في احدى قصائده يقول محمود درويش ان الوردة اصبحت جرحا. كلمات تعكس جيدا قدر شاعر. ذلك ان القصيدة والتاريخ لا ينفصلان لدى درويش. انهما شكلان من اشكال الحياة. ويدل الأسى الذي ابداه الفلسطينيون حيال موته الى اي مدى كان الشاعر على حق. فالمصير الفردي والمصير الجمعي يمتزجان لديه بلا هوادة، ويطبعان كيانه برمّته. وكان مظهره وحركاته تعبّر كلها عن تلك الحرارة المتوترة: حرارة الانسانية البسيطة. كان شعره نَفَسه وارضه في آن واحد، وبهذا كان شاعر المنفى، شاعر الشهادة وشاعر اللقاء والسلام معاً.
شاعر المنفى اولا. حيث انه لم يعرف وجودا الا في المنفى، ففي سن السابعة، حلّت النكبة لتطاول عائلته فيعرف الحرب ومسيرة عذاباتها ويهاجر مع اهله من قريته البروة الى المنفى اللبناني. في تجربة العذاب هذه شارك الالاف من الرجال والنساء الانسلاخ الجمعي، ليعود فيشاركهم ايضا تجربة المنفى الداخلي عندما عاد الى الجليل، الى دير الاسد والجليدة وحيفا. امضى حياته في عبور الاسوار من القاهرة الى باريس ومن بيروت الى موسكو، لكن ذلك العذاب لا يجعل كلّ من عاشه شاعرا. اما هو فقد كان شاعر المنفى، كل المنافي، وكل المنفيين، لانه عرف ان الارض تُتناقل كما اللغة، فالارض واللغة تتماهيان لديه وتحل الواحدة محل الاخرى، لذلك ظل يسكن اللغة ويخصبها من دون توقف.
كان درويش ايضا شاعر الشهادة، لانه احس انه لا بد من كلمة صلبة لاعطاء معنى لعبثية التاريخ. عمل على اللغة وصاغها كي تستطيع ان تكون شاهدا. وهنا استذكر تلك القصيدة الرائعة التي تتحدث عن اغتيال خمس طفلات لدى خروجهن من المدرسة. كانت كلمته كلمة حية، برهانا على الحياة في ما يتجاوز كل العذابات. كما كان هو شاهدا على كثير من العذابات المؤلمة في تاريخ الشرق الاوسط:
في بيروت خلال اجتياح ال82، عاش السجن لكن قصيدته لم تتوقف عن ان تقول، وأن تكشف وتدل وتضيء. اراد محمود درويش ان ينقل الى العالم تجربة خاصة محمّلا اياها ما فيها من دلالة كونية انسانية، غير انه رفض الانطواء على الالم ونجح في ذلك بشكل باهر. والا فبِمَ تفسر اذاً هذه الشهرة العالمية من اميركا الى اوروبا؟
لكنه كان ايضا وخصوصا شاعر اللقاء والسلام، فلم يكن ليكفي القصيدة ان تكون شاهدا. الشعر هو بالنسبة إليه فعل اللقاء، جسر بين انسانين، بين شعبين، ولم يكن غريبا ان تنتهي الانطولوجيا الفرنسية المخصصة له بقصيدة "فن الحب" التي تعبّر عن المسالمة مع الانسان ومع العالم! هذا اللقاء هو ايضا اللقاء مع المرأة الحبيبة، ذلك انها هي الاخرى تتماهى مع الارض. الا يتحدث عن رموش الارض اذ يصف سنابل القمح؟ بل انه عاش المنفى ايضا عبر انفصاله عن المرأة الحبيبة. رفض تجريد الكلمات الكبيرة، لينفتح على اللقاء الحقيقي لأنه آمن دائما بالآخر، واذكر ما قاله لي في لقائنا الأول في وزارة الخارجية في باريس حيث كرر أمامي مرارا ان السلام لا يمكن ان يجزّأ لان الارض تفرض القبول بالآخر، ولذا عمل من دون كلل لاجل السلام ورفض العنف بكل صوره لانه كان بالنسبة اليه نقيض الكلمة، إذ يجعلها مستحيلة، بل انه يجردها من المعنى.
يمكننا في النهاية ان نجمع هذه الوجوه الثلاثة لنرى محمود درويش "رجل عبور" بكل معنى الكلمة، كما كان جميع الشعراء الكبار في تاريخ الانسانية.
كان رجل عبور لانه كان يعرف الحدود. قد عانى منها وعذّبته، وعرف منها تلك التي تقطع وتجرح، تلك المرهَقة بحواجز الرقابة والتفتيش. لكنه عرف ايضا تلك الاخرى: التي تشكل نقطة تواصل ولقاء، تلك التي إن هي الا حرارة التماس بين البشر.
كان محمود درويش شاعرا، لكنه، قبل كل شيء، كان انسانا.
النهار
8- اكتوبر 2008