وحدهم يتخلفون عن المآدب التي تقام من أجلهم؛ أولئك الراحلون إلى حيث النجوم، متقنين تماما إبقاء تركةٍ تدفع بإطارات الصور المتوشحة السواد والشموع الذابلة إلى الوراء... لترثيهم كلماتهم وحدها... وما سواها أهلٌ لذلك، وهذا ما كان في حفل تأبين الشاعر محمود درويش الذي أقامته رابطة الأدباء مساء الأربعاء الماضي في استهلالية موسمها الثقافي للعام الجديد.
قدّم الكاتب يحيى طالب حفل التأبين بكلمات قصار ارتكزت على التعبير عن «الحالة» بعيدا عن التعريف بسيرة الشاعر؛ ومما قاله: «الشعر لا ينسى، الشعر لايكبر، ولا يموت إن خط القلم برحيل جسد عنا، فمخطوط شعره لا يدفن».
قصائد مؤثثة بالرثاء
لم تأت المختارات الشعرية بشكل عشوائي؛ فالشعراء ماجد الخالدي ومازن نجار ونادي حافظ انتقوا قصائد كان لـ «الغياب» و«النسيان» و«التأهب للموت» حضورها على امتداد النصوص، وهي ثيمات لازمت الكثير من قصائد الراحل، كما أن النصوص مهما تملصت من حضور الشاعر فيها يبقى لحضوره وغيابه أثر في استحضار معاني النص ودلالات مفرداته.
ابتدر الشاعر ماجد الخالدي قراءة ثلاثة نصوص للشاعر الراحل وهي: «لم تأت»، «كمقهى صغير هو الحب» و«مقهى، وأنت مع الجريدة» التي استوقفت الأسماع بإعادة قرءتها:
«كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي...
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء،
اخلع قميصك أو حذاءك إن أردتَ؛ فأنت منسي وحر في خيالك ليس لاسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضروري.
تكون كما تكون...
فلا صديق ولا عدو
هنا يراقب ذكرياتك!».
وصية و...تعب
وقد تلبست القصائد الشاعر السوري مازن نجار حتى خيّل أنه شاعرها!
إذ كان لسلامة لغته ومهارة إلقائه وتمثله أحاسيسها حضورها الفائق بالأمسية، وقرأ نجار «لا شيء يعجبني»، «رزق الطيور»، و«لي حكمة المحكوم بالإعدام» التي يقول فيها درويش
«لي حكمة المحكوم بالإعدام:
لا أشياء أملكها لتملكني،
كتبت وصيتي بدمي:
ثقوا بالماء يا سكان أغنيتي!
ونمت مضرّجا ومتوّجا بغدي».
«الجدارية»...القاهرية!
ومن الجدارية ألقى الشاعر المصري نادي حافظ مقاطع نازعت للحفاظ على هويتها «الدرويشية»، وذلك لما تلبسها بسبب تمسك «حافظ» بنطق «الجيم» القاهرية.
واختيار «الجدارية» للإلقاء كان موفقا لما فيها من زخم المعاني والدلالات التي توجز عالم «محمود درويش» الشعري في أبياتها، إضافة إلى محاورته الموت مواجهة لخدمة المعنى قائلا: «من معنى إلى معنى أجيء، هي الحياة سيولة، وأنا أكثفها، أعرفها بسلطاني وميزاني...».
واختتم يحيى طالب الأمسية بآخر قصائد درويش «لاعب النرد» التي لم تكن قد نشرت بعد...حتى وفاته.
لقطات
- تمتاز رابطة الأدباء عن بقية جمعيات النفع العام بنشاطها واستمرار فعالياتها على مدى فترة موسمها الثقافي، وعلى الرغم من بساطة الفعالية إلا أنها تعتبر بداية جيدة للموسم الجديد.
- خلت الأمسية من عرض السيرة الذاتية للشاعر أو من حضور الأدباء والشعراء الكويتيين لتأبين الراحل واكتفت بالحرص على أجواء التأبين من إضاءة خافتة وشموع تذوي وإلقاء لبعض قصائد درويش.
- نجت قصائد درويش من الأخطاء اللغوية والنحوية على لسان الشاعر مازن نجار الذي بدا الأكثر فصاحة، بينما ترنحت الكلمات عند البقية، وهذا يؤكد أهمية الحرص على ضبط أواخر الحروف على الورق المقروء بأقل تقدير لتلافي الوقوع بالخطأ.
- لوحظ غياب الكثير من الأدباء خاصة بعض الأسماء الحريصة على الحضور سابقا، على الرغم من فترة الركود السابقة بسبب انتهاء الموسم الثقافي والعطلة الصيفية ومرور شهر رمضان الكريم.
- على الرغم من عدم حصول «أوان» على جدول فعاليات الرابطة للموسم الجديد رغم السؤال عنه؛ إلا أن الأمين العام لرابطة الأدباء وعد بنشاطات متجددة ومميزة وذات موضوعات عميقة وبحضور شخصيات مهمة لهذا الموسم.
صور إضافية للخبر:
أوان – 11 أكتوبر 2008
******
تلبية لنداء مهرجان برلين العالمي للأدب
محمود درويش في رابطة الأدباء.. بعد رحيله
درويش.. يملأ فضاء الرابطة بغيابه
أطل كشرفة بيت على ما أريد
أطل على أصدقائي وهم يحملون بريد
المساء.. نبيذا وخبزا
وبعض الروايات والاسطوانات
أطل على نورس وعلى شاحنات جنود
تغير أشجار هذا المكان..
بصوت محمود درويش (1941 ــ 2008)، يطل على أصدقائه الشعراء، استهلت رابطة الأدباء في الكويت مساء الأربعاء الماضي موسمها الثقافي 2008 ــ 2009 بأمسية جاءت تلبية لنداء مهرجان برلين العالمي للأدب بتنظيم قراءات من شعر درويش حول العالم، ليقرأ الشعراء: ماجد الخالدي، مازن نجار، ونادي حافظ، قصائده احتفاء به.
قدم للقراءات يحيى طالب، مفتتحا الأمسية بعرض لإحدى أمسيات درويش (الذي فارق الحياة قبل نحو شهرين)، وهو يقرأ «أطل على ما أريد»، ليقرأ أولاً الشاعر ماجد الخالدي: «مقهى وأنت مع الجريدة»، «فكر بغيرك»، «لم يأت.»، و«كمقهى صغير هو الحب».
الشاعر مازن نجار قرأ ثانيا، حيث اختار: «رزقت مع الخبز حبك»، «لي حكمة المحكوم بالإعدام»، «في الانتظار»، و«لاشيء يعجبني». في حين اكتفي الشاعر الزميل نادي حافظ بقراءة مقطع من «جدارية» محمود درويش:
وأريد أن أحيا..
فلي عملٌ على ظهر السفينة. لا
لأنقذ طائراً من جوعنا، أو من
دُوار البحر، بل لأشاهد الطوفانَ
عن كثبٍ: وماذا بعد؟ ماذا
يفعلُ الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكايةَ: ما البدايةُ؟
ما النهايةُ؟ لم يعد أحدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة.. /
وختم القراءات يحيى طالب بقصيدة درويش الأخيرة «لاعب النرد»:
من حسن حظيَ أني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأصدّ.قُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصادفةً
وأخيّ.ب ظنّ العدم
من أنا لأخيّ.ب ظنَّ العدم؟
القبس
11 اكتوبر 2008