعود المتعامد مع مدلول البحث الذي لا يكتمل إلا بانشطار الذات، سواء في سعيها إلى القصيدة التي يمكن أن تهبط من المحل الأرفع، أو في سعيها إلى اكتمال الوعي بحضورها الإبداعي الذي يعيدنا إلى تولد القصيدة من زاوية مقاربة وكلتا الزاويتين تتكاملان من خلال بلاغة التجريد في نص «عال هو الجبل» وفيها نجد صوت الشاعر يجرّد من حضوره آخر هو إياه، متحدثاً عنه بضمير الغائب، لكن خاتماً النص بالقرينة التي تنقلنا من المتحدَّث عنه الغائب إلى المتحدِّث الحاضر الذي هو مفرد يتحول إلى جمع يحتوي من تنطبق عليه صفة الشاعر، ذلك الذي:
«يمشي على الغيم في أحلامه، ويرى ما لا يرى، ويظن الغيم يابسة، أعلى وأبعد لا شيء يذكره باللامكان، فيمشي في هواجسه يمشي ولا يصلُ كأنه هو، أو إحدى صفات «أنا» وقد تقاسمها الضدان بينهما اليأس والأمل».
وتيمة الصعود لا تحتاج إلى تدليل، فالأهم منها هي فكرة عدم الوصول، حيث «الأنا» و «الآخر» الذي هو إياها يتوتران ما بين الأمل واليأس، وتنت هي القصيدة بما يؤكد معنى الصعود من ناحية، وتحول الثنائية إلى أحادية من ناحية موازية، أما القصيدة فتظل تحمل كثافة السحاب الذي يتوّج الجبل، والذي يسمها بنوع من الغموض هو جزء من طبيعتها على نحو ما نقرأ في المقطع الأخير من النص:
«كان الضباب كثيفاً في قصيدته وكان يصعد من حلمي، فقلت له عالٍ هو الجبل».
وأخيراً، يقودنا الجبل إلى دلالة الصعود المستمر الذي لا حدّ له ولا نهاية، ما ظلت كل محاولة تغري بغيرها، وكل ارتفاع يدفع إلى ما بعده إلى ما لا نهاية وهي الدلالة المركزية التي ينطوي عليها نص «أعلى وأبعد»: «رطب هواء البحر عذب شدو عصفور على الشباك هذا ما تبقى من كلام الحلم حين صحوت، عند الفجر، قلت لعل لا وعيي البريء يفضّل الإيقاع حين يقول لي صعب صعود التل فاصعد أعلى وأبعد».
والسطران الأخيران، تحديداً، يفتحان أبواب اللاوعي التراثي، ويدفعان إلى تذكر الأبيات القديمة التي تبدأ بالشطر القائل: «الشعر صعب وطويل سلمه»، وهو شطر يرتبط مع غيره الذي يتجاوب ودلالات تيمة الصعود إلى حيث تنبجس عين الشعر في أعلى القمم التي تظل تغوي الشاعر الذي يتحول إلى طائر.
الحياة
28/01/2009