إبراهيم الملا

محمود درويشيعبر الشاعر الإماراتي أحمد منصور عن قسوة الغياب التي رافقت رحيل محمود درويش قائلا: ''لقد فاجأنا الشاعر محمود درويش (كما فجعنا) حينما قرر أن يغامر ويموت في تلك اللحظة تحديدا، لقد تردد كثيرا قبل أن يتخذ القرار الحاسم بموته، ليس حبا في الموت، بل لأن الحياة لم تعد تستأهل العيش، وكانت مغريات الدخول في عالم الموت المذهل أشد من أن تقاوم بالنسبة إليه. لقد تردد مرارا على عتبة الموت، لكنه لم يجتزها، وحاول مرارا إغراء الموت باجتيازها، تارة بالسجائر، وتارة أخرى باستفزازه عن طريق الأسئلة على نحو قاس؛ فقد علق على طرف الخيط قصائد شتى ليطرق ذلك القاتل قلبه، إلا أن ذلك الجهم المريب، لم يشأ أن يجتاز العتبة هو الآخر في لعبة التجاذبات تلك، فهو ليس كما نظن قدر يعبر هكذا مغمض العينين!

لقد عاش درويش تجربة الموت، كما يقول، ورأى خلالها الكثير، كان يريد الموت ''أزرق مثل نجوم تسيل من السقف''، لكنه عندما يأس من قدوم الموت، قرر في لحظة حاسمة أن يجتاز تلك العتبة ويذهب إليه مباشرة، عن طريق القلب هذه المرة، عل ذلك يفتح باب الود. لقد قرر في لحظة حاسمة أن يترك كل شيء خلفه ويخوض غمار تجربة جديدة؛ تجربة متقدمة في الموت. لقد تغلب على كل شي، وصعد السلم إلى أقصى درجة ولم يلتفت، ترك حنين أمه وخبزها، ترك دموع شقيقته وفزعها الغامض، ترك الإخوة الأعداء يتناحرون، ومضي إلى غواية قصيدة جديدة لم يفلح الإيقاع باستدراجها.

ويضيف منصور: ''نعم كانت الرهبة كبيرة، لكنها تفتت في لحظة الإنعتاق القصوى، ولا شيء يغري الآن بالعودة. يقبع هو الآن هناك بشغف اكتشاف الكل في لحظة واحدة، تماما كما يفعل الأطفال عند بداية الإدراك. كان هناك دائما ما هو أبعد لدى درويش، أبعد من كل شيء وأبعد مما هو أبعد من كل شيء، فهناك ما هو أبعد من زهر اللوز، وأبعد من الكون، وأبعد من السؤال وأبعد من الشكل وأبعد من الموت بمعناه الفيزيقي والميتافيزيقي. كان يقول إنه ينحاز إلى الحياة كشاعر، لكنه لم يغفل الموت، بل ذهب إلى عمق سؤاله في ''جدارية'' رأى فيها أكثر مما روى، رحلت إذا، ولم تفكر بالأحصنة الوحيدة يا درويش، ألم تفكر بنا عندما قفزت إلى هناك حتى؟ لم هو قاس إلى هذا الحد إغواء التجربة هذا؟ ألم تستطع الصبر قليلا؟ أليس هناك من قصيدة حسنى يستجيب الموت إليها؟ كان سيأتي لا محالة يا درويش، فلم تعجلت وذهبت إلى هناك حاملا كل ذلك الكم من الشجاعة والقسوة؟ لقد قسوت علينا مرارا، لكنك هذه المرة أكثر قسوة، وأبعد''.

عبدالله عبدالوهاب: فصول تتمزق

أما الشاعر الإماراتي عبدالله عبدالوهاب فيقول: ''ما يحدث هنا يحدث هناك، وما يحدث هناك يحدث هنا، في نفس اللحظة، والدقيقة والساعة، في نفس اليوم والشهر والسنة، ألا هو تكرار موت الشعراء في زمن يفتقد الشعر كثيرا، فكان نبأ وفاة الشاعر الكبير محمود درويش أشبه بكارثة، لا أدري لماذا وضعت أصبعي على أزرار التلفاز، كي أستمع لنبأ وفاته وأقول: حتما الموت سوف يقبض علينا الواحد تلو الآخر، وهو من يقرر ويقطع حبل الود مع الشعر والحياة، أما الريح فسوف تكنس ما تركته الأعوام، ولكن وعندما يموت شخص في قامة محمود درويش فإن على الربيع أن يتأخر، وعلى المطر أن يتأخر، وعندما يموت الشاعر تتمزق الفصول والألوان والمواسم، ويطغى الأسود على بهجة الشعراء الآخرين، والعشاق الآخرين، والمناضلين السريين في محراب صمتهم العريق.

الشاعر محمود درويش أستاذ علّم الموت أبجدية الحياة، وحول مفردات الرحيل والنحيب والهجرة والشتات وتقنيات العدو في التنكيل والإقصاء إلى قاموس شعري أنيق وحافل بالتحدي والرفض والمجابهة، فكانت الكلمة هي مفتتح المقاومة، وكانت المقاومة الروحية هي الأشد تأثيرا على العدو من المقاومة الجسدية، والشعر وحده من يكتب طفولة الأرض، ومحمود درويش كتب سيرة الأرض كأبهى ما يكون، وعاد إلى ذات الأرض كي يتحول جسده إلى جذع زيتون وإلى هديل حمام وإلى أغنية هادئة تروض عطش الريح، وتوسع لنا فسحة الأمل!''

أحمد العسم: الألم المضاف

ويرى الشاعر الإماراتي أحمد العسم: إن الحياة تزخر بأشياء لا نلتفت إليها جيداً، إلا أن الموت يعير انتباهنا إليها ويحرضنا على ديمومة الاستيقاظ من غفوتنا الطويلة المدى ويضيف العسم: ''موت الشاعر محمود درويش هو الألم المضاف إلى الألم الآخر الذي يعيشه الشاعر من هموم وطنية وإنسانية وحياتية.. و''موت الشاعر'' هو انكسار لكل شيء جميل رآه الشاعر، ومحمود درويش هو من هؤلاء الشعراء الذين سيتركون فراغاً كبيراً من الصعب تعويضه.. فمحمود درويش الذي دلنا على العميق والمختلف في هذه الحياة، هو أيضاً الذي أشار علينا بأن لا نهمل ما لا نراه فيها وفينا!

إن موت الشاعر، هو فقد للمعنى الحقيقي لما هو باهر وأصيل في الطبيعة المتبدلة للكون والوجود. رحم الله درويش.. الذي ستفتقده القلوب التي أضاء لها بعناوين شعرية كبيرة، وستفتقده القضية التي كان أحد رموزها. محمود درويش: بندقية، قالت كلمتها ومضت!''.

عبدالله السبب: الحصان الوحيد

أما الشعر الإماراتي عبدالله السبب فيقول: ''حين يترجل شاعر عربي كبير مثل محمود درويش عن حصانه ليتركه وحيداً إلا من الشعر والنثر والنصر على الألم وعلى مقتفي أثر الفراشات في حقول الزيتون، فذلك أن وصية يمهرها الراحل بنبض قلبه وشعره وتراب وطنه المتأجج في أوردتنا جميعاً وفي مخيلات بنات أفكارنا وفي قصائدنا الرابضة في الوعي أو الراكضة في اللاوعي.. وعلى ذلك، علينا ـ نحن المعنيين بالكتابة ـ أن نعي تماماً كيفية الالتفات إلى تلك الوصية بحرص وحذر شديدين! تلك الوصية التي نصت بنودها على ثلاثة محاور: حرية الحوار مع تمثال الحرية، ومحاولة العثور على طين فلسطين، والإبقاء على حياة الشعر وعدم سفك دمه كي لا تضيع هيبته بين فنون الأدب الأخرى والتي لا نقلل من شأنها جميعاً.. لكن، ولأننا متورطون جميعاً ـ بما فينا الرواة والمسرحيون والكتّاب ـ متورطون مع الشعر بشكله المطلق ومع محمود درويش بصفة خاصة، ومؤتمنون على وصيته وقصيدته وحصانه وعلى الصهيل الفلسطيني وعلى عواصم ثقافتنا العربية، ومؤتمنون على الشعر وعلى ألق القصيدة وعلى قلقها القابل للاشتعال.. فإنه لزاماً علينا معانقة تلك الوصية، ونوصي أنفسنا وأنفاسنا بها خيراً!! نعم.. رحم الله محمود درويش: الذي عاش محموداً، ومات محموداً، وخلد القضية في الشعر الذي نصّبه أميراً مراً على الألم وعلى الجرح وعلى الحزن، كما لو أن أبا الطيب المتنبي أورثه مجد القصيدة وجدلها!!

أجل.. عاش محمود درويش في كفتي ميزان الشعر العربي: كفة أبو الطيب المتنبي في مقولته الخالدة في الشعر العربي: (الخيل، والليل، والبيداء تعرفني.. والسيف، والرمح، والقرطاس، والقلم!)، وفي كفة أبو فراس الحمداني بشرف حكمتها وعراقة مفرداتها: (ونحن أناس لا توسط عندنا.. لنا الصدر، دون العالمين، أو القبر!) وقد كان له الصدر، وكان له القبر، بعد أن خبره القرطاس والقلم والحصان والليالي والنهارات والمطارات والأمطار والأمصار!

نم، أيها الشاعر الدرويش.. نم وأنت العائد ـ كما كتبت على أوراق الزيتون ـ في كفن:

''يحكون في بلادنا يحكون في شجن عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن!''.

ظبية خميس: مقاومة القبح وفي شهادة لها حول هذا الرحيل المرّ تقول الشاعرة الإماراتية المقيمة في القاهرة ظبية خميس: ''الشعراء والأدباء وأهل الحق يتحركون في عالم من الحرائق والخرائب والدمار ويسيلون أرواحهم بحثا عن الحق والخير والجمال، ومحمود درويش هو أحدهم يمشي مع الماغوط ومي غصوب ونزار قباني وعبدالوهاب المسيري ونجيب محفوظ وعبدالرحمن منيف وفاطمة إسماعيل ومحمد عودة، وغيرهم الكثير ممن فقدناهم، غير أنهم لم يفقدونا، لقد تركوا بصماتهم على أرواحنا وأفكارنا وأحلامنا، وسوف تتغذى أجيال جديدة من زراعة نبتها (الجديد/ القديم) المتصل بالمقاومة: مقاومة القبح والشرور، والانتهاك الشرس لطمأنينة الإنسان''.

هاشم المعلم: تمائم وتعاويذ

وفي شهادة سريعة ومكثفة يقول الشاعر الإماراتي هاشم المعلم: ''لم يذهب محمود درويش ليرمي جنود الاحتلال بالحجر، لأن كلماته كانت تخترق الجدار العازل، وتربك القابعين خلف هذا السور الهائل والمشيد على إرث طويل من الدم والدموع، كان المقاوم الفلسطيني يتغذى من أشعار درويش ويتعاطاها بقدسية بالغة، فكانت قصائده أشبه بتمائم وتعاويذ تحصن الروح وتنعشها، كانت قصائده وقودا للمناضلين والأحرار، رغم أنها لا تخلف بنادق أو أسلحة، بل كلمات خالدة ومنتصرة على بؤس العالم، هكذا أخيرا ترجل محمود درويش وترك الصهيل ممتدا حتى آخر ضفاف الحرية''.

الشاعر الساخر الساحر

عمر شبانة

1

منذ ستين عاما ''يرى'' كل ما سيجيء
وكنا نرى معه حلمنا وكوابيسنا
منذ ستين عاما
عصافيره في الجليل بلا أجنحة
بعد ستين كأسا تجرعها واحدا واحداً
بين سجن ومنفى
ترجل هذا الفتى
مثل ما يترجل فرسان ملحمة
يذهبون إلى ساحة الموت كي لا يباغتهم نائمينْ
إنه الشاعر الساخر
الساحر
المتعدد
والمختلف
أين يذهب هذا المغامر؟
إني أراه يعود إلى أمه
كي يقود مظاهرة الضوء
في وجه هذا الظلامْ

2

لا يموت الذي قال يوما ''هزمتُك يا موت''،
وهو الذي خاطب الموت متحديا ''هزَمَتْك الفنون جميعا.. الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبد، هزمتك وانتصرت''.
كان اللقاء الأول معه حين جاء من باريس ليعيش في عمان مطلع التسعينات، وكان اللقاء الأخير في دبي حين تسلم جائزة سلطان العويس. وما بين اللقاءين جرت مياه الشعر والحياة لترسم صورة الشاعر/ الإنسان، ولترسم حدود الاتفاق والاختلاف مع شاعر كبير يحمل عبء قضية وطنية بحجم القضية الفلسطينية، من خلال موقعه في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.

كان حضوره مختلفا عن صورته السائدة بوصفه نجما، لم يكن يهتم بتلك الهالة التي تحيط به. وكانت له شخصيته الخاصة، ومن ملامحه الأساسية الذكاء االخارق والقدرة الهائلة على السخرية والتهكم، حتى أنه بصعوبة يبوح بالسر أو المعلومة وحتى الموقف الواضح، خصوصا في مرحلة اتفاقيات أوسلو التي اختلطت الأشياء فيها على نحو غير مريح للشاعر الفلسطيني.

3

السخرية والتهكم سمتان بارزتان في شعر درويش أيضا، إضافة إلى شخصيته، ففي شعره نلمس بوضوح هاتين السمتين، مباشرة حينا، وبصورة منحنية أحيانا، وذلك تفسره حدة المأساة التي يعيشها الشاعر وشعبه، فكلما اشتدت المأساة صار لا بد من لغة ساخرة وتهكمية تبلغ حدود المبكي المضحك، كما هو الحال في قصيدة درويش عن ''خطب الدكتاتور الموزونة'' التي تبرز عمق رؤية الشاعر لما يجري في إطار أنظمة الحكم والطواغيت، فلنقرأ:

سأختار شعبي
سأختاركم واحداً واحداً
سأختاركم من سلالة أمي ومن مذهبي
سأختاركم كي تكونوا جديرين بي
سأختار شعبي سياجا لمملكتي..

وهو يمعن في السخرية حين يصور الحياة البرلمانية في بلادنا، فهو يسخر من الأسياد ومدعي النبالة ''هل تقبلون لسيدكم أن يساويَ ما بينكم أيها النبلاء/ وهل يتساوى هنا الفيلسوف مع المتسول؟ هل يذهبان إلى الاقتراع معا/ كي يقود العوامُ سياسة هذا الوطن؟ وهل أغلبيتكم أيها الشعب هم عدد لا لزوم له إن أردتم نظاما جديدا لمنع الفتن!''.

ويذهب في رسم صورة الحاكم الذي يختار شعبه ويوجهه لعبادته، صورة تجمع الواقع والاستعارة والفانتازيا، ليعمق الوعي بالسخرية والتهكم ''سأختاركم واحداً واحدا/ مرة كل خمس سنين/ وأنتم تزكوننى مرة كل عشرين عامًا إذا لزم الأمر/ أو مرة للأبدْ''. ثم يختصر الأمر بخصوص الشرق عموما ''في الشرق حزب النظام الحديدي/ في الشرق تنمية للنمط/ ولا شيء في السوق غير الخطط''.

صورة يمزج درويش فيها الوطني بالإنساني والسياسي:

والسلم أقوى من الأرض
أقوى وأغلى
فهم بخلاء.. لئام
ونحن كرام.. كرام
وعاش السلام
ومن أجل هذا السلام
أعيد الجنود من الثكنات إلى العاصمة
وأجعلهم شرطة للدفاع عن الأمن ضد الرعاع
وضد الجياع
وفي السجن متسع للجميع
من الشيخ حتى الرضيع
ومن رجل الدين حتى النقابي والخادمة

4

وكانت حياة درويش بسيطة مثل قصيدته، لكنها البساطة الغامضة والعميقة، بساطة السهل الممتنع، فمن السهل أن تستوعبه وتستمتع معه، كما هو حال شعره، ومن الصعب أن تفهمه فهما دقيقا. فمن عرفه عن قرب وجده رقيقا أليفا، لكنه قد ينقلب شرسا في لحظة. وهكذا فهو عاش حياته حرا طليقا، لم يعرف القيود، وكان يقول لنا إن الشعر والقيد الاجتماعي لا يلتقيان (في إشارة إلى زواجنا وإنجابنا). بل دعونا نرى كيف ينظر درويش بسخريته تلك إلى اقتصاديات الدول النامية، فيكتب ما يشبه شعر الاقتصاد الوطني، حيث يسخر من السياسات الاقتصادية على هذا النحو:

دعوا الأرض بورا
لأن الفلاحة عار القدامى
قطعت الشجر
وألغيت بؤس الزراعة
لأستورد الثمر الأجنبي بنصف التكاليف
لا تعملوا في المصانع
فهي ديون على دولة تتنامى رويداً رويدا
على فائض الحرب من شهداء
ومن جثث في العراء
وبترولنا دمكم

5

ويلفت النظر في قصيدة درويش مواقف ساخرة من رؤية الرجل إلى المرأة، مواقف تهكمية تجعل الرجل لا يرى في المرأة سوى الجانب الشيطاني منها، مواقف تنم على ضعف الرجل وقلقه وشكوكه تجاه المرأة، ما يعبر عن فهم عميق لنفسية الرجل ونظرته السطحية إلى المرأة، فالدكتاتور ليس متسلطا تجاه شعبه فقط، بل أيضا تجاه المرأة:

قلِق
فالنساء هواء وماء
وفاكهة للشتاء
وذاكرة من هواء
وإن النساء إماء
وفيهن ما أحزن الأنبياء
وما أشعل الحرب بين الشعوب
وما أبعد الناس عن ملكوت السماء
فكيف أحل سؤال النساء؟
شهادات عربية في أمير شعراء المقاومة
كيف غاب الحاضر عن حضرة الغياب ؟

سيبقى الشاعر الكبير محمود درويش قامة شامخة لا تدانيها قامة أخرى في الشعر الحديث. وسيبقى بعد الرحيل الصوت الشعري الأعلى الذي أنزل قضايا العرب من أبراج السياسة العاجية إلى أرض الناس.. وترددت قصائده على كل الألسنة.. وهو بحق أمير شعراء النضال والمقاومة.. لم يكن شعره لسانيا بل كان قلبيا وجدانيا لم يتحمله قلبه المسكون بآلام الأمة وآمالها فترجل ورحل تاركا للعرب ثروة ضخمة من الشعر الصادق.. وهو الشاعر الذي لا يمكن أن نحسبه أو ننسبه إلى فلسطين أو إلى أي دولة عربية واحدة.. بل هو شاعر المة كلها.. وشاعر افنسانية الذي رشحته موهبته الفذة منذ سنوات لنيل جائزة نوبل في الآداب.

حلمي النميم، محمد نجيم، علي المقري

الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي قال: خسرنا شاعرا عربيا كبيرا وخسرت صديقا وإنسانا عزيزا وأي حديث عنه الآن كإنسان وكمناضل وكشاعر، لن يوفيه حقه ولن يعبر عما قدمه للشعر وللقضية الفلسطينية. ويقول الناقد الكبير جابر عصفور: درويش أكبر شاعر عربي ومجدد حقيقي، ويصعب تلخيصه أو تبسيطه في كلمات وأقول لكم ''بصدق أنا حزين لرحيله''.

حامي الشعر

الناقد د. أحمد درويش، عميد كلية دار العلوم الأسبق ومقرر لجنة الدراسات الادبية بالمجلس الأعلى المصري للثقافة، يذهب إلى أن محمود درويش أكبر شاعر عربي على الساحة الشعرية الآن، فضلا عن انه وأحد من كبار شعراء الإنسانية وتميز بالنفس الطويل، فقد استمر في الإبداع لأكثر من أربعة عقود متصلة، وهو في ذلك يختلف عن كثيرين يتوقفون في منتصف الطريق لبعض الوقت أو يتوقفون نهائيا، لأسباب تخصهم لكن درويش ظل موهبة متجددة ويزداد عمقا بعد كل قصيدة، وبالاضافة إلى ذلك فقد حافظ على غنائية القصيدة وحافظ على معادلة غاية في الصعوبة، تتمثل في قدرته على اجتذاب الجمهور الواسع الى الشعر، دون أن يعني ذلك الخفة، أو عدم التجديد فنيا، فقد كانت فنيته تتصاعد بين كل قصيدة وقصيدة، ومع اتساع قاعدته الجماهيرية على مختلف الاقطار العربية، كانت الجودة الفنية تزداد وتتسع خبراته وتجاربه كشاعر، الأمر الذي أتاح ترجمة اشعاره إلى العديد من اللغات العالمية، وذلك درس لمن يتحدثون من الشعراء عن الإجادة باعتبارها قرينا ومرادفا لعدم مقروئية الشعر وابتعاد الجميع عن الشاعر.

الروائي خيري شلبي يرى أن أهم ما يميز درويش وشعره هو وضوح الأصول والانتساب العروبي فشعره عربي خالص وهو التطور الأمثل للشعر العربي كله، فيه النابغة والمتنبي وأبو تمام والبحتري وحافظ وشوقي ومطران ومحمود حسن اسماعيل وغيرهم، كل هؤلاء نجدهم في أشعار درويش وصوته ملكه وحده وخاص به لا يشبه أحدا قبله، فقد هضم السابقين عليه بالاضافة إلى ثقافته المعاصرة وخبراته الانسانية الواسعة.

الشاعر العقبة

حلمي سالم ابرز شعراء السبعينيات يقول: محمود درويش هو الشاعر التفعيلي الوحيد الذي مثل عقبة أمام الشعراء بعد الحداثين، وانا منهم وقصيدة التفعيلة استنفدت اغراضها ولم يعد لها دور، ودرويش هو الذي عطل نظريتنا، واثبت أن قصيدة التفعيلة ما تزال تشع بريقا ورونقا، وهذا لا يتحقق الا من مبدع كبير ومحمود درويش بالنسبة لجيلنا مثل محمد مهدي الجواهري مع جيل الشعراء. كان ذلك الجيل يقول إن القصيدة العمودية انتهى دورها تماما ولم تعد صالحة، وكان وجود الجواهري يعوق ذلك، وفعل درويش الشيء نفسه مع جيلنا.

النكبة والتجديد

الكاتب محمد سلماوي رئيس اتحاد الكتاب المصريين وأمين عام اتحاد الكتاب العرب يرى أن محمود درويش يحتل مكانة فريدة في الشعر العربي، لأنه هو وتوأمه سميح القاسم أول من أعطى صوتا لجيل النكبة وعبر عنه شعرا ودرويش كان نقطة فاصلة بين الشعر التقليدي القديم في فلسطين والشعر الجديد الذي جاء محملا بمعاناة النكبة وهذا استدعى شكلا فنيا جديدا، فأدخل التجديد على الشعر الفلسطيني وهذه المكانة لن يحتلها أحد غير درويش.

عصافير الجليل

وتقول الشاعرة المغربية فاطمة الزهراء بنيس: ما أن عكّرَ مسمعي خبر وفاة شاعرنا العظيم محمود درويش حتى عصفَ بي ألم عميق وماجت وجداني متدفّقة دموعا مالحة هائمة في حسرة مفعمة بتساؤلات لا أجوبة لها: كيف استطاع الموت أن يهزمَ المنتصرَ دوما على الموت؟ كيف استطاع الظلام أن يقبض على النور؟ كيف تعبَتْ عصافير الجليل حتى رضخت للأرض؟ كيف واجه أثرُ الفراشة قسوة الريح ؟ كيف غاب الحاضرُ عن حضرة الغياب؟

ويقول الشاعر المغربي مصطفى بلعوني: برحيل محمود درويش قد انقضى مشهد شعري بكامله: الموت مرة أخرى... الحياة مرارا. مرة أخرى، تسقط فكرة أخرى، ليست أي فكرة، بل إنها الفكرة الأساسية عن الحياة/ عن التشبث العارم بالحياة، فكرة الغناء بمحاذاة مأثم، فكرة عن الوقوع في شرك الحب، فكرة عن الاستمرار، عن اللغة...

ثقب آخر في أوزون اللغة، ثقب آخر في أوزون الحياة، بل لعله الثقب الأوسع والأشرش على مدى كل السنوات في أوزون القصيدة العربية، في أوزون الشعر العالمي...

قصيدة نثر موزونة

يقول الشاعر اليمني أحمد السلامي: احتكر درويش جمهور الشعر وهيمن على ذائقة أجيال عديدة، لكنه منذ استضافته لروح قصيدة النثر في كتبه الشعرية الأخيرة فتح أمام جمهوره نوافذ عديدة للتلقي، وسمح لضوء الكلمات والمعاني الجديدة بدخول بهو قصيدته، حتى صارت أشبه ما تكون بقصيدة نثر موزونة.

الموت مجازاً!

ويقول الشاعر اليمني عبد الوهاب العودي: ما أسهل وأمتع أن تسمع أو تقرأ قصيدة للشاعر الكبير محمود درويش وهو يخاطب فيها الموت:''هزمتك يا موت!''. وما أصعب أن تسمع بأنه قد مات فعلاً، بعد حياة طويلة من النضال والمقاومة ومواجهة الألم والمرض بصبرٍ جميل.

موت يعني الخلود

وقال الشاعر العماني محمود الرحبي: حين استقبلنا خبر موته في مسقط، كانت نداءات الـ (أس.أم.أس) لم تتوقف، تموج وتبرق من أقاصي صلالة حتى أطراف الربع الخالي، مندهشة مستكينة ومعزية وحائرة. ربما لأن رمزية محمود درويش وأسطورته ترفضان فكرة الفناء الطبيعي بهذه الغفلة والسهولة. هذا الشاعر الذي استوطن الذاكرة وأحدث فيها نقلة واضحة على مستوى الذائقة الشعرية والذي كذلك صعّد بقصائده الجرح الفلسطيني إلى مقام المأساة الإنسانية الكبرى.

أوجد للقصيدة العربية حضوراً ومارس التمرد بوعي عقلاني
شعراء سعوديون: رحيل الظاهرة الشعرية ...

محمد خضر

رحل محمود درويش تاركا وراءه عمرا من الشعر والإبداع، درويش القصيدة الإنسانية التي تخطت الحدود وحلقت في أرجاء العالم، القصيدة والشاعر..

وكما يقول الروائي السعودي أحمد الدويحي: مرحلة من الذهول والدهشة وموته مرحلة أخرى من الذهول والدهشة، ويقول الدويحي إنه وظف الكثير من قصائد وكلمات درويش في رواياته وأنه قرأ درويش منذ ''العصافير تموت في الجليل'' إلى آخر نصوصه ولايزال ذات الابداع والدهشة يسكنانه، وأن كثيرين كتبوا عن فلسطين من الشعراء وعلى مرور الأزمنة لكن كتابة درويش كانت دوما هي الكتابة المختلفة والتي نقلت القضية إلى واقعها الانساني والشفاف..

ويقول الشاعر السعودي عبدالرحمن سابي أن درويش أوجد للقصيدة العربية حضورا ومارس التمرد بوعي عقلاني فكانت تجربة صاحبة نفس طويل شهي يحمل على التساؤل الساعي للدفء المتولد من كلماته حين تهطل بها محبرة الدهر والتي لن تجد غير درويش سامرا يطرب من يبتغي من الشعر أعذبه، مع درويش كان الشعر ألق لن يخبو... ويقول الدكتور جمعان عبدالكريم أستاذ اللسانيات في جامعة الباحة: رحيل محمود درويش ليس رحيل إنسان فحسب بل هو رحيل ظاهرة شاعرية كاملة محمود درويش هو آخر قلاع الشعر الكبرى في وجه طوفان الفنون النثرية وخصوصاً فن الرواية ومقاربة تجربة درويش الإنسانية والشعرية تحتاج إلى بحوث مطولة تتناول دور هذا الصراع العربي الإسرائيلي.

حرفة المقاومة

ويقول الكاتب السعودي سامي حسن حسون: اذا قيل أن محمود درويش أدركته حرفة المقاومة.. والقضية بالتسلح.. فإننا نعلم جمعنا أن كلماته الشعرية كانت هي قذاف للعدو على مدى أربعين عاما.. فذلك القول الشاعري لا يكتبه عبثا من أجل ممارسة هوايته للشعر، بل من أجل انتمائه الى أرض أجدادها المغتصبة.

لقد استطاع درويش ان يحدث هزة عنيفة لمعايير العدو الصهيوني.. والتي لا تزال سائدة في تجريم سلوكياتها الهمجية.. ولم يكن غيابه عن وطنه ينسيه ألمه أنما يلخصه في علامات استفهامية في كل شطر.

النهاية والتأمل

وتقول الدكتورة سعاد المانع، أستاذ الأدب العربي بقسم اللغة العربية، كلية الآداب، جامعة الملك سعود: ماذا يمكن أن يقول المرء عن محمود درويش الشاعر الذي حمل هم الوطن منذ بداية اتصاله بالشعر؟ رحل الشاعر والوطن مازال يعاني المأساة. رحل الشاعر بصورة فجائية أو شبه فجائية، والوطن الذي يحبه مازال يعاني من كوارث لا حصر لها. كتب درويش عن الوطن وعن الإنسان في شعره، هذا الإنسان الذي مهما بلغت قوته يتحكم فيه الزمن، وينذره بالنهاية. لكن النهاية تتمثل عنده بالتأمل في الحياة أكثر مما تتمثل بالإنصراف عن الحياة، أو السخط عليها.

طغيان إبداعي

ويقول الشاعر السعودي إبراهيم زولي: شكّل الشاعر محمود درويش حالة استثنائية في المشروع الشعري العربي وقد كان من الندرة أن يتفادى شاعر عربي طغيانه الإبداعي حيث مدّ ظلاله على كثير من مجايليه والأصوات التي تلت لسبب بسيط أنه ارتفع بالسقف الإبداعي مدى ندر من تجاوزه سيّما في سياقه. هاهو درويش يترك حصان الشعر وحيدا ويعود إلى خبز أمه مثلما تموت العصافير في الجليل. درويش كان أخطبوطا شعريا ومدرسة لاتشبه إلا نفسها.

شاعر ومفاجأتان

وقال الشاعر السعودي أحمد الواصل: لم أعرف درويش سوى بمفاجأتين: الأولى عندما رأيت على غلاف شريط خالد الشيخ قصيدة: أغنية حب على الصليب، حيث لحنها وغناها الشيخ نفسه منتصف الثمانينيات ولكن رقابة الإعلام المحلي حذفتها ثم فاجأتني موجودة في طبعة لاحقة منتصف التسعينيات..

''مدينة كل الجروح الصغيرة'' كتب درويش وغنى خالد الشيخ، ولم تكن هذه وحدها بل كانت هناك: ''عندما كنت صغيراً'' و''أبيات غزل'' ثم ''رحلة الغجر''..

وأما المفاجأة الثانية هي اشتعال قضية تكفير مرسيل خليفة عام 1997 بسبب غنائه قصيدة ''أنا يوسف يا أبي'' من مجموعة: ''ورد أقل''. حضر درويش في الذاكرة عبر المنابر قبل الكتب، وفي الذاكرة قبل الأغاني حملته إلينا حناجر كثيرة من مرسيل خليفة وخالد الهبر وماجدة الرومي وخالد الشيخ وفرقة أجراس وهدى عبد الله..لم يكن درويش مع سميح القاسم وفواز عيد وعز الدين المناصرة سوى رباعي حديقة الآلام الفلسطينية كان سميح يصرخ عالياً ويرقص مذبوحاً، وكان عيد يقبض التراب ويضرب رأسه على صخرة المنفى فيما كان درويش نورساً لا ينتهي ترحاله ولا يقف غناءه.

ضاعت العناوين

وقال الشاعر السعودي إبراهيم الوافي: كانت شاشة التلفاز صاعقة.. والخبر رعد التواريخ.. لقد رحل درويش فضاعت عناوين القصائد. عندما يرحل درويش هكذا فجأة على الأقل بالنسبة لكثيرٍ من الشعراء الذين لايرغبون بمعرفة شيء عنه إلا ريادته، ولايسألون عنه إلا قصائده.. سنتوقّف كثيرا أمام ما يبدو للكثيرين آخر الجمال وآخر الأصالة، فدرويش النص المموسق..

ذاك الذي موسق الشارع، والمدينة، وحمامات الرواشين، هو ذاته من نثر رؤيا الشعر على أرصفة المارّة، فاجتمعت عليه التيارات الشعرية وتنازعه الإعجاب المطلق..

عالم أقل نبلا

وقال الشاعر السعودي عمرو العامري: مشروع محمود درويش الشعري متفرد في كل شيء: لغته، رمزيته، وجوديته، وقلقه من مجانية الموت والكلام.. كان يجترح لغته لوحده من نبؤته.. من رؤياه لتدخل خبزنا وقهوتنا وتستبيح (أحيانا) ما بيننا وبين الخليلة دون شعور بمرارة الغيره.

لكن كل مشروعه في نهاية اليوم هو مشروع نضالي ليس فقط في سبيل فلسطين، جرحه الأكبر.. ولكنه في مشروعه الأكبر: تكريس إنسانية الانسان حتى وإن خلا من العنتريات ومفردات الصراخ العربي.. وهذا سر خلوده.

بعد رحيل محمود سيغدو العالم أقل نبلا ويغدو المشهد الشعري العربي أقل بهجة.

بلا مصافحة

وقال الشاعر والروائي السعودي عبد الله ثابت: محمود.. ذهبت هكذا بعيداً هناك، دون أن تصافحنا واحداً واحداً، ذهبت وخلّفت لنا كلماتك التي تشبه حياتك وموتك، فلابدّ أنك جالسٌ في كامل سكينتك يامحمود، وقصائدك كلها مصفوفةٌ بعناية من حواليك، تضع يدك اليمنى على صدغك كما تفعل دوماً، وتحدق في باب النهاية الذي أوصد فجأةً باستغراب، ويساورك الخوف قليلاً أن لا أحد سيكترث لـ ''ريتا''، وتشعر بشيءٍ من الحنوّ لأنك تعرف أن صديقك مارسيل خليفة، سيبكي وهو يغنيها أمام الجميع، ولابدّ أنك تفكر ما إذا كان الحمام سيطير مرةً أخرى أم لا.. فتتأوه عميقاً، ثم تشعر بشيءٍ جليلٍ فتلتفت في الضوء المنسرب إلى عينيك، فترى أمك وهي تدخل عليك، في حلّةٍ عربيةٍ خالصة، وفي يدها كوب قهوتك، وقبل أي عناقٍ، تضع يدها البيضاء على شعرك، وتطلبك أن تنشدها ''أحنّ إلى خبز أمي''.

الاتحاد- الأربعاء 20 أغسطس 2008

***

شهادات : درويش نقل القضية بالقصيدة إلى الشعر العالمي

غادة علي كلش
ماذا عنت وفاة الشاعر محمود درويش، لأهل الشعر والأدب في لبنان، وفي عاصمته بيروت، المعاني كانت رئيسية ومتعددة، أهمها أن شعر درويش كان رمزاً للحداثة، وأن قصيدته الوطنية كانت موئلاً للخروج من التقليدية إلى التجددية، باتجاه النبض الجماهيري. فما سر محمود درويش؟ ولماذا خاف من شعره الكنيست الإسرائيلي؟ وكيف يمكن أن نرثي نحن العرب هذا الشاعر العربي الكبير؟

يقول الدكتور أمين ألبرت الريحاني: القصيدة والقضية الفلسطينية، اكتسبا أهمية كبيرة في تجربة محمود درويش الشعرية. فعلى صعيد القصيدة استطاع أن يكون رمزاً للحداثة المعاصرة في الشعر العربي، وأقصد الانتقال به من طور الشعر التموزي إلى طور الشعر المستقبلي وذلك من خلال الصورة الحديثة لقصيدة النثر، أو للشعر المنثور. وهذه نقطة تسجل لدرويش.

أما على صعيد القضية، فقد تمكن درويش من أن ينقل القضية الفلسطينية إلى مستوى اللغة العالمية. في حين أننا لم ننجح نحن المثقفين العرب ولم ينجح القياديون العرب، في نقل هذه القضية إلى اللغة العالمية التي يفهمها الجميع، سواء كانوا معها أم ضدها.

نشر محمود لغته في أرجاء العالم، وأعتقد أنه عند انقضاء مدة زمنية طويلة، وبعد أن تؤرخ القضية الفلسطينية، سياسياً، سيصار إلى مداخلات متناقضة على صعيد الاختلاف في وجهات النظر السياسية والتاريخية. أما لغة الشعر فلن يستطيع أحد أن يداخل فيها أو أن يواجهها ويغيرها، وهذا بالتحديد، ما تركه للقضية ولنا، الراحل محمود درويش.

القصيدة السيف

ويقول الشاعر هنري زغيب: صدمنا غياب محمود، وهو في عز ربيعه الشعري والنضالي خانه قلبه لكثرة ما انفطر هذا القلب على فلسطين، الشعب والأرض، هو الذي تشرد منفياً، فوجع قلبه في التشرد والمنافي، وحين عاد إلى أرضه، وجع قلبه أن لم يعد معه جميع المنفيين والمشردين. لذلك أرهق محمود قلبه بالشعر، والشوق والقهر والانفعال. فشهر قصيدته لا سيفاً يقاتل، بل خنجراً في قلب العدو الإسرائيلي.
وليس أدل على قوة قصيدة محمود، مثل رائعته ''عابرون في كلام عابر'' التي ارتجت لها فرائص الكنيست الإسرائيلي، فناقشوها في جلسة عامة، لكثرة ما يعرفون أن قصيدة محمود درويش تزلزل ثورة الفلسطينيين، فيرتعد لها العدو الغاصب.

مع غيابك يا محمود تأفل شمس من الشعر والمقاومة، فيظلم عندها ليل. كل عزائنا أن تولد في هذا الليل نجمات من شعرك تواصل الطريق، حتى يرجع من جديد فجر فلسطين وصباح العودة القريبة.
ويقول الباحث صقر أبو فخر: برأيي أن هناك ثلاثة شعراء من العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، تبوؤا القمم الرفيعة في حركة الشعر العام. أدونيس، محمود درويش، ونزار قباني، الفارق أن أدونيس وهو شاعر كبير لا شك، بقي شاعراً خاصاً ونخبوياً. أما محمود درويش فكانت الجموع تزحف للاستماع إلى قصائده في كل العواصم العربية، وأظن أن درويش هو الشاعر الوحيد التي كانت لغته الشعرية تتطور باستمرار، وكل ديوان أصدره كان فيه جديد.
الكثير من كبار الشعراء مثل نزار قباني، وشعراء ''الكلاسيك'' مثل الجواهري وبدوي الجبل وسليمان العيسى، أنجزوا معظم إبداعهم الشعري قبل سن الخمسين، وعاش إسمهم على حكم القصائد السابقة. بينما ظلت دواوين درويش حتى آخر ديوان له، تحمل إضافات جديدة.

فما سر محمود درويش؟ وما سر شعره؟ الجواب على هذا السؤال صعب. لكن ازدياد جماهيريته، كان يحمل في طياته مثل هذا الجواب، سيما وأن آخر أمسية شعرية له في مدينة حلب، استقطبت حوالي اثني عشر ألفاً.

لم يدع البطولة

ويقول الشاعر الياس لحود: عاش محمود درويش صادقاً في حبه لنفسه وللعالم، وفي نقده الموجع الساخر لنفسه وللعالم أيضاً، وفي هذا الهجوم الأخير على معاقل الموت، الذي هو برأيي، الواقع العربي، حيث لم يهادن ولم يوارب، لم يكذب ولم يخف، لم يدع البطولة ولم يقبل بالتنازل لأي كائن. وحتى الدولة: حتى السلطة كائناً ما كانت، عن المستوى الذي من خلاله كان يتحرك، وأعني به مستوى قراءة العالم بالشعر، وحب البشر بالشعر، ونقد البشر بالشعر، ونقد الذات بالشعر، حتى النفس الأخير، حتى اللحظة الأخيرة... فلنقدم لدرويش على هذه الساحة العربية المشبعة بالنفاق، والكذب حتى النخاع، دقائق صمت متوالية، بل شهور صمت، بل أزمنة صمت، نحن في أمس الحاجة إليها...

الطير المذبوح

ويقول الدكتور روحي بعلبكي: رحم الله محمود درويش الذي كان محرراً للعقد، مطهراً للأنفس، مصفياً من كل الشوائب، فكأنه بذلك كان مخلصاً عصرياً لقضية هي قضية حق. لكنها اختلطت بألف عنصر وعنصر.
أذكر حين قدم محمود إلى بيروت، وكان صديقاً لوالدي رحمهما الله وكنا نلتقي حيناً في مبنى أقامته دار العلم للملايين بالاشتراك مع ''دار الآداب'' و ''دار نزار قباني'' لجمع الناشرين في بناء واحد، في منطقة بشارة الخوري. لكننا لم نستعمله إلا لفترة بسيطة، خلال ما عرف بالجولات المتلاحقة من الحرب اللبنانية، إذ أصيب البناء بأضرار فادحة. كان درويش يزورنا هناك كثيراً، وكنا نغادر معاً في سيارة واحدة، ونجلس إلى موائد الطعام، وكان دائماً طيراً مذبوحاً، خلع على نفسه ثوب الفداء، وخلع عن جسده ثياب الجبن، فأوجد بذلك قصته جديرة بأن تحفظها الأجيال. قصة صنع بطولة من دون سابقة. قصة استحالة النقيض، قصة التمسك بالحق في زمن الإخلال بالوعود.

تحول نوعي

ويقول الشاعر حمزة عبود: شكلت قصيدة محمود درويش، بعد دواوينه الأولى، تحولاً نوعياً فيما يسمى شعر القضية. استطاع محمود درويش أن يوحد المعنى أو العلاقة بين الشعر القضية، وقضية الشعر.
محمود درويش قرأ الواقع العربي من خلال القضية الفلسطينية، بحرية أوسع وأكبر من قراءتها للخطاب السياسي، والخطاب الثقافي السائد.
قصيدة درويش طرحت أسئلة كانت لا تزال معلقة في الشعر ''الوطني'' السائد. تجربة محمود هي تجربة باللغة، بقدر ما هي بالمفاهيم والأفكار.
قبل درويش، كانت هذه المفاهيم هي التي تنسج اللغة، ولم تكن القصيدة تعرف نوعاً من الاستقلال، لم يكن للقصيدة حضورها المستقل والواعي، كانت على الأرجح استجابة لشعارات مرتجلة، وباتت مضجرة إلى حد بعيد.
محمود درويش، كان بالإضافة إلى ذلك، رمزاً للحداثة الشعرية الذي وجدها في كتابات شعراء من عصور مختلفة، ومن ثقافات مختلفة، من شعراء العصر العباسي، إلى شعراء النهضة، إلى الشعراء المعاصرين، أمثال بدر شاكر السياب وأدونيس ونزار قباني.
لقد استطاع درويش أن يستشرف كل هذه التجارب، فضلاً عن علاقته بحركات الحداثة في حركة الشعر العالمي. وأعتقد أن قراءة شعر محمود درويش بعد غيابه سوف تبين أن النص الشعري الذي حاوله محمود سوف يكتمل في تجارب شعرية لاحقة.

ويقول الدكتور عصام خليفة: كان الشاعر محمود درويش شاعراً مبدعاً ومثقفاً ملتزماً بقضايا شعبه الفلسطيني وقد عرف كيف يطرح القضية الفلسطينية ببعدها الوطني والإنساني. من خلال الكثير مما كتب.
إن وفاة محمود درويش هي خسارة كبيرة ليس فقط للشعب الفلسطيني، وإنما أيضاً للعروبة المرتبطة بقيم الحداثة والديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان.

لم ينتظر أحدا

(إلى روح الشاعر العربي الكبير محمود درويش)

بهيجة مصري إدلبي
''لم ينتظر أحدا''
على باب القصيدة حين أيقظه الصعودُ
''لم ينتظر أحدا''
طوى أوراقه ومضى
إلى أبدية بيضاء
يألفها الخلودُ
هو عاشق
والعاشقون إذا تلوا آياتهم من غيبها
فاض النشيدُ
''لاشيء يوجعه على باب القيامة''
في مقام (الأين)
''أصبح ما يريدُ''
هو في مدارات البصيرة
ينتقي لمجازه لغة
يعرّي سره في اللاوجود
يذوب في دمه الوجودُ
قالت قصيدته الأخيرة
ـ حين كان الموت قرب سريره غيما
وفي يده الورودُ ـ
قال: ''ياموت انتظرني خارج الأرض''
''انتظر ياموت... يا ظلي الذي سيقودني''
''فأنا الغريب بكل ما أوتيت من لغتي'' أنا
ضدان يتحدان في المعنى
فيأخذني القصيدُ
في الموت تكتمل الرؤى
ويذوب في اللاوقت
موعدنا البعيدُ
الموت أبعد من سؤالي
من خيالي
من رؤايْ
هو فكرة كالحب يهبط من سمايْ
وخطاه نحوي مثلما الريح التي
حفّت خطايْ
هو ما نراه ولا نراه
ولا نريدُ ولا يحيدُ
''لم ينتظر أحدا''
يودعه
ليعرف ما يريدُ
قال الطبيب سمعت أحرفه الأخيرة:
قال: ها إني اكتملتُ
''ما دلني أحدٌ عليّ أنا الدليلُ
أنا الدليل إليّ بين البحر والصحراء
من لغتي ولدتُ''
وتلعثمت كلماته
فبكى وقال
''اسمي وإن أخطأت لفظ اسمي على التابوت لي
أما أنا ـ وقد امتلأت بكل أسباب الرحيل
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي''
لم ينتظر أحدا
غفا كفراشة بيضاء
بللها الشرودُ
''ريتا تغني وحدها''
والقدس يطعنها الجنودُ
ودم الشهيد موزع بين القبائل
بعد ما مات الشهودُ
لم ينتظر أحدا
طوى أحلامه خلف الزمنْ
ألقى التحية من بعيد للجميع
وقال من ألم دفين
''تصبحون على وطنْ''

المقاطع بين الأقواس من شعر محمود درويش بتصرف شاعرة سورية
راجلا رحلت سيداً للشعر وفارساً.. بلا وداع

لهيب عبدالخالق - لم تأخذ حياتي منعطفا جديا في مسيرتي الأدبية إلا بعد أن أضاف إليها فارس الكلمة المقاومة فقيدنا جميعا محمود درويش هدفا جديا، لقد وضعني أمام مسؤوليتي الأدبية عندما قال لي ذات يوم شتائي ممطر في بغداد عام 1986 في لقاء جاوز الظهر قليلا ''أيتها الشاعرة السومرية تكتبين بترف أسلافك، لكن ما وجهتك؟''.

سؤال أحسست يومها أنه ظلمني فيه، فأنا من جيل ابتدر حياته في حضن الحرب الثمانينية، ذكرته في مساء ذاك اليوم الذي أبكاني فيه برسالته التي رد بها علي من منبره الكرملي عندما نشر لي قصيدة متواضعة، خشي أن يكون جرحني، وعقب ''سألتك إلى أين تمضين''، أجبته بتوجس ''أنا من جيل الحرب'' ، فرد ''وأين هذه الحرب فيك، أين طريقك؟؟''

كلمات قليلة لكنها وضعتني على طريقي الصحيح'' شاعرة حرب'' تحمل قضية، كان وديعا هادئا متواضعا حنونا كأب أو كأستاذ ينظر إلى رعيته بعين دامعة، لم يشأ أن يوجههم لكنه كان يقودهم، كان قائدنا جميعا والفارس الذي لم يترك صهوته، جميعنا ترجل حينا أو آخر، إلا هو، حتى في حضرة الموت بقي ممتطيا صهوته.

لم ينس كلما التقيته، المرات القليلة التي التقيته فيها، في المربد، في الجزائر حين كان الفلسطينيون عام 1991 ينطلقون باتجاه أوسلوا وينزلقون عن أحصنتهم وأمسك هو بقوة بلجام فرسه، في جرش، في دبي، ذلك اليوم الممطر الذي نثت فيه عيوني بعضا من مرارتها.

لم أكن بالنسبة له سوى شعب فطم على جرح المقاومة، أما درويش فكان لنا جميعا الذي قال فيه المتنبي''وقفت ومافي الموت شك لواقف''، رحل راجلا إلى موته الذي هزمه.