ملف جريدة الدستور- الاحد
إلى ابني محمد غسان جودات الذي يحفظ منذ طفولته شعر درويش
سيقول شعرك للذين أتوا من الزمن الغريبْ
لم تفهموا عبق السؤالْ كي تنصتوا
للمشي في أفُق "النشيدً على الشهيدْ"
ويقول نصك للذين قضوا مع الكلمات كل العمر لن تترددي
فنسيج عمر الواقفين على المعاني تفرقوا "ذهب الذين نحبهم
ذهبوا"
ذهبوا
ذهبوا...
من غريب التناصات النفسية أنني وأنا بصدد كتابة هذه المقاربة النصية عن الشاعر الكبير محمود درويش ـ ، ـ ( وعن شعريته التي يصعب القبض عليها لميكانيزماتها النصية المحكمة في تعالقاتها النصية المتعددة) ـ اتصل بي صديقي الناقد الدكتور هيثم سرحان من الأردن :وهو يعرف ما يجمعنا من تجليات نصية وصداقة مع الرجل إبداعية وقراءة وبياتا حتى قرأنا معا نصوصه التي علقت في صدورنا بشكل ثنائي وتلقائي في قلعة عمان بالأردن قبل أيام: ليخبرني نبأ وفاة محمود درويش.
1 - الشاعر والرحيل المكان
موت شاعر بحجم محمود درويش خسارة كبيرة للشعر العربي ، الذي يشكل فيه المؤسسون للحداثة الشعرية استثناءات قليلة تتطلب "شروط إمكان" إنتاجها(استعارة فعلية من مشيل فوكو): مئات السنين كي تتكرر إذا توافرت. فشعرية محمود درويش أسست ميكانيزمات نصية تسيًّج عالمها الإبداعي بتجليات نصية تناصية مفتوحة على الإبداعية العربية والعالمية: القديمة والحديثة بجغرافياتها المتشعبة والواسعة ، مما يجعل القبض عليها ووهمَ تفهمها وتسييجه سيدا في معظم القراءات التي تتقدم نحو قارئها لمقاربة هذه الشعرية العربية الحداثية الفريدة. لصفة الحداثة أولا: ولصفة العربي التي تحمل من صفات المنسوب إليه التوحد والتمزق في آن ، فهو شعر التراكمات الأخرى التي تضع الشعر العربي ضمن مسارات تحول مفتوحة تُصَيرُ صفة الشعر العربي نفسها أزمة مادامت تفتح زوايا نظر مختلفة إليه كجنس وضمن أجناس يتفاعل معها ، ولإقامته داخل مفهوم شاسع للثقافة العربية نفسها ، ولانخراطه في جنسيات شعرية متعددة تشبه التمزق الذي يتعقب العربي (خصوصا إذا كان فلسطينيا) دون أن ينال منه ، وهي بحق صفة لهوية تجميعية وانتقائية في آن واحد: يكفي أن نسميها متعددة. وتطرح ضمن صفة "العربي" أيضا صعوبة أخرى ، تتمثل في علاقة هذا الشعر بتراثه ، حيث "الصعوبة الأساسية التي نواجهها في الشعر العربي الجديد هو أن علينا أن نحدده بالانسجام مع تراثنا وبالاختلاف عنه في آن"i. هذه بعض التجليات المآزق التي تجعل القبض على شعرية درويش بعيدة المنال ، من هذا المنطلق تقترح هذه المقاربة دخول النصية الدرويشية من مدخل علاقاتها التناصية المفتوحة على المساحات الثقافية الشاسعة: بدءا من الحضور الديكتاتوري للإيقاعية الشعرية العربية القديمة التي يعتقد الكثيرون أن نص درويش تخلى عنها ، ومرورا بالتحولات النصية التي تؤسس فرادة الشعرية عنده ، وانتهاء بالنصية التي تستطيع الإنصات لليومي والعابر وتشعرنه. هذا هو عالم درويش الذي خلفه ، وهو ديوان شعري ضخم يستحق أن يسمى مدرسة شعرية بامتياز ، على غرار شعريات عربية حداثية ضخمة (مثل أدونيس) يصعب فهمها من طرف المقاربات النقدية التقليدية. لأن هذه النصوص تتجاوز القائم والمعروف والمتداول ، بل تتجاوز نفسها أيضا ، وتمتص المتعدد والمختلف ، من هنا نفهم نصا لريكله يورده موريس بلانشو في "الفضاء الأدبي" هذه ترجمته:
(الأبيات ليست إحساسات بل هي تجارب ، فلكتابة بيت واحد تلزم رؤية مدن كثيرة وأشخاص كثيرين وأشياء كثيرة). والرجل كانت إقامته في الرحيل عبر النصوص وعبر الحياة وعبر الترحيل أيضا.
يقول الشاعر:
- كم مرة ستموت ، كم لغة ستخطئ كي تصل
- خرج الطريق على الطريق على الطريق تشعبت خطواتنا
- مات البطل
- عاش الجبل
- كم مرة ستعد من أجلي وأجلك خيمتين على الشواطئ؟
- كم مرة ستجيء مملكة البنفسج دون أن تجد البنفسج؟
- لاتبك من عيني ، واحملني لأحمل عدة الحلم المضرج
- بدم يسمينا ويأخذنا إلى مالست أدري
- لا ، لم نجد نهرا لنجري غير هذا النهر ، فلنذهب معه
- مدن تجيء وتختفي فينا. ومن يدنا إلى دمنا فضاء لا يسيج
- إلا بعوسجة الطفولة. كم رأينا... في الرياح الأربعة
- مدن تجيء ونختفي فيها. ونخرج كالرهائن حين يفضحنا الأمل
- مات البطل
- عاش الجبل الموت مرات عديدة واللغة وسيلة متعددة للوصول إلى غير نقطة الوصول (من موت إلى موت ـ ومن لغة إلى أخرى ـ ومن يدنا إلى دمنا ـ والبقية آتية...) : لأن الإقامة سيدة في احتراف الرحيل: ولأن الرحيل هوية أبدية لهذا العربي الجريح. لذلك إنه يسكن بيت القصيدة عوضا عن البيت التقليدي ببنائه المعروف: ويتشبث في الوقت ذاته بالبيت العربي الأصلي (الخيمة) : ) كم مرة ستعد من أجلي وأجلك خيمتين(.
إنها لعبة الاتصال والانفصال التي يمارسها النص الشعري : بتناصاته الإيقاعية أولا ، بالحضور القوي للتفعيلة التي تربط النص وغيره طبعا بالنص الأب بتفعيل آلية العروض (متفاعل) التي تؤطر كلية النص بقوة دون أن تكون مجرد دال حاضر غائب. - نمشي لكي ـ نمشي ، لما ـ ذا لم تقل ـ لي كل شي ـ ء عن عنا ـ قيد العنب ـ
- بلد أتى ، ـ بلد ذهب ـ
- بلد سيأ ـ تي ثم يذ ـ هب ، أي أغ ـ نية ستر ـ فع هيكلا ـ ينهار في ـ نا؟
- قف واحم قل ـ بك من يدي ـ ك ومن فرا ـ شاتي ، ومن ـ صوت السفينة
- وهي تق ـ لعنا من ال ـ ميناء ، كم ـ بحرا سنم ـ خر ، كم سفينه.
- ترمي على ال ـ محتل زن ـ بقها ورا ـ ءك؟ كم سما ـ ء سوف نس ـ قف في القصا ـ ئد؟
- ما ليس لك ـ هو ليس لك
- نمشي لنم ـ شي ، ثم نم ـ شي
ھ كم مرة ـ سنقول ما ـ قلنا ، سمر ـ قند الودا ـ ع إلى الأبد
ماض مضى ـ من أرضه ، ـ وقضى علي ـ ك قضي علي ـ ي الزعفران
للروح تا ـ ريخ. ولا ـ كن الزما ـ ن له مكا ـ ن ، والحني ـ ن له بلد.
قلنا لكل ـ ل جميلة ـ هيا أحب ـ بينا ، ولا ـ كن لا تحب ـ بينا لأن ـ نا ذاهبان
ما اسم التي ـ أحببتها ـ في الهند ، ما اس ـ م عشيقتي ـ في قرطبة؟
ما اسم العيو ـ ن الأسيوي ـ ية؟ ما اسم أر ـ ملتي الأخي ـ رة في دمشق.
فالرحيل إقامة في الذاكرة والذكرى حين يضيق المكان مادام ليس هو التربة التي (ربيتها باليدين) ، إنه إبدال موضوعي بالإقامة في ذكرى القصيدة العربية القديمة باستحضار عروضها ، وإقامة في الرحيل لتكرار الوداع اللعين الذي يصاحبنا لأننا نقيم في الرحيل حتى صار البلد هو الذي يأتي إلينا ويودعنا
بلد أتى ، بلد ذهب
بلد سيأتي ثم يذهب ، (لذلك ) نمشي لنمشي ، ثم نمشي
(ولذلك)
قلنا لكل جميلة هيا أحبينا ، ولكن لا تحبينا لأنا ذاهبان
الرحيل يوحد شعرين زمانا (الشنفرى ودرويش) ويوحد نقيضين هما الرهبة والرغبة. يختزل تناقض الأزمان والأفعال. وهو لما كان سرمدي التحقق أصبح لا يدل على التحول لأنه صار هو إياه ، صار هوية الفاعل (فلا خير في رجل لم يجل) ، وأصبح تحققه تحولا ـ رحيلا للبلد وليس الجسد. هذا الرحيل السلوك يبقى على ما هو عليه عند الشاعر العربي القديم. دون أن يتحول من شجرة نسبه إلى دلالات أخرى ، بحكم ما يسميه جواد الطعمة بالتعالي الأدبي).2( لكنه يغدو عند الشاعر العربي الحديث رحيلا مكونا في إبداعه بحكم انفتاحه. رحيل متعدد الأبعاد. إن القصيدة تغدو مكانا (كم سماء سوف نسقف في القصيدة) والمكان (بلد أتى بلد ذهب) يتحول من معبر إلى عابر ، لأن الشاعر يسكن رحيلا متعدد الأبعاد: فلا يغدو معه الرحيل صفة زائلة بل صفة مكونة. إنه يقيم رحيلا عبر الزمان برجوعه لأخذ مادته من التراث العربي والإسلامي. وعبر الزمان والمكان إلى البلاد غير العربية من خلال السفر إلى أغوار التراث الإنساني في كل زمان ومكان. هكذا يصبح الشعر العربي أمام إمكانات رحيل متعددة. لذا يوافق أدونيس الشاعر الفرنسيR. CHAR في اعتبار الشعر هو (الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف) )8( متجاوزا التعالي الأدبي. وهذا الرحيل هو نفسه عدم القناعة بالثابت والقديم. لذلك فرحيل الشاعر الحديث لما يرحل إليه لم يكن قناعة به وثواء فيه ، وإعادة له ، لأنه -وكأي شاعر - لا يفلت من قلق التأثير كما يسميه هارولد بلوم ما دام (كل مبدع متعرض لقلق التأثير - ومن تم فهو متعرض لعقدة أوديب. حقيقة هذه العقدة تدفعه إلى تغيير النماذج التي يكون حساسا تجاهها) كما تقول لوران جيني. بهذا يتسنى لهذا الشعر العربي الحديث أن يكون كما يعتبره أدونيس "قفزة خارج المفهومات السائدة...تغيير في نظام الأشياء وفي نظام النظر إليها. هكذا يبدو الشعر الجديد أول ما يبدو تمردا على الأشكال الشعرية القديمة")4( لأن الرحيل مناف للثواء: والإقامة _دون رحيل_ هلاك )5( (إشارة إلى قول الشاعر:
ألم تعلمي أن الثواء هو الثوى وأن بيوت العاجزين قبور
إن الإقامة تتجاوز المكان لتبن هوية تختزن وتختزل الأمكنة والأزمنة في ذات عربية تحمل الرحيل هوية:
ماض مضى من أرضه ، وقضى عليك قضي علي الزعفران
للروح تاريخ. ولكن الزمان له مكان ، والحنين له بلد.
قلنا لكل جميلة هيا أحبينا ، ولكن لا تحبينا لأنا ذاهبان
ما اسم التي أحببتها في الهند ، ما اسم عشيقتي في قرطبة؟
ما اسم العيون الأسيوية؟ ما اسم أرملتي الأخيرة في دمشق.
إنه تناص مع التراث العربي من خلال عروضه. واستثمار لنصوصه وأساطيره...
عبثا نحب إذا عشقنا الأندلس
فانظر إلى الصحراء حولك تسدل الصحراء واسعة علينا
أوجدت مصر ولم تجدك؟ ومصر فينا إن عشقنا وتناصّّ مع القائم الإبداعي بكل محمولاته الكتابية والشفوية ، التاريخية والأسطورية والدينية... فالشعرية لاتتوقف عند حدود البلاغة القديمة بتشبيهاتها المدرسية ، بل تتجاوز ذلك إلى خلق صور تنقلك إلى المكان المعروف في الذاكرة بتفاصيله الصغيرة رغم الرحيل المتعالي عن المكان في الوقت ذاته:
نمشي لكي نمشي ، لماذا لم تقل لي كل شيء عن عناقيد العنب
بلد أتى بلد ذهب
بلد سيأتي ثم يذهب. أي أغنية سترفع هيكلا ينهار فينا؟
قف واحم قلبك من يديك ومن فراشاتي ، ومن صوت السفينة
وهي تقلعنا من الميناء. كم بحرا سنمخر ، كم مدينة
ترمي على المحتل زنبقها وراءك؟ كم سماء سوف نسقف في القصائد؟
إن العلاقة بالمكان المفقود والمغتصب هي الدافع للتساؤل عن التفاصيل الصغيرة ، ولأن الحياة تحتاج إلى مكان فالقصيدة موطن صالح لتسقف فيه القصيدة ، والمكان مهما كان أليفا وجميلا لن يكون بديلا عن المكان الأصيل الذي لا يخون ولا يدير ظهره بمجرد الرحيل عنه ليرمي الزنبق على المحتل الذي شردنا وأبدلنا مكانا غير مكاننا الطبيعي
والمكان مهما نسجنا العلاقة فيه ومعه ، ومهما كانت روابطنا به فإنه لن يعوض الوطن ما ليس لك .. هو ليس لك
نمشي لنمشي ثم نمشي. إن وجدت وجدت ، لكن ليس لك
....
كنا نفتش ، ياصديقي يا صديقي ، في الشوارع عن وطن
2- الشاعر "لا يصالح":
تنقلك القصائد من تحول إلى آخر في كل نصوص محمود درويش ، لأنها مسكونة بالتأسيس الذي يرفض الاستسلام لنسق كتابي مكتمل ووحيد ومختنق ، لا يجدد السؤال والعلاقة بالمكان والزمان النصي والفعلي ، "... إذ تعي الحداثة نفسها في إطار الزمن ، فإنها تصبح علاقة لا بالماضي فقط ، بل بالآخر ، بما هو عالم قائم ، متشكل ، جاهز الأجوبة ، مكتمل اللغة ، في سلام مع النفس ، ومع العالم. وطرح للأسئلة القلقة التي لا تطمح إلى الحصول على إجابات نهائية ، بقدر ما يفتنها قلق التساؤل وحمى البحث. الحداثة هي جرثومة الاكتناه الدائب القلق المتوثر".6 إنها "لا تصالح" أبدا. فالمصالحة استسلام للنهاية والقائم. من أجل ذلك كله لا تبني الحداثة قاعدتها وتشكلها ، ولن تستطيع ذلك مادام زمن انفتاحها قائما ، ومادام مكانه غير محدد. ثم إن دخول المجهول (كدلالة رمزية نستعيرها من رامبو) يتأسس ضد الترسيخ والاتصالية التي تصر التقليدية على دخولها بما هي عالم معلوم مكتمل لا يقبل التغيير ، ويطلب الاستسلام له والدخول في طقوسه بما هو سلطة تتقدم كنقيض لها 7. جبهات متعددة إذن تلك التي تفتحها الحداثة للخصام مع الذات والآخر مادامت ترفض الاستسلام والمهادنة مع القائم. وهي بصفة الإبداعية تدخل منطقة المحرم الذي يسيجه المتعارف عليه كسلطة. من هنا يفهم الإجرام الذي يوصف به من يقتحم هذا المحرم. يقول نيتشه : "انظروا إلى أهل الصلاح والعدل لتعلموا من هو ألد أعدائهم إنه من يحطم الأواح التي حفروا عليها سننهم ، ذلك هو الهدام ، ذلك هو المجرم ، غير أنه هو المبدع.«8» إن من يزعزع القوانين ويمس قداستها مجرم. والكتابة عنف _ والحداثة ضمن الكتابة الإبداعية بوجه تأويلي آخر مع بلانشو دخول في منطقة الموت _ ما دخلت في مقاومة الثابت والجامد. وما لم تكن مجرد تكرار وتكريس بليد ، أقل ما توصف به أنها نسخة ، صدى ، وخضوع.
هذه هي الحداثة ، مسكنها هو موطن الاختلاف ، كذلك تعريفاتها ، أمَهّ ويقين في آن ، لأنها تغوي بالتتبع والمصاحبة: أمه لارتباطها بالمطلق ولعدم تحديد مصادرها المختلفة ، ويقين لأن من النقاد من يظن القبض عليها وتحديدها ، هي زمن فوق الزمن ، لأن الزمن قد يقيده التقليد ، وهي مكان يفوق المكان لأن "الزمان له مكان" كما يقول درويش ، ولأن المكان يحيل إلى ساكنه القديم ولا يقيده باسمه ولا يسد الطريق على ظلال المعنى ، تلك غواية الحداثة ومساراتها ، وذلك سر عشقها الأبدي الذي يزكي الظمأ ويجعله جميلا بالبحث فيها وعنها.
إن القصائد بهذه المعاني لا تبني ما يتوقعه القارئ البسيط بقدر ماتهدم من ظنون الكتابة الخطية الواضحة ، كما أنّ تعالقاتها النصية تبني الغموض بالضرورة لاشيء يبعدنا سوى القلب الموزّع بالتساوي بين صدرينا. ولا
لاشيء يأخذنا لأندلس القريبة غير هذا الدرب. فلنذهب معا
يا صاحبي ، ياأيها الوحش الحرير ، إلى البداية. ما البداية؟ هذا مذاق الأرض. هذا قرصها الدموي في يدك اشتعل
"مات البطل"
"عاش الجبل"
إن القلب الذي يجمعنا مادام يسكب القلبين في جسد هو الذي يبعدنا رغم أنه موزع بالتساوي بين صدرينا ، والأندلس البعيدة والمفقودة ومعها البقية الآتية قريبة ، وأنت صاحب ووحش وقريب.
لكن لابد من سيارة الإسعاف ، من علم يغطي واحدا منا ، فمن
يستحق هذا الشرف غيرك يا درويش
لتبقى واحدا منا
لتبقى صامدا فينا
"ذهب الذين نحبهم ذهبوا"
ذهبوا
ذهبوا البيضاء في 09 ـ 08 ـ 2008
الثالتة صباحا
المغرب
- أستاذ الشعريات بجامعة الحسن الثاني - المغرب.
- أدونيس ، مقدمة للشعر العربي ، ص 99 ، ط 4 ، دار العودة 1983
- مجلة فصول ، المجلد 4. العدد 4. السنة ,1984 ص ,16
- أدونيس: زمن الشعر ، دار الفكر ، بيروت ، ط5 ، 86 ص. 9.
- نفسه.
- هناك دلالة نقدية قديمة تحيل إلى هذا الهلاك وهي آليات النص.
- كمال أبو ديب ، فصول عدد 4 ، مجلد 4 ص 35 ، السنة ,84
- السلطة هي الاكتفاء بالقائم... هي الرسوخ والترسيخ في إطار النظام ، كما يقول كمال أو ديب. المصدر السابق.
- نيتشه ، هكذا تكلم زرادتش. ترجمة فيليكس فارس. المكتبة الثقافية. بيروت ، ص ,44 وللتذكير فمشروع نيتشه حداثة في الفكر الغربي ، وكان تدمير القيم لديه بالتفسير الجنيالوجي لأصل هذه القيم ( انظر جنيالوجيا الخلاق).
التاريخ : 15-08-2008
**********
قريباً من محمود درويش رسمي ابو علي
عرفت محمود درويش لاول مرة في وقت ما من عام 1971 في القاهرة حيث كنت كبيراً للمذيعين ومعلقاً سياسياً في اذاعة الثورة الفلسطينية ، اما محمود فكان قد غادر حيفا حيث كان يقيم عادة ، الى الاتحاد السوفياتي اولا ثم ، ربما الى بلاد اخرى ليستقر اخيراً في القاهرة حيث استقبلته السلطات المصرية افضل استقبال اذ خصّصت له بيتا واسعاً ليقيم فيه في حي (جاردن سيتي) الذي كان يُعتبر من أرقى احياء القاهرة في ذلك الحين.. اضافة الى ان الاستاذ هيكل قد عينه في القسم الثقافي في جريدة الاهرام حيث كان هناك ، وفي نفس الغرفة عمالقة الادب المصري آنذاك: توفيق الحكيم ، نجيب محفوظ ، يوسف ادريس.
اما الجالية الفلسطينية البورجوازية في القاهرة فقد اعتبرته طفلها المدلل منذ لحظة وصوله الى القاهرة - وكان مكان اللقاء الاثير للنخبة الفلسطينية السياسية والثقافية رجالاً ونساء ، هو بيت السيدة الكبيرة ام مازن عبدالهادي في حي جاردن سيتي ايضا.. وكثيرا ما التقيت به في بيت تلك السيدة والتي كانت اما للجميع.
اما اول اتصال ادّى الى شيء من الاحتكاك بيني وبينه فحدث عندما كتب محمود قصيدة رثاء لاحد قادة فتح الشهيد ابو علي اياد حيث رسم فيها صورة نموذجية للشهيد بملامح وطنية عامة لانه لم يكن يعرف الشهيد شخصيا. وحال ظهور القصيدة في الصحف طلب مني مدير الاذاعة ان اقرأ القصيدة بصوتي ولكني صُدمت بعض الشيء عندما قرأت مقطعا في القصيدة يقول:
لنا صور في جيوب النساء
وربما كان محمود يجري نوعاً من المقارنة بين الشهيد وبين المثقفين الذين يتحدثون عن الثورة ولكنهم في الحقيقة دونجوانات اكثر منهم مناضلين.
ربما كان ذلك نقداً ذاتياً لمحمود درويش.. ولكنني رأيت ان قول تلك الجملة قد يخدش الصورة المشرقة النبيلة التي كونها الرأي العام الفلسطيني خصوصاً عن محمود درويش والذي سطع نجمه ونجم عدد من رفاقه شعراء الارض المحتلة عام 48 والذين عرفوا بشعراء المقاومة..
لا اعرف ماذا قلت له ، ولكنني اعرف انني كنت في الحقيقة أدافع عن صورته والتي رأيت الا مبرر هناك للانتقاص من شأنها ، مع العلم ان احتفاظ النساء بصورنا امر لا بأس به على الاطلاق..
كان احتكاكا عارضا واذكر ان محمود قال:
- يبدو انه تسمحون لانفسكم بالحذف كما تشاؤون.
كان هذا أول ما نطق به - ولكن بعد ذلك وبعد شيء من الشرح بروح طيبة بدا وكأن محمود قد استوعب الامر..
ورغم انزعاجه من حذف تلك الجملة الا انه امتدح صوتي والقائي وانتقائي للموسيقى المناسبة وقد سعدت طبعا بسماع ذلك المديح رغم انني كنت اعرف ان صوتي كان جيدا.
ويبدو ان قراءتي لقصيدة رثاء الشهيد ابو علي اياد اصبحت بداية تقليد استمر لسنوات حيث كنت اقوم باذاعة قصائد محمود حال ظهورها - وكان محمود حريصا على ان يسمع القصيدة بصوتي الى ان قال لي ذات يوم بانه يحب شعره اكثر عندما يسمعه عبر القائي له. وغير ذلك فقد كان حريصاً تماماً على معرفة رأيي في آخر قصائده.. وكان يقول لي.. وأسف.. فلم يكن قصدي ان انزلق الى مديح الذات.. وان كان يحق للمرء ان يمدح نفسه احيانا اذا كان يستحق ذلك واذا لم يكن هناك من يمدحه..
ولسنوات بدءا من عام 1971 في بيروت ولمدة سبع سنوات عملت خادماً ومروجا لشعر درويش الذي كان ، ولعله لا يزال يحتفظ بالعديد من اشرطة التسجيل لشعره الذي كنت اقرؤه بصوتي. كنت افعل هذا عن حب.. فقد كان شعراً جميلا يتدفق بغنائية اصيلة عالية تصل حدود السلطنة..
منذ عشرين سنة ، وانا أعرفه في الاربعين وطويلا كنشيد ساحلي وحزين.
كان يأتينا كيف من نبيذ
كان يمضي كنهايات صلاة
كان يلقي شعره في مطعم خريستو
وعكا كلها تصحو من النوم وتمشى في المياه
كان اسبوعاً من الارض ويوماً للغزاة
ولأمي ان تقول الآن: آه
وهذا هو مقطع من قصيدة محمود درويش في رثاء الشاعر راشد حسين والذي مات في نيويورك وكان راشد حسين نوعاً من اب شعري لمن اطلق عليهم فيما بعد شعراء المقاومة.
لقد أحببت تلك القصيدة والتي لا نظير لنفسها الغنائي الدرامي التراجيدي المتدفق وعندما سألني عنها كالمعتاد قلت له ان هذه القصيدة هي اكمل ما كتبت،
وظلت الامور بيننا على احسن ما يرام الى ان قررت ان أبدا بكتابه الشعر..
وكان لدي بعض الدوافع ، بعضها شخصي وبعضها له علاقة بشعور مثالي كامل عن كيف يجب ان تكون الثورة.
لم يكن محموداً مرتاحاً لنشاطي الشعري المفاجىء وخاصة انني كنت قد نشرت لتوي قصتي المعروفة «قط مقصوص الشاربين اسمه ريش والتي أثارت اعجاب محمود ودهشة الياس خوري البالغة الذي اخذ يسأل بإلحاح: هل انت فعلا من كتب القصة.. بدا غير مصدق انني كتبت القصة ويبدو انه شكل انطباعا معينا عني جعل امكانية ان اكتب قصة كهذه امراً صعبا ان لم يكن مستحيلا.. ولكن وبعد ذلك بأشهر كانت الدهشة قد غادرته وهو يعلّق مرة اخرى على القصة قائلا بانني قلت ، في الحقيقة ، كل شيء.
ونعود الى الشعر.. والذي قلت انني قررت كتابته بقرار ارادي - اذ ان موهبتي الفطرية كامنة في القصة..
ربما كان هذا جزءا من نزعة المشاكسة الحادة والغضب الذي كان ينتابني كلما اصطدمت ببنى وانماط تفكير تقليدية واكثر من تقليدية ، كنت غاضبا وشبه يائس من الوضع الذي لم يعجبني فيه شيء.. ولك أكن اقصد طبعا ان اصطدم بمحمود درويش او غيره.. لم يكن هناك شيء شخصي.. لقد كنت ضد الانساق السائدة كلها في النظام الفلسطيني المسلح آنذاك.
وقد كتبت قصائد حازت على مديح بعض الشعراء والنقاد - ولكن المشكلة كانت تكمن في الجانب العبثي الفكاهي في اعماق روحي والذي انطلق بعد ان تعرفت على صديقي الكردي العراقي ابو روزا وولف.. فشكلنا ثنائيا فكاهيا ثقافيا غريبا من نوعه.. يحاربونه نهاراً ويضحكون منه ليلا.. وكنا قد اعلنا جلوسنا على الرصيف واصدرنا مجلة كانت تصدر حسب التساهيل اسمها رصيف 18,.
محمود غضب من بعض ما كنت انشره بالاشتراك مع ابو روزا وولف واعتبره مهزلة حيث اصبح الشعر نكتة الصباح اليومية.. كما كتب مقالا بعنوان «أنقذونا من هذا الشعر»:
تذكرتك.. فهرشت رأسي
فمتى تهرش رجلك لتذكرني؟
كنا ننشر اشياء سخيفة مضحكة من هذا النوع ليتلقفها وينشرها صديقنا المجنون الشاعر السوريالي العجيب شوقي ابي شقرا والذي كان مسؤولا للصفحات الثقافية في «النهار» - هذه القصائد وغيرها. لا بد انها استفزْت محمود وهو العابد المتعبد في محراب الشعر.. الجاد.. الملتزم.. الجميل.
وقد حدثني في هذا الامر ذات مرة قائلا بأني كاتب قصة واعد فلماذا لا اركز على القصة القصيرة وبلاش هالشعر.. لكنني كنت أحس انني لا اشكل خطراً على احد ، كما انني لم اكن داخلا في اية منافسة.. واظن انني قلت لمحمود: أتعرف كيف انظر لما اكتبه من شعر؟ انني اعتبر انني مجرد بائع ترمس على رصيف الشعر لكن لديّ موالا اريد ان اضربه..
لم نصبح اعداء بعد ذلك وان كنت المس شيئا من الجفاء احيانا وربما كنت مخطئاً.. لانه في مناسبات اخرى كنا نتحدث بود واهتمام.. لكنني قليلا ما كنت اراه بعد خروجنا من بيروت - ثلاث او اربع مرات ولكني كنت متابعا شغوفا بشعره وبما يكتب عن شعره.
الان يغيب عنا محمود الى الابد.. فلم يعد هناك اية امكانية لرؤيته لا بالصدفة ولا بغيرها.. واني لاحس بقدر كبير من الأسى والحسرة لان محمود غاب قبل ان اجري معه ذلك الحديث في العمق عن اشياء كثيرة بقيت معلقة بيني وبينه لسنوات طويلة ، لقد بقيت اؤجل ذلك اللقاء معتقدا انه لا يزال هناك متسع من الوقت ولكن ، للاسف الشديد ، لم يكن هناك الكثير من الوقت بالنسبة لمحمود.
وداعاً يا صديقي يا (صديقي) - وداعا يا شاعرا كبيرا ملأ صوته الآفاق كلها.. ولعلّنا ان نعود ونلتقي ذات يوم.. بالصدفة كما كان الامر دائما بيننا.
- قاص وشاعر اردني
rasmiabuali@hotmail.com