كالنعاس، أتاك الموت، اختطفك ومضى الى عالم الفوق، على غير ميعاد. على أننا لم نفاجأ، فقد كان الموت على موعد دائم مع قلب رقيق أنهكه الخفقان والانكسارات. هو الموت، ولا موت بحجمك محمود درويش. غادرت منفانا اليومي الذي نسميه مجازاً "حياة"، الى عالم الغياب، حيث لا منفى ولا وطن، لا شعر ولا نثر، لا حب ولا ريتا. كتبتَ عن الموت الذي عرفتَه عن قرب، صادقتَه، وشربتَ معه نخب العودة الى الحياة مرتين، لكن الثالثة لم تمهلك، فكانت الرحلة الكبرى والأخيرة. لن تكتب بعد اليوم، ونحن اكتفينا بالجدارية، فهي الشاهد على حياة جديدة ومتجددة، قبل ان تنفجر بك عبوة الشعر، فتتناثر القصائد، وتسيل دموع ريتا وغيفارا واحمد العربي.
ماذا فعلت أيها الموت، يا مرض الخيال، يا دم الطاووس، يا قناص قلب الذئب؟ هل احترفت صيد الأيائل والغزلان الباحثة عن وطن؟ ألم يمتلئ قطارك بجيل الخلاّقين الذي لن يتكرر، أم انك أيها الموت الثقيل الظل تحاول استعراض مهاراتك في التنكر بأزياء وأقنعة مختلفة، وقطف زهور الغاردينيا، متأرجحاً بين الموت الطبيعي وغير الطبيعي الذي دهم محمود درويش، والاغتيال الحاقد الذي تناثرت معه أشلاء سمير قصير لانه تجرأ ورقص برشاقة في حقل الألغام؟ الأحبة مضوا، والموت صار بداهة يومية، فكيف إذا كان موتاً بحجم من رحلوا وتركوا مقاعد شاغرة، وجرحاً لن يندمل. كأن سلفك المتنبي اسرّ اليك يا محمود درويش عندما رافقته في رحلته الى مصر قائلاً:
وصرت إذا أصابتني سهام/ تكسرت النصال على النصال
ياه يا محمود. كم هي مقفرة هذه الصحراء العربية، وعود الياسمين وربيع الحرية في دمشق وبيروت والقدس خنقها تصحّر الفكر والأدب والسياسة، والقامات الكبرى تتهاوى. أليس هذا حقها في الراحة والاستقرار الذي حرمت منه طويلاً؟ الا تزال قلوبها قادرة على احتمال المزيد من الهزائم العربية والخيبات التي لم تتوقف يوماً؟ هو جيل الأحلام الذهبية الذي خلقته النكبة والنكسة واجتياح بيروت 1982، جيل رافق كل محطات الشقاء والعجز والذل العربي. إنها المفارقة ان تصنع المأساة الحلمَ والحالمين الذين حملوا المشروع بأخلاقية عالية وكفاحية نادرة، الا ان المشروع ارتطم بجدار الموت السريري الذي صنعته ثنائية الاستبداد والاحتلال، ثنائية متلازمة فرّغت اللغة والكتابة والثقافة العربية من مضمونها ورسالتها، لتصبح الثقافة العربية رواية تراجيدية كتبتها قضبان السجون.
صدمنا برحيلك. دقت كؤوس الخمر بعد إعلان الرحيل، وشربنا نخب الشاعر الذي مضى. الحزن اكبر من ان يوصف، ولكنك قد تهزأ من حزننا، لأنك سترتاح الى الأبد من معاناة المنفى والغربة والترحال، وستستقر مع من سبقوك الى السماء. لن تفكر بعد اليوم بالشقاء العربي وفلسطين التي كتبت نص إعلان دولتها قبل عشرين عاماً، ولا يزال هذا البيان مفتوحاً على أفق محتمل لدولة فلسطينية مقبلة. سترتاح يا محمود درويش من التنقل بين العواصم التي رمتك بالحقيبة فالتجأتَ الى رصيف الحلم والأشعار، مكانك الفضاء اللانهائي المديد.
عندما هاتفني احد الأصدقاء واخبرني انك اخترت الغياب، أعطيت الدموع حقها، لكنني كفكفتها وعدت الى نصين سابقين لي في "النهار"، الأول "حيرة العائد من الشعر إلى الشعر"، والثاني "هذيان الموسيقى في أحضان الشعر"، كتبت فيهما عنك وعن شعرك، وتركت المجال والمستقبل مفتوحاً على أعمال جديدة ننتظرها منك. كنت متفائلاً أكثر من اللازم، لم أتصور والجميع ان مسيرة النثر والشعر ستقف عند تخوم رسمها "أثر الفراشة". كانت ذاكرتنا وروحنا العطشى الى الشعر في حاجة الى المزيد، فلماذا اخترت إنهاء مشوار الرمزية المحببة الى قلوب عشاق الحداثة الشعرية والفكرية؟
يا ابن الآلهة، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف من بعدك. لا اكتب لأرثيك، بل لأرثي حالنا وواقعنا، سأسمح لنفسي ان أتكلم بلسان حال الكثيرين ودون تفويض من احد وأقول لك: قل لسمير قصير وادوارد سعيد عندما تلتقيهما ان الثقافة العربية قد أعلنت نفسها على الملأ: "قصة موت معلن".
النهار- 23 اغسطس 2008