ملف جريدة أخبار الأدب- الاحد

جمال الغيطاني

هكذا جري الأمر في يسر، في هدوء، في خطي حثيثة غير هيٌابة قطع خلالها ما تبقٌي إلي الأبدية، إلي المطلق، حرت كثيرا، من أين أبدأ، تتعدد الشعاب إليه، غير أنني أتعلم من بساطته وثقابة رؤيته فأحكي ما جري منذ أن أخبرني صديقنا المشترك نبيل درويش الإعلامي المعروف مراسل الإذاعة الفرنسية في القاهرة، كان ذلك منذ ثلاثة أسابيع بالضبط تحتسب إلي الوراء من تاريخ هذا العدد، قال لي نبيل إن محمود يمر بمرحلة دقيقة، وقد يضطر إلي إجراء عملية خطيرة، بادرت إلي الاتصال الهاتفي بمحمود في عمان، اعتدت ذلك علي فترات متباعدة، سألته أولا عن رحلته إلي فرنسا. حدثني عن الأمسية الشعرية التي أقامها في مدينة 'آرل' جنوب فرنسا، كانت الأمسية جزءا من احتفالية دار اكتو سود بمرور ثلاثين عاما علي تأسيسها، والدار تنشر أعمال محمود المترجمة إلي الفرنسية منذ سنوات، قال لي إن تيودروف المفكر بلغاري الأصل. الشهير، كان حاضرا، كذلك الروائية كندية الأصل نانسي هيوستون زوجته، وتربطهما بمحمود صلة قوية، تجاوز عدد الجمهور ثلاثة آلاف مستمع جاءوا من المدن المجاورة ليدفع كل منهم ثمانية عشر يورو ليصغي إلي أشعار محمود التي يقرأها بالعربية وتقوم ممثلة محترفة بالقاء الترجمة إلي الفرنسية.
عرفت ذلك من قبل مع محمود، ليس في فرنسا فقط، إنما في بلدان أوروبية أخري، وفي بلدان عربية بالطبع. غير أن الحالتين مختلفتان، وفي فرنسا بالتحديد كان له وضع خاص، منذ عامين رافقته في تولوز، وكان عدد المستمعين بالآلاف، ومنذ خمس سنوات صحبته في بوردو، وكان الاحتفاء به مدهشا، محمود دخل ضمير الإنسانية كشاعر متفرد، عظيم، وما أقل الشعراء الكبار في عالمنا المعاصر، يعدون علي أصابع اليد الواحدة، لو أن محمود لم يكن فلسطينيا لحصل علي جائزة نوبل منذ سنوات طويلة، لكنه مثل الأدب العربي جزء من الصراع والعلاقة المعقدة بين الشرق والغرب، ومحمود في مركز هذا الصراع، إنه ذاكرة فلسطين الروحية، فلأ كف عن الاستطراد، فلألزم الوقائع، استعيد صوت محمود الهاديء الآن، بعد أن تحدثنا عن جمهور الشعر في الغرب واستعدنا بعض ذكريات مشتركة من لقاءاتنا في الخارج، سألته­ وكأني أنطق عرضا­ عن صحته، أجابني بهدوء إنه مقبل علي جراحة خطيرة، ضحك قائلا: تصوٌر أنه من المطلوب تغيير ستة وعشرين سنتيمترا من الشريان الأورطي، طلبت منه أن يشرح أكثر، كنت أتبادل معه الخبرات منذ سنوات، خاصة بعد الأزمة الخطيرة التي مرٌ بها في أحد فنادق النمسا، وبعد العملية التي كانت تصنف بأنها خطيرة عام ستة وتسعين والتي أجريتها في كليفلاند بالولايات المتحدة، هذه العملية خط أحمر في حياتي، سواء فيما يتعلق بحضوري المادي أو النفسي والروحي، وقد فصلت أمرها في يوميات عنوانها 'الخطوط الفاصلة'، واستوحيت منها نصوصا قصصية عنوانها 'مقاربة الأبد'، فيما تلي صدورها قرأت جدارية محمود درويش وذهلت لتطابق الحال، لتشابه التجربة، بل إن ما أفلت مني لعجز النثر عبٌر عنه هو بقدرة الشعر علي اقتناص ظلال الظلال، ومالم يفسره، هو في استخلاصه الرحيق، فصلته نثرا في التدوينين. منذ إجرائي الجراحة أهتم بكل ما يتصل بالقلب وشئونه، وأساليب تطور الجراحة والتقدم الذي حدث فيها، بل انني مازلت علي اتصال بأطبائي في أمريكا، ومنهم من أصبح صاحبا حميما. الدكتور فوزي اسطفانوس المصري، ابن نجع الشجرة في طما الذي أصبح خبيرا عالميا في التخدير، أما الدكتور جلال السعيد فلا أملك إلا الدعاء له بالصحة وطول العمر فهو من يرعاني بعد الله في مصر، هكذا أصغيت إلي محمود وأدركت أن حالته خطيرة بالفعل، لكنني حرت، فالأطباء الفرنسيون رأوا ألا يجري الجراحة لأنها مصنفة في الخطرة جدا، أما انتفاخ الأورطي وتمدده فيخضع للاحتمالات، يمكن أن ينفجر بعد خمس دقائق ويمكن أن تمر عشر سنوات بدون أن يحدث شيء، قلت لمحمود أنني عرفت حالات كانت أخطر في كليفلاند ولكن معظمها اجتاز الخطر، لماذا لم يذهب إلي كليفلاند، قال إنه ليس هو الذي يقرر، علي كل حال فقد قرر السفر، سألته عمن سيرافقه، ذكر لي اسمين، سألته عن رقم الهاتف الجوال الذي سيكون معه، أخبرني به: ..9725992626 قلت له أنني سأكون معه خلال الرحلة، سوف أتصل به بعد نجاح الجراحة، قال بصوت مبتسم: يا جمال!، لم يكمل، لكن ثمة كلمات يتمم معناها أسلوب النطق، كأنه يقول: يا عالِم.. تمنيت له الجميل وانتهت مكالمتنا، كتبت خبرا نشر في الصفحة الأخيرة من (أخبار الأدب) ولعله أول إشارة إلي الوضع الصحي القلق الذي يمر به محمود، في يوم صدور أخبار الأدب اتصل به الأبنودي من معزله في الإسماعيلية، مريض يطمئن علي مريض، وأعرف ما يربطهما من صلة حميمة، عميقة يندر أن تكون بين قامتين شعريتين كبيرتين، صلة مصدرها الاحترام العميق، وتقدير شاعرية كل منهما للآخر، كان بيت الأبنودي أحد البيوت القليلة التي يأنس إليها محمود في القاهرة، وكان الأبنودي يستعد بالطبق المفضل لصديقه الحميم. الملوخية الخضراء علي الطريقة الصعيدية.
تابعت سفر محمود إلي الولايات المتحدة، كان مصدري صديقنا نبيل درويش الذي كان مطلعا علي أدق التفاصيل عبر الأصدقاء المشتركين، عندما يتعرض صديق عزيز لأخطار صحية أو حادث داهم يستنفر ما يخصه عندنا، ما لم يكن له حضور قبل بدء ذلك الترقب الموجع، القلق، الممض، أحاول أن أتفحص ما مضي، متي رأيته لأول مرة؟ متي تعرفت إليه شخصيا؟ لايمكنني التحديد، يختلط عندي ما سمعته بما عاينته بما قرأته. المؤكد أنني لم أتعرف إليه عند حضوره إلي القاهرة وبدء إقامته التي لم تمتد كثيرا. خلال عمله مع المرحوم أحمد بهاء الدين في مجلة المصور، ثم عند انتقاله إلي الأهرام وقرار الأستاذ محمد حسنين هيكل بضمه إلي صفوة الأدباء الكبار في الأهرام، أصبح من قاطني الطابق السادس، وكان هذا الطابق يضم الخلاصة، في غرفة واحدة، كانت مكاتب نجيب محفوظ، والدكتور زكي نجيب محمود، والدكتورة بنت الشاطيء، وانضم إليهم محمود درويش، عندما زار القاهرة عام خمسة وتسعين جاء إلي السفينة النهرية الراسية (فرح بوت)، استقبله نجيب محفوظ مرحبا، مناديا: أهلا بزميلي في المكتب، فيما تلا ذلك لم يأت محمود إلي القاهرة إلا وزار نجيب محفوظ، الآن هما معا، ونحن نتأهب!
في القاهرة، في باريس. في عمان، في بغداد في موسكو، تتوالي عليٌ صور شتي للقاءاتنا، لحواراتنا السريعة، كذلك عبر الهاتف، كنت ألح عليه دائما بخصوص ضرورة إصدار بيان شعري من شعراء العربية الكبار (وعددهم لايزيد عن أصابع اليد الواحدة)، ربما يكون علامة في مواجهة هذا الاستسهال الذي جري باسم الحداثة، وقصيدة النثر، أذكر تعليقه متعجبا 'إن النثر في أرقي حالاته يطمح أن يكون شعرا، فكيف نقول قصيدة النثر'. غير أنه كان يؤثر تجنب الدخول في معارك صاخبة خاصة مع ميلشيات قصيدة النثر المنتشرين في مواقع حصينة بمنابر الإعلام العربية، ومواقع الإنترنت التي دخلت الخدمة كسلاح فعال، كان محمود حريصا على التركيز الشديد في إبداعه، أن يبتعد عن الضجيج وعن مشاكل الحياة الثقافية العربية، لذلك نجده بعيدا قصيا في العواصم التي أمضي فيها وقتا. من القاهرة إلي باريس إلي عمان، كانت همومه الكبري تشغله تماما وأولها الشعر وما يتصل به من قضايا، وبالطبع قضية وطنه وشعبه الذي خجص بظروف مأساوية تاريخية لم يعرفها شعب آخر، كان صوتا لهذا الوطن ولهذا الشعب، وواعيا بالظروف الصعبة المتدهورة، أذكر ترديده مرات عندما تحدثنا في أوضاعنا بعد الحادي عشر من سبتمبر، كان يردد بلهجته السريعة وكلماته المتلاحقة:
'وضعنا سييء، وضعنا صعب جدا..'
غير أن ما جري في غزة ربما فاق أسوأ توقعاته. فالقضية الوطنية الكبرى لشعبه يجري تصفيتها بأيدي فريق من أبناء هذا الشعب نفسه، ولكم كان بليغا دقيقا عندما وصف المشهد المأساوي الذي جري في غزة قائلا: لقد جري استبدال العلم الفلسطيني متعدد الألوان بعلم ذي لون واحد، أهي صدفة أن يبلغ احتضار محمود درويش أوجه في نفس الوقت الذي تبلغ فيه قضية شعبه ذروة المأساة أيضا، ليس غريبا توافق المسارين، والآن نتابع بدهشة وفزع مواقع حركة حماس الإلكترونية التي تصف محمود درويش بالإلحاد والكفر، فكأنهم يسعون إلي تشويه أقوي صوت وأرفعه شأنا حمل مأساة الشعب الفلسطيني إلي ضمير الإنسانية، احتضار الشاعر واحتضار القضية صنوان.
في موسكو عام سبعة وثمانين، شاركنا في مؤتمر ضخم ضد التسليح النووي دعا إليه جورباتشوف، وفيه التقي بصديق عمره سميح القاسم، كنت مهتما بالتقاط الصور لهما لنشرها في جريدة الأخبار، وكان يعلق دائما علي نشاطي الصحفي مبديا استنكاره لما أقوم به، كيف يقدم كاتب (يري أنه مهم وكبير) علي ذلك؟ وكنت أقول له إنها مهنتي يامحمود، لم يكن يستوعب أن كتبي الستين لا توفر لي تكاليف الحياة. وأنني مطالب بإنفاق أكثر من خمس عشرة ساعة يوميا للعمل الصحفي، كان يري في ذلك اهدارا للموهبة وتبديدا للطاقة، وعندما قلت له مرة أنني لا أنام أكثر من خمس ساعات يوميا وعلى فترات وصف ذلك بأنه انتحار. قال لي إنه ينام ثماني ساعات. وقد خصص في نصه البديع 'في حضرة الغياب' فصلا كاملا عن النوم، هذا النص الذي يمسك بناصيتي الشعر والنثر ليس إلا انشودة رحيل مؤلمة، مرثية للذات واحتفاء بالأبدية، قرأته مرات وتمنيت أن أحفظه عن ظهر قلب، إنه يؤسس لفقه الفراق، فراق الذات للذات، فراق الأصل للظل، فراق المحسوس إلي اللا محسوس، ما يمكن تحديده إلي مالا يمكن تحديده أو تعيينه، في هذا النص النادر يلقي الأضواء الخفيتة علي خباياه التي لم يدركها أحد، حتي إبداعه للشعر، فيه وجدت تفصيلا لجملة قالها لي مرة. أنه اعتاد أن يفتح القاموس عند بدء نشاطه اليومي. لسان العرب لابن منظور، يفتح علي أي صفحة، يتوقف أمام كلمة معينة، يقرأ ما أورده المؤلف عنها، أذكر أنه قال معلقا باختصار: هذه علاقتي بالتراث. وقد وصف علاقته بالقاموس في هذا النص البديع ، وسوف نستعيده في أخبار الأدب شعرا ونثرا مادمت مسئولا عن تحريرها، لن يسجن صوته في علب الكاسيت، بل سيكون حضوره مستمرا، لن يكف بالغياب، أثق أن شعره سوف يعيش كما عاش شعر الشعراء الأوائل من العصور المختلفة، فقد ارتقي إلي حد ملامسة قوانين الوجود الخفية وعبٌر عنها بعمق ورقة ورفعة وهذا ما لم يتفق إلا لقلة في تاريخ الابداع الإنساني.
أسس مجلة 'الكرمل' التي كانت منبرا بالغ الرفعة، عاونه سليم بركات أولا ثم صبحي حديدي، وأثناء تخطيطه لإصدارها اتصل بي (لا أذكر من أي بلد؟)، طلب نصا، قلت له أنني مشغول منذ سنوات في عمل طويل بدأته عقب رحيل أبي، أعني (كتاب التجليات) طلب مني أن أرسل جزءا أختاره، وبالفعل أرسلت إليه مقطعا طويلا شغل أكثر من ثلاثين صفحة، وفيما بعد قرأ الكتاب كاملا وحدثني بما أخجل من ذكره الآن، لم نتعرف شخصيا بما يكفي، كنت بعيدا، وكان بعيدا، وكانت لقاءاتنا مثل لقاء القطارات التي تعبر بعضها بسرعة، غير أنني قرأت نصوصه جيدا وتمثلتها. وقرأ نصوصي أيضا، آخر ما قرأه (نثار المحو) الدفتر الخامس من دفاتر التدوين، حدثني عنه، لكنني لا أظن أنه قرأ الدفتر السادس (الرن)، وقد خجلت في آخر اتصال أن استفسر عما اذا كان وصله بالبريد أم لا؟ تعارفنا عبر النصوص وهذا أصدق ما سيتبقي منا، فالكاتب أولا وأخيرا ماثل في نصه، أما الوجود المحدود فيمضي، غير أنني في العلاقة الشخصية الشاحبة أحببته، وقدرته، وأصغيت إليه جيدا، ولاحظته بدقة، أذكر إننا عندما سافرنا من بوردو إلي باريس لاحظت أنه لايحمل إلا حقيبة يد مما يصعد به الراكب إلي الطائرة، فقط ليس غير، ورغم وسامته وأناقته، إلا أنني لم أره إلا عبر لونين، الجاكت الأزرق والبنطلون الرمادي، يقول البعض إنه كان حادا، وأحيانا جارحا، وفي تقديري أن هذا نوع من الدفاع عن الذات في مواجهة الخشونة والغلاسة. هكذا رأيت أمل دنقل الذي أعتبره من أرق الذين التقيت بهم رغم ما أشيع عن خشونته.

طوال الأسبوع قبل الماضي عقب حديثنا الهاتفي، كانت تشغلني تفصيلات خاصة برحلته، أي شركة طيران؟ أي مسار؟ من مقال الصديق صبحي حديدي المنشور في هذا العدد عرفت أنه سافر عن طريق باريس. أعرف فندق ماديسون بجادة سان جيرمان، فندقه المفضل في الحي اللاتيني، رحلة طويلة من عمان إلي باريس إلي ولاية تكساس حيث المستشفي، من نبيل درويش علمت الاحد أنه أجري الجراحة يوم الأربعاء، وأن الوضع حرج، يوم السبت اتصلت بنبيل لشأن يتعلق بمناسبة تخصني، فوجئت به يقول لي إن محمود في حالة موت سريري منذ الأمس، وأن القيادة الفلسطينية مجتمعة وعلي اتصال بالأسرة لاتخاذ القرار المناسب، غير أن محمود لم يسبب الحرج لأقربيه، أعد لكل شيء عدته، إذ أوصي ألا يوضع علي أجهزة صناعية، أي رفض هذه الحالة التي يكون فيها الإنسان عدما من حيث المضمون. موجودا من حيث الشكل، هكذا رحل في بساطة، أقول في بساطة لأن الأمر جري هكذا، هكذا بالضبط، في مثل هذه الظروف أمر بحالة من عدم التصديق، وعدم القدرة علي الاستيعاب، غير أنني مضيت أستعيد قصيدته الملحمية الرائعة 'الجدارية' ونصه الفريد الذي يطاول نصوص أبو حيان التوحيدي الناثر الأعظم في لغتنا العربية 'في حضرة الغياب'.
هل تكتسب النصوص قيمة إضافية في حالة اكتمال أصحابها وخروجهم إلي النهار؟ بالتأكيد، يصبح للنص حياة قائمة بذاته، منفصل عن صاحبه، أقرأ بدهشة وإعجاب، وأسي، أما الدهشة فلأنني لم أنتبه كفاية إلي أن محمود يحتضر منذ زمن ليس بالهين، عاش موته قبل موته، أما الإعجاب فمصدره رفعة النصوص، أما الأسي، فمصدره الفراق، وقد توقفت طويلا أمام الفصل الذي خصصه للحنين في 'حضرة الغياب'، لقد أسس به لفقه الفراق الإنساني، فكل منا مفارق، مفارق.

**************

العالم ينعي نقطة الضوء التي رحلت

طارق الطاهر

ردود الفعل كثيرة توالت بعد رحيل الشاعر الكبير محمود درويش، لم تقتصر علي جهات ومؤسسات ثقافية، وصحف ومجلات عربية وعالمية، بل امتدت إلي جهات سياسية، وذلك تقديرا لدور ومكانة الراحل الكبير في خدمة قضية بلده، بالإضافة إلي أن البيانات التي صدرت من مختلف الجهات لم تكن فقط مجرد كلمات رثاء، بل احتوت علي تقييم لمسيرة الشاعر الكبير المؤثر حضورا وغيابيا.
فقد نعي الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الراحل قائلا: (إن غياب شاعرنا الكبير محمود درويش عاشق فلسطين رائد المشروع الثقافي الفلسطيني الحديث والقائد الوطني اللامع والمعطاء، سيترك فراغا كبيرا في حياتنا الثقافية والسياسية والوطنية، لن يملأه سوي المبدعين الذين تتلمذوا في مدرسته، وتمثلوا أشعاره وكتاباته وأفكاره وسيواصلون حمل رسالته الإبداعية لهذا الجيل وللأجيال القادمة).
ومن فلسطين _أيضا­ أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية بيانا بعنوان ( وداعا أيها الشاعر) ألقت فيه الضوء علي قيمة الشاعر الكبير محمود درويش، ومما جاء فيه: (بسيرته ومسيرته استحق محمود درويش وسام الشعرية الفلسطينية باقتدار واستحق كذلك أن يكون المنشد الأعتي من بين الأصوات الشعرية العربية، محققا بذلك انتصارا لقضيتنا العادلة ووجع البلاد العميم في حمل قضيتنا الوطنية إلي الكون، إذ كيف للوداع أن يكون له بلاغة المراثي وقد ترجل الحرف عن صهوة المعني، فارتفع النشيج إلي سماوة البكاء والنزف، وارتفع الرثاء إلي سقف النحيب).
ومن جانبه أصدر الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب بيانا، أكد فيه ان درويش (استطاع أن يتخطي حدود وطنه ليسمع صوت المقهورين، وبكاء الأطفال وصرخات الجياع، وكان له دوره المشهود في مقاومة الظلم والعدوان)، ووصف تجربته بأنها تمثل إحدي منارات الإبداع المعاصر، والذي استطاع بصدقه الفني أن يجسد المقاومة الفلسطينية ويجعلها قوته اليومي وسهره الليلي حتي صارت قضية للحق والمصير.
كما أكد بيان اتحاد كتاب مصر قيمة ومكانة درويش، بينما أشار بيان اتحاد كتاب المغرب إلي الفراغ الكبير الذي سيتركه درويش ( إن الوفاة المبكرة للشاعر، ستترك بالتأكيد فراغا كبيرا في المشهد الشعري والثقافي والإنساني بعامة، لقد عاش محمود درويش ونذر حياته للشعر وللإبداع، وللنضال من أجل الحرية لفلسطين وللإنسانية ككل، فقد عاش في حياته مثالا للالتزام الفكري والأدبي، ومثالا لتجديد الشعر وتوسيع آفاقه الإبداعية والجمالية).
وقد احتل خبر رحيل محمود درويش مكانة بارزة في العديد من الصحف والمجلات العربية والأجنبية، في صحف الإندبندنت، والتليجراف البريطانية والجاريان وهارتس الإسرائيلية.
وفي القاهرة نظم مجموعة من المثقفين ومحبي درويش، حفل تأبين في المساحة الواقعة بين بيتي زينب خاتون والهراوي، حيث أوقدوا الشموع، حزنا علي محمود درويش، الذي دفن جثمانه ظهر الأربعاء في رام الله. وفي مساء ذات اليوم، أقامت مؤسسسة المورد الثقافي حفل تأبين للشاعر الكبير في مسرح الجنينة بحديقة الأزهر.

**************

حماس : نعي بارد وشتائم حارة

أحمد ناجي

اقتصر التعليق الرسمي لحركة المقاومة الإسلامية حماس علي رحيل محمود درويش علي بيان مقتضب أصدره المكتب السياسي، وحمل توقيع خالد مشعل وجه فيه خالص التعازي إلي عائلة الفقيد والشعب الفلسطيني، مؤكدا أن الأدب الفلسطيني فقد بوفاة درويش أحد ركائزه الأساسية، مشيرا إلي الدور الذي لعبه الشاعر في التعريف بالنضال الفلسطيني خلال مسيرته الأدبية، وفي نهاية البيان قال مشعل إن الشعب الفلسطيني الذي أنجب درويش قادر علي إنجاب غيره .
بيان مشعل عكس موقف حماس الدبلوماسي البارد من درويش، في الوقت الذي شن فيه أعضاء حماس وكوادرها حملة تشويه لدرويش علي الانترنت، بدأت في هيئة تعليقات علي المواقع الإخبارية كالجزيرة والعربية، التي نشرت خبر رحيل درويش، وامتدت إلي مواقع حماس الالكترونية علي الانترنت. حيث تم وصفه بالشاعر الشيوعي الكافر الملحد الذي أعلن عداءه لله تعالي، مستشهدين ببعض الجمل المبتورة من شعر درويش اعتبروها كفرا صريحا. فعلي موقع شبكة فلسطين للحوار كتب الوضيحي أكثر من موضوع يهاجم درويش، منها واحد يحمل عنوان نماذج من ضلالات وجرائم درويش يقول فيه دعا درويش لعبودية معشوقته ريتا اليهودية قائلا ( بين ريتا وعيوني بندقية, والذي يعرف ريتا ينحني ويجصلٌِي لإله في العيون العسلية) ديوان محمود درويش ص192 وأضاف الوضيحي أنه قد دعا إلي تأليه غير الله في مقطوعة بعنوان (لوركا) مادحا الشيوعي الأسباني لوركا: (هكذا الشاعر، موسيقي، وترتيل صلاة، ونسيم إن همس، يأخذ الحسناء في لين إله) ديوان محمود درويش) ص68­69).
التعليقات علي الموضوع امتدت لأكثر من خمس صفحات، كلها توجه الشكر، والثناء للوضيحي علي كشفه حقيقة هذا الشاعر الملحد. وعلقت أحد الفتيات التي تحمل اسم 'قسامية الشجاعية 'قائلة لا حول ولا قوة الا بالله ماذا أخذ من شعره هذا فمسكين والله وضعيف، فسيحاسب الانسان علي كل كلمة في معصيته . الغريب أن موضوع الوضيحي السابق تم نسخه ولصقه في أكثر من موقع إخباري تعليقا علي خبر رحيل درويش، وهو ما يشي بوجود قدر من التنظيم في تلك الحملة
لكن درويش علي ما يبدو كان يتوقع ردود الفعل هذه، وربما لهذا كتب قصيدته أنبياء غزة الكذبة التي قال فيها 'لولا الحياء والظلام، لزرت غزة، دون أن أعرف الطريق إلي بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد/ ولولا أن محمدا هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةي نبيٌ، ولكل صحابيٌ ميليشي'.

******

هل تعتقدين أنني أستحق

مرفت عمارة

اهتمت معظم الجرائد البريطانية برحيل محمود درويش، وقد خصصت الجارديان صفحتها الثقافية لمقال للناقد بيتر كلارك، قدم فيه مايشبه سيرة حياة صاحب 'الجدارية' وقد اكد كلارك ان قصائد درويش المبكرة اتخذت طابعا كلاسيكيا، ولكنها عند منتصف الستينات اصبحت شعبية ومباشرة، حيث استخدم صورة ذهنية مجازية قريبة من القرويين الفلسطينيين، فكتب عن بساتين الزيتون وأشجارها، وصخور وريحان وزعتر، اشعاره المبكرة كان لها تأثيرات متقطعة مثل قنابل يدوية كلامية، رغم بساطتها الظاهرة، فان قصائدة القصيرة تحمل معاني علي عدة اصعدة، منها الاحساس بالغضب والشعور بالانتهاك والظلم، لكنها تحوي ايضا نوعا من السخرية وتتمتع بحس انساني عالمي، حتي اصبحت قصائده بمثابة منشور لاحاسيس الدفاع عن العالمية، تظهر فيها ارض وتاريخ فلسطين محصلتين لقرنين يحملان تأثير الكنعانيين، واليهود، واليونايين، والرومان، والأتراك العثمانيين، والبريطانيين، عبرهم جميعا بقيت هوية الجوهر الفلسطيني، كان قادرا علي رؤية الجندي الاسرائيلي كضحية للظروف مثله، كما استطاع التعبير عن السخافات البيروقراطية لاحتلال عسكري مستبد.
واستشهد كلارك بما كتبته الناقدة البريطانية ورئيسة تحرير مجلة بانيبال مارجريت اوبانك عن درويش مؤكدة انه: 'كان قارئا نهما، بسيطا، شديد التواضع يعشق الوحدة، لكنه علي اتم استعداد للتحدث عبر التليفون، أقرأ له منذ اوائل السبعينات، تعرفت عليه من خلال زوجي المؤلف العراقي 'صموئيل شمعون' قام بدعم مجلة 'بانيبال' المجلة الادبية التي اسسناها سنة ..1998 التي تقدم اعمالا للأدباء والشعراء العرب بالانجليزية، عندما هاتفنا 'محمود' قبل ثلاثة شهور حول عدد خاص عنه كان جوابه 'هل تعتقدين انني استحق ذلك؟ اذا كنت ترين ذلك، اذن تعجبني الفكرة، الان سيصبح عددا تكريميا له.'

*******

اللقاء الأخير مع محمود درويش

فيصل دراج

في العام الأخير، كان بين الشاعر والمقرٌبين منه تواطؤ نزيه، يطمئنون عن صحته باقتضاب، ويطمئنهم باختصار تخالطه السخرية لم يلتفت الكثيرون إلي السخرية في قصائدي، كان يقول ­. كنا نتكلم عن الصحة ولا نكثر الحديث عن المرض، وكان يتحدث عن مكر الحياة ولا يتطرق إلي الموت. خدعتني الحياة فانخدعت . وظلٌت مشاريع كثيرة مؤجلة التحقق. كان محمود، في ساعات الصفاء الحزين ، يذكر أشياء عن جمال الهدف ومحدودية الحياة، ويري إلي جزيرة بعيدة لا يراها غيره.
فتح الباب مرحٌبا كعادته، كانت السادسة مساء في الخامس والعشرين من تموز، الجو حار والشاعر يتأهب لرحلة صعبة غامضة. صاحبنا شاهين لم يحضر بعد . وأخذني، علي غير عادته، إلي مكتبه، فهو أكثر إلفة قال. كيف أحوال الدنيا؟ ، قلت: مع الخبرة نتكيٌف مع وجوه الحياة المختلفة. قال : إن الحكمة تعالج الإخفاق. بعد عبثي بالكلمات قلتج : الحكمة هي استئناس الخيبة ، قال : الأدق أن نقول : إن الحكمة هي استقبال مصاعب الحياة ببشاشة ، ثم : لو كان الصديق شاهين معنا لمنع عن العبارة إمكانية الهرب. كان د. شاهين يسجٌل، أحيانا، في دفتر صغير ما يسمعه من محمود درويش أثناء اللقاء _ الحوار.

لم يكن اقتصاد اللغة الحكيمة أمرا طارئا أثناء اللقاء مع درويش، منذ أن كتب في حضرة الغياب . سألني وشاهين مرة: ما هي السلالة الكتابية التي ينتمي إليها كتابي هذا؟ قلت لا أري له مرجعا عربيا، فلا هو قريب من بلاغة طه حسين الأزهرية _ الحديثة في كتاب الأيام ، وليس له مع نثر جبران خليل جبران علاقة، ولم يكن يحب جبران كثيرا. فيه شيء من نثر أندريه مالرو، قال: ليس بالضبط. وواقع الأمر أن الشاعر كان مفتونا، في سنواته الأخيرة، بشخصين هما :فالتر بنيامين ونيتشه، ويردٌد بإعجاب تمازجه الغبطة بعض أقوالهما مثل :الحقيقة تضيق بالبراهين، كل حقبة تحلم بحقبة لاحقة، وكل كلمة نجيبة تنظر إلي غيرها، والتاريخ كائن هائل أعمي لا يضبط خطواته،... كان حوارنا عن الحكمة البشوشة استئنافا لحوار سبق. ولهذا قطع محمود الكلام وقال: هل انتبهت إلي تعريفي للقصيدة في أمسية بيت لحم ؟ ­ القصيدة رمية نرد علي بقعة من ظلام _ الحظ نصيب الموهبة إذ تجتهد،... ولعل من يرجع إلي كتاب في حضرة الغياب يعثر ، بلا مشقة ، علي هذا اللون من الكتابة، الذي دعوته ب الكلمة الجامعة وعاد محمود ، لاحقا، وقال من الأفضل أن نقول جوامع الكلم .
"تأخر شاهين ، تواطأ مع شروده وانزلق إلي شارع آخر. قال محمود ضاحكا. كان الشرود صفة ملازمة للصديق الذي تأخر. حين نظرت إلي يميني وقعت عيني علي لسان العرب لابن منظور، قال الشاعر : لا أستغني عنه أبدا، إنه مرجع عظيم الشأن، أو أنه كتاب نفيس فخيم ، كما كان يقول صديقنا الراحل سعيد مراد، الذي تعرٌفت عليه مع سعيد حورانية في موسكو. ثم أكمل : سعيد مراد أنيس كريم بشوش اختصاصه حل مشاكل الآخرين. وبالمناسبة أودٌ مرة أن أذهب إلي دمشق لأزور زوجات الأربعة الراحلين: عبد الرحمن منيف وسعد الله ونوس وسعيد حورانية وسعيد مراد، في الخريف القادم، ربما. استعاد مرة أخري "استراتيجية جوامع الكلم وقال: الخريف فصل الحكمة الأنيقة ، والشتاء فصل الحكمة المتداعية، والربيع فصل عابر مجازه الفراشه. وتابع فرحا: المجاز طريق مظلم إلي حكمة مضيئة. وقجرع الباب : صحا محمد شاهين من شروده . كان محمود يحب شاهين رغم شروده، أو بسبب شروده ويري فيه مغتربا، تصرٌفت به الحياة ومنعته عه التصرٌف بحياته كما يشتهي.
أحضر شاهين بعض الفاكهة من مزرعته، حمل محمود حبة كمثري وأعادها إلي الكيس، ثم حملها من جديد وقال: ماذا تشبه الكمثري؟ في شبابي كنت أري فيها صورة عن ثدي الأنثي الشابة. والآن؟ لا تزال الثمرة كما كانت، ولا تزال في أكثر من مكان أنثي تحمل الكمثري، لم أعد شابا، وأطلق ضحكة: كلنا لم نعد شبابا، فنحن علي مستوي العمر جيران. سأله شاهين بحرص ومحبة: ماهي الأخبار وماذا ستفعل؟ الأخبار كما هي ، سأسافر بعد غد إلي باريس ومنها إلي بوسطن. الرحلة مرهقة والعملية كالقصيدة: رمية نرد فوق بقعة مظلمة، ولي مع العمليات تاريخ طويل. وما هي أخبار الفيزا؟ حصلت عليها بعد أكثر من شهرين من السؤال، يبدو أنني إرهابي دون أن أدري، وأن الآخر يعامل العرب باسترخاص كبير. غدا راحة، وبعد غد سفر يتلوه سفر، وبعد ذلك سنري ما تأتي به الأيام.

كانت من عادة الشاعر، ذاك المبدع القلق المتطلٌب النزيه الصادق المتواضع، أن يتصل بأصدقائه بعد كل أمسية شعرية متلفزة، يسألهم عن رأيهم في القصائد التي ألقاها وعن شكل الإلقاء ومدي تفاعل الجمهور معه. ومع أنه كان قد تحدث معنا، وتحدثنا معه، بعد أمسيته الأخيرة في بيت لحم ، عاد وسأل: كيف كانت الأمسية؟ قلنا له : أمٌا عن القصائد فقد مثٌلت السهل الممتنع والمعقد البسيط والواضح الغامض... قال: وأنا كيف كنت؟ قلت له : جرت العادة أن تبدأ بإلقاء القصيدة مفردا ثم تتكاثر ، يخرج منك أكثر من شاعر، أحدهم يلقي والآخر يمثٌل الإلقاء وثالث يبرهن عن المهارة ورابع يستثير الإعجاب وخامس يختصر محمود جميع الأزمنة. في هذه المرة بقيت مفردا ، شاعرا مطمئنا يلقي بإلفة قصائد أليفة، أمام نفسه وأصدقائه وأمه وأهل قريته وجمهور قصيدته، كما لو كنت تقول: أنا محمود درويش عمري سبعة وستون عاما أقرأ القصائد التي أريد بالشكل الذي أريد أمام الجمهور الذي أريد، لا ضرورة للإضافة وتبيان المهارة، ولا ضرورة لما لا يدع الروح طليقة متحررة من الصنعة وطقوس الشطارة. قال بعد شرود: أخيرا أصبحت أنا، كما أرادتني الخبرة أن أكون، وكما أرادني الجمهور أن أكون أيضا. إنها الحياة وتعرفان رأيي في الحياة: ورقة نصيب تربح بعد موت صاحبها.
إنه وقت القهوة، أظنك يا شاهين لم تعد تحب "القهوة الدرويشية ، كما تقول، وإلاٌ لما تأخرت. سأله الأخير عن أمسيته الشعرية الأخيرة في جنوب فرنسا (نانت) ، قال: فاقت ما توقعته: غروب وهدوء وموسقيي وجمهور أنيق ومدرٌج روماني وشخصيات ثقافية غير عربية وعربية. تقدم مني في النهاية الناقد الشهير تودوروف وقال بالإنجليزية: هذا سحري ، لم أتوقع هذا. كان هناك الناقدان صبري حافظ ومحمد برٌادة، وكانت الأمسية بمناسبة مرور ثلاثين عاما علي إنشاء دار النشر أكت سود . وبدا محمود راضيا فرحا, وكان من عادته أن يوزٌع الفرح علي اصدقائه، كما لو كان قد ظفر بجائزة نيابة عنهم جميعا. لم يكن في ذاك الفرح ما يشي بالفخار والإعجاب الذاتي أو بالرضا الممتلئ الذي يأخذ شكل البداهة ولا بتوقعات الشاعر الكبير ، بل كان فرحا عفويا تكسوه البراءة. وكثيرا ما بدا محمود، وهو يتحدٌث عن أمسياته صبيا ، حصل علي جائزة غير متوقعة وابتهج، أو جاء بنتيجة مزهرة ولم يخذل أصحابه. ومع أنه كان في حياته اليومية متعدد الوجوه والأطوار، فقد كان نجاحه غير المتوقع يجعل منه، كل مرة، إنسانا شفافا، فيذكر فرِحا التفاصيل ويشدٌه الرضا البريء إلي الوقوف علي تفاصيل التفاصيل. كان يعبٌر عن موقفه من "النجاح اللامتوقٌع بصيغ كثيرة: أحلم بأن اصبح الشاعر الذي أريد، هناك كثيرا ما يجب قوله بشكل آخر، إنني لست راضيا عن نفسي ولا أعرف إن كنت سأرضي عنها ذات يوم، الرضا هو البلادة الباحثة عن منفعة، الإبداع قلق متجدد ومضيٌج الرضا، وأكثر ما أعجب من هؤلاء الذين ينشرون الرضا بمناسبة وبغير مناسبة. كان يشير دائما إلي ت.س. إليوت الذي أصبح مرجعا شعريا في القرن العشرين وكتب من الشعر حوالي مائتي صفحة لا أكثر.

ولتعبير غير المتوقع عند محمود أكثر من قصة: حين زار كوريا، في العام الماضي، بمناسبة مؤتمر ثقافي وبدا الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية قال: لم أتوقع هذا، لم أتوقع أن أكون معروفا في كوريا وأن يقدٌمني كبير شعرائها، هذه مسألة حظ وليست مسألة موهبة. وحين زار إيطاليا، مؤخرا، والجو ممطر تواطأت معه مباريات كرة ا لقدم ، قال : لم أتوقع هذا الحضور، وحين أظفر باستقبال مهيب في مسرح الأوديون في باريس قبل عام، قال: فاق عدد الحضور ما توقعت. لم يكن محمود يتوقع إلا ما تقضي به روح رحبة عفيفة زاهدة أو أقرب إلي الزهد، روح شفافة تأمر بالتواضع، تري إلي كرم الآخرين قبل أن تنصف موهبة متجدٌدة دؤوبة مقاتلة جعلت من صاحبها أسطورة علي قيد الحياة. قال مرة بعد أن استمع إلي قصائده في دمشق جمهور غير متوقع : هل أنا شاعر جدير بجمهور كبير أم أن الجمهور يظنني شاعرا كبيرا؟ ولهذا كان يكره الدعاية ويحتقر الإعلان ، فالمبدع بماهو دون زيادة أو نقصان، والمبدع هو الذي يتواصل مع أجداده من المبدعين، والمبدع هو الذي يحاور الإبداع في كل مكان. وهذا ماجعله قارئا مواظبا: معجب هو ب أوكتافيو باث ، ومفتون بما قاله بول فاليري عن الشعر، وقارئ أكثر من مرة لبعض دراسات الألماني أدورنو، وعارف بالشعر الإسرائيلي ورموز الكبار، ومتابع لما يكتبه الفلسطينيون والعرب، كأن يثني علي شعر السوري الكردي سليم بركات وقصائد نزيه أبو عفش، وأن يعبٌر عن تقديره لأعمال الفلسطيني عز الدين المناصرة ومريد البرغوثي في طوره الأخير،...
سألناه: لماذا أكثرت من نشر قصائدك الأخيرة ولم تنتظر إصدارها في كتاب كما تفعل عادة؟ قال: هذا أمر لم يأتِ بتخطيط، جاء هكذا لأنه جاء، لا يمكنك أن تضبط كل شيء علي المسطرة، لا القصيدة ولا النشر ولا الحياة. وقال كعادته: هل هناك من كتب عربية جديدة جديرة بالقراءة؟ وكان محمود ناقدا ثقافيا وأدبيا بامتياز، يعطي أحكامه وتأتي صائبة: طه حسين أهم مثقف عربي في القرن العشرين، وعبد الله العروي يمثل استئنافا وتجاوزا له في آن، الأول أكثر جرأة والثاني أعمق وأعقد ثقافة. ونجيب محفوظ بصير جلود أقرب إلي الندرة، أجمل أعماله الحرافيش ولا أحب كثيرا أولاد حارتنا ، وأحب رواية هدي بركات "أهل الهوي ، ومن المؤسف أن لا تأتي رواية علوية صبح دنيا في مقدمة روايات جائزة البوكر بعد رواية بهاء طاهر، وجمانة حداد موهبة كبيرة ومبدعة حقيقية لو تحررت من بعض القيود، ورواية الغيطاني آثار المحو عمل فاتن وهو خليفة محفوظ ... وإلياس خوري موهوب وأنيق الموهبة, وعباس بيضون شاعر عالي الثقافة، وإبراهيم الكوني ساحر في لغته العربية، وأمل دنقل شاعر خصب، وأحمد شوقي كلاسيكي عظيم، وإبراهيم طوقان أفضل شاعر فلسطيني قبل النكبة، وحسين البرغوثي لم يكتشف موهبته النثرية المدوٌية إلا متأخرا، وأعمال صنع الله إبراهيم الأخيرة أفضل مما سبقها، ... والجملة الأخيرة دائما: كل مبدع علي صورة أستاذه، وكل أستاذي أستاذ إلي حين ...

بعد القهوة وأحاديث متناثرة عن الكمثري والمدرٌج الروماني ولغة الكوني وسليم بركات وجمالية الرمان في الكروم الفلسطينية المطاردة، جاء طبيب صديق مشهود له بالكفاءة والمعرفة قال: العملية خطرة لكنها مضمونة النجاح، هناك كل ما يلزم لتكون ناجحة، لا لزوم للقلق أو ما يشبه القلق. ما كنا نقوله بكلمات تشجيعية سريعة ملتوية القوام ، قاله الطبيب بلغة علمية أخلاقية صارمة. لم نقل شيئا ومسح محمود وجهه بمنديل ورقي وقال: إنشاء الله . انصرف الطبيب مخلٌفا وراءه القليل من الطمأنينة والكثير من مالصمت.
كسر محمود الصمت قائلا : اسمعوا هذه الحكاية : قال لي أحد الأصدقاء أنه سمع مثقفا عابرا بجوار "المدرج الروماني ، وأنا ألقي قصائدي، سمعه وهو يشتمني ويشتم فلسطين والفلسطينيين. يا أخي يمكنه أن يشتمني كما يشاء ، فمن الممكن أن أكون قد أسأت إليه، ولكن لماذا يشتم جميع الفلسطينيين بلا تمييز؟ هذا موقف لا يختلف عن الطائفية، قال، طائفية في المدن وطائفية في البلدات الصغيرة، وطائفية في العراق ومصر ولبنان ، وطائفية خاصة بالمثقفين... لا شيء يدعو إلي الأمل، وأحوال فلسطين لا ترضي العقل ولا تسرٌ القلب، وأنا متشائم وأرفض تصدير الآمال الزائفة،... نظرنا إلي بعضنا ، كانت الساعة تقترب من التاسعة، ونطقنا بكلمات أشبه بالغمغمات ، وبدا محمود في حال حسن، ووعد شاهين بحفلة عامرة قادمة ، وتابع التواطؤ الكلامي اجتهاده، وغلبت النظرات الكلمات، وبقي قاموس "لسان العرب في مكانه، و لم يلقي أي منا نظرة علي المكتب أو الصالون أو المطبخ الذي جثمت فيه حبات كمثري ذكٌرت الشاعر بشبابه البعيد. بدا اللقاء شبيها باللقاءات السابقة، وكان غير ذلك.
أوصلنا محمود إلي المصعد ، تواعدنا علي لقاء قريب أكيد، رفع يده مودعا، وغطت وجهه ابتسامة أقرب إلي السؤال.

*******

جابر عصفور: عرفته منذ كان يسكن بيت توفيق الحكيم

محمد شعير

عندما علم الدكتور جابر عصفور بخبر رحيل محمود درويش، لم يصدق في أول الأمر، قال لمحدثه: لا تقل ذلك.. محمود درويش لم يمت، لم يمت. ولكن عندما تأكد من الخبر: أغلق باب غرفته علي نفسه، وراح في بكاء عنيف. يعود بنا عصفور إلي اللقاء الأول بدرويش تعرفت عليه ، أثناء إقامته في القاهرة في بداية السبعينيات علي يد الصديق الشاعر أمل دنقل، وكان درويش وقتها نجم شعري، وخاصة بعد أن قام رجاء النقاش بالتعريف به ، وكتب عنه كتابا كاملا. وقد ربطت أمل ودرويش ، واذكر أنه كان يقيم في المنزل الذي أقام فيه توفيق الحكيم، وظلت علقتنا قوية ومستمرة حتي حيله.
أما اللقاء الأخير فقد كان منذ عام تقريبا في عمان ، رتبه لنا صديقنا المشترك الدكتور محمد شاهين. لا ينس عصفور موقفين لدرويش، الأول عندما كان يجهز لمؤتمر أمل دنقل في الذكري العشرين لرحيله، واتصلت به لأدعوه، فأخبرني أنه علي استعداد أن يأتي علي حسابه الخاص من أجل أمل دنقل وأنه كان سيكون غاضبا لو لم يحضر، وقد حضر درويش وألقي درويش قصيدة هامة جدا عن أمل، بل من أجمل قصائده فهي قصيدة لا يكتبها إلا من يعرف أمل، ومن يدرك معني الموت في الحياة، والحياة في الموت. ولا أنسي ان امل كان يقرأ لي دائما القصائد التي كان يحبها لدرويش.
أما الموقف الثاني في مؤتمر الشعر ، وقد كان آخر مؤتمر أثناء عملي أمينا للمجلس الأعلي للثقافة ، وقد أرسلت دعوة إلي أدونيس، واخري إلي درويش، وقد أعتذر أدونيس، وتعلل بأن الدعوة لم تصله، واعتذر درويش ايضا في البداية، وأرسل رسالة اعتذار، ولكن عندما علم أن هذا المؤتمر هو آخر المؤتمرات التي ستقام أثناء رئاستي للمجلس ، أتصل بي وقال إنه : لم يكن يعلم أن هذا المؤتمر هو آخر مؤتمر لي، وأنه كان مرتبطا بموعد في المغرب، ولكنه أتصل بهم وطلب تأجيل الموعد حتي يتمكن من الحضور .
يقسم عصفور مراحل إلي مرحلتين الأولي منذ بداياته وحتي ديوانه (محاولة رقم 7) ، والثانية بعد هذا الديوان ، درويش بالفعل هو شاعرمقاومة،ولكنه غاص فيها فاكتشف العام من خلال الخاص_,_ وأدرك الجذور الإنسانية ولذلك اصبح شعره يخاطب الانسان المظلوم والمقموع_._كما انه كشاعر كان يواجه الشر في كل أحواله ولهذا اعتبره العرب شاعرهم في المقاومة ووضعوه في صدارة المقاومة، كما أنه في الوقت ذاته كان يكتب عن المقاومة الإنسانية التي تجسدها علي نحو خاص المقاومة الفلسطينية بوضعها بعض الحضور الإنساني المقاوم لكل قوي الشر، ومن هنا فهو يقدر كونه شاعرا للمقاومة الفلسطينية فهو شاعر للمقاومة الإنسانية، ولمقاومة كل الفساد الموجود في العالم. وهو شاعر يتأمل في الوجود الإنساني كله، وقد أدي هذا إلي أن يتأمل الموت ويتأمل وطنه ممتزجا بالموت وبالحياة. _
وأضاف عصفور: أنا اعتبر جدارية درويش نصبا تذكاريا عظيما أراد أن يشيده في حياته ليصبح شاهدا علي ذكراه، وحتي يحفر علي جدرانه الشعرية تجربته مع الموت وكيف أنه ذهب إليه ثم قدرت له العودة إلي الحياة مرة أخري أثناء الجراحة التي أجريت له في باريس عام 1998 فرأي العين رأي العيان عندما مضت عليه ثوان فارق فيها الحياة لكنه عاد منها وكأنه إنسان ذهب إلي الموت وقدر له أن يعود منه ثانية ليروي لنا ما رأي. هذه هي الجدارية التي يحكي فيها درويش عن رحلته بين الحياتين موظفا فيها ثقافته، وكل أساطير البعث في العالم القديم.
ويرصد عصفور تشابها بين ديوان أمل دنقل أوراق الغرفة 8 ، وقصيدة درويش جدارية ..وخاصة في قصيدتين البياض ، فهناك قصيدة لأمل يشبه فيها الموت بطفل يمسك بنبلة ويقذف بحصاه علي السابلة، وعندما تصيب الحصوة أحد العابرين بمحض المصادفة تكون حياته قد انتهت لأن ليس هناك منطق في الموت، والطفل هنا ليس إله الحب الجميل: وإنما هو المفوض بإنهاء الحياة. وهذا المعني نفسه نجده في شعر درويش.

*******

النجاة بالشعر من المعركة

أحمد يماني

سيقتصر الحضور الثقافي العربي عموما، في بلد كإسبانيا، علي اسمين كبيرين، الروائي والشاعر، رغم ما في هذا من إجحاف أو تجاهل لأسماء أخري، ربما جاورتهما في الحضور بدرجات أقل: نجيب محفوظ راوي المدينة ، محمود درويش شاعر القضية .
كليشيهات بها ما بها من عمومية فاضحة إلا أن الأمر لا يخرج عن هذا حتي داخل أشد الدوائر تخصصا. محفوظ له النصيب الأكبر في الحضور العام، علي الأقل هو الأكثر قراءة خارج الأوساط الأكاديمية. ولكن الإسبانية ستكون أكثر حنوا علي درويش بغنائيتها وعاطفيتها، ستقرب الترجمة درويش كثيرا من شاعر مقاومة آخر، من لوركا، لن ترده إليه كما فهم البعض خطأ علاقة الراحل الكبير بشعر فيديريكو جارثبا لوركا، العائد هو نفسه إلي تقاليد شعرية أندلسية كمصدر أساسي لعمله.
ستقربه كذلك من شاعر مقاومة آخر، من بابلو نيرودا. اختزالات معيبة يصنعها الآخرون بكل سهولة واضعين الشاعر وشعره في خانة ضيقة تحت يافطات تكذبها قصائد لا يرونها: شاعر مقاومة . باقتضاب، لكن بحسم، يرد الشاعر. في حوار مع محمود دوريش لجريدة L_Humanitژ الفرنسية عام 2004، قال الشاعر بعدم اعتقاده أن للشعر دورا بديهيا في المقاومة الوطنية وأن تأثيراته ليست فورية، كذلك لا يؤمن بما يسمي بالشعر الوطني، يقول: في سنوات الخمسينات، دون شك، في العالم العربي والعالم أجمع ­أفكر في كل الشعر الملتزم وخصوصا في لويس أراجون، فيما بينكم­ كان للشاعر دور سياسي مباشر.
كان العالم أقل تعقيدا مما هو عليه الآن، وفي حالتنا فإن الاحتلال الإسرائيلي احتلال طويل، بخلاف الاحتلال الألماني لفرنسا، أي فنان يمكنه أن يمثل دون انقطاع دور الشاعر الملتزم، بالمعني القديم للكلمة؟ إذا كان في نيته أن يلعب هذا الدور، فإن الاحتلال سيكون قد تحصل علي قتل الشعر كذلك . ربما كان هذا هاجس درويش الأساسي: النجاة بالشعر من المعركة، وربما ردد كثيرا الكلمات الأخيرة من قصيدة خورخي لويس بورخيس مديح الظل باحثا عن ظله العالي : أصل إلي مركزي، إلي جبري ومفتاحي وإلي مرآتي. قريبا سأعرف من أنا .

********

مأساة أن تكون محمود درويش

إيمان مرسال

ربما يكون محمود درويش هو أكثر من مثٌل كلمة شاعر في الثقافة العربية الحديثة صورة وصوتا ومعني وتوقعا : لكن كلمة شاعر في الثقافة العربية نفسها هي كلمة بقدر إضاءتها وبهائها بقدر ما تصيب من يحدق فيها بالعمي، شاعر بالمعني الجيد للكلمة: تعني إلها يخلق لغة أو يدمرها، تعني نبيا يحمل رسالة يعيش ويموت من أجلها، تعني صوتا يمثل أمة لا صوت لها أو متصوفا يعلٌم القساة الحب، تعني الرائي والفيلسوف والمبشر والنذير (يمكن للقاريء أن يجد أوصاف كلمة شاعرالسابقة هذه في مقالات كثيرة عن محمود درويش وأدونيس تحديدا). شاعر كلمة مفردة ولكنها ­ كي تتحقق كما يجب ­ قد تدل علي جمع، تماما مثل كلمة أمة وكلمة جيش.
درويش يمثل أحد أهم الشعراء الكبار في ثقافتنا الحديثة إذن، ويضاف إلي ذلك أنه شاعر تاريخي أيضا، ليس فقط لأنه يمثل صوت مأساة تاريخية من أبشع مآسي القرن العشرين (وهو أخلص لذلك وكان كلما حاول الخروج أحضرته الجماهير واستمرارية المأساة)، وليس لأنه تمرد أحيانا علي ما يجب أن يمثله من مأساة (وهو ما أنتج أجمل قصائده)، وليس لأن قصائده دخلت تاريخ ثقافته وذاكرتها ومستقبلها (وهي قد دخلت قبل أن يموت بسنين)، ولكن لأنه ابن لحظة تاريخية­ مأساة، أصبح عبر الزمن شاهدا عليها وممثلا لها بقدر ما كانت قصيدته نفسها تمثيلا لأحلامها ولخيباتها معا، شاء هو أم أبي (أحيانا قبل أن يجحب لارتباطه بالقضية وأحيانا اشتكي من الحب القاسي)، وشئنا نحن قراؤه أم أبينا (بعضنا يحبه كشاعر المقاومة وبعضنا لا يحب إلا قصائده البعيدة عن ما يسمي المقاومة ). تاريخية درويش لم تمنحها له واقعية المأساة التي مثلها، بل بحثه المتوتر عن جماليات خاصة بها، جماليات تحرر صوته من وطأتها (بالطبع ليس كل شاعر كبير تقف خلفه مأساة وليس كل من خلفه مأساة يستطيع أن يجد جماليات لها). ولهذا ليس مبالغة أن أقول أن درويش ظل يطور قصيدته جماليا بأقصي قدر يمكن لشاعر مسجون في وضعيته التاريخية أن يقوم به.
أي وضع تاريخي هذا أن يكون الواحد محمود درويش؟. أن يكون الواحد شاعرا، أن تكون خلفه مأساة وأن يستقبل ويجحب لأنه صوتها؟. أية مأساة تلك أن يكون الشاعر صوت مأساة لأكثر من أربعين عاما، مأساة لا تتحرك في أي اتجاه إلا لتزداد مأساوية؟. أي مأزق أن يكون الشاعر موهوبا وذكيا ووسيما وذا كاريزما وإنسانيا وفرديا وصعلوكا ومحبا للحياة ومع كل ذلك يمثل شعبا وتاريخا ومنافي وهوية وأحيانا سلطة بلا أرض تتسلط عليها؟ أي عبث أن يكون الشاعر ضحية مأساة وأن يكون جزءا من مجده أنه صوت الضحية وأن تكون جماهيره هي نفسها ضحايا ؟.
بالطبع أنا لا أرثي محمود درويش، أنا فقط أفكر فيه مجددا لأنه ببساطة مات، أفكر فيه لا كأب بل كحبيب قديم. ولقد فكرت فيه من قبل مرات: كمراهقة تحفظ شعره وتعلق صورته في غرفتها كما تعلق أخريات صور المغنين، وكشاعرة صغيرة تنجرف بعيدا عن عالمه وتصدق أنه يجب أن يكون هناك مخرج من قصيدته الجميلة بحق حتي وإن كان لا يوجد مخرج من المأساة التي تقف خلفها. ربما لم أفكر فيه لسنوات وربما تعاطفت معه عندما هاجم قصيدة النثر فكان ذلك دليلا علي أن الزمن قاسي. ولكني بدأت أفكر فيه مجددا منذ سنتين لأنه أربكني: عندما درست قصائده المترجمة للانجليزية لطلبة لا يعرفون موقعه في الثقافة العربية ولا يعرفون إلا القليل عن المأساة، طلبة­ أستخدم هنا كلمة كريهة­ أجانب، ورأيت بعضهم يدمع وبعضهم يسأل أسئلة لا أعرف كيف أرد عليها وبعضهم يريد أن يقرأ قصائده الأخري وبعضهم يبحث عن معلومات أكثر عن المأساة. أربكني درويش لأني رأيت صوته يصل إلي غرباء عنه، غرباء لا يعرفون موسيقاه ولا تموج صوته ولا وقفته علي المسرح ولا يعرفون كيف يمكن أن تكون ثقافة ما ­ بكامل شعرائها ­ مسجونة في لحظة تاريخية­ مأساة. ورأيت نفسي تائهة في الفصل لا أعرف كيف أتحدث عن قصيدته، لا أعرف كيف أفسرها أو حتي أنقدها، واقفة أسأل نفسي إذا كان حقا محمود درويش بالنسبة لي ليس أكثر من حبيب قديم؟.
كون محمود درويش ابن مأساة لحظته التاريخية لا يجعله محظوظا: ما يجب أن نحزن لأجله أنه لم يكتب الكثير من القصائد العظيمة الممكنة لموهبة عظيمة مثله لأنه ابن هذه اللحظة بالذات، ابن المأساة. أي عبث في أن يتخيل الواحد نفسه في وضع درويش التاريخي؟. أي كابوس؟. ربما لو كنت طفلا طرد من قريته وعندما عاد لم يجدها لظللت أبحث عن الغياب، ربما لو كان هناك من يشكون في وجودي وفي وجود أهلي لكتبت شيئا من قبيل سجل أنا عربيٌ ، ربما لو كنت شابا وذكيا ومثقفا وأكتب الشعر واسأل عن العدل لكان أفضل ما يمكنني أن أنتمي إليه هو الحزب الشيوعي ، ربما لو كنت كل ذلك وفقدت الأمل في العدل لتركت الحزب الشيوعي، ربما لو كنت منفيا من بلد إلي بلد لحلمت أن أخلد الحنين. ربما لو كنت هناك في نهاية الستينيات لانضممت إلي منظمة التحرير الفلسطينية، ربما لو كان لديٌ الموهبة الجبارة والمأساة و جمهور عريض يريد أن يبكي ويطرب ويتذكر طفولته المسروقة وأرضه الضائعة وأن يغضب ويثور وينتصر ويتحرر في مساء واحد، لكنت غنيت لمن هم مثلي يبنون وطنا من الكلمات ولما كنت تنازلت عن موقعي كشاعر قضية من أجل ما لم أكتبه بعد. ربما لو كنت لا أعرف كم أنا موهوب ومحبوب وعندي ما يستحق من الانسانية أن تنصت إليه لكنت قبلت كل هذه الجوائز من كل هذه الحكومات. ربما لو كنت هربت واختفيت عن عيون من أمثلهم أينما كانوا لكنت لحظتها فقط كتبت ما لم أكتبه. ربما لو كنت كتبت ما لم أكتبه ما كنت احتجت لآذانكم علي الإطلاق ولقلت لكم اقرأوني لأن ما لم أكتبه ليس مناسبا للجماهير. ربما لو كان ألمي أقل ومحبتي لألمي أكبر ما كنت دمرت قلبي هكذا. ربما بعد أن عشت كل هذه السنوات أتحدث باسمكم جميعا ثم رأيتكم تتقاتلون في غزة وفي غيرها لكنت قررت أن أموت.

*****

مطلوب محاولة عالمية لإنقاذ هذا الشاعر

رجاء النقاش

مقال الناقد الراحل رجاء النقاش حول محمود درويش وشعره وقضيته وهو من أوائل المقالات التي عرفت بالشاعر.
عندما كنت في بيروت في اوائل هذا الشهر سمعت من الصديق الفنان غسان كنفاني ان محمود درويش الشاعر العربي المقيم داخل اسرائيل قد تم اعتقاله مرة أخري.. وانه الآن موجود في احد السجون الاسرائيلية.
ومحمود درويش هو شاعر عربي شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، وهو واحد من ربع مليون عربي ظلوا مقيمين داخل اسرائيل بعد سنة ..1948 وهم يخضعون لقوانين اسرائيل ونظامها الذي يعاملهم أسوأ معاملة ويعتبرهم دائما 'مواطنين من الدرجة الثانية'.. ومن بين هؤلاء العرب الذين يعيشون في اسرائيل منذ 1948 الي اليوم خرجت الي الحياة مواهب فنية عربية لامعة من الكتاب والشعراء، ويحدد لنا كتاب 'أدب المقاومة في فلسطين المحتلة' الذي اصدره غسان كنفاني عدد هؤلاء الكتاب والشعراء فيقول انهم يبلغون 28 كاتبا وشاعرا من بينهم 8 من اليهود الشرقيين، والنماذج التي تسربت الينا من خلال الاسوار الاسرائيلية، والتي كتبها الادباء العرب هناك، تؤكد ان الاتجاه الاساسي الغالب علي الادب العربي في اسرائيل هو اتجاه المقاومة، وهذه ظاهرة طبيعية ومنتظرة...
فالعرب في اسرائيل لم يستسلموا للمحنة، ولكنهم يعيشون علي أمل كبير في أن يعودوا كما كانوا في يوم من الايام أصحابا لفلسطين، أرضهم، وأمهم، والتراب الذي ولدوا عليه وزرعوا فيه البذور وحصدوا فوقه الثمار.. ومات أهلهم وأحبابهم في حناياه.
فالشعور الحقيقي للعرب في اسرائيل هو الشعور بالرفض للواقع الذي فرضته عليهم ظروف استعمارية قاسية، ومن هذا الشعور الصادق العميق في نفس كل عربي ظهر هذا الأدب الذي يستحق أن نسميه أدب المقاومة العربية في فلسطين.
وخلال السنوات الاخيرة وعلي ضوء ما تسرب الينا من داخل اسرائيل ظهر الشاعر محمود درويش كواحد من ألمع شعراء فلسطين.. وواحد من ألمع شعراء الجيل الجديد في الوطن العربي كله، إن في شعره صفاء، وحرارة، وقدرة فنية عالية، وهو في شعره يذيب الحزن في الغضب، فيقدم قصائد حية مليئة بالعذوبة الفنية، وهي قصائد مليئة ­ في نفس الوقت ­ برؤيا النصر علي المصير الحزين الجارح الذي اصاب العرب في فلسطين سنة 1948 حين قامت دولة اسرائيل.
وقد اصدر محمود درويش حتي الآن ديوانين من الشعر.. الاول هو 'للعصافير أجنحة' والثاني هو 'عاشق من فلسطين'.. وقد اسعدني الحظ بالحصول علي النص الكامل للديوان الثاني.. وفي هذا الديوان يتألق محمود درويش كفنان ومناضل معا، والواقع أن قصائد الديوان تضع محمود درويش في صف شعراء المقاومة المعروفين في العالم كله، هؤلاء الذين قاوموا النازية، وقاوموا الاحتلال في كل مكان من الارض.. في عصرنا الحديث، واعتقد ان هذا الديوان يستحق مناقشة فنية وفكرية واسعة، ولكنني استأذن القراء في أن اترك هذه المناقشة جانبا وارجو أن اعود اليها في مقال قادم.. اما اليوم فانا اريد أن اطرح شيئا آخر للمناقشة، لماذا لا نستفيد من قصة محمود درويش في معركتنا الراهنة ضد العدوان الاسرائيلي؟
انني اقترح بالتحديد: أن نقوم بمحاولة عالمية لانقاذ محمود درويش من مسجون اسرائيل. ولن تكون هذه المحاولة مجرد ضجة مفتعلة، فهي تتصل بقضية عادلة لانها قضية شاعر كبير يتعرض لاضطهاد بسب أدبه وفنه ورأيه، وهي قضية عادلة من ناحية أخري لانها تتصل بالقضية الاساسية.. القضية الأم.. قضية فلسطين.. وقد يقول قائل: هل نثور ونغضب من اجل شاعر واحد في سجون اسرائيل.. مهما كانت قيمة هذا الشاعر وأهميته.. ونحن الآن أمام محاولة عدوانية لاعتقال ما يقرب من مليون ونصف مليون عربي داخل اسوار اسرائيل بعد عدوان 5 يونيو؟.. والحقيقة ان هذا الاعتراض معقول حقا، ولكنني اعتقد ان اثارة قضية محمود درويش عالميا سوف تخدم القضية الكبري، وسوف تساعد الجهود الاخري المبذولة في كل مكان من اجل هذه القضية الاساسية العادلة.. ومن اجل النصر في هذه القضية.. هناك جهود تبذل علي المستوي السياسي، وجهود تبذل علي مستوي الجماهير العادية في العالم كله.. فلماذا لا تكون هناك محاولة أخري لتجميع المثقفين من رجال الفكر والفنانين والكتاب والقراء حول هذه القضية؟
ان المثقفين يلعبون دورا خطيرا الي ابعد الحدود في التأثير علي الضمير العالمي، سواء كان ذلك متصلا بالجانب السياسي للقضايا العالمية، أو متصلا بالرأي العام الدولي.. فالمثقفون هم في الحقيقة الذين يقودون الضمير العالمي ويؤثرون في أحكامه وفي رؤيته للقضايا المختلفة، ان صوت برتراند رسل الآن ­ علي سبيل المثال ­ هو أقوي من أي صوت آخر في العالم، انه هو وحده يمثل هيئة أمم أعضاؤها الآلاف والملايين من المثقفين في انحاء العالم كله. كل ذلك لان هذا المفكر العظيم الذي تجاوز التسعين من عمره.. قد رصد نفسه نهائيا لخدمة السلام العالمي، وللدعوة من اجل نجاح هذه القضية العظيمة العادلة، واذا كان أبناء فيتنام ­ علي سبيل المثال ­ مازالوا صامدين في وجه العدوان الامريكي ومازالوا قادرين علي التصدي الصابر الحاسم لهذا العدوان.. فلاشك ان من بين عناصر صمودهم: عطف الرأي العام العالمي عليهم، وقد كسبوا هذا العطف بجهود متعددة من أهمها وابرزها تلك المحاكمة التي اقامها برتراند رسل للرئيس الامريكي جونسون.. وفضح فيها التدخل الامريكي في فيتنام.. لقد كانت هذه المحاكمة فرصة واسعة وواضحة أمام الرأي العام العالمي ليعرف كل شيء عن هذا العدوان الامريكي و'ليكره كل شيء فيه وينكره.
ولاشك أن موت شاعر كبير مثل 'فردريكو جارثيا لوركا' في الحرب الاهلية الاسبانية.. كان بقعة دم التصقت بأنصار الاستبداد واعداء الشعب الاسباني الذين استعانوا بكل الوسائل الارهابية للقضاء علي حرية الاسبان وثورتهم... لقد كان دم 'لوركا' تهمة زلزلت سمعة فرانكو وانصاره خلال الحرب الاهلية الاسبانية.. ولايزال هذا الدم حتي اليوم ­ وسيظل ­ عالقا بتاريخ الذين اسالوه وموقف المانيا النازية من الثقافة والمثقفين كان من بين الاسباب القوية التي حطمت سمعة النازية وفضحتها أمام العالم كله.. لقد كانوا يحرفون كتب الفنانين الكبار والمفكرين الكبار.. وكان أحد المسئولين النازيين يعلن بجرأة وصفاقة تلك العبارة المشهورة '.... كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي'.. ولم يكن النازيون يشعرون بالخجل من مثل هذه الكلمات والمواقف أيام قوتهم وسطوتهم وتصورهم الجنوني: ان صفحات التاريخ تمر تحت اقدامهم.. وانهم يستطيعون ان يفعلوا ما شاءوا لانهم سوف يكتبون تاريخ البشرية كلها من جديد علي هواهم.
ولكن النازية انهارت وسقطت، باخطائها في حق الانسان والحضارة وعلي رأس هذه الاخطاء بل والجرائم، موقفهم من الثقافة والفن والفكر.
واذا كان من الضروري الآن بعد أن قطعنا هذه المرحلة من نضالنا الطويل: الا نرفض التعلم من أعدائنا اذا كان هناك ما يجب ان نتعلمه.. فيجب أن نتذكر شيئا له مغزاه'.
ان الحركة الصهيونية قد اعتمدت اعتمادا جوهريا علي الدعوة الادبية والثقافية عموما. فقد ابرز الصهيونيون ابرازا لا حد له: موقف هتلر من الكتاب اليهود والفنانين اليهود.. لقد ابرزوا علي سبيل المثال ما فعله بمؤلفات 'كافكا' حيث احرقها ومنع قراءتها وتداولها، وابرزوا ما فعله بكتابات توماس مان وستيفان زفايج وغيرهما من الكتاب والفنانين، وكان لهذه المواقف التي اتخذها هتلر دورها المزدوج في اثارة السخط علي موقفه من اليهود وفي اثارة العطف ­ من ناحية أخري ­ علي اليهود.. وما يتبع ذلك من امكانيات استغلال هذا العطف في مختلف الميادين السياسية والاقتصادية.
الي جانب ذلك كله فقد تعود الصهيونيون ان يبرزوا الادب الذي كتب عنهم وعن قضيتهم علي مستوي عالمي، مثلما فعلوا في قصة الخروج 'اكسودس' والتي كتبها 'ليون اوريس'... فقد تحولت هذه القصة الي فيلم مثلته جان ودورد وزوجها بول نيومان. وطبعت منها طبعات عديدة وساعد الصهيونيون علي انتشار ملايين النسخ منها بصورة هائلة في العالم كله، وفعل اليهود ذلك ايضا في رواية 'دافيد الروي' التي كتبها السياسي اليهودي الانجليزي 'دزرائيلي' والذي كان واحدا من ابرز رؤساء الوزارات الانجليز في القرن الماضي.. لقد 'روج' الصهيونيون لهذه النماذج الادبية ترويجا ماديا ومعنويا لا حد لهما.
هذا ما يفعله الصهيونيون بقضيتهم.. انهم يستغلون كل ما يمكن استغلاله، وكل ما يمكن أن يؤثر في الضمير العالمي.. وذلك للدعوة الي قضيتهم.. وليس هناك أي افتعال أو بعد عن حقائق التاريخ عندما تقول: ان الحركة الصهيونية من الناحية السياسية قد سبقتها بوقت طويل حركة أدبية واسعة تدعو اليها وتمهد الطريق أمامها.
هذا هو ما يفعلون بقضيتهم التي لا تقوم علي العدل ولا علي الحق.. فماذا ينبغي علينا ان نفعله نحن أصحاب القضية العادلة والحقيقية؟.. ان من واجبنا الا نترك فرصة سليمة دون استغلال لكسب العالم معنا!
وهذه فرصة لنا ولاشك وليست فرصة لاعدائنا.. أن تضطهد اسرائيل شاعرا موهوبا أصيلا مثل محمود درويش.. ان باستطاعتنا ان نجعل هذا الموقف قضية مشتعلة في أوساط المثقفين.. في شتي انحاء العالم. وذلك بالطبع يقتضي منا ان نبذل جهدا في ترجمة قصائد هذا الشاعر الموهوب، وهي قصائد ذات مذاق انساني يمكن أن يحس بها الناس في أي مكان: وهذه المهمة يجب أن يتبناها الاستاذ يوسف السباعي عن طريق مؤتمر كتاب آسيا وأفريقيا.. عن طريق هذا المؤتمر يجب أن تتم ترجمة قصائد محمود درويش الي مختلف اللغات ونشرها في شتي انحاء العالم، خاصة ان هذا المؤتمر له فروعه في آسيا وأفريقيا وله اتصالاته العالمية الواسعة التي يمكن عن طريقها ان تتحول قضية محمود درويش.. الي قضية تهز ضمير المثقفين في العالم كله.
علي أن من الضروري أن يسبق هذا العمل محاولة لنشر أشعار محمود درويش بين المواطنين العرب.. فليس في الوطن العربي سوي نسخة أو اثنتين من هذا الديوان تسللتا من داخل اسرائيل حيث طبعتا هناك ثم صودرتا بعد الطبع بأيام.. وفي ميدان نشر شعر محمود درويش يمكن لوزارة الثقافة ان تقوم بدورها في تقديم اشعاره للمواطنين العرب.
ومن الممكن أيضا أن تساهم منظمة تحرير فلسطين في تبني هذه القضية والمساعدة علي نشرها ­ عن طريق مكاتبها المختلفة في العالم كله.
المهم.. ان نأخذ القضية بصورة جادة... وأن تعتبرها قضية ساخنة.. والا تكون هذه السطور التي كتبتها عند الذين يقتنعون بها في مؤتمر كتاب افريقيا وآسيا.. أو في منظمة فلسطين.. مجرد سطور في الهواء!
لان من أبأس عيوبنا ان نتحمس بسرعة ثم ينطفيء الحماس.. ويتحول الي أمان وذكريات، وكلمات في الهواء، وتضيع كل هذه القضايا البسيطة الواضحة التي يمكننا من خلالها ­ رغم بساطتها ­ ان تصل الي ضمير الدنيا كلها.. ونؤثر في هذا الضمير.. من خلال قصيدة جميلة.. أو لوحة.. أو قضية شاعر سجين مثل محمود درويش.
والقضايا الكبري لا تكسبها معارك الحرب فقط.. وانما تكسبها معارك السلام أيضا... وربما قبل معارك الحرب.
مجلة 'المصور' 22 ديسمبر 1967

******

أنقذونا من هذا الحب القاسي

محمود درويش

(ننشر هنا أشهر مقالات محمود درويش الذي يستشهد به النقاد دائما، وقد انتبه فيه مبكرا إلي خطورة اتكاء الشاعر علي قضية، وإصراره علي الاهتمام بالفن، وقد نشر المقال في مجلة 'الطليعة' عام .1968)

قد يبدو هذا الحديث نشازا في جو الانسجام البارز بين حركتنا الأدبية هنا وبين الكتٌاب الذين أولوها جل ما لديهم من إمكانيات ووسائل النشر والتعميم علي مساحة الأرض العربية الواسعة. لقد كان من حق حركتنا الأدبية، بما تمثله من صراع ناسها مع واقعهم الخشن، أن تفرح وتعتز بالمكانة الطيبة التي احتلتها في مسيرة الأدب العربي العامة، وكان من المقدر لهذا الاهتمام المشرف بشعرنا خاصة، أن يزود شعراءنا بقوة جديدة من دوافع السعي نحو الإبداع، وأن يحملهم مزيدا من المسئولية والاجتهاد الدائمين لتحقيق إنجازات أدبية أكبر، فإن المراقبة الإيجابية لأعمالهم، بهذا القدر من التقدير، لا تحتاج إلي كثير جهد للإشارة إلي الدور الذي بوسعهم تأديته في حركة الأدب العربية.
ولعلنا في غني، الآن، عن تسجيل مجموعة المدلولات الثمينة لما يشبه التهافت علي هذا الشعر في المجلات والصحف وأدوات الإعلام في العالم العربي، ولكننا لن نمل تكرار القول أن طرف الخيط في هذه المسألة هو الاندماج أو الالتحام التام بين الكاتب وواقعه. لم يكن أدبنا خارق الموهبة حين عرف كيف يختار مكانه في حركة الصراع. إن المواجهة الحادة واليومية كانت أعنف من أن تتيح لنا فرصة الوقوف طويلا أمام أبواب المدارس الفكرية المختلفة. ولعل هذه الخاصة، بما تفرع عنها من جوانب، هي اللافتة التي استوقفت المراقبين في العالم العربي فعندما كان قسم كبير من إخواننا الكتٌاب خلف حدود بلادنا يعطفون علي القضية الفلسطينية ويتضامنون مع ضحاياها كان القسم الأكبر من كتابنا يعيشها ويذوب فيها، وحين حلت نكبة حزيران وشاعت عدوي الإحساس بالمأساة ثم سقط طرفا حبل كان يلوح علي مساحة معينة من الفكر العربي هما: الطبل.. والتمارض العصري، ثم اقتحمت ضرورة مواجهة الحقيقة شجاعة كل مواطن، وصارت المجابهة والصراع قدرا، وانهارت قيم سياسية وأخلاقية كثيرة. عندها ارتدي الاهتمام بما يكتب لدينا من شعر وقصة طابعا جديدا يمتاز بأكثر من حب، أضفي علي الكثيرين من النقاد والكتاب ميزات العاشق القديم الذي لا يري في الحبيبة إلا ما يبرر العبادة. وقد نتجت عن ذلك أشكال من سوء التفاهم تحرضنا علي هذا الحديث الذي قد يبدو نشازا في جو الحب العميق. ولكن لا يجوز لنا ونحن نقف في دائرة هذا الاهتمام، الاستمرار في تلقي مظاهر كل هذا الحب دون أن نقول: شكرا، أولا.. وأن نعترف بصراحة العاشق المصري، بأننا لسنا أهلا للتقديس في زمان لا يجوز فيه التقديس كما لا يجوز فيه اليقين المطلق.
إن أخطر ظاهرة تستوقفنا في هذا السياق، هي أن وتيرة الحب قد أوصلت بعض المراقبين الأدبيين في العالم العربي إلي محاولة وضع شعرائنا ليس في مكان أوسع منهم فقط، وإنما إلي محاولة وضعهم علي امتداد مساحة الشعر العربي المعاصر بحيث يغطونها كلها. إن ما في هذه المحاولة من خطورة يتعدي حدود المبالغة الفنية والتنكر، غير المسئول للواقع إلي الاعتداء علي حركة تاريخ. ولا يغفر لهذا الموقف كونه ناشئا عن نية طيبة وحماس حقيقي، وعطف عميق علي ظروف الحركة الشعرية في بلادنا، ولعل جذور الخطأ الذي أوصل إلي مثل هذا التطرف في معاملة شعرنا هي إسقاط انتماء هذا الشعر، إلي حركة الشعر العربي العامة في ماضيها وحاضرها، وتسليم أصحاب المبالغة والتطرف بالاعتقاد أن هذا الشعر بمثابة صاعقة انفجرت فجأة. ان شعرنا غير منقطع أبدا عن حركة الشعر في البلاد العربية، وإن كان غير مواكب لها مواكبة يومية.. وشعرنا ليس ندا أو بديلا للشعر العربي المعاصر.. إنه جزء غير متجزئ منه ورافدا من روافد النهر الكبير. لقد تربينا علي أيدي الشعراء العرب القدامي والمعاصرين، وحاولنا اللحاق بأسلوب الشعر الحديث بعدما تعرفنا علي رواد هذا الشعر في العراق ومصر ولبنان وسوريا. ونحن لا يمكن إلا أن نعتبر أنفسنا تلامذة لأولئك الشعراء.
ولا يصعب علي الناقد، حتي الآن العثور علي بصمات هؤلاء الشعراء علي أكثرية إنتاجنا، ولكن المسألة كما نراها، ليست صعوبة الرؤية لدي الناقد، وإنما هي أن الناقد لايزال مشغولا بالفرح الذي يملأه نتيجة اكتشافه هذا الشعر دفعة واحدة، ولايزال العطف علي الشباب الذين يكتبون هذا الشعر، في ظروفهم السياسية الخاصة، هو المعيار الأول في عملية نقد شعرنا. وقد يكون لهذا الدافع ما يبرره في فترة ما، ولكن امتداد هذه الفترة محاطا بالمحاذير التي تخلق نتائج ضارة قد تتطور إلي ما يشبه الخداع.. خداع القراء العرب، وخداع شعرائنا أنفسهم الذين يواجه بعضهم خطر الإحساس بالكمال. لذلك، فإن الضرورة تلح علي وضع حركة الشعر في بلادنا في مكانها الصحيح. والضرورة تلح، بادئ ذي بدء علي معاملة هذا الشعر علي أنه شعر، بالتخفيف من تسليط الضوء علي شخصيات الشباب الذين يكتبونه. ولا نعني بذلك إسقاط الرابطة بين النماذج الشعرية وبين الظروف التي فرزتها أو التي جرت فيها عملية خلق هذه النماذج، وإنما نعني أنه آن الأوان لإجراء عملية موازنة، بالتأكيد علي استخدام المعايير الفنية لا السياسية وحدها. فإن الموضوع المطروح علي بساط البحث، في آخر المطاف، هو الشعر لا الإخلاص، ولا النوايا الطيبة. ثم، ان الزاوية السياسية في هذا المجال تفتقر إلي ضرورة التأكيد علي أن هذا الشعر الثوري لا يعبر عن ثورية أصحابه معزولين عن حركة جماهيرية يعبرون عن صراعها. أي أن هؤلاء الشعراء ليسوا مجموعة من أشجار النخيل النابتة في صحراء قاحلة. إن كونهم شعراء يملكون أصواتا مسموعة لا ينبغي أن يخلق الانطباع بوحدانيتهم وبانقطاع انتمائهم إلي جماهير تملك ماضيا وحاضرا ثوريين. إنهم أبناء هذه الجماهير وهي التي ربتهم وأعطتهم الجذور.
ومن حقنا أن نري أن دورة الالتباس، فيما يتعلق بمكانة حركتنا الشعرية من حركة الشعر العربي العامة، تبدأ من انشغال المواطن العربي، بكل حواسه، بالقضية الفلسطينية، وبالنزاع الإسرائيلي­ العربي. فقد كان من نتائج حرب حزيران أن مشاغل المواطن العربي كلها، باستثناء ما يتعلق بمعركة تحرير الأرض، قد وضعت في الظل وفي مرتبة دنيا من الاهتمام. وقد انعكس ذلك علي معاملة المواطن للأدب أيضا، ولأن شعرنا صادر من لحم القضية الفلسطينية، فقد حظي بالقدر الأكبر من الاهتمام، ودفع حتي بعض الكتٌاب والنقاد إلي إجراء عملية مفاضلة بينه وبين مجموع الشعر العربي المعاصر، إن الخطأ يكمن في مجرد إجراء عملية المفاضلة، فليس من الضروري ولا ينبغي أن تكون القضية الفلسطينية، منذ نشأتها حتي حزيران، هي المحور الأوحد الذي يدور حوله كل الأدب العربي المعاصر. وإلا، فإننا نصاب بأقصي أشكال ضيق النظر، ونعتبر أن كل التطورات السياسية والاجتماعية في العالم العربي منذ ما يزيد علي عشرين سنة، غير جديرة بتعامل الأديب معها، أو نعتبرها ضربا من ضروب الكماليات لمجرد عدم التصاقها المباشر بقضية فلسطين. لعلنا لا نختلف علي اعتبار هذا الموقف تنكرا لمسيرة التاريخ العربي. ومن هنا لا يمكن تقييم أعمال الشعراء العرب بميزان مدي تفاعلهم مع قضية فلسطين، كما أن أحدا لم يجر مثل هذه المحاسبة مع الشعراء العرب في مدي إشادتهم بالثورة الجزائرية مثلا أو التحولات الاجتماعية العميقة في الجمهورية العربية المتحدة وغيرها. وإذا لم يكن مفر من إجراء عملية المفاضلة أو المقارنة­ وذلك أصح­ فلا يجوز ذلك إلا إذا حصرنا الأمر في إطار الشعر المتعلق بالقضية الفلسطينية. وهنا نعثر علي الحلقة المفقودة في سلسلة المناقشات. عندها، قد يكون من الجائز­ إلي حد ما­ القول إن الشعر العربي الذي يكتب في إسرائيل، بشكل عام أقرب إلي صدق التجربة والأصالة من غيره في تصويره صراع الإنسان الفلسطيني. وكلمة 'الصدق' لا غيرها هي الجديرة بتركيز الانتباه حولها في سياق المقارنة التي تمتد إلي ميزات أخري لهذا الشعر يفتقر إليها شعر القضية الفلسطينية الآخر. وإلحاحنا علي عنصر 'الصدق' هنا جاء ليعبر عن تحفظ فني، فالصدق­ كما نعرف­ ينتمي إلي مجموعة الصفات الخلقية الحميدة، لكنه وإن كان شرطا من شروط الأدب الإنساني، ليس ضمانا لنجاح العملية الفنية، ولا يمكن أن يكون وحده، معيارا للنقد الأدبي. وإذا كان من الجائز تسجيل ملاحظة هامشية في مجري حديثنا عن ميزة الصدق في حركتنا الشعرية، فإننا لا نظلم أحدا إذا لاحظنا أن المبالغة في تقدير شعرنا قد أدت إلي أن يقوم بعض شعرائنا الناشئين بعملية تصميم قصائدهم وفقا لمقاييس غريبة عن الصدق، وكأنهم يستوحون قصائدهم من تصورهم لكيفية استقبال تلك الإذاعة لها!
وملخص القول إنه آن الأوان لأن توضع حركتنا الشعرية في مكانها الصحيح، بصفتها جزءا صغيرا من حركة الشعر العربي المعاصر عامة، وذلك يستدعي تخلص الناقد العربي من الخضوع التام لدوافع العطف السياسي، وحدها، علي أصحاب هذه الحركة، فلا يكفي هذا الشعر أن يكتب في إسرائيل. إن وضع الحركة في مكانها الصحيح هو خير طريقة لنموها وتطورها لارتياد آفاق أوسع، خاصة إذا تذكرنا دائما أنها مازالت في المراحل الأولي من الطريق الطويل.
تبقي جوانب أخري معاكسة للمبالغة في التقدير، وأمور أخري تتعلق ببعض التفاصيل قد نتناولها في مرة قادمة.

*****

والدة محمود درويش:
رجوته ألا يجري تلك العملية

نظير مجلي

'رجوته ألا يجري تلك العملية اللعينة. هو أيضا لم يكن يريد هذه العملية. أنا أعرف. أحسست بذلك عندما أخبرني. لم أرتح من تصرفه يومها. فقلت له لا تجرها. رجوته وأمسكت به لمنعه من ترك البيت، لكنه قال انها ضرورية.. وراح.. يا ولدي عليك يا محمود.. راح قبلي.. راح وتركني..'، هذه بعض كلمات أم أحمد، والدة الشاعر العربي الكبير محمود درويش، التي كان لها أقوي حضور في شعره وحياته، وبفضله تحولت الي إحدي أشهر الأمهات في العالم. عمرها تجاوز الثانية والتسعين، ولكنها نشاطها الحميم وقوة ارادتها واصرارها علي أن تخدم نفسها بنفسها، جعلها تبدو في المعتاد أصغر من سنها بكثير. وأما في صباح يوم أمس، بعد أن تجرأوا وأخبروها بأن محمود قد فارق الحياة، فقد انهارت وفقدت في لحظات قليلة عشرات السنين من عمرها. بدت هرمة عاجزة، غارقة في ألم لا يعرف الحدود. وبقدر ما استطاعت أن تستجمع من قوتها، قالت لنا بعض الكلمات عن لقائها الأخير مع محمود، الذي جري قبل أسبوعين. ونترك لها الحديث بلغتها العامية البسيطة: 'أجا كالعادة بسرعة وراح بسرعة. فات غرفتي وباس (قبٌل) يدي ورأسي وحضنني بقوة، وقال انه راح يعمل عملية بيقول الأطباء انها صعبة.. قال انها أصعب من العملتين اللي قبلها.. حسيت انه ما بدو اياها. خايف يا لوعتي منها. قلت له يا ابني لا تعملها. قال لي انها ضرورية. قلت له لا تعملها. ترجيته انه لا يعملها.. ما ردش علي.. قال انها ضرورية.. هاي هي العملية الضرورية الملعونة جابت موته، جابت موته قبلي.. يا حسرتي.. .
وتروي شقيقته سهام، التي كانت قريبة منه بشكل خاص، ان محمود كان في حالة غير عادية في تلك الزيارة. هو كالعادة جاء بسرعة وبسرية، ولكنه لم يتصرف بشكل عادي: 'في المعتاد يصافحنا جميعا يقبلنا ويحضننا فردا فردا، وينظر في عيوننا، ولكنه هذه المرة وبعد أن عانق والدتي وراحت تحثه ألا يجري العملية، لم يصمد. هرب من عيوننا، كأنه لا يريدنا أن نقرأ في عينيه ذلك الألم، وما يرافقه من دموع. ابتعد عنا وهو يلوح بيده وغادر.. لم يحتضن أحدا سوي الوالدة وغادر.. ونحن لم نعتب عليه. تفهمنا تصرفه وكان عندنا أمل بأن يعود الينا سليما معافي.. .
كانت والدة محمود درويش محاطة بعشرات النساء من الأقارب والجيران الأصدقاء، بل الغرباء ممن يحملن الهم الواحد، ولم تنقطع عن البكاء. فهو ذو مكانة مميزة عندها، وهي تعرف أنها كانت ذات مكانة مميزة عنده. منذ مطلع شبابه، عندما بدأ مقارعة الحكم العسكري الاسرائيلي وحياة التشرد بعيدا عن البيت، وهو يحتل ذهنها وتفكيرها ووجدانها، قلقة عليه دائما ومشتاقة له أبدا. سنوات طويلة فرقت بينهما، فكان الحسرة الكبري والنقص الدائم في حياتها.
وعندما عاد الي بعض الوطن، سنة 1994، بدأت حياتها تتغير وصار النشاط يدب فيها والحيوية ترتسم علي محياها. لكنها لم تستطع تحقيق هدفها في ابقائه بالقرب منها. وهنا أيضا تدخلت يد 'صاحب القرار' وحامل مفتاح الحدود الفاصلة بينهما. فذلك الشاعر الكبير والشخصية العالمية الذي يستطيع الوصول الي كل مكان في العالم، يحتاج الي تصريح من ضابط اسرائيلي ما.. حتي يصل الي حضن أمه. تندب حظها مع هذه الخسارة الفادحة وتتذكر قصص محمود ونوادره.. تبكي وتروي. تلطم وتحكي.. :' كان الصحفيون يجيئون الي من كل مكان ليصوروني وأنا أخبز الأرغفة. مش محمود كان يقول في شعره 'أحن إلي خبز أمي'، كانوا يصورون هذا الخبز. هم يفكروان أنني أخبز لهم لكي يصوروا. والله أنا كنت أخبز لمحمود. بس لمحمود. كنت ألاقيها فرصة لأخبز الأرغفة اللي يحبها محمود. وكل ما كنت أخبز كنت أفكر بمحمود. كأني أخبز الخبز ليأكله. لكن وين يا حسرتي، ما عاد يقدر يأكل من خبز امه .

*****

سيظل حيا في تناغم الطيور

برايتن برايتنباخ

تلقيت للتو النبأ الصادم بأن محمود درويش قد وافته المنية. ومثلما هو الامر بالنسبة للكثيرين، كما يقر في يقيني، فإن الكرب والألم الناجمين عن هذه الخسارة أمر عسير الاحتمال علي نحو وثيق.
وقد حظي البعض منا، منذ عدة أسابيع، بفرصة الاستماع اليه يلقي بقصائده باحدي ساحات مدينة أرل 'بالجنوب الفرنسي'. كانت الشمس قد غابت، وثمة نسيم هاديء يترقرق بين الاشجار، وأصوات أطفال يلعبون تصل الينا من الشوارع المجاورة، جلسنا لساعات علي كراسي حجرية قديمة، وقد دوخنا عمق وجمال هذا الشعر. هل كان هذا الشعر عن فلسطين؟ هل كان عن شعبة الذي جيّقّتٌل، عن السماء القاتمة والعلاقات الحميمية مع هؤلاء الذين يوجدون علي الجانب الآخر من الجدار ،'الجندي' و'الضيف' المنفي والحب، العودة الي ما لم يعد موجودا، ذكريات بساتين الفاكهة، أحلام الحرية...؟ نعم ­ كتيار عميق كانت كل هذه الأمور ماثلة، بطبيعة الحال، كانت تشكل باستمرار قصائده، لكن كانت أيضا ثمة أشجار زيتون وتين وجواد قبالة الأفق وملمس القماش وسر اللون في زهرة وعيون معشوقة وخيال طفل وأيدي جد ، وعن الموت، المكرور بلطف آنا، أو بقسوة، ضمنا، أو بشكل هازيء، أو حتي بشوق ­ الموت، كثيرون منا كانوا مصعوقين، ربما أحسسنا ­ أتذكر ليلي؟ ­ ان الامر كان شبيها بوداع، مثل ذلك؟ علي أرض أجنبية؟ لقد توقف الزمن هناك، كان الرثاء يشبه شعورا بالبهجة في الايقاع الدائم الشباب لشقيقين بلباس أسود يعزفان علي آلاتهما الوترية برفقة الكلمات القادمة إلينا من الأرض والنور الذي يهب علينا من تلك الاراضي البعيدة، راودتنا الرغبة في البكاء، وكانت ثمة حتي ضحك وقد جعله يسيرا علينا ليصير اللقاء احتفاليا. فيما بعد، أذكر ، لم نشأ مغادرة المكان، كان الضوء قد خبا لكننا تباطأنا، كل منا يعانق ويتشبث بالآخر، الغرباء حدقوا كل منهم بعيني الآخر، متلمسين بضع كلمات من أجل تبادل بعض الأفكار، كم صار التحرك أنئذ شيئا أخرقا! اذكر مدي عمق لمسه لنا، وكم كان سخيا وخفيفا، ربما، هل عرف أنه سيرغب في الرحيل بهذه الطريقة،بلا دراما، أو تكلف، أو بيانات غوغائية، ربما بيقين لا يباري.اليأس نعم ­ والضحك أيضا، عزة ومهانة المحارب. وبطريقة ما، دون أن نعرف أو نعي رغبته في اراحتنا. قال انه قد جرد قصائده من كل شيء عدا الشعر. لقد أدرك ربما بعمق أكبر من أي درجة بلغها قبلا المصير العالمي المشترك والحس الانساني. ربما كان يحاول أن يبلغ انه قد آن الوقت ل 'تذكر الموت'.
حين غادرنا في اليوم التالي. حين قلنا وداعا في أوتيل نوردبينو فيما تطل علينا الملصقات الضخمة بالممشي والصور الفوتوغرافية لمصارعي الثيران، نعاني الهشاشة مثل ملائكة في ألفة التجهيز لانسحاب مستتر بالظلام، تلفنا الرائحة العبقة للزنابق في المدخل، لقد أردت تقبيل يديه لكنه رفض.
سيمر الوقت، سيكون ثمة كلمات تأبين وثناء، سيكون 'رسميا'، 'صوت الناس'.. كان يعلم كل ذلك وقد قبله، وأحيانا كان يسخر بلطف من المبالغة والتوقعات المستحيلة. ربما ينسي الغضب، أو حتي يكف الساسة عن محاولة سرقة النور من تركته المعقدة، تساؤلاته وشكوكه، وقد يكف بعض المتهكمون ­ في الخارج أيضا ­ هذه المرة عن اثارة اشمئزازنا بعرض ملؤه دموع التماسيح.
لقد رحل محمود درويش، وانتهي المنفي، ولن يعيش حتي يري نهاية لمعاناة شعبه ­ الأمهات والأبناء والأطفال الذين يجهلون سبب ضرورة مجيئهم للعالم في قلب هذا الرعب، والقسوة المتعسفة التي تشكل لحظاتهم الأخيرة، لن يغيب محمود درويش أبدا. لن تغيب الصورة الظلية للملابس الأنيقة التي عفا عليها الزمن والأحذية المصقولة، لن تغيب عيناه اللتان تلمعان ببريق الذكاء خلف العدسات السميكة، لن تغيب المضايقة، الفضول للعالم في حميمية ادراكه للمقربين منه، ولا التحليلات الحادة لنقاط الضعف وحماقة الساسة، ولا انسانيته أو ابتعاده عن الخمور واقباله علي التدخين بشراهة، لن يغيب كرم ضيافته الذي يمنعه من فرض آلامه عليك، ولا الصوت الذي يتكلم من مساحات متجددة الشباب من الشعر، ولا القصائد، ولا كلماته التي صنعت حبا لكل زمان.
لقد أردت فحسب الوصول لكم، بعضكم، أعرف ذلك، لابد انه يبكي كما افعل الآن، البعض منكم لم يلقاه ابدا، لكن بالتأكيد، كان بالنسبة لنا جميعا مرجعية، ربما سنتوقف في مكان ما لاننا سمعنا رفرفة فوق رؤوسنا، وسنتشبث بيد حامية لعيوننا المبهورة فيما نفتش السماء.
سيظل حيا بالنسبة لي في هذا التناغم الذي تصنعه الطيور، لقد اخبرته في آرل برغبتي في ان اقترح علي رفاقي من الشعراء بانه يجب علي كل منا، اعلان أنفسنا 'فلسطينيون فخريون' حاول يومها أن يضحك مخفيا حرجه المعتاد من شقيق. وفي الحقيقة، يالسقم محاولاتنا لفهم ومقاربة الضرورة التي لا عزاء لها! لن نتمكن من الموت أو الكتابة في مكان شعبه، في مكان محمود درويش. لكن لايزال، علي نحو ما اشارة ولو بسيطة، حاجتي لمحاولة القول بمدي الفخر الذي اشعر به لمعرفتي هذا الرجل ولو قليلا وكم كان شعره مميزا ومدموغا بالموهبة، ورجائي الاحتفاء بعزة وجمال حياته عبر تقاسم هذه اللحظة سريعة الزوال معكم.

*******

أصابعه نايات وموته قيامة

خيري منصور

اذا كان النحات يتردد في دس أصابعه في الصلصال وجو ساخن، فالأولي بهذا الإحتراز هي جمرة الدم، فالشاعر محمود درويش لم يمت بعد بما يكفي لوداعه، وفق طقوس الثقافة العربية التي طالما سخر منها، واذكر أنه قال لي بعد صدور كتابه النثري الذي ودع فيه عددا من اصدقائه الراحلين بأن مديونية الرثاء قد يضاف إليها الربا، في واقع تحول إلي حفلة تنكرية، وصارت اللغة فيه أداة لتعميق التواطؤ والصمت!
افتتح محمود في حماية هشاشات عدة منها هشاشة الشعر الذي يتعكز علي قضية عادلة، ثم يتحول احتجاجه لها إلي احتجاج ضدهما!
وهو في موته منذ الساعة الأولي التي لم تنسدل فيها رموشه تماما افتضح هشاشة الثقافة والصحافة وتعامل الورثة مع التركات، خصوصا في مجتمعات تطورت فيها جرائم قتل الآباء لتصبح جرائم ابادية للأبناء والأحفاد وكل ذوي القربي!
الكتابة عن محمود شاعرا لها مقام آخر والتعادي معه صديقا وانسانا وتوأما لابد أن يمضي عليه بعض الوقت كي تفرغ العيون مما احتشد فيها من بكاء.
ما أصعب أن يكون المبدع الذي تلوذ بنصوصه إلي أقاصي الوحشة صديقا تطرق بابه كلما اوشكت العزلة أن تقضم روحك، لهذا فالفقدان مزدوج، والحنين إلي من ذهبوا عميقا وبعيدا وخبأتهم الغيوم تنوء به حتي الجبال.
كان علامة فارقة بالشعر والحياة: رقيقا وجارحا، مقبل علي الحياة بشروطه لهذا لم يطق جهاز التنفس الصناعي دقيقة واحدة، لأنه لم يمت عندما مات تماما مثلما كتب إلي وداع ماجد عندما ابتلعه الذئب في روما:

ياقلب من حسٌّبك
فرسا من الياقوت
ياليت لي قلبك
لأموت حين أموت،

ان لمحمود درويش الآن لحاجة إلي من يعينه علي صد غزاة الإختزال، وهواة المراثي السريعة التي تليق بكل موت الا هذا الموت، لأنه مشحون بقيامة عاجلة وليست آجلة.
صوته ذو البحة البنفسجية لايزال يملأ الأذن والقلب، وسخريته البريئة تجعل ما هو عسير علي الهضم أشبه بالسكر الذائب في فنجان شاي.
سيمضي وقت لا أحزر الآن مداه كي أتأكد بأنه لن يرد علي الهاتف ولن يفتح الباب بقامة مسرحية تزدوج بي المرأة الشامية التي تتصدر مدخل البيت الذي اشم فيه رائحة الاطفال رغم عدم وجودهم، وتصبح الاقامة محتملة ولو لبضع ساعات في هذا الزمن الثقيل.. هو أغنية، وليست هي! لهذا لاحاجة لأصابع ثقبتها الريح إلي ناي.
قد يبدو هذا الإنحياز تحت ضغط المناسبة، لكنه ابعد من ذلك، فآخر ما قلته لمحمود قبيل صعود الطائرة من عمان إلي هيوستن.
حاول أن لاتموت.. وقبيل بدء امسيته في حيفا التي أثارت زلزالا في 'كشتبان' وليس في فنجان، تبادلنا عبارتين هما أعز من أن أبوح بهما..
سأفتقدك في مساءت المدينة الباردة وسيملأ صمتك الظهيرات القائظة ما أجملك وما أقساك، وما أشد ثقتك بالحياة لأنك جعلت من الموت خادما لها، أعرف أن قهوتك سوف تبرد ذات خميس وأن النافذة الشمالية لن تخلع ستارتها الزرقاء..
قبل أشهر قليلة بدل محمود ألوان الاثاث في شقته، بألوان زاهية كما لو كان يستعد لزفاف قادم، وحين اطلق اسمه علي ميدان في رام الله وحمل طابع بريد فلسطيني صورته وكانت البشائر قد بدأت تتحول إلي نذر، واذا بالغسق هو الشفق، لكن ما فاض من شهوة الحياة حذف الفارق بينهما.
قد يكون تكرار القول بأن درويش الآن قد تفرغ تماما لاستكمال نشيده الخاص فخلع حتي جسده، ونادم جذور السنديان وصار ماء في الماء، وخضرة في عشب الربيع القادم، ووميضا في رماد هذه الحقبة السوداء!
كما كان بعيدا عن قبره وهو مجسجي علي سرير في هيوستن، وكم كان كما قال خجولا من دمع أمه، لكن العين التي بكته وسوف تبكيه لايحصيها حاسوب التلفاز الأعمي أو هواة تبادل الهجاء عبر شبكة الانترنت التي اوشكت ان تتحول إلي أنتربول، كتب محمود يوما عن موعد الأرض مع فتي يجترح الوطن في عقر المنفي ليرتق ثوب الأبدية، وقد تلده صخرة بعد مخاض سرت قشعريرته إلي الأرض كلها وقد تحبل به زيتونة أصبحت أرملة في العشرين من عمرها!
اهلا بك عائدا من كل الجهات فلا الوداع ولا الحداد يليقان بغياب السطع من أي حضور وبموت تحول رغم أنف جبروته وطغيانه إلي قابلة!

******

استعادة الطفولة وحكمة الأمل

خالد مطاوع

لست ممن يخافون علي مستقبل الشعر، أو حتي علي مستوي الشعر الذي سيأتي. لقد عرفت دائما أن الجديد عادة مزعج ولهذا خطير ولهذا أيضا ضروري. ولكن الآن وهنا نتعامل مع شيء مختلف. نحن نشاهد وسطنا الثقافي يغرق مع الشعر الذي هو أحد الأحجار المربوطة بجسد الثقافة مما يؤكد سقوطها الداخلي.
درويش كان مزجا عبقريٌا بين الشعبية والشعريةالرفيعة. بعد أن أصبح رمزا أو أسطورة بدأ يشكو أن شعره الأخير لم يلق الاعجاب الكبير حتي من هؤلاء الذين يعرفون الشعر. ربما بدا أن درويش في الماضي كان يمتلك موقعا سحريا سمح له أن يكتب القصائد التي يتلقاها المثقفون والقراء العاديون علي السواء بدهشة وإعجاب.
بعد ذلك انكشف هذا السحر أمامنا وكأنه قدرات عظيمة في الكيميائية. في أعماله المتأخرة ظل أفضل من معظمنا حتي وهو قد تغير ليصبح واحدا منا في عمله علي الكلمة، وصراعه مع الشعر. ولكن كان عنده تميز لم يكن عند أحدي آخر في هذا القرن العربي: عندما كان الساحرالقادر علي كل شيء، استطاع أن يمنحنا الأنا التي رفعت أرواحنا وفتحت آفاقا جديدة.
وعندما حاول أن يستعيد أناه الخاصة به من الأنا التي منحها لنا، استطاع مرة ثانية أن يساعدنا علي أن نشكل نفوسنا من خراب ثقافتنا الجمعية وفشلنا السياسي. لغة اليوم تحوٌلنا إلي أجداد، ضعفاء، انتقاميين، ومأخوذين بالحنين، بينما درويش نجح في استعادة طفولتنا وحكمة الأمل. نحن ننتهي كثقافة وكأفراد إذا توقفنا عن الاحتياج لشعره. وأنا أقصد كل شعره.

*****

رحيل الدرويش

محمد سليمان

هناك مبدعون نستطيع حذف بعض أو كل ابداعهم دون أن تهتز الحركة الابداعية أو تتأثر بغيابهم هؤلاء هم عشب الأرض، وجودهم يعمل فقط علي نشر الخضرة ومنح البستان بعض ملامحه وهويته، في المقابل هناك مبدعون آخرون اذا حذفت بعض أو كل ابداعهم اهتز كل شيء وتجسد الفراغ والخراب .. هؤلاء هم الأشجار ومحمود درويش واحد منهم لا نستطيع مهما اختلفنا معه أن نحذف ابداعه الشعري زاعمين أن هذا الحذف لن يزلزل شعر جيل الستينات ولن يهز مجمل ابداعنا الشعري في نصف القرن الأخير .
قبل أربعة عقود بدأت نجومية محمود درويش بعد ظهور كتاب رجاء النقاش شعراء الأرض المحتلة وصعود قصيدة المقاومة والاحتفاء بها لمواجهة انكسار ما بعد يونيو 1967 وقد كان هناك برنامج إذاعي أغنيات الدم .. والسلام يقدم هذه القصيدة يوميا ويروج لها وقد قدم لنا في ذلك الوقت قصائد درويش والقاسم وفدوي طوقان وتوفيق زياد وغيرهم وكان درويش بسبب موهبته هو الأقرب الي القلب والأمهر والأذكي والأقدر علي الصعود والفوز بمكان ومكانة الشاعر الكبير.
تختلف قصيدة المقاومة التي ساهم درويش في تأسيسها وتكريسها عن قصيدة الهجاء السياسي التي راجت في أواخر الستينات وأوائل السبعينات والتي راحت تسخر من النظم والحكام والجيوش بينما انشغلت قصيدة المقاومة بالتشبث بالأرض والتاريخ والذاكرة والتراث الشعبي الفلسطيني لمقاومة المحو والابادة ومحاولات طمس الهوية ..
في البال أغنيه
يا أخت عن بلدي
نامي لأحفرها وشما علي جسدي
بعد ديوانه الأول أوراق الزيتون صدر لدرويش أكثر من عشرين مجموعة شعرية والمتابع لرحلته الابداعية التي أثْرتْ الشعر العربي وساهمت في تجديده سيلاحظ تحولات الشاعر وتمرده علي ذاته ونصه الشعري وسعيه الي التجريب وتجديد ادواته ومفاهيمه خاصة بعد اتساع تجربته وتراكم خبراته وثقافاته وانشغاله بالهم الوجودي والانساني ومن ثم تراجعت سطوة المباشرة والخطابية وجماليات الالقاء والإنشاد
سجٌل أنا عربي/أنا اسم بلا لقب.. وبروز الاهتمام بالقيمة الفنية وبقضايا التجريب ومن ثم ظهرت مع ديوانه محاولة رقم 7 شعرية جديدة والقصائد المعتمدة علي الأساطير والقصائد الملحمية ثم في النهاية قصيدة الومضة المتكئة علي التأمل وانقلب الشاعر علي درويش الأول الذي كان يخشي بجعبع الغموض ويضع لنفسه ولغيره من الشعراء قواعد صارمة ومجلزمة قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت اذا لم تحمل المصباح من بيت الي بيت
وإن لم يفهم البسطا معانيها
فأولي أن نجذريها
ونخلد نحن للصمت
وقد دفع هذا الانقلاب بعض النقاد للهجوم عليه واتهامه بمجاراة الشعراء الجدد والتنكر لقصيدة المقاومة وللغته وتقنياته وقضاياه الأساسية وقد أشار درويش الي هذا الهجوم في بعض قصائده
يغتالني النقادج أحيانا
يريدون القصيدة ذاتها
والاستعارة ذاتها
فاذا مشيت علي طريقي جانبي شاردا
قالوا لقد خان الطريق
النجومية عبء كبير علي المبدعين خاصة في العالم العربي الذي لا يعترف للمبدع بحقه في الاختلاف والاستقلال وممارسة حريته والذي تسعي نجظمه وحجكامه دائما الي تأميم المبدع أو مصادرته أو طرده الي المنافي ودرويش كان نجما لامعا وكبيرا وكان عليه أن يواجه الجميع الشعراء والنقاد والحكام والحكومات وأن يحتمي بالمنافي ويعايش ذلك الاغتراب الهائل الذي يطل علينا من قصائده ..
يرنو ان أعلي فيبصر نجمة ترنو إليه يرنو إن الوادي
فيبصر قبرهج يرنو اليه
يرنو الي امرأة تعذبه وتجعجبهج
ولا ترنو اليه
يرنو الي مرآته فيري غريبا مثله
يرنو اليه
ذاب درويش في الشعر واتخذه وطنا وغاية وهجوية فأحبه الشعر ومنحه بعض أسراره وأكبر جائزة يحصل عليها الشاعر وهي التفاف الناس حول قصيدته وتقديرهم لموهبته.

******

نمت الأجنحة ليطير الشاعر منتصرا علي موته

سعدية مفرح

بخوضه لتجربة الموت أخيرا سيعرف محمود درويش الحقيقة التي ظل طوال عمره يبحث عنها في ثنايا قصيدته المفعمة بالأسئلة الوجودية قبل أن تكون الهوية الأجمل لشعب احترف الحياة بقدر استهانته بالموت احتفاء بوطن اسمه فلسطين.
الخبر يقول أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش أسلم الروح في احد مستشفيات هيوستن في ولايات تكساس الاميركية مساء السبت الماضي إثر عملية جراحية لم يتحمل تبعاتها قلبه الذي مل من العمليات الجراحية ولكنه لم يمل من الشعر والنثر والحب والحياة و...أولا وأخيرا فلسطين. لكن فلسطين التي كانت هويته الشعرية والانسانية منذ أن ولد في قرية البروة في قضاء عكا عام 1941 أزهرت شيئا فشيئا وقصيدة بعد قصيدة لتصير وطنا أكبر وهوية أوسع من مجرد جغرافيا محتلة يحاول شاعرها أو يكون شاعرها ، فلم يعد يستهوي درويش، بعد أن تنامت دهشته الشعرية علي حواف العالم كله أن يظل شاعر القضية وحدها، ربما لأن قصيدته اتسعت لتصير وطنا، وربما لأن وطنه/ وطن اتسع ليصير قصيدة وربما لأن الشعر القادر علي هزيمة الموت كما اكتشف درويش، في جداريته الشعرية التي كتبها قبل تسعة أعوام كشاهدة أبدية علي الحياة، احتله ككيان وكإنسان قبل أن يحتله كقضية وطنية وسياسية. بدأ درويش إذن شاعرا للقضية الفلسطينية، حاملا هوية شعب بأكمله في وجه المحتل منذ مجموعته الأولي عصافير بلا أجنحة ، لكن الاجنحة نمت فيما بعد ليطير الشاعر من خلاله محلقا في سماوات الابداع الأكثر اتساعا من عبارة تقول سجل أنا عربي وحسب. ولأن درويش بموهبته الشعرية المتفردة، أدرك متي يخرج من قفص العبارات الجاهزة بجمالياتها الشعبية الصاخبة، فقد صار أهم شاعر عربي في الخمسين عاما الماضية، ليس علي صعيد حجم الموهبة وحسب بل أيضا علي صعيد ما حقق من انجازات شعرية وإبداعية من خلال هذه الموهبة التي لم تلهه عن قضيته الكبري حيث السؤال الوجودي الكامن ما بين الموت والحياة.. والذي حاول استقصاءه في تلك جداريته الفاتنة. والتي قلنا عنها عبر مراجعة منشورة بعيد صدورها ما نصه أن أسئلة كثيرة وإجابات أكثر توحي بها تلك الجدارية الشعرية التي صاغها الشاعر، بعد تجربة قاسية له مع الموت حين يلوح للمرء تلويحته الأولي قبل أن يغادر واعدا بالعودة الأكيدة حتما، في بناء سيمفوني متصاعد يهبط بعد أن يصل لضربة القدر المركزية بشكل تدريجي يناسب مراحل الحياة في تصاعدها وتنازلها التدريجيين، حيث الشعر هو الحلم المتحقق حتما، وهو الخلاص المتحقق حلما:
سأصير يوما شاعرا،
والماء رهن بصيرتي.
يحتفي محمود درويش في جداريته الطويلة بالموت إذن، كمن يريد أن يحتفي بالحياة، ربما لأنه يلج بوابة الموت عبر المزيد من ممارسة الحياة في حدها الأقصي.
يقول في هذه القصيدة مخاطبا موته السادر في غي الانتظار احتيالا، بكبر الكائن البشري تجاه كل ما ومن هو غير بشري، وبكبرياء الشاعر تجاه كل من سواه :
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش علي حجارة معبد هزمتك انتصرت
وأفلت من كمائنك الخلود..
فأصنع بنا، وأصنع بنفسك ما تريد.
ينظر درويش ،إذن ، تلك النظرة الاستعلائية للموت كمن يرثي محاولاته المستمرة منذ أزل الحياة لإنهاء الحياة عنصرا عنصرا وفردا فردا، دون نجاح حقيقي، سوي تلك النجاحات الصغيرة المتراكمة عبر اللحظات الآنية دون غيرها، ومع قلة يمتهنون الهزيمة ويرفعون للموت رايات الاستسلام، فينجح ذلك الموت في ممارسة ذاته عبر الحالة الفردية الخاصة ، فيضم إلي قافلته أسراه من الكائنات البشرية كائنا تلو الآخر، ولكنه يفشل في تحقيق أي نصر أكيد، أي نصر حقيقي، أي نصر جمعي أخير ونهائي. وتظل تلك النظرة المتباهية تجاه الموت هي موت الموت الحقيقي، وهي النقطة الأخيرة، ولعلها الأولي، في المعني المتاح للبشرية وفي الإجابة علي السؤال الكبير:
وماذا بعد ؟
ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكاية؟
ما البداية؟ ما النهاية؟
لم يعد أحد ليخبرنا الحقيقة!! ، وقد انتهت يومها المراجعة دون أن ينتهي شغف درويش بإغواء ذلك السؤال المزدوج الذي لم يعد أحد من الموت ليخبرنا حقيقته... وها هو درويش يقرر أخيرا أن يذهب بنفسه ليعرف الحقيقة ...

***********

معلقة من زماننا

الجدارية

الموت.. سؤال محمود درويش الدائم. سؤاله الذي كبر معه، حد التآخي من 'جدارية' فصاعدا حتي 'لاعب النرد' وقد اخترنا أن ننشر الجدارية في هذا العدد، لأن محمود أحبها كما لم يحب ديوانا من قبل، وقال في أحد حواراته مع أخبار الأدب أنه كتب معلقته، ويشعر بعدها بفراغ الموت، لكنه راوغ صديقه اللدود سنوات أخري، وكتب 'في حضرة الغياب' 'سرير الغريبة' و'حالة حصار' و 'كزهر اللوز أو أبعد' و'أثر الفراشة'.. وكلها آثار خالدة، لكننا اعتبرنا شهادته للجدارية بمثابة وصية.

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في الممرٌِ اللولبيٌِ“
أري السماء هناك في متناولِ الأيدي .
ويحملني جناح حمامةي بيضاء صوْب
طفولةي أخري . ولم أحلمْ بأني
كنت أحلم . كلٌ شيءي واقعيٌ . كنْت
أعلم أنني ألْقي بنفسي جانبا“
وأطير . سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخيرِ .

وكلٌ شيء أبيض ،
البحر المعلٌق فوق سقف غمامةي
بيضاء . والٌلا شيء أبيض في
سماء المطْلق البيضاءِ . كنْت ، ولم
أكنْ . فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبديٌة البيضاء . جئت قبيْل ميعادي
فلم يظْهرْ ملاك واحد ليقول لي :
(( ماذا فعلت ، هناك ، في الدنيا ؟ ))
ولم أسمع هتاف الطيٌِبين ، ولا
أنين الخاطئين ، أنا وحيد في البياض ،
أنا وحيد “

لاشيء يوجِعني علي باب القيامةِ .
لا الزمان ولا العواطف . لا
أحِسٌ بخفٌةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس . لم أجد أحدا لأسأل :
أين (( أيْني )) الآن ؟ أين مدينة
الموتي ، وأين أنا ؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا “ في اللازمان ،
ولا وجود

وكأنني قد متٌ قبل الآن “
أعرف هذه الرؤيا ، وأعرف أنني
أمضي إلي ما لسْت أعرف . ربٌما
ما زلت حيٌا في مكاني ما، وأعرف
ما أريد “
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما فكرة . لا سيْف يحملها
إلي الأرضِ اليبابِ ، ولا كتاب “
كأنٌها مطر علي جبلي تصدٌع من
تفتٌح عشْبةي ،
لا القوٌة انتصرتْ
ولا العدْل الشريد
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما طائرا ، وأسلٌ من عدمي
وجودي . كلٌما احترق الجناحانِ
اقتربت من الحقيقةِ ، وانبعثت من
الرمادِ . أنا حوار الحالمين ، عزفْت
عن جسدي وعن نفسي لأكْمِل
رحلتي الأولي إلي المعني ، فأحْرقني
وغاب . أنا الغياب . أنا السماويٌ
الطريد .
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما كرمة ،
فلْيعْتصِرني الصيف منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون علي
ثريٌات المكان السكٌريٌِ !
أنا الرسالة والرسول
أنا العناوين الصغيرة والبريد
سأصير يوما ما أريد

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في ممرٌِ بياضها .
هذا هو اسمك ، فاحفظِ اسْمك جيٌِدا !
لا تختلفْ معه علي حرْفي
ولا تعْبأْ براياتِ القبائلِ ،
كنْ صديقا لاسمك الأفقِيٌِ
جرٌِبْه مع الأحياء والموتي
ودرٌِبْه علي النطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبْه علي إحدي صخور الكهف ،
يااسمي : سوف تكبر حين أكبر
سوف تحمِلني وأحملك
الغريب أخ الغريب
سنأخذ الأنثي بحرف العِلٌة المنذور للنايات
يا اسمي: أين نحن الآن ؟
قل : ما الآن ، ما الغد ؟
ما الزمان وما المكان
وما القديم وما الجديد ؟
سنكون يوما ما نريد

لا الرحلة ابتدأتْ ، ولا الدرب انتهي
لم يبْلغِ الحكماء غربتهمْ
كما لم يبْلغ الغرباء حكمتهمْ
ولم نعرف من الأزهار غير شقائقِ النعمانِ ،
فلنذهب إلي أعلي الجداريات :
أرض قصيدتي خضراء ، عالية ،
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد
أنا البعيد

في كلٌِ ريحي تعْبث امرأة بشاعرها
­ خذِ الجهة التي أهديتني
الجهة التي انكسرتْ ،
وهاتِ أنوثتي ،
لم يبْق لي إلاٌ التأمٌل في
تجاعيد البحيْرة . خذْ غدي عنٌِي
وهاتِ الأمس ، واتركنا معا
لا شيء ، بعدك ، سوف يرحل
أو يعود

­ وخذي القصيدة إن أردتِ
فليس لي فيها سواكِ
خذي (( أنا )) كِ . سأكْمل المنفي
بما تركتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ .
فأيٌنا منا (( أنا )) لأكون آخرها ؟
ستسقط نجمة بين الكتابة والكلامِ
وتنْشر الذكري خواطرها : ولِدْنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصبٌار . كان الموت أبطأ .
كان أوْضح . كان هدْنة عابرين
علي مصبٌِ النهر . أما الآن ،
فالزرٌ الإلكترونيٌ يعمل وحْده . لا
قاتل يصْغي إلي قتلي . ولا يتلو
وصيٌته شهيد

من أيٌِ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسم جرْحِكِ أعرفِ
الطرق التي سنضيع فيها مرٌتيْنِ !
وكلٌ نبْضي فيكِ يوجعني ، ويرْجِعني
إلي زمني خرافيٌ . ويوجعني دمي
والملح يوجعني “ ويوجعني الوريد

في الجرٌة المكسورةِ انتحبتْ نساء
الساحل السوريٌ من طول المسافةِ ،
واحترقْن بشمس آب . رأيتهنٌ علي
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعت
صوْت الماء في الفخٌار يبكيهنٌ :
عدْن إلي السحابة يرجعِ الزمن الرغيد

قال الصدي :
لاشيء يرجع غير ماضي الأقوياء
علي مِسلاٌت المدي “ذهبيٌة آثارهمْ
ذهبيٌة ورسائلِ الضعفاءِ للغدِ ،
أعْطِنا خبْز الكفاف ، وحاضرا أقوي .
فليس لنا التقمٌص والحلول ولا الخلود

قال الصدي :
وتعبت من أملي العضال . تعبت
من شرك الجماليٌات : ماذا بعد
بابل؟ كلٌما اتٌضح الطريق إلي
السماء ، وأسْفر المجهول عن هدفي
نهائيٌ تفشٌي النثر في الصلوات ،
وانكسر النشيد

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء عالية “
تطِلٌ عليٌ من بطحاء هاويتي “
غريب أنت في معناك . يكفي أن
تكون هناك ، وحدك ، كي تصير
قبيلة“
غنٌيْت كي أزِن المدي المهدور
في وجع الحمامةِ ،
لا لأشْرح ما يقول الله للإنسان ،
لسْت أنا النبيٌ لأدٌعي وحْيا
وأعْلِن أنٌ هاويتي صعود

وأنا الغريب بكلٌِ ما أوتيت من
لغتي . ولو أخضعت عاطفتي بحرف
الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،
وللكلمات وهي بعيدة أرض تجاوِر
كوكبا أعلي . وللكلمات وهي قريبة
منفي . ولا يكفي الكتاب لكي أقول :
وجدت نفسي حاضرا مِلْء الغياب .
وكلٌما فتٌشْت عن نفسي وجدت
الآخرين . وكلٌما فتٌشْت عنْهمْ لم
أجد فيهم سوي نفسي الغريبةِ ،
هل أنا الفرْد الحشود ؟

وأنا الغريب . تعِبْت من درب الحليب
إلي الحبيب . تعبت من صِفتي .
يضيق الشٌكْل . يتٌسع الكلام . أفيض
عن حاجات مفردتي . وأنْظر نحو
نفسي في المرايا :
هل أنا هو ؟
هل أؤدٌِي جيٌِدا دوْرِي من الفصل
الأخيرِ ؟
وهل قرأت المسرحيٌة قبل هذا العرض ،
أم فرِضتْ عليٌ ؟
وهل أنا هو من يؤدٌِي الدٌوْر
أمْ أنٌ الضحيٌة غيٌرتْ أقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحرف المؤلٌف عن سياق النصٌِ
وانصرف الممثٌل والشهود ؟

وجلست خلف الباب أنظر :
هل أنا هو ؟
هذه لغتي . وهذا الصوت وخْز دمي
ولكن المؤلٌِف آخر“
أنا لست مني إن أتيت ولم أصِلْ
أنا لست منٌِي إن نطقْت ولم أقلْ
أنا منْ تقول له الحروف الغامضات :
اكتبْ تكنْ !
واقرأْ تجِدْ !
وإذا أردْت القوْل فافعلْ ، يتٌحِدْ
ضدٌاك في المعني “
وباطِنك الشفيف هو القصيد

بحٌارة حولي ، ولا ميناء
أفرغني الهباء من الإشارةِ والعبارةِ ،
لم أجد وقتا لأعرف أين منْزِلتي ،
الهنيْهة ، بين منْزِلتيْنِ . لم أسأل
سؤالي ، بعد ، عن غبش التشابهِ
بين بابيْنِ : الخروج أم الدخول “
ولم أجِدْ موتا لأقْتنِص الحياة .
ولم أجِدْ صوتا لأصرخ : أيٌها
الزمن السريع ! خطفْتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
ألواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد

يا أيها الزمن الذي لم ينتظِرْ “
لم ينْتظِرْ أحدا تأخٌر عن ولادتِهِ ،
دعِ الماضي جديدا ، فهْو ذكراك
الوحيدة بيننا ، أيٌام كنا أصدقاءك ،
لا ضحايا مركباتك . واتركِ الماضي
كما هو ، لا يقاد ولا يقود

ورأيت ما يتذكٌر الموتي وما ينسون “
همْ لا يكبرون ويقرأون الوقْت في
ساعات أيديهمْ . وهمْ لايشعرون
بموتنا أبدا ولا بحياتهِمْ . لا شيء
ممٌا كنْت أو سأكون . تنحلٌ الضمائر
كلٌها . هو في أنا في أنت .
لا كلٌ ولاجزْء . ولا حيٌ يقول
لميٌِتي : كنٌِي !

.. وتنحلٌ العناصر والمشاعر . لا
أري جسدي هناك ، ولا أحسٌ
بعنفوان الموت ، أو بحياتي الأولي .
كأنٌِي لسْت منٌي . منْ أنا ؟ أأنا
الفقيد أم الوليد ؟

الوقْت صِفْر . لم أفكٌِر بالولادة
حين طار الموت بي نحو السديم ،
فلم أكن حيٌا ولا ميْتا،
ولا عدم هناك ، ولا وجود

تقول ممرٌِضتي : أنت أحسن حالا .
وتحقنني بالمخدٌِر : كنْ هادئا
وجديرا بما سوف تحلم
عما قليل “

رأيت طبيبي الفرنسيٌ
يفتح زنزانتي
ويضربني بالعصا
يعاونه اثنانِ من شرْطة الضاحيةْ

رأيت أبي عائدا
من الحجٌِ ، مغمي عليه
مصابا بضربة شمسي حجازيٌة
يقول لرفٌِ ملائكةي حوْله :
أطفئوني ! “

رأيت شبابا مغاربة
يلعبون الكرةْ
ويرمونني بالحجارة : عدْ بالعبارةِ
واتركْ لنا أمٌنا
يا أبانا الذي أخطأ المقبرةْ !

رأيت ريني شار
يجلس مع هيدغر
علي بعْدِ مترين منٌِي ،
رأيتهما يشربان النبيذ
ولا يبحثان عن الشعر “
كان الحوار شعاعا
وكان غد عابر ينتظرْ

رأيت رفاقي الثلاثة ينتحبون
وهمْ
يخيطون لي كفنا
بخيوطِ الذٌهبْ

رأيت المعريٌ يطرد نقٌاده
من قصيدتِهِ :
لست أعمي
لأبْصِر ما تبصرونْ ،
فإنٌ البصيرة نور يؤدٌِي
إلي عدمي “. أو جنونْ

رأيت بلادا تعانقني
بأيدي صباحيٌة : كنْ
جديرا برائحة الخبز . كنْ
لائقا بزهور الرصيفْ
فما زال تنٌور أمٌِك
مشتعلا ،
والتحيٌة ساخنة كالرغيفْ !

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء . نهر واحد يكفي
لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أختي ، ونهْر واحد يكفي لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء علي جناح الصٌقْر ، وهْو يبدٌِل
الراياتِ والقمم البعيدة ، حيث أنشأتِ الجيوش ممالِك
النسيان لي . لاشعْب أصْغر من قصيدته . ولكنٌ السلاح
يوسٌِع الكلمات للموتي وللأحياء فيها ، والحروف تلمٌِع
السيف المعلٌق في حزام الفجر ، والصحراء تنقص
بالأغاني ، أو تزيد

لاعمْر يكفي كي أشدٌ نهايتي لبدايتي
أخذ الرٌعاة حكايتي وتوغٌلوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض ، وانتصروا علي النسيان بالأبواق والسٌجع
المشاع ، وأورثوني بحٌة الذكري علي حجرِ الوداع ، ولم
يعودوا “

رعويٌة أيٌامنا رعويٌة بين القبيلة والمدينة ، لم أجد ليْلا
خصوصِيٌا لهودجِكِ المكلٌلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادني ، فأنا خلقتك
عندما سمٌيْتني ، وقتلتني حين امتلكت الاسم “
كيف قتلتني ؟ وأنا غريبة كلٌِ هذا الليل ، أدْخِلْني
إلي غابات شهوتك ، احتضنٌِي واعْتصِرْني ،
واسفك العسل الزفافيٌ النقيٌ علي قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولمٌني .
فالليل يسْلِم روحه لك يا غريب ، ولن تراني نجمة
إلاٌ وتعرف أنٌ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
فهاتِني ليكون لي ­ وأنا أحطٌِم جرٌتي بيديٌ ­حاضِري السعيد

­ هل قلْت لي شيئا يغيٌِر لي سبيلي ؟
­ لم أقلْ . كانت حياتي خارجي
أنا منْ يحدٌِث نفسه :
وقعتْ معلٌقتي الأخيرة عن نخيلي
وأنا المسافِر داخلي
وأنا المحاصر بالثنائياتِ ،
لكنٌ الحياة جديرة بغموضها
وبطائرِ الدوريٌِ “
لم أولدْ لأعرف أنني سأموت ، بل لأحبٌ محتوياتِ ظلٌِ
اللهِ
يأخذني الجمال إلي الجميلِ
وأحبٌ حبٌك ، هكذا متحررا من ذاتِهِ وصفاتِهِ
وأِنا بديلي “
أنا من يحدٌِث نفْسه :
مِنْ أصغر الأشياءِ تولد أكبر الأفكار
والإيقاع لا يأتي من الكلمات ،
بل مِنْ وحدة الجسديْنِ
في ليلي طويلي “

أنا منْ يحدٌِث نفْسه
ويروٌِض الذكري “ أأنتِ أنا ؟
وثالثنا يرفرف بيننا لا تنْسياني دائما
يا موْتنا ! خذْنا إليك علي طريقتنا ، فقد نتعلٌم الإشراق “
لا شمْس ولا قمر عليٌ
تركت ظلٌِي عالقا بغصون عوْسجةي
فخفٌ بِي المكان
وطار بي روحي الشٌرود

أنا منْ يحدٌِث نفسه :
يا بنت : ما فعلتْ بكِ الأشواق ؟
إن الريح تصقلنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ،
نضجتِ يا امرأتي علي عكٌازتيٌ ،
بوسعك الآن الذهاب علي طريق دمشق
واثقة من الرؤيا . ملاك حارس
وحمامتان ترفرفان علي بقيٌة عمرنا ، والأرض عيد “

الأرض عيد الخاسرين ونحن منهمْ
نحن من أثرِ النشيد الملحميٌِ علي المكان ، كريشةِ النٌسْرِ
العجوز خيامنا في الريح . كنٌا طيٌِبين وزاهدين بلا تعاليم
المسيح . ولم نكنْ أقوي من الأعشابِ إلاٌ في ختام
الصيْفِ ،
أنتِ حقيقتي ، وأنا سؤالكِ
لم نرِثْ شيئا سوي اسْميْنا
وأنتِ حديقتي ، وأنا ظلالكِ
عند مفترق النشيد الملحميٌِ “
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كنٌ يبدأن النشيد
بسحرهنٌ وكيدهنٌ . وكنٌ يحْمِلْن المكان علي قرون
الوعل من زمنِ المكان إلي زمان آخري “

كنا طبيعيٌِين لو كانت نجوم سمائنا أعلي قليلا من
حجارة بئرنا ، والأنبياء أقلٌ إلحاحا ، فلم يسمع مدائحنا
الجنود “

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيٌون من زمني إلي زمني كما هِي في
خصوبتها .
ولي منها : تأمٌل نرْجسي في ماء صورتِهِ
ولي منها وضوح الظلٌِ في المترادفات
ودقٌة المعني “
ولي منها : التٌشابه في كلام الأنبياءِ
علي سطوح الليلِ
لي منها : حمار الحكمةِ المنسيٌ فوق التلٌِ
يسخر من خرافتها وواقعها “
ولي منها : احتقان الرمز بالأضدادِ
لا التجسيد يرجِعها من الذكري
ولا التجريد يرفعها إلي الإشراقة الكبري
ولي منها : أنا الأخري
تدوٌِن في مفكٌِرة الغنائيٌِين يوميٌاتها :
((إن كان هذا الحلْم لا يكفي
فلي سهر بطوليٌ علي بوابة المنفي “ ))
ولي منها : صدي لغتي علي الجدران
يكشِط مِلْحها البحريٌ
حين يخونني قلْب لدود “

أعلي من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلت للشيطان : لا . لا تمْتحِنٌِي !
لا تضعْني في الثٌنائيٌات ، واتركني
كما أنا زاهدا برواية العهد القديم
وصاعدا نحو السماء ، هناك مملكتي
خذِ التاريخ ، يا ابن أبي ، خذِ
التاريخ “ واصنعْ بالغرائز ما تريد

ولِي السكينة . حبٌة القمح الصغيرة
سوف تكفينا ، أنا وأخي العدوٌ ،
فساعتي لم تأْتِ بعْد . ولم يحِنْ
وقت الحصاد . عليٌ أن ألِج الغياب
وأن أصدٌِق أوٌلا قلبي وأتبعه إلي
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بعْد .
لعلٌ شيئا فيٌ ينبذني . لعلٌِي واحد
غيري . فلم تنضج كروم التين حول
ملابس الفتيات بعْد . ولم تلِدْني
ريشة العنقاء . لا أحد هنالك
في انتظاري . جئْت قبل ، وجئت
بعد ، فلم أجد أحدا يصدٌِق ما
أري . أنا منْ رأي . وأنا البعيد
أنا البعيد

منْ أنت ، يا أنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن ، وفي القيامة واحد .
خذْني إلي ضوء التلاشي كي أري
صيْرورتي في صورتي الأخري . فمنْ
سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي
ورائي أم أمامك ؟ منْ أنا يا
أنت ؟ كوٌِنٌِي كما كوٌنْتك ، ادْهنٌِي
بزيت اللوز ، كلٌِلني بتاج الأرز .
واحملني من الوادي إلي أبديٌةي
بيضاء . علٌِمني الحياة علي طريقتِك ،
اختبِرْني ذرٌة في العالم العلْوِيٌِ .
ساعِدْني علي ضجر الخلود ، وكنْ
رحيما حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورود “

لم تأت ساعتنا . فلا رسل يقِيسون
الزمان بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكة
يزورون المكان ليترك الشعراء ماضِيهمْ علي الشٌفق
الجميل ، ويفتحوا غدهمْ بأيديهمْ .
فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة ، ياعناة ،
قصيدتي الأولي عن التكوين ثانية “
فقد يجد الرٌواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجري خريفيٌ . وقد يجد
الرعاة البئر في أعماق أغنية . وقد
تأتي الحياة فجاءة للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةي علِقتْ
بقافيةي ، فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة ، أنا الطريدة والسهام ،
أنا الكلام . أنا المؤبٌِن والمؤذٌِن
والشهيد

ما قلت للطٌللِ : الوداع . فلم أكنْ
ما كنْت إلاٌ مرٌة . ما كنْت إلاٌ
مرٌة تكفي لأعرف كيف ينكسر الزمان
كخيمة البدويٌِ في ريح الشمال ،
وكيف ينْفطِر المكان ويرتدي الماضي
نثار المعبد المهجور . يشبهني كثيرا
كلٌ ما حولي ، ولم أشْبِهْ هنا
شيئا . كأنٌ الأرض ضيٌِقة علي
المرضي الغنائيٌِين ، أحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حلْما جميلا لقٌنوا الببغاء شِعْر
الحب ، وانفتحتْ أمامهم الحدود “

وأريد أن أحيا “
فلي عمل علي ظهر السفينة . لا
لأنقذ طائرا من جوعنا أو من
دوارِ البحر ، بل لأشاهِد الطوفان
عن كثبي : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقة ؟
هل يعيدون الحكاية ؟ ما البداية ؟
ما النهاية ؟ لم يعد أحد من
الموتي ليخبرنا الحقيقة “ /
أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِك ، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقٌي من حياتي
قرب خيمتك ، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد . يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلٌِ هنيْهةي
حرية ، وعدالة ، ونبيذ آلهةي “ /
فيا موْت ! انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهشٌ ،
حيث ولدت ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صبٌوني
بحرف النون ، حيث تعبٌ روحي
سورة الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي علي خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي . ولا
تضعوا علي قبري البنفسج ، فهْو
زهْر المحْبطين يذكٌِر الموتي بموت
الحبٌِ قبل أوانِهِ . وضعوا علي
التابوتِ سبْع سنابلي خضراء إنْ
وجِدتْ ، وبعْض شقائقِ النعْمانِ إنْ
وجِدتْ . وإلاٌ ، فاتركوا ورْد
الكنائس للكنائس والعرائس /
أيٌها الموت انتظر ! حتي أعِدٌ
حقيبتي : فرشاة أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثياب .
هل المناخ هناك معْتدِل ؟ وهل
تتبدٌل الأحوال في الأبدية البيضاء ،
أم تبقي كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتاب واحد يكفي
لِتسْلِيتي مع اللاٌ وقتِ ، أمْ أحتاج
مكتبة ؟ وما لغة الحديث هناك ،
دارجة لكلٌِ الناس أم عربيٌة
فصْحي/

.. ويا موْت انتظرْ ، ياموت ،
حتي أستعيد صفاء ذِهْني في الربيع
وصحٌتي ، لتكون صيٌادا شريفا لا
يصيد الظٌبْي قرب النبع . فلتكنِ العلاقة
بيننا ودٌيٌة وصريحة : لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها ..
ولي منك التأمٌل في الكواكب :
لم يمتْ أحد تماما ، تلك أرواح
تغيٌِر شكْلها ومقامها /
يا موت ! ياظلٌِي الذي
سيقودني ، يا ثالث الاثنين ، يا
لوْن التردٌد في الزمرٌد والزٌبرْجدِ ،
يا دم الطاووس ، يا قنٌاص قلب
الذئب ، يا مرض الخيال ! اجلسْ
علي الكرسيٌ ! ضعْ أدواتِ صيدك
تحت نافذتي . وعلٌِقْ فوق باب البيت
سلسلة المفاتيح الثقيلة ! لا تحدٌِقْ
يا قويٌ إلي شراييني لترصد نقْطة
الضعف الأخيرة . أنت أقوي من
نظام الطبٌ . أقوي من جهاز
تنفٌسي . أقوي من العسلِ القويٌ ،
ولسْت محتاجا ­ لتقتلني ­ إلي مرضي .
فكنْ أسْمي من الحشرات . كنْ منْ
أنت ، شفٌافا بريدا واضحا للغيب .
كن كالحبٌِ عاصفة علي شجر ، ولا
تجلس علي العتبات كالشحٌاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شرطيٌ سيْري في
الشوارع . كن قويٌا ، ناصع الفولاذ ، واخلعْ عنك أقنعة
الثعالب . كنْ
فروسيا ، بهيا ، كامل الضربات . قلْ
ماشئْت : (( من معني إلي معني
أجيء . هِي الحياة سيولة ، وأنا
أكثٌِفها ، أعرٌِفها بسلْطاني وميزاني )) .. /
وياموْت انتظرْ ، واجلس علي
الكرسيٌ . خذْ كأس النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلك لا يفاوِض أيٌ
إنساني ، ومثلي لا يعارض خادم
الغيبِ . استرح “ فلربٌما أنْهِكْت هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أنا
لتزورني ؟ ألديْك وقْت لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأن
شأنك . أنت مسؤول عن الطينيٌِ في
البشريٌِ ، لا عن فِعْلِهِ أو قوْلِهِ /
هزمتْك يا موت الفنون جميعها .
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسلٌة المصريٌ ، مقبرة الفراعنةِ ،
النقوش علي حجارة معبدي هزمتْك
وانتصرتْ ، وأِفْلت من كمائنك
الخلود “
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا “
فلي عمل علي جغرافيا البركان .
من أيام لوط إلي قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب . كأنني أحيا
هنا أبدا ، وبي شبق إلي ما لست
أعرف . قد يكون الآن أبعد .
قد يكون الأمس أقرب . والغد الماضي .
ولكني أشدٌ الآن من يدِهِ ليعبر
قربي التاريخ ، لا الزٌمن المدوٌر ،
مثل فوضي الماعز الجبليٌِ . هل
أنجو غدا من سرعة الوقت الإلكترونيٌ ،
أم أنجو غدا من بطْء قافلتي
علي الصحراء؟ لي عمل لآخرتي
كأني لن أعيش غدا. ولي عمل ليومي
حاضري أبدا . لذا أصغي ، علي مهلي
علي مهل ، لصوت النمل في قلبي :
أعينوني علي جلدي . وأسمع صرْخة
الحجر الأسيرة : حرٌِروا جسدي . وأبصر
في الكمنجة هجرة الأشواق من بلدي
ترابيٌ إلي بلدي سماويٌ . وأقبض في
يد الأنثي علي أبدِي الأليفِ : خلِقت
ثم عشِقْت ، ثم زهقت ، ثم أفقت
في عشْبي علي قبري يدلٌ عليٌ من
حيني إلي حيني . فما نفْع الربيع
السمح إن لم يؤْنِس الموتي ويكْمِلْ
بعدهمْ فرح الحياةِ ونضْرة النسيان ؟
تلك طريقة في فكٌِ لغز الشعرِ ،
شعري العاطفيٌ علي الأقلٌِ . وما
المنام سوي طريقنا الوحيدة في الكلام /
وأيٌها الموت التبِسْ واجلسْ
علي بلٌوْرِ أيامي ، كأنٌك واحد من
أصدقائي الدائمين ، كأنٌك المنفيٌ بين
الكائنات . ووحدك المنفيٌ . لا تحيا
حياتك . ما حياتك غير موتي . لا
تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفال
من عطشِ الحليب إلي الحليب . ولم
تكن طفلا تهزٌ له الحساسين السرير ،
ولم يداعِبْك الملائكة الصغار ولا
قرون الأيٌِل الساهي ، كما فعلتْ لنا
نحن الضيوف علي الفراشة . وحدك
المنفيٌ ، يا مسكين ، لا امرأة تضمٌك
بين نهديها ، ولا امرأة تقاسِمك
الحنين إلي اقتصاد الليل باللفظ الإباحيٌِ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تلِدْ ولدا يجيئك ضارعا : أبتي ،
أحبٌك . وحدك المنفيٌ ، يا ملِك
الملوك ، ولا مديح لصولجانك . لا
صقور علي حصانك . لا لآلئ حول
تاجك . أيٌها العاري من الرايات
والبوق المقدٌسِ ! كيف تمشي هكذا
من دون حرٌاسي وجوْقةِ منشدين ،
كمِشْية اللصٌِ الجبان . وأنت منْ
أنت ، المعظٌم ، عاهل الموتي ، القويٌ ،
وقائد الجيش الأشوريٌِ العنيد
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا ، وأن
أنساك “. أن أنسي علاقتنا الطويلة
لا لشيءي ، بل لأقرأ ما تدوٌِنه
السماوات البعيدة من رسائل . كلٌما
أعددت نفسي لانتظار قدومِك
ازددت ابتعادا . كلما قلت : ابتعدْ
عني لأكمل دوْرة الجسديْنِ ، في جسدي
يفيض ، ظهرت ما بيني وبيني
ساخرا : لا تنْس موْعِدنا “
­ متي ؟ ­ في ذِرْوة النسيان
حين تصدٌِق الدنيا وتعبد خاشعا
خشب الهياكل والرسوم علي جدار الكهف ،
حيث تقول : آثاري أنا وأنا ابن نفسي . ­ أين موعدنا ؟
أتأذن لي بأن أختار مقهي عند
باب البحر ؟ ­ لا “. لا تقْترِبْ
يا ابن الخطيئةِ ، يا ابن آدم من
حدود الله ! لم تولدْ لتسأل ، بل
لتعمل “. ­ كن صديقا طيٌِبا يا
موت ! كنْ معني ثقافيا لأدرك
كنْه حكمتِك الخبيئةِ ! ربٌما أسْرعْت
في تعليم قابيل الرماية . ربٌما
أبطأت في تدريب أيٌوبي علي
الصبر الطويل . وربما أسْرجْت لي
فرسا لتقتلني علي فرسي . كأني
عندما أتذكٌر النسيان تنقِذ حاضري
لغتي . كأني حاضر أبدا . كأني
طائر أبدا . كأني مذْ عرفتك
أدمنتْ لغتي هشاشتها علي عرباتك
البيضاءِ ، أعلي من غيوم النوم ،
أعلي عندما يتحرٌر الإحساس من عبء
العناصر كلٌها . فأنا وأنت علي طريق
الله صوفيٌانِ محكومان بالرؤيا ولا يريان /
عدْ يا موْت وحدك سالما ،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك . وعدْ إلي منفاك
وحدك . عدْ إلي أدوات صيدك ،
وانتظرني عند باب البحر . هيٌِئ لي
نبيذا أحمر للاحتفال بعودتي لِعِيادةِ
الأرضِ المريضة . لا تكن فظٌا غليظ
القلب ! لن آتي لأسخر منك ، أو
أمشي علي ماء البحيْرة في شمال
الروح . لكنٌِي ­ وقد أغويتني ­ أهملت
خاتمة القصيدةِ : لم أزفٌ إلي أبي
أمٌِي علي فرسي . تركت الباب مفتوحا
لأندلسِ الغنائيٌِين ، واخترت الوقوف
علي سياج اللوز والرمٌان ، أنفض
عن عباءة جدٌِي العالي خيوط
العنكبوت . وكان جيْش أجنبيٌ يعبر
الطرق القديمة ذاتها ، ويقِيس أبعاد
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها “ /
يا موت ، هل هذا هو التاريخ ،
صِنْوك أو عدوٌك ، صاعدا ما بين
هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عشٌها
وتبيض في خوذ الحديد . وربما ينمو
نبات الشٌِيحِ في عجلاتِ مرْكبةي محطٌمةي .
فماذا يفعل التاريخ ، صنوك أو عدوٌك ،
بالطبيعة عندما تتزوٌج الأرض السماء
وتذرف المطر المقدٌس ؟ /

أيها الموت ، انتظرني عند باب
البحر في مقهي الرومانسيٌِين . لم
أرجِعْ وقد طاشتْ سهامك مرٌة
إلاٌ لأودِع داخلي في خارجي ،
وأوزٌِع القمح الذي امتلأتْ به روحي
علي الشحرور حطٌ علي يديٌ وكاهلي ،
وأودٌِع الأرض التي تمتصٌني ملحا ، وتنثرني
حشيشا للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
ولا تصدٌِقْني أعود ولا أعود
وأقول : شكرا للحياة !
ولم أكن حيٌا ولا ميْتا
ووحدك ، كنت وحدك ، يا وحيد !

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ : يا قلب !
يا قلْب ! خذْني
إلي دوْرة الماءِ “/
ما قيمة الروح إن كان جسمي
مريضا ، ولا يستطيع القيام
بواجبه الأوليٌِ ؟
فيا قلب ، يا قلب أرجعْ خطاي
إليٌ ، لأمشي إلي دورة الماء
وحدي !

نسيت ذراعيٌ ، ساقيٌ ، والركبتين
وتفٌاحة الجاذبيٌةْ
نسيت وظيفة قلبي
وبستان حوٌاء في أوٌل الأبديٌةْ
نسيت وظيفة عضوي الصغير
نسيت التنفٌس من رئتيٌ .
نسيت الكلام
أخاف علي لغتي
فاتركوا كلٌٌ شيء علي حالِهِ
وأعيدوا الحياة إلي لغتي !..

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ بي قائلا :
لا أريد الرجوع إلي أحدِ
لا أريد الرجوع إلي بلدِ
بعد هذا الغياب الطويل “
أريد الرجوع فقطْ
إلي لغتي في أقاصي الهديل
تقول ممرٌِضتي :
كنْت تهذي طويلا ، وتسألني :
هل الموت ما تفعلين بي الآن
أم هو موْت اللغةْ ؟

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء ، عالية “
علي مهلي أدوٌِنها ، علي مهلي ، علي
وزن النوارس في كتاب الماءِ . أكتبها
وأورِثها لمنْ يتساءلون : لمنْ نغنٌِي
حين تنتشر الملوحة في الندي ؟ “
خضراء ، أكتبها علي نثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ ، قوٌسها امتلاء شاحب
فيها وفيٌ . وكلٌما صادقْت أو
آخيْت سنْبلة تعلٌمْت البقاء من
الفناء وضدٌه : (( أنا حبٌة القمح
التي ماتت لكي تخْضرٌ ثانية . وفي
موتي حياة ما “ ))

كأني لا كأنٌي
لم يمت أحد هناك نيابة عني .
فماذا يحفظ الموتي من الكلمات غير
الشٌكْرِ : إنٌ الله يرحمنا “
ويؤْنِسني تذكٌر ما نسِيت مِن
البلاغة : لم ألِدْ ولدا ليحمل موْت
والِدِهِ “
وآثرْت الزواج الحرٌ بين المفْردات “.
ستعْثر الأنثي علي الذٌٌكر الملائِمِ
في جنوح الشعر نحو النثر “.
سوف تشٌبٌ أعضائي علي جمٌيزةي ،
ويصبٌ قلبي ماءه الأرضيٌ في
أحدِ الكواكب “ منْ أنا في الموت
بعدي ؟ منْ أنا في الموت قبلي
قال طيف هامشيٌ : (( كان أوزيريس
مثْلك ، كان مثلي . وابن مرْيم
كان مثلك ، كان مثلي . بيْد أنٌ
الجرْح في الوقت المناسب يوجِع
العدم المريض ، ويرْفع الموت المؤقٌٌت
فكرة “ )).
من أين تأتي الشاعريٌة ؟ من
ذكاء القلب ، أمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول ؟ أمْ من وردةي حمراء
في الصحراء ؟ لا الشخصيٌ شخصيٌ
ولا الكونيٌ كونيٌ “

كأني لا كأني “/
كلما أصغيت للقلب امتلأت
بما يقول الغيْب ، وارتفعتْ بِي
الأشجار . من حلْم إلي حلْمي
أطير وليس لي هدف أخير .
كنْت أولد منذ آلاف السنين
الشاعريٌةِ في ظلامي أبيض الكتٌان
لم أعرف تماما منْ أنا فينا ومن
حلْمي . أنا حلْمي
كأني لا كأني “
لم تكنْ لغتي تودٌِع نبْرها الرعويٌ
إلاٌ في الرحيل إلي الشمال . كلابنا
هدأتْ . وماعِزنا توشٌح بالضباب علي
التلال . وشجٌ سهْم طائش وجْه
اليقين . تعبت من لغتي تقول ولا
تقول علي ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيٌامِ امرئ القيس الموزٌعِ
بين قافيةي وقيْصر “/
كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر آلهتي ،
هنالك ، في بلاد الأرجوان أضاءني
قمر تطوٌِقه عناة ، عناة سيٌِدة
الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي علي
أحدِ ، ولكنْ من مفاتِنِها بكتْ :
هلْ كلٌ هذا السحرِ لي وحدي
أما من شاعري عندي
يقاسِمني فراغ التخْتِ في مجدي ؟
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أما من شاعر يغْوي
حليب الليل في نهدي ؟
أنا الأولي
أنا الأخري
وحدٌِي زاد عن حدٌِي
وبعدي تركض الغِزلان في الكلمات
لا قبلي “ ولا بعدي /

سأحلم ، لا لأصْلِح مركباتِ الريحِ
أو عطبا أصاب الروح
فالأسطورة اتٌخذتْ مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعيٌ . وليس في وسْعِ القصيدة
أن تغيٌِر ماضيا يمضي ولا يمضي
ولا أنْ توقِف الزلزال
لكني سأحلم ،
ربٌما اتسعتْ بلاد لي ، كما أنا
واحدا من أهل هذا البحر ،
كفٌ عن السؤال الصعب : (( منْ أنا ؟ “
هاهنا ؟ أأنا ابن أمي ؟ ))
لا تساوِرني الشكوك ولا يحاصرني
الرعاة أو الملوك . وحاضري كغدي معي .
ومعي مفكٌِرتي الصغيرة : كلٌما حكٌ
السحابة طائر دوٌنت : فكٌ الحلْم
أجنحتي . أنا أيضا أطير . فكلٌ
حيٌ طائر . وأنا أنا ، لا شيء
آخر /

واحد من أهل هذا السهل “
في عيد الشعير أزور أطلالي
البهيٌة مثل وشْم في الهوِيٌةِ .
لا تبدٌِدها الرياح ولا تؤبٌِدها “ /
وفي عيد الكروم أعبٌ كأسا
من نبيذ الباعة المتجوٌِلين “ خفيفة
روحي ، وجسمي مثْقل بالذكريات وبالمكان /
وفي الربيع ، أكون خاطرة لسائحةي
ستكتب في بطاقات البريد : (( علي
يسار المسرح المهجور سوْسنة وشخْص
غامض . وعلي اليمين مدينة عصريٌة )) /

وأنا أنا ، لا شيء آخر “
لسْت من أتباع روما الساهرين
علي دروب الملحِ . لكنٌِي أسدٌِد نِسْبة
مئويٌة من ملح خبزي مرْغما ، وأقول
للتاريخ : زيٌِنْ شاحناتِك بالعبيد وبالملوك الصاغرين ، ومرٌ
“ لا أحد يقول
الآن : لا .

وأنا أنا ، لا شيء آخر
واحد من أهل هذا الليل . أحلم
بالصعود علي حصاني فوْق ، فوْق “
لأتبع الينْبوع خلف التلٌِ
فاصمدْ يا حصاني . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ

أنت فتوٌتي وأنا خيالك . فانتصِبْ
ألِفا ، وصكٌ البرق . حكٌ بحافر
الشهوات أوعية الصدي . واصعدْ ،
تجدٌدْ ، وانتصبْ ألفا ، توتٌرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفا ، ولا تسقطْ
عن السفح الأخير كرايةي مهجورةي في
الأبجديٌة . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ ،
أنت تعِلٌتي وأنا مجازك خارج الركب
المروٌضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفرْ زماني
في مكاني يا حصاني . فالمكان هو
الطريق ، ولا طريق علي الطريق سواك
تنتعل الرياح . أضئْ نجوما في السراب !
أضئْ غيوما في الغياب ، وكنْ أخي
ودليل برقي يا حصاني . لا تمتْ
قبلي ولا بعدي علي السفح الأخير
ولا معي . حدٌِقْ إلي سيٌارة الإسعافِ
والموتي “ لعلٌِي لم أزل حيٌا /

سأحلم ، لا لأصْلِح أيٌ معني خارجي .
بل كي أرمٌِم داخلي المهجور من أثر
الجفاف العاطفيٌِ . حفظت قلبي كلٌه
عن ظهر قلبي : لم يعدْ متطفٌِلا
ومدلٌلا . تكْفيهِ حبٌة أسبرين لكي
يلين ويستكين . كأنٌه جاري الغريب
ولست طوْع هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يصْدأ كالحديدِ ، فلا يئنٌ ولا يحِنٌ
ولا يجنٌ بأوٌل المطر الإباحيٌِ الحنينِ ،
ولا يرنٌ ٌكعشب آب من الجفافِ .
كأنٌ قلبي زاهد ، أو زائد
عني كحرف الكاف في التشبيهِ
حين يجفٌ ماء القلب تزداد الجماليات
تجريدا ، وتدٌثر العواطف بالمعاطفِ ،
والبكارة بالمهارة /

كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر أولي
الأغنيات رأيت آثار القطاة علي
الكلام . ولم أكن ولدا سعيدا
كي أقول : الأمس أجمل دائما .
لكنٌ للذكري يديْنِ خفيفتين تهيٌِجانِ
الأرض بالحمٌي . وللذكري روائح زهرةي
ليليٌةي تبكي وتوقظ في دمِ المنفيٌِ
حاجته إلي الإنشاد : (( كوني
مرْتقي شجني أجدْ زمني )) “ ولست
بحاجةي إلاٌ لِخفْقةِ نوْرسِ لأتابع
السفن القديمة . كم من الوقت
انقضي منذ اكتشفنا التوأمين : الوقت
والموت الطبيعيٌ المرادِف للحياة ؟
ولم نزل نحيا كأنٌ الموت يخطئنا ،
فنحن القادرين علي التذكٌر قادرون
علي التحرٌر ، سائرون علي خطي
جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني “ /

هباء كامل التكوينِ “
يكسرني الغياب كجرٌةِ الماءِ الصغيرة .
نام أنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
ملْتفٌا بحفْنةِ ريشِهِ الطينيٌِ . آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال . ذِراعِي
اليمْني عصا خشبيٌة . والقلْب مهجور
كبئري جفٌ فيها الماء ، فاتٌسع الصدي
الوحشيٌ : أنكيدو ! خيالي لم يعدْ
يكفي لأكمل رحلتي . لا بدٌ لي من
قوٌةي ليكون حلْمي واقعيٌا . هاتِ
أسْلِحتي ألمٌِعْها بمِلح الدمعِ . هاتِ
الدمع ، أنكيدو ، ليبكي الميْت فينا
الحيٌ . ما أنا ؟ منْ ينام الآن
أنكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ آلهتي
كقبض الريحِ . فانهضْ بي بكامل
طيشك البشريٌِ ، واحلمْ بالمساواةِ
القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نعمٌِر الأرض الجميلة بين
دجلة والفراتِ ونحفظ الأسماء . كيف
مللْتني ، يا صاحبي ، وخذلْتني ، ما نفْع حكمتنا بدون
فتوٌةي “ ما نفع حكمتنا ؟ علي باب المتاهِ خذلتني ،
يا صاحبي ، فقتلتني ، وعليٌ وحدي
أن أري ، وحدي ، مصائرنا . ووحدي
أحمل الدنيا علي كتفيٌ ثورا هائجا .
وحدي أفتٌِش شارد الخطوات عن
أبديتي . لا بدٌ لي من حلٌِ هذا
اللغْزِ ، أنكيدو ، سأحمل عنك
عمْرك ما استطعت وما استطاعت
قوٌتي وإرادتي أن تحملاك . فمن
أنا وحدي ؟ هباء كامل التكوينِ
من حولي . ولكني سأسْنِد ظلٌٌك
العاري علي شجر النخيل . فأين ظلٌك ؟
أين ظلٌك بعدما انكسرتْ جذوعك؟
قمٌة
الإنسان
هاوية “
ظلمتك حينما قاومت فيك الوحْش ،
بامرأةي سقتْك حليبها ، فأنِسْت “
واستسلمت للبشريٌِ . أنكيدو ، ترفٌقْ
بي وعدْ من حيث متٌ ، لعلٌنا
نجد الجواب ، فمن أنا وحدي ؟
حياة الفرد ناقصة ، وينقصني
السؤال ، فمن سأسأل عن عبور
النهر ؟ فانهضْ يا شقيق الملح
واحملني . وأنت تنام هل تدري
بأنك نائم ؟ فانهض .. كفي نوما !
تحرٌكْ قبل أن يتكاثر الحكماء حولي
كالثعالب : ( كلٌ شيء باطل ، فاغنمْ
حياتك مثلما هِي برهة حبْلي بسائلها ،
دمِ العشْب المقطٌرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلٌ شيء زائل . فاحذرْ
غدا وعشِ الحياة الآن في امرأةي
تحبٌك . عِشْ لجسمِك لا لِوهْمِك .
وانتظرْ
ولدا سيحمل عنك روحك
فالخلود هو التٌناسل في الوجود .
وكلٌ شيءي باطل أو زائل ، أو
زائل أو باطل)
منْ أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حِكْمة الجامعةْ ؟
وكلانا أنا “
وأنا شاعر
وملِكْ
وحكيم علي حافٌة البئرِ
لا غيمة في يدي
ولا أحد عشر كوكبا
علي معبدي
ضاق بي جسدي
ضاق بي أبدي
وغدي
جالس مثل تاج الغبار
علي مقعدي

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

ألرياح شماليٌة
والرياح جنوبيٌة
تشْرِق الشمس من ذاتها
تغْرب الشمس في ذاتها
لا جديد ، إذا
والزمنْ
كان أمسِ ،
سدي في سدي .
ألهياكل عالية
والسنابل عالية
والسماء إذا انخفضت مطرتْ
والبلاد إذا ارتفعت أقفرت
كلٌ شيء إذا زاد عن حدٌِهِ
صار يوما إلي ضدٌِهِ .
والحياة علي الأرض ظلٌ

لما لا نري “.
باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

1400 مركبة
و12,000 فرس
تحمل اسمي المذهٌب من
زمني نحو آخر “
عشت كما لم يعِشْ شاعر
ملكا وحكيما “
هرِمْت ، سئِمْت من المجدِ
لا شيء ينقصني
ألهذا إذا
كلما ازداد علمي
تعاظم همٌِي ؟
فما أورشليم وما العرْش ؟
لا شيء يبقي علي حالِه
للولادة وقْت
وللموت وقت
وللصمت وقْت
وللنٌطق وقْت
وللحرب وقْت
وللصٌلحِ وقْت
وللوقتِ وقْت
ولا شيء يبقي علي حالِهِ “
كلٌ نهْري سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن ،
لاشيء يبقي علي حالِهِ
كلٌ حيٌ يسير إلي الموت
والموت ليس بملآن ،
لا شيء يبقي سوي اسمي المذهٌبِ
بعدي :
(( سليمان كان )) “
فماذا سيفعل موتي بأسمائهم
هل يضيء الذٌهبْ
ظلمتي الشاسعةْ
أم نشيد الأناشيد
والجامعةْ ؟

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ /“

مثلما سار المسيح علي البحيْرةِ ،
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ،ولا
أبشٌِر بالقيامةِ . لم أغيٌِرْ غيْر
إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا .
للملحميٌِين النٌسور ولي أنا : طوق
الحمامةِ ، نجمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع متعرٌِج يفْضي إلي ميناءِ
عكا ­ ليس أكثر أو أقلٌ ­
أريد أن ألقي تحيٌاتِ الصباح عليٌ
حيث تركتني ولدا سعيدا لم
أكنْ ولدا سعيد الحظٌِ يومئذي ،
ولكنٌ المسافة، مثل حدٌادين ممتازين ،
تصنع من حديدي تافهي قمرا
­ أتعرفني ؟
سألت الظلٌ قرب السورِ ،
فانتبهتْ فتاة ترتدي نارا ،
وقالت : هل تكلٌِمني ؟
فقلت : أكلٌِم الشبح القرين
فتمتمتْ : مجنون ليلي آخر يتفقٌٌد
الأطلال ،
وانصرفتْ إلي حانوتها في آخر السوق
القديمةِ“
ههنا كنٌا . وكانت نخْلتانِ تحمٌِلان
البحر بعض رسائلِ الشعراءِ “
لم نكبر كثيرا يا أنا . فالمنظر
البحريٌ ، والسٌور المدافِع عن خسارتنا ،
ورائحة البخور تقول : ما زلنا هنا ،
حتي لو انفصل الزمان عن المكانِ .
لعلٌنا لم نفترق أبدا
­ أتعرفني ؟
بكي الولد الذي ضيٌعته :
((لم نفترق . لكننا لن نلتقي أبدا )) “
وأغْلق موجتين صغيرتين علي ذراعيه ،
وحلٌٌق عاليا “
فسألت : منْ منٌا المهاجِر ؟ /
قلت للسٌجٌان عند الشاطئ الغربيٌ :
­ هل أنت ابن سجٌاني القديمِ ؟
­ نعم !
­ فأين أبوك ؟
قال : أبي توفٌِي من سنين.
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة .
ثم أوْرثني مهمٌته ومهنته ، وأوصاني
بان أحمي المدينة من نشيدك “
قلْت : منْذ متي تراقبني وتسجن
فيٌ نفسك ؟
قال : منذ كتبت أولي أغنياتك
قلت : لم تك قد ولِدْت
فقال : لي زمن ولي أزليٌة ،
وأريد أن أحيا علي إيقاعِ أمريكا
وحائطِ أورشليم
فقلت : كنْ منْ أنت . لكني ذهبت .
ومنْ تراه الآن ليس أنا ، أنا شبحي
فقال : كفي ! ألسْت اسم الصدي
الحجريٌِ ؟ لم تذهبْ ولم ترْجِعْ إذا .
ما زلت داخل هذه الزنزانة الصفراءِ .
فاتركني وشأني !
قلت : هل ما زلت موجودا
هنا ؟ أأنا طليق أو سجين دون
أن أدري . وهذا البحر خلف السور بحري ؟
قال لي : أنت السجين ، سجين
نفسِك والحنينِ . ومنْ تراه الآن
ليس أنا . أنا شبحي
فقلت محدٌِثا نفسي : أنا حيٌ
وقلت : إذا التقي شبحانِ
في الصحراء ، هل يتقاسمانِ الرمل ،
أم يتنافسان علي احتكار الليل ؟ /

المقطع قبل الأخير
كانت ساعة الميناءِ تعمل وحدها
لم يكترثْ أحد بليل الوقت ، صيٌادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموج . والعشٌاق في ال ديسكو .
وكان الحالمون يربٌِتون القبٌراتِ النائماتِ
ويحلمون “
وقلت : إن متٌ انتبهت “
لديٌ ما يكفي من الماضي
وينقصني غد “
سأسير في الدرب القديم علي
خطاي ، علي هواءِ البحر . لا
امرأة تراني تحت شرفتها . ولم
أملكْ من الذكري سوي ما ينفع
السٌفر الطويل . وكان في الأيام
ما يكفي من الغد . كنْت أصْغر
من فراشاتي ومن غمٌازتينِ :
خذي النٌعاس وخبٌِئيني في
الرواية والمساء العاطفيٌ /
وخبٌِئيني تحت إحدي النخلتين /
وعلٌِميني الشِعْر / قد أتعلٌم
التجوال في أنحاء هومير / قد
أضيف إلي الحكاية وصْف
عكا / أقدمِ المدنِ الجميلةِ ،
أجملِ المدن القديمةِ / علبة
حجريٌة يتحرٌك الأحياء والأموات
في صلصالها كخليٌة النحل السجين
ويضْرِبون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كلٌما
اشتدٌ الحصار / وعلٌِميني الشِعْر /
قد تحتاج بنت ما إلي أغنية
لبعيدها : (( خذْني ولو قسْرا
إليك ، وضعْ منامي في
يديْك )) . ويذهبان إلي الصدي
متعانِقيْنِ / كأنٌني زوٌجت ظبيا
شاردا لغزالةي / وفتحت أبواب
الكنيسةِ للحمام “ / وعلٌِميني
الشِعْر / منْ غزلتْ قميص
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أوْلي بالحديث عن المدي ، وبخيْبةِ
الأملِ : المحارب لم يعدْ ، أو
لن يعود ، فلست أنت من
انتظرت “ /

ومثلما سار المسيح علي البحيرة “
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ولا
أبشٌِر بالقيامة . لم أغيٌِر غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحا “
للملحميٌِين النسور ولي أنا طوْق
الحمامة ، نجْمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع يفضي إلي الميناء “ /
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
هذا الرصيف وما عليْهِ
من خطاي وسائلي المنويٌِ “ لي
ومحطٌة الباصِ القديمة لي . ولي
شبحي وصاحبه . وآنية النحاس
وآية الكرسيٌ ، والمفتاح لي
والباب والحرٌاس والأجراس لي
لِي حذْوة الفرسِ التي
طارت عن الأسوار “ لي
ما كان لي . وقصاصة الورقِ التي
انتزِعتْ من الإنجيل لي
والملْح من أثر الدموع علي
جدار البيت لي “
واسمي ، إن أخطأت لفْظ اسمي
بخمسة أحْرفي أفقيٌةِ التكوين لي :
ميم / المتيٌم والميتٌم والمتمٌِم ما مضي
حاء / الحديقة والحبيبة ، حيرتانِ وحسرتان
ميم / المغامِر والمعدٌ المسْتعدٌ لموته
الموعود منفيٌا ، مريض المشْتهي
واو / الوداع ، الوردة الوسطي ،
ولاء للولادة أينما وجدتْ ، ووعْد الوالدين
دال / الدليل ، الدرب ، دمعة
دارةي درستْ ، ودوريٌ يدلٌِلني ويدْميني /
وهذا الاسم لي “
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جسدي المؤقٌت ، حاضرا أم غائبا “
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن “
لي مِتْر و75 سنتمترا “
والباقي لِزهْري فوْضويٌ اللونِ ،
يشربني علي مهلي ، ولي
ما كان لي : أمسي ، وما سيكون لي
غدِي البعيد ، وعودة الروح الشريد
كأنٌ شيئا لم يكنْ
وكأنٌ شيئا لم يكن
جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثيٌِ “
والتاريخ يسخر من ضحاياه
ومن أبطالِهِ “
يلْقي عليهمْ نظرة ويمرٌ “
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
واسمي ­
وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت ­
لي .
أما أنا ­ وقد امتلأت
بكلٌِ أسباب الر حيل ­
فلست لي .
أنا لست لي
أنا لست لي “

*****

محمد دكروب

حياتي.. وقضيتي.. وشعري

أول حوار مع محمود درويش في الصحافة العربية أجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968 في موسكو، أول عاصمة يزورها محمود درويش.
لم أكن قد التقيت به قبلا، ولكني كنت اعرفه من زمن طويل، منذ أخذ ينشر هناك اشعاره التي جمعها في ديوانه 'أوراق الزيتون'.. اتتبع ما يتسرب إلينا من قصائده وقصائد رفاقه الاخرين.. وعندما اجتاز شعره الاسلاك الاسرائيلية الشائكة، وانطلق في العالم العربي خصوصا بعد نكسة حزيران شعلة أمل واصرار وسط اليأس الشعري القاتل في تلك الفترة، شعرنا هنا باعتزاز كبير: هذا واحد منا، عملاق شعري آخر يؤكد طليعية شعرنا التقدمي، ويعطي، هو ورفاقه، المثل الحي علي اندماج الشاعر بشعبه، والشعر بالقضية.
في صوفيا، أيام مهرجان الشباب العالمي، جاء من يقول لي: 'محمود وسميح هنا، يريدان رؤيتك'..
وفي أحد احتفالات التضامن مع الشعوب العربية، التقيت بمحمود درويش.. شاب نحيل، وجه اليف جدا، قريب إلي القلب.. اكتشفنا كاننا نعيش معا من زمان.. هو ايضا يعرف الكثير عني وعن رفاقي الكتاب هنا. قال انه ورفاقه، هناك، فتحوا عيونهم علي الادب التقدمي من خلال 'الثقافة الوطنية' ثم من خلال 'الاخبار'. بعض ما نكتبه في صحفنا، كانوا ينقلونه إلي صحفهم. كانت صحفنا، كما قال، نافذتهم إلي العالم العربي، والشريان الذي ينقل إليه حركة الادب والفكر والكفاح.
يا محمود!.. أنت اسطورة عندنا.
ابتسم بحياء... قال انا انسان عادي جدا، ما اقوم به يقوم به الكثيرون، ولكن صوتي، كشاعر، يصل إلي مسافات أوسع..
التقينا بعدها عدة مرات في صوفيا، وسط ضجيج المهرجان، واهازيجه، وزيناته، ومشاكله... ثم التقينا في موسكو، حيث اتيح لي، في جو هاديء، ان أجري معه هذا الحديث، محاولا ان يكون وثيقة أدبية وانسانية، عن حياة، وشعر، وكفاح شاعر المقاومة العربية في فلسطين: محمود درويش.
في ديوان 'عاشق من فلسطين' تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية... ولعل الترامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم.
طفولتي: بداية الماسأة
حدثنا عن نشأتك.. البيئة والجو والناس... وانعكاس احداث تلك الفترة الاولي علي نفسك ومسيرتك فيما بعد...
أضع أمامكم طفولتي، لا لأني من أولئك المولعين بالحنين إلي 'البراءة المفقودة'، ولا لأني انتمي إلي الذين يعاملون مرحلة الطفولة علي انها العنصر الحاسم الذي يحدد اتجاه الشعر. ولكن الطفولة، في مثل حالتنا، اكتسبت ميزة خاصة وستساعدنا، ولو قليلا، علي فهم هذه الصلة التلقائية المبكرة بين الخاص والعام. ان طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل.
لقد وضعت هذه الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفي، مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه، ووجدت نفسها فجأة تعامل معاملة الرجال ذوي القدرة علي التحمل ولاتستثني من مصيرهم. فالرصاص الذي انطلق في تلك الليلة من صيف 1948 في سماء قرية هادئة (البروة) لم يميز بين أحد، ورأيت نفسي، وكان عمري يومها ست سنوات، أعدو في اتجاه أحراش الزيتون السوداء، فالجبال الوعرة مشيا علي الأقدام حينا وزحفا علي البطون حينا، وبعد ليلة دامية مليئة بالذعر والعطش وجدنا أنفسنا في بلد اسمه: لبنان، وحين صحا ذلك الطفل الممزق الثياب من التعب والرهبة كان رأسه يزدحم بالأسئلة التي هاجمته دفعة واحدة وبلا تسلسل. ومنذ تلك الليلة انقلبت الصفة الخاصة لعالم الطفولة، واصبح ذلك الطفل محروما من الاشياء واللغة التي تميزه عن الكبار. والغريب، هو أن تلك الليلة أكسبته شعورا غامضا بأنه، منذ الان، لن يختلف عن الكبار. والتصقت بذهنه وعاطفته كلمات جديدة صار يعرف انها مصيرية: الحدود، اللاجئون، الاحتلال، وكالة الغوث، الصليب الاحمر، الجريدة، الراديو، العودة، وفلسطين... اذ لم تكن به حاجة، علي ما يبدو، لان يعرف بأنه من فلسطين قبل الآن. من هنا، الاحظ أن ارتباطي الاول بالقضية بدأ بتعرفي المفاجيء علي كلمات. وعندما كنت أسأل أهلي عن ترجمة هذه الكلمات، كنت أدخل عالم قضايا جديدة والتصق بها رغما عني، مبتعدا بوتيرة سريعة، عن عالم الطفولة اذا كان يعني ما يحظي به الطفل من تفوق وتمييز، وصرت اقترب، بوتيرة سريعة ايضا، من عالم الطفولة الذي صار يعني المكان الذي ستخلصني العودة إليه من هذه الكلمة الجارحة: لاجيء وهكذا، تحولت عواطفي إلي اسيرة لكلمة 'العودة' التي تعني المصلحة والانتهاء من العار. وصرت انتظر، حيث أصبح الاحساس المرهف بالحرمان والظلم والتشرد مسيطرا علي ذهني الصغير وكل ما ورثته من حب للدنيا استبدله الواقع الجديد بضيق شديد بها. ولهذا أذكر فقدت موهبة اللعب وتسلق الشجر وقطف الازهار ومطاردة الفراش، وورثت عن أهلي عادة التأفف والركون إلي الصمت والتأمل. واستطيع الآن أن أحدد، من بعيد، أن الموهبة الاولي التي قادتني إلي الشعر كانت موهبة التأمل، بمعني انها اوصلتني إلي الارتباط المرهق بهموم الكلمات الجديدة، وسط جو كثيف من الغربة، فعمقت احساسي بالسبب والشكوي، ومن هنا ايضا استطيع أن أحدد منبع حساسيتي الشديدة تجاه العدوان فان طفولتي كانت ضحية عدوان وأجد الآن، خلال هذه المراجعة أن الطفولة لم تكن تعني مرحلة من مراحل حياتي، وانما كانت وطني، وفي وطن الطفولة كنت أشعر بالمراحل: الحرمان الخوف طرح الاسئلة، العزلة، التأمل، ثم الغضب علي شيئين: علي الواقع الجديد، وعلي الذين احتلوا طفولتي وطني، وقادوني إلي هذا الواقع. هذه هي تجربة 'الطفولة المنفية'. وتليها تجربة أخري:
العودة... منفي آخر!
قيل لي في مساء ذات يوم: الليلة تعود إلي فلسطين. وفي الليل، وعلي امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان، الوعرة، كنا نسير.. أنا واحد اعمامي ورجل آخر هو الدليل. والدليل رجل خبير بمسارب الجبال، استغل هذه الخبرة لتصبح مصدر رزق.
في الصباح، وجدت نفسي اصطدم بجدار فولاذي من خيبة الامل أنا الان في فلسطين الموعودة. ولكن أين هي؟ لا. هذه ليست فلسطين تلك الارض السحرية.. الخلاص من الظلم الحرمان، لا تحتضنني كما تصورت. وهذا الصبي العائد، بعد سنتين من الانتظار، يجد نفسه اسيرا لمصير المنفي ذاته، باسلوب آخر وعلي ارض ليست له.. ليست له! هذه هي الحقيقة الثانية التي مازالت، حتي الآن، اعنف يد تحرك احساسي بالمأساة، كما كانت أول محاولة شعرية لي. لم أعد إلي بيتي وإلي قريتي، فقد ادركت بصعوبة بالغة، ان القرية هدمت وحرثت. كيف تهدم القري؟ ولماذا؟ وكيف يعاد بناؤها؟ ثم أجد أن اللغة الجديدة مازالت تلبسني.
اسمي الان: لاجيء فلسطيني في فلسطين!!
وأعود مرة أخري إلي وكالة الغوث والغربة ومطاردة الشرطة لاننا لم نكن نحمل بطاقة هوية اسرائيلية.. لاننا متسللون! واذا كان من المتاح الان تقويم هذه التجربة، تجربة اللاجيء في وطنه، فاني اشعر بانها تبعث علي خطر القتل النفسي بصفاقة اقسي من تجربة المنفي. في المنفي يتوفر لديك الاحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتنسم رائحة أمل. وتحمل عذاب المنفي مبرر. والتصور للمنزل والحقل والجمال المنشود والسعادة القصية وغيرها أمر مشروع. أما التجربة الاخري، اللجوء في الوطن. فانه أمر غير مبرر وصعب الاستيعاب في حدود وعي الطفل والصبي. انك تشعر بالقصة والقهر حتي في اجمل احلامك. وتكتسب ملامحك انعكاسات واقع هي اقرب ما تكون إلي الرموز. كنت اشعر باني مستعار من كتاب قديم يخلق في انطباع غامض لاني لا أحسن قراءته.
ولكن الكابوس لايستمر بهذا الشكل. فان 'اللاجيء الفلسطيني في فلسطين' لم يترك 'حرا بحرمانه'. وهنا يضاف عنصر جديد هو عنصر التحدي من جانب السارق، وهو ذو حدين: الحد الاول، يزيد من الشعور بالتمزق، والحد الثاني يفجر هذا الشعور في نقطة ما..
في التحدي المضاد الذي يتطور إلي طريق عمل وكفاح.

عن القصائد الأولي

كيف بدأت تتلمس الطريق إلي الشعر؟
حدثنا عن الاشعار الاولي.. القصيدة الاولي التي نشرت لك، وتأثير نشرها علي نفسك، وفي حياتك.. ثم التيارات الادبية والسياسية التي تأثرت بها في تلك الفترة..
لا أذكر متي بدأت، بالضبط، محاولة كتابة الشعر. ولا أذكر الحافز المباشر لكتابة 'القصيدة' الأولي، وان كنت اذكر اني حاولت، في سن مبكرة، كتابة 'قصيدة طويلة' عن عودتي إلي الوطن، حذوت فيها حذو المعلقات، فآثرت سخرية الكبار ودهشة الصغار. واذكر ان بعض الصحف بدأت بنشر محاولاتي عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وكنت أحدق طويلا باسمي المطبوع في الجريدة، فاطمح بان يطبع مرات أخري! وخلال دراستي الثانوية صارت كتابة الشعر تحتل الجزء الاكبر من اهتمامي. وكنت سريع التأثر بالشعراء الذين اقرأ لهم مؤخرا. وكانت محاولاتي تتسم بالزخرف والنغم المسموع جيدا، وكان اندفاعي وراء الانسياق الموسيقي ينسيني أو يضيع علي: الفكرة، في تلك السنوات كنت دائم البحث عن نفسي وعن الطريقة الافضل لكتابة، ومن المؤكد ان الرومانسية تستهوي كل ابناء هذا الجيل، ولكن هذا الشعر الجديد الذي نقرأه في 'الاتحاد' و'الجديد' للشرقاوي والبياتي والبغدادي وبسيسو والسياب وغيرهم يشعرنا بعلاقة أقرب ويلهينا بالحرارة لصلته المباشرة بالواقع، فاخذني هذا الشعر إلي أول الطريق. وانفصلت عن حبي الجارف لشعراء المهجر وعلي محمود طه. ولكن لم أجد، بعد، وسيلة التعبير، كان يشغلني في هذه المرحلة كيفية التعبير عن قلقي وتمزقي وغضبي كشاب ينتسب إلي شعب مضطهد ومسحوق، بما يخيل لي انه أفضل الاشكال واقربها إلي القلب. ثم، كيف أجمع بين حبي لفتاة وارتباطي بالقضية العامة. وكانت تلك السن تصور لي ان في الصورة شخصيتين متناقضتين وكنت أتأثر بأي انتصار ثوري في أي مكان في العالم، فأسارع إلي 'تخليد' هذا الانتصار.
انتميت إلي الحزب الشيوعي
فتحددت معالم طريقي
وفي تلك الفترة تعرفنا علي عملية غسل الدماغ الثقافي الذي نتعرض له. اكتشفنا انهم، في المدرسة، يعلموننا عن تيودور هرتسل اكثر مما نتعلمه عن محمد، والنماذج الذي ندرسها من شعر حاييم نجمان بياليك أكبر بكثير من نماذج شعر المتنبي، ودراسة التوراة اجبارية، أما القرآن فلا وجود له، فأحسسنا أن غزوا ثقافيا لنشر العبرية يزحف إلينا ناعما كالافعي، فكان لابد لنا من أن نمنح انفسنا الوقاية، وازداد اقترابنا من الاوساط اليسارية، وصرنا نقرأ مباديء الماركسية التي اشعلتنا حماسا واملا، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلي الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعا عن الحقوق القومية ودفاعا عن حقوق العمال الاجتماعية.
وحين شعرت أني أملك القدرة علي ان اكون عضوا في الحزب دخلت إليه في عام 1961، فتحددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحا وصرت أنظر إلي المستقبل بثقة وايمان. وترك هذا الانتماء آثارا حاسمة علي سلوكي وعلي شعري.
عن دواويني وشعري: من المباشر إلي الرمز الشفاف
ديوانك الاول.. اسمه، طابعه العام. ماذا يمثل: في المضمون، في الشكل، في حياتك الخاصة، وفي الشعر العربي داخل اسرائيل لا... الديوان الثاني.. والثالث.. والرابع.
... ماذا يمثل كل ديوان، في نظر النقاد عندكم، وفي نظرك وفي حركة التطور الشعري عندك؟ هل وضعت شعرا وانت في السجن؟
تأثير السجن في نفسك وشعرك..
أول ديوان مطبوع لي، لا يستحق الوقوف. كنت في سنتي الدراسية الاخيرة (18 سنة)، وكان تعبيرا عن محاولات غير متبلورة، صدر عام 1960 واسمه 'عصافير بلا أجنحة'.

أما الديوان الثاني 'أوراق الزيتون' الصادر عام 1964 فأعتبره البداية الجادة في الطريق الذي أواصل السير عليه الان، الطابع العام المميز لقصائده هو التعبير الجديد، بالنسبة لشعرنا، عن الانتقال من مرحلة الحزن والشكوي إلي مرحلة الغضب والتحدي، والتحام القضية الذاتية بالقضية العامة، متنقلا من سمة 'الثوري الحالم' إلي الثوري الاكثر وعيا. وتشيع في جو الديوان رائحة الريف، وآلام الناس، والتغني بالارض والوطن والكفاح، والاسرار علي رفض الامر الواقع، وحنين المشردين إلي بلادهم، ومحاولة العثور علي مبرر لصمود الانسان امام مثل هذا العذاب، كما ترون في هذه الاغنية مثلا:
وضعوا علي فمه السلاسل ربطوا يديه بصخرة الموتي وقالوا: انت قاتل!
اخذوا طعامه، والملابس، والبيارق
ورموه في زنزانة الموتي
وقالوا: انت سارق!
ردوه عن كل المرافئ
اخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يادامي القدمين والعينين
ان الليل زائل
لاغرفة التوقيف باقية
ولازرد السلاسل
فحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي.. سنابل!
وقد استقبل الديوان برضا بالغ من القراء والنقاد والشعراء الذين اعتبروه مفاجأة وقفزة في الشعر العربي في بلادنا. ويسعدني أن اذكر أن 'أوراق الزيتون' هو الكتاب العربي الوحيد الذي طبع طبعتين.
'عاشق من فلسطين'
وشاعر في السجن

الديوان الثالث هو 'عاشق من فلسطين' صدر عام 1966، أن طريقتي في التناول هنا تختلف عنها في 'أوراق الزيتون' مما نتج عنه تغير في النبرة. صوتي هنا اكثر انخفاضا وهمسا وشفافية.
تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية. وحين انظر إلي الاشياء لا التصق بها فقط، وانما اتوغل فيها أو هي تتوغل في. كان وعيي ووجداني يدخلان في معادلة واحدة. ولعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم. واعتقد ان للتجربة التي خلفت 'عاشق من فلسطين' فضلا علي ما أدعيه. القسم الاكبر من الديوان كتب في السجن أو عن السجن. واظن ان للمكان بعض التأثير علي بناء القصيدة ايضا. ويخيل لي أن كتابة القصيدة في السجن اشبه ما تكون بعملية التقاط سريع أو اصطياد خاطف، وماهر، في نغمة اشبه ما تكون بالدندنة، حيث لا تكون للشاعر هناك أدوات الكتابة المادية التي اعتاد عليها. وقد يكون العامل المريح الذي يكتب فيه الانسان. شاء أم لم يشأ، أحد العوامل التي تدفعة إلي العناية الشديدة بالاناقة. من هنا تجد ان قصيدة السجن قصيرة، مكثفة، وتحتوي علي فراغ جميل ذي ايحاء، فانك تشعر ان هذا الشاعر السجين لم يقل كل شيء، لم يستهلك تجربته، ومازالت هنالك ظلال غير مرئية. وهذه الميزة ميزة الانطباع بوجود ما لم يقل تعجبني كثيرا في الشعر، كقاريء من حقي المطالبة بأن يتعدي دوري جهاز الاستقبال، إلي المشاركة في العملية الابداعية. ومع ذلك، فاننا نظلم المسألة اذا جعلناها وقفا علي عنصر المكان الا بقدر ما يعنيه من وعاء للتجربة أو مسرح لها. ان السجن يرغم المرء علي المراجعة والتأمل في كل شيء، وكون السجين مقطوعا عن العالم الخارجي ومحروما منه يحمل ارتباطه العاطفي والفكري به اكثر التحاما وحميمية. كل شيء في هذه الدنيا الطليقة خارج الاسوار يصبح ذا ذكريات ومواعيد، لدي موعد مع كل شيء.. عندما يطلق سراحي سأقف طويلا لكي امتليء بزرقة البحر وملوحته. وفي السجن 'اكتشفت' الشجر بكل ما فيه من مودة، كرد فعل للون الرمادي، وهكذا تصبح الالوان مثار اهتمام من نوع جديد. مازلت اقول ان النفي الحقيقي للانسان هو ان تبعده عن الشجر. كل عشية تتحول إلي رمز. وفي السجن تكتشف علاقاتك الحميمة بالناس، ويزداد الانتماء حنانا، وتري اهلك من زاوية أخري لم تنتبه لها من قبل. لقد كنت مضحكا جدا عندما كتبت إلي أهلي: 'اكتشفت اني احبكم بلا حدود. لاتؤاخذوني علي هذا الاعتراف'، ولكني كنت صادقا. ملخص القول ان العالم الخارجي الذي يتحول إلي وحدة رمزية واحدة يتداخل في السجين من أجل قضية، وتصبح كل العناصر مشاركة في هذه القضية التي يلح عليك السجن بالتشبث بها.
هذا ما حاولت أن أكتب عن حنيني إليه بطريقة قتلت فيها عنصر الحنين، لان السجن لم يبعدني عن الناس والاشياء والقضية، وانما جعلني اهضمها بشهية ونهم.
وهكذا، أري اني خطوت خطوة نحو المزج بين الاشياء مما استدعي صيغة اكثر مرونة تسع لحركة المزج، اسفرت عن انزال ضربة، غير مقصودة لذاتها، ببناء القصيدة الكلاسيكي. وقد حدث ذلك بما يشبه التلقائية، اذ لا خيار لك وسط هذه الحركات والرموز في ان 'تقرر' شكلا ما، فالعملية هنا هي التي اخذت اطارها وشكلها.
'آخر الليل..': مشكلة
الرمز.. والوضوح.. والقراء

آخر دواويني هو 'آخر الليل'. وارائي في غني عن تقديمه لكم لانه نشر في العالم العربي علي نطاق واسع، ولكني اشعر بان مسافة التطور الفني، بينه وبين 'عاشق من فلسطين' أوسع من المسافة الممتدة بين 'عاشق من فلسطين' و'أوراق الزيتون'، اشعر ان كلمات 'آخر الليل' اكثر ظلالا وايحاء، وصار الرمز، عندي، اغني بالكثافة، وان كان الجو العام شفافا. واستطعت، كما يبدو لي، أن أحقق الصداقة بين الحلم والواقع، بين سبب الرمز ومدلوله، وتلقائية العلاقة بين الفكر والوجدان، وفي الحوار القاسي أو الصراع بين الموت والحياة انتصرت علي الموت دون ان اجعل ايديولوجيتي تتدخل، ظاهريا.
ولكن 'آخر الليل' الذي اعتبره افضل ما كتبت، استقبل بفتور علني من اغلبية القراء في بلادنا. وقال لي عشرات من المثقفين: 'يامحمود! عد إلي الوراء. اذا كان هذا هو التقدم الفتي فليتك لم تتقدم'.. وقيل لي، بشفقة، ليتك لم ترحل عن القرية.. هذا الشعر غير مفهوم. ومجمل رأي القطاع الاوسع من القراء هو ان هذا الديوان يمثل بداية سقوطي. يضاف إلي ذلك ان الذين يكتبون النقد في بلادنا، عادة، لم يعيروا الكتاب أي اهتمام. وكتب احد رفاقي مؤنبا: 'هل سيأتي كل قاريء إلي الشاعر ليفسر له هذه الرموز، أم يبحث عن منجم' وأعرب عن أسفه لانجراري وراء الشعراء الرمزيين!!
من المكابرة ان اقول اني لم اشعر بعذاب نفسي. هل يترتب علي، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلي التعبير المباشر، والحث الصريح علي الكفاح والتمسك بالامل والعقيدة؟ هل اعلل هذه الظاهرة بعدم وجود نقاد جادين؟ هل هذه الظاهرة تطرح قضية 'التناقض' الفني بين متطلبات التجديد عند الشاعر وبين مدي الامكانيات الفنية المتوفرة لدي قطاع واسع من الناس؟ هل أصبحت صوري ورموزي وطريقة تناولي معتمة؟ هل غامرت كثيرا؟ ان هذه الاسئلة تشغل بالي بشكل ملح، خاصة اني اعتبر نفسي شاعرا ثوريا يخاطب الجماهير ويلتزم بقضية الجماهير ويكتب من أجل الجماهير. ويطرح امامي سؤالا للمستقبل: كيف أوفق بين شق الطريق امام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟ ثم، انني مليء بالإحساس في ان 'اللعبة الفنية'، عندي، مكشوفة خلف منديل شفاف.
معارك.. ضد السلطة
والعدمية وانعزال الفنان

تخوضون معارك كثيرة.. حدثنا عن المعارك الفكرية
والاجتماعية التي مارستها... وعن محاربة السلطة لكم ولشعركم... وعن السجن...
كل هذه المعارك تقريبا تدور، مباشرة، في دائرة المعركة السياسية، سواء كانت السلطة الطرف الآخر والمباشر، وسواء كان الفكر الرجعي أو الانتهازي أو العدمي محفوفا بعطف السلطة أو تأييدها أو لا يعدو كونه جندا من جنودها. ولعل مكافحة سعي السلطة إلي اشاعة العدمية القومية في صفوف الجيل العربي الجديد قد اصبحت احدي معاركنا اليومية.
وتكرس السلطة جهودا خاصة لاضعاف قوة جذب حزبنا للشباب بالهجوم المستمر علي الفكر اليساري وعلي الاشتراكية، داعمة هذا الهجوم باساليب الارهاب غير الاخلاقية، وبفتح الابواب علي مصارعيها لكل أنماط الحياة الامريكية وثقافتها.
وتوحي السلطة مثلا لاحد مأجوريها، بين الحين والآخر، لاختلاق مناقشة واسعة حول: 'هل العرب يؤلفون شعبا؟' وتملأ صحفها بالمصادر 'والبراهين والأدلة العلمية القاطعة!' علي أن هذه الشعوب المسماة غريبة ليست عربية!! ولم يكن من الطبيعي ان نجلس مكتوفي الايدي أمام مثل هذه الاسئلة، ودخلنا معركة طويلة مع أصحاب هذا 'الفكر'. أورد ذلك فقط علي سبيل المثال. ثم إننا نحارب التثقيف الرسمي للشباب اليهود بروح الشوفينية والغطرسة القومية والتفوق العرقي وتزييف التاريخ، سواء كان ذلك في برامج التعليم أو الصحف أو الادب والفكر.
وفي الميدان الادبي، دخلنا عدة معارك حول الالتزام في الادب، وما هو الأدب؟ وهل هو الحياة أم لذاته؟ وغيرها من المواضيع التي اشغلت حياتنا الادبية، بشكل ملح، ذات يوم. ثم ان لابد من دخول معركة حول قضية كانت قضية الساعة: قضية الشعر الحديث، وغيرها من المناقشات الدائرة حول قضايا الفن والادب، والروايات العربية الرخيصة التي أغرقت المكتبات.
أما محاربة السلطة لشعري وشعر زملائي فقد كانت السلطة، في البداية، تجهد لجعلها غير مرئية بكل ثقلها، خاصة ان السلطة تحرص كثيرا علي مباهاة العالم 'بواحة الديمقراطية في صحراء الشرق'!! 'أكتب ما تشاء وأدفع الثمن الذي نشاء' هذا هو الشعار غير المكتوب. ولكن، ما هو الثمن؟ لن تعمل، لن تمارس حرية التجول، ولن تترك طليقا، وستبقي عرضة للاعتقال. فان انظمة الطواريء الانتدابية التي لاتزال سارية المفعول، تتيح للسلطة العسكرية ممارسة كافة الاجراءات ضد أي مواطن وهي في حل تام من تبيين الاسباب أو تقديمه للمحاكمة. وهكذا أصدرت السلطة العسكرية أوامر الاقامة الاجبارية ضد الشعراء العرب التقدميين بدون استثناء. وأنا، مثلا، لا أستطيع مغادرة حيفا منذ أربع سنوات. وسميح القاسم أمر بملازمة بيته منذ غروب الشمس حتي شروقها لمدة ثلاثة أشهر متتالية. وتوفيق زياد وسالم جبران محددا الاقامة في منطقة الجليل. ثم، هنالك المراقبة العسكرية علي طبع دواوين الشعر: لايستطيع الشاعر أو صاحب المطبعة ان يطبع أية مجموعة شعرية الا بعد ان تجيزها المراقبة العسكرية. ومن الواضح ان الرقيب لايرضي أن يكون عاطلا عن العمل أو كسولا!!، ثم، هناك الفصل من العمل اذا كنت موظفا: عيسي لوباني وسميح القاسم وغيرهما طردوا من جهاز التعليم. ثم، هناك السجن، رغم ان السلطة لم تجرؤ، حتي الآن، ولمتطلبات الدعاية، علي محاكمة شاعر لانه كتب قصيدة، وقد حاولت تقديمي إلي المحاكمة في عام 1961 علي قصيدة عن غزة، واستدعيت للتحقيق وقدمت لي لائحة اتهام، ونشرت الصحف ان العقوبة ستبلغ خمس سنوات سجن، ولم أحاكم حتي الآن. ولكني حوكمت لاني سافرت إلي القدس لالقاء قصيدة وسجنت شهرين.
وأذكر أني في عام 1961 وجدت نفسي في غرفة التوقيف لمدة عشرة أيام بدون تهمة وبدون تحقيق. وفي حرب حزيران اعتقلت مرة أخري.
ولكن السلطة لاتكتفي باتخاذ الاجراءات المباشرة ضد الشاعر. أنها تمارس المعركة النفسية عن طريق الصحف، فحين أحظي بإشارة صحفية في صحيفة. حكومية أجد نفسي من خلالها شبيها بالوحش، فليست معركتي الا معركة عنصرية.. أعاني مركبات الحقد وكراهية اليهود وغيرها من الالقاب!! واني اتصدي لهذه الصورة باعصاب باردة، بالتمييز بين السلطة الصهيونية وبين اليهود. أذكر أن صحيفة 'دافار'، مثلا، وصفت قصيدة لي عن الحرب بانها 'طعن لافضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'، فقلت 'لدافار': انكم أنتم الذين تشتمون شعبكم، فأنا احتج علي العدوان والقتل والتدمير والتنفس من رئات الآخرين، فتقولون لي: 'انك تطعن افضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'.
ومن المفيد ان نعلم ان التحريض علي شعرنا ليس من اختصاص الصحفيين فقط، واذكر ان نائب وزير الدفاع السابق شمعون بيريس حين أراد البرهنة علي ضرورة بقاء الحكم العسكري علي العرب لم يجد الا شعرنا سببا كافيا لاستمرار هذا الحكم!
حزيران..
الدماء والدروس

حرب حزيران.. كيف واجهت وطأتها؟.. تأثيرها في حياتك، وموقفك.. والطابع الذي اتخذه شعرك في تلك الفترة المريرة، وبعدها.
أدبيا، لم تخلق تأثيرا مفاجئا، ولم تقلب افكاري رأسا علي عقب، ولم تحطم قيمي كما فعلت، ومن الخير انها فعلت، بالكثيرين من الشعراء العرب خارج بلادي. لم أكن جالسا في برج حمام لكي تقنعني، بمثل هذا الدليل الفادح، علي ضرورة النزول إلي الشارع. ولكنها كانت مكاشفة جارحة. وأضافت، لمن لم يصدق حتي ذلك الحين، برهانا جديدا علي ضرورة ممارسة العمل والفكر الثوريين الحقيقيين، وعلي ان الادب ليس سلعة أو متعة.
وهذا ما كنا نؤمن به، حتي النخاع، قولا وعملا، وما زلنا بعد حزيران أشد ايمانا. ومن الضروري ان يستفيد منها اولئك الذين سودوا اطنانا من الورق ضد التزام الأديب بقضية، وضد تسلح الاديب بفكر ثوري حقيقي. ومن الموجع حقا ان يحتاج أديب إلي مثل هذه الكارثة لاكتشاف ما يشبه البديهيات، وأذكر اني قلت لفدوي طوفان، في لحظات لقائنا الاول في حيفا: هل ترين يافدوي ان شهرا واحدا من الاحتلال قد حل، عندك، كل المناقشات الطويلة حول الشعر؟ مشيرا إلي الانعطاف الواضح في شعر فدوي بعد احتلال نابلس. وقلت لها، بكثير من الوجع، 'آمل ان يستفيد الجميع مما حدث، لئلا يأتي نزار قباني، مثلا، لزيارتنا'!
من الواضح، أن أحدا لايحاول التخفيف من قبضة الذهول، وتفتح الجراح الجديدة، والجراح القديمة التي تخفر مرتين أو ثلاث مرات. وأنا شخصيا، وأنا قابع في السجن، تعطلت اعصابي. وبعد خروجي لم اجرؤ علي القيام بمحاولة الكتابة، لأن التشنج والرؤية الفارقة في الدم والحروق لم تتح لي بلورة المدخل الذي سأنفذ منه إلي مثل هذا الموضوع المهلك، والصعوبة الفنية في مثل هذه المواضيع هي العثور علي فتحة ضيقة تتمكن من السيطرة عليها والتطلع إلي ساحة الموضوع وآفاقها. ويبدو أن سخونة الوجدان الزائدة عن الحد المعقول تفسد العملية الابداعية بقدر ما تفسدها برودة العقل الزائدة عن الحد المعقول. بعد شهور وجدت نفسي اكتسب بهدوء ظاهري هذه القصائد التي يحتويها ديوان 'آخر الليل'. وقد سهل علي العملية، إلي حد ما. إدراكي انه لم يتبق لي شيء.. الا العقيدة والكلمة. فلماذا تسقطان؟ وهما وسيلتاي للصداقة مع الحياة، والتعويض الباقي.
لقد استطعت في هذه القصائد، واقول ذلك بنبرة فخر، ان انقذ انسانيتي من الموت، في تلك الفترة العنيفة التي هددت انسانية الانسان بأفدح الاخطار. عندما انفجر الحلم، وجدت اني مازلت متشبثا بانبل تراث: انسانيتي.
شعر المقاومة
احتجاج وتغيير

ان شعرك وشعر زملائك يعتبر جزءا من شعر المقاومة العربي والعالمي.. حدثنا عن مفهومك انت لشعر المقاومة.
شعر المقاومة، كما افهمه، تعبير عن رفض الامر الواقع.. معبأ باحساس ووعي عميقين بلا معقولية استمرار هذا الواقع وبضرورة تغييره والايمان بامكانية التغيير. قد يبدأ هذا الشعر، غالبا، بالتعبير عن الالم والظلم، ثم الاحتجاج والغضب والرفض. ولكن لكي يفعل هذا الشعر مفعوله عليه ان يكون عملية للتغيير فيتسلح بنظرية ثورية ذات محتوي اجتماعي، وهكذا يجد نفسه شعرا جماهيريا. ان شعر المقاومة، بطبيعته. شعر ثوري. وكون هذا الشعر جماهيريا قد يهلك أشباه الشعراء فنيا، عندما تصبح النية الطيبة والمباشرة والخطابة الرنانة هي العناصر الاساسية في شعرهم. ان 'اللعبة' الفنية في شعر المقاومة تصبح اكثر انفضاجا. وعلي الشاعر ان يتداخل مع الواقع وينسق بكلمات متحررة من الهجاء والخطابة المباشرين. وأري ان من اتقي ميزات شعر المقاومة، عادة، الصفاء الانساني الشامل، فصرخة الانسان المضطهد المقاوم في أي مكان هي صرخة انسانية تخص كل انسان، والظلم والسجن والقتل والاضطهاد وقائع معادية للانسانية غير منحصرة في حدود جغرافية، ومقاومة الانسان لها هي عملية انسانية نبيلة. ويتمتع شعر المقاومة، عادة، بحساسية شديدة بالترنح كجزء من تمسكه بجذور عميقة تعينه علي الصمود وعلي تبرير هذا الصمود واحتقار هذا الظلم الطاريء امام جبروت التاريخ.
وأنا أعتبر نفسي امتدادا نحيلا، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة ابتداء من الصعاليك حتي حكمت ولوركا واراغون الذين هضمت تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدوني بوقود معنوي ضخم.
عن الرمز والشجر
الذي صار بلون الدم

في شعرك كثير من الرمز، وذكر لاشياء الطبيعة (الزيتون والبرتقال والشراب) لها عدة ابعاد رمزية وايحاءات... يقال: ان هذه الوسائل الرمزية 'تبعد' الشاعر الواقعي عن واقعيته... ما رأيك في هذا، من خلال تجربتك الشعرية نفسها؟

أشياء الطبيعة هذه، هي التي غالبا ما تتحول إلي الرمز عندي، فالبرتقال والزيتون، مثلا، هما من أقوي معالم الطبيعة في بلادي، ولكنهما ليسا طبيعة مجردة وبالمناسبة، انا لا أتحمس لشعر الطبيعة الوصفي الذي يمجد الطبيعة علي اعتبار انها لوحة جميلة. ان هذه الطبيعة تستمد حيويتها ومدلولها وقيمتها من خلال تعامل الانسان معها. ان اهتمامي بالبرتقال والزيتون مستوحي من واقع الانسان الذي غرس هاتين الشجرتين وساقهما بالعرق والامل منتظرا ثمار ما اعطي. هذه العلاقة بين الزارع والشجرة تحمل مدلول استمرار الحياة والامل والوطنية والتلقائية. ولكن، وبشكل مأساوي، قصمت هذه العلاقة بعسف وبكثير من الدم الذي لم يعد يبرر لي المحافظة علي حرفية لون الشجرة مثلا، بعد ان اختلطت أوراقها الخضراء باحمرار الدم وسواد الليل. والمزارع لاقي أحد ثلاثة مصائر: إما الموت عند الشجرة، وإما الهجرة الاجبارية عنها فالتصقت بذاكرته واصبحت رمزا للوطن وانتظار العودة، وأما بقي امامها دون أن يملك القدرة علي احتضانها واستمرار العلاقة بها، فتحولت لديه إلي نبع من الظمأ أو إلي امرأة تسبي امام عينيه. هكذا، لم يبق من الشجرة الا مدلولاتها، أي ان الواقع تحول إلي رمز أو ايحاء. هذا الرمز ايضا ليس جامدا.. امرا مفروغا منه، انه يتحرك مع تطور البيئة هذا الانسان بما يفرزه هذا التطور من حالات نفسية. ولكن الرمز الذي يحافظ علي 'حقيقته' في كل حركات الزيتون، في نهاية المطاف، هو التشبث في التراب والقدرة علي مواجهة الزمن وطول النفس والخضرة الدائمة أخيرا.
من الواضح، ان هذه الصورة لم تأخذ ابعادها الحالية عندي منذ اول الطريق. وقد توصلت إليها بعد احساس بضرورة التخلص من تفصيل الصورة الشعرية، والاكتفاء بما يشبه الرمز للتدليل علي الواقع الحسي دون الاستغناء عنه كليا.
الرمز عندي، كما اراه، ليس مبهما. انه يكتشف بسرعة، وهو في أول الامر وآخره بدليل التعبير المباشر.
هنالك تبرير آخر، لعله قادر علي اعطاء جواب آخر علي عضوية الترابط بين الصيغة والموضوع، كان من دوافع لجوئي إلي الرمز، في البداية، محاولة تخطئي الواقع الذي لايتيح لي امكانية الحديث بشكل مباشر، لاسباب سياسية، فكان لابد لي من ممارسة 'الاحتيال' الفني لعكس واقعي.. وهكذا ترون ان الرمز كان ضرورة وحاجة ثم تحولت إلي طريقة تعبير.
لماذا الرمز وانا واقعي؟ لعل ما قلته عن توصلي إلي الرمز يعطي الجواب، ثم ان استخدامي الرمز جاء لغناء واقعيتي ولخدمتها. والواقعية، كما افهمها، هي طريقة في فهم الحياة وعكسها واعادة خلقها، وليست وسيلة تعبير ميكانيكي جاهز. ولذلك، لا أري تناقضا بين التزامي بقضية وعقيدة وبين سعي إلي ما يبدو لي انه طريقتي الذاتية في التعبير.

في شعرك ملامح من الاساطير والحكايات الشعبية.. ما هي الاساطير والحكايات التي اثرت بك؟
هذه الملامح ليست ساطعة في شعري. وإذا كنت ألجأ، أحيانا، إلي الاساطير فليس ذلك لاعادة خلقها، وانما كنت احاول 'اختطاف' الرمز منها عندما يكون هذا الرمز صالحا لخدمة موضوعي والتوافق مع ذاتيتي، أي عندما اشعر بالتشابه بين ايحاء ذلك الرمز والايحاء الذي اريده.
كنت مولعا، بشكل خاص، بالاساطير اليونانية وبقصص القرآن والتوراة. وقرأت، بشغف، حكايات الف ليلة وليلة.

عن الشكل الجديد للشعر
والالقاء امام الجماهير

كيف يتم التوفيق، عمليا، بين الشكل الجديد للشعر وبين الضرورة التي تواجهونها باستمرار لالقاء الشعر بين الجماهير العربية داخل اسرائيل؟.. حدثنا عن تجاربكم في هذا المجال.
بودي القول ان مهرجانات الشعر العربي في اسرائيل قد تحولت، ذات مرة، إلي احتفالات شعبية ينتظر الناس مواسمها. وأنا اذكر تلك الفترة بفرح حقيقي. كانت ساحة القرية أو المدينة أو دار السينما تزدحم بالناس من جميع الفئات والاعمار للاستماع إلي الشعر بحيوية وتجاوب واضح، حتي ضاقت السلطات ذرعا بهذه الظاهرة 'الخطرة' وقاومتها بمختلف الوسائل ولجأت أخيرا إلي منع الشعراء من الانتقال من أمكنة سكناهم.
لم يكن المستمعون يفكرون ببناء القصيدة بقدر اهتمامهم بما تحمله من الصور والمعاني والايحاءات، واذكر أن القصيدة الاولي المنتمية إلي الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا ابوحنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري، أن انصار 'الشعر القديم' في بلادنا متشددون حين تكون القصيدة مطبوعة، ومتساهلون أشد التساهل حين تكون مسموعة، وهذا يؤكد لي ان إحدي صعوبات الشعر الجديد، بالنسبة لكثيرين من القراء، هي طريقة قراءته المتعسرة، فلا يعرفون متي تبدأ الفقرة الجديدة ومتي تنتهي الصورة الاولي لتلحقها الصورة الثانية وهكذا... وبالنسبة لي، فوجئت ذات يوم حين أصر المستمعون علي الاستماع إلي قصائد مكتوبة بالطريقة الجديدة. واذكر اني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي 'بطاقة هوية' اجبرت علي إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة ادركت ان القصيدة الانسانية، مهما كان بناؤها، يمكن ان تلقي امام الجماهير، بدون أي حرج. ثم ان القصيدة الطنانة الرنانة تخلق جوا ضوضائيا، بينما القصيدة الجديدة تنشر، بسرعة غريبة، جوا من الذهول الذي يحبه الشاعر في مستمعيه ولا أقول ان كل المستمعين يفهمون، دفعة واحدة، كل ما في القصيدة، ولكنهم يعيشون جوها ويفكرون بها. واعتقد ان علي الشعراء الجدد، لكي يعززوا مكانة الشعر الجديد، ان يزيدوا من إلقاء الشعر للجماهير لكي تعتاد عليه وتتحرر آذانها من النبرة الضخمة القديمة التي اعتادت عليها وتوارثتها جيلا بعد جيل.
التيار التقدمي هو الحاسم
بين الكتاب والشعراء العرب

حدثنا عن أوضاع وتيارات الحركة الفكرية والادبية للكتاب العرب داخل اسرائيل.. وهل يوجد من باع نفسه للشيطان وراح يروج للمفاهيم التي تخدم السلطات؟
استطيع ان اقطع، بسهولة وبسرعة، بأن التيار التقدمي هو التيار الحاسم في حركتنا الثقافية. ومن دلائل هذه الظاهرة هو ان التيار الاخر لايملك الجرأة الفكرية علي مواجهتنا. ان التيار الرجعي عديم النفوذ، وقد شاءت الصدفة المدهشة ان تكون العناصر الرجعية فقيرة المواهب. لنأخذ الشعر، مثلا، وهو وجه الادب العربي في اسرائيل. ان كل الشعراء المعروفين والموهوبين، وبدون استثناء، ليسوا تقدميين فحسب، ولكنهم ينتمون إلي الحزب الشيوعي. ان المعركة عندنا تدور بين الشعراء التقدميين والسلطة مباشرة، والعكاكيز الثقافية التي حاولت السلطة الاعتماد عليها كانت أضعف من اية مواجهة. فنجمت عن هذه الحقيقة ظاهرة جديدة هي ظاهرة الصمت. اننا نجد فئة من الموهوبين تعاني ازمة فكرية ونفسية أوقوفها امام احد اختيارين: إما الكتابة. والكتابة عندنا يشق، عليها الانفلات من الواقع الخشن، وأما الاحتفاظ بلقمة العيش والسلامة. وقد اختارت هذه الفئة الاختيار الثاني، فصمت البعض صمتا تاما، وتحفظ البعض من المواجهة.
أما العناصر الرجعية فانها تسعي إلي ترويج فكرة عدم جدوي الادب الواقعي، واشاعة اليأس والتشكيك، ولكن منابر هذه العناصر تهاوت، فان كل المجلات الثقافية الحكومية المدعومة بميزانيات ضخمة قد اضطرت إلي الاحتجاب، لا بسبب افلاسها المالي وانما بسبب افلاسها الفكري وعجزها عن كسب الانصار من الكتاب والقراء ان هذه الظاهرة ظاهرة فشل المجلات الحكومية، تثبت قوة نفوذ التيار التقدمي في أدبنا الإنساني المعبر عن مشاعر الجماهير وتطلعها إلي حياة أفضل متحررا من الشوفينية ومن العدمية القومية. ومن أشد الادلة علي ذلك ان صحفنا الشيوعية 'الاتحاد' و'الجديد' و'الغد' ذات الموارد المالية الفقيرة تتمتع بتأييد القراء وعطفهم.

ما هو الشعر، بالنسبة لك؟

هل تقرأ كثيرا؟
ماذا تحب ان تقرأ بشكل خاص؟..
ولماذا؟
في السنوات الاخيرة صارت قراءتي خاضعة لبعض التنظيم، فانا أولي الدراسات النظرية والفكرية والسياسية المتعلقة بقضايا الحركة الثورية وهموم العصر المرتبة الاولي من الاختيار لأتمكن من شحذ سلاحي الثقافي ومعرفة العالم الذي اعيش فيه وايجاد مبرر لكفاح الانسان. ولعل اهتمامي الخاص بالدراسات السياسية والتاريخية ناجم ايضا عن طبيعة عملي الصحفي.
وفي الميدان الادبي احاول الموازنة بين حاجتين ماستين: دراسة الآداب القديمة وقمم الكلاسيك العالمي، وملاحقة التيارات الادبية والفنية المعاصرة في العالم. وانا مولع بمطالعة السير الذاتية لانها تحتوي علي الفائدة والمتعة والكشف عن خبايا النفس. ولعلي احتار بين ايثاري للشعر ام للمسرح، لاني مفتون بكل ما يتعلق بالمسرح. وبالمناسبة، لا أري الافلام السينمائية ولا اقرأ عنها رغم ما اتعرض له من نقد الاصدقاء وسخريتهم، واعتبر نفسي جاهلا في هذا الموضوع. وأحب ان اكون حريصا علي مواكبة الادب العربي الحديث والادب العبري الحديث.

هل لك تجارب، غير الشعر، في العمل الابداعي؟.. رواية.. قصة.. مسرحية.. أي شيء... حدثنا عن هذه التجارب سواء نشرت اشياء منها.
لم أحاول كتابة القصة أو الرواية، ولايبدو لي اني سأحاول رغم شغفي الشديد بقراءتهما. ولكنني مشبع بالرغبة في محاولة كتابة مسرحية شعرية.
احب كتابة الادب الصحفي، والريبورتاج، وتسجيل انطباعات عن الكتب والاحداث والامكنة، وقد كتبت مئات المقالات من هذا النوع. ولكنني في السنة الاخيرة لا أكتب إلا المقال السياسي أو التعليق، واتمتع بكتابة الاخبار السياسية.

ماذا تكتب الآن؟
وما هي مشروعاتك؟
اكتب، في هذه الفترة، عن الحب الذي يولد وسط قضية، فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا لايتجزأ منها. أريد أن أكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين وبين الشارع. فالعاشقان ليسا عاشقين فقط، ولكنهما ضحية واحدة وأمل واحد وكفاح واحد. لقد تحدثنا كثيرا عن التحام الخاص بالعام، ولكن هذه الظاهرة أصبحت تأخذ شكلا تلقائيا عندي خاصة في الاغاني التي اكتبها الان. ان طعم العاشقين يحمل مذاق الواقع الخشن.

أي دور تطمع ان تؤديه، في الشعر، وبواسطة الشعر؟
... ان انقل قضية شعبي، بكل ابعادها، إلي الصفحات التي تستحقها في ديوان الشعر الإنساني، فهذه القضية حلقة من صراع الانسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة وفي نشاط البشرية.
ومن الظلم أن أطالب غيري بتأدية هذا الدور. ومهما يكن حجم الآلة التي أعزف عليها صغيرا، فان لها مكانها في التشييد الانساني الشامل.
ان اصوات الشعراء القادمة من انحاء العالم، مجتمعة، هي التي تؤلف هذا النشيد. وتمسكي بهذه الآلة الفلسطينية لايتنافي مع وعي لشمولية الكفاح الانساني. ومجموعة الاشجار هي التي تصنع الغابة!

******

نمت الأجنحة ليطير الشاعر منتصرا علي موته

سعدية مفرح

بخوضه لتجربة الموت أخيرا سيعرف محمود درويش الحقيقة التي ظل طوال عمره يبحث عنها في ثنايا قصيدته المفعمة بالأسئلة الوجودية قبل أن تكون الهوية الأجمل لشعب احترف الحياة بقدر استهانته بالموت احتفاء بوطن اسمه فلسطين.
الخبر يقول أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش أسلم الروح في احد مستشفيات هيوستن في ولايات تكساس الاميركية مساء السبت الماضي إثر عملية جراحية لم يتحمل تبعاتها قلبه الذي مل من العمليات الجراحية ولكنه لم يمل من الشعر والنثر والحب والحياة و...أولا وأخيرا فلسطين. لكن فلسطين التي كانت هويته الشعرية والانسانية منذ أن ولد في قرية البروة في قضاء عكا عام 1941 أزهرت شيئا فشيئا وقصيدة بعد قصيدة لتصير وطنا أكبر وهوية أوسع من مجرد جغرافيا محتلة يحاول شاعرها أو يكون شاعرها ، فلم يعد يستهوي درويش، بعد أن تنامت دهشته الشعرية علي حواف العالم كله أن يظل شاعر القضية وحدها، ربما لأن قصيدته اتسعت لتصير وطنا، وربما لأن وطنه/ وطن اتسع ليصير قصيدة وربما لأن الشعر القادر علي هزيمة الموت كما اكتشف درويش، في جداريته الشعرية التي كتبها قبل تسعة أعوام كشاهدة أبدية علي الحياة، احتله ككيان وكإنسان قبل أن يحتله كقضية وطنية وسياسية. بدأ درويش إذن شاعرا للقضية الفلسطينية، حاملا هوية شعب بأكمله في وجه المحتل منذ مجموعته الأولي عصافير بلا أجنحة ، لكن الاجنحة نمت فيما بعد ليطير الشاعر من خلاله محلقا في سماوات الابداع الأكثر اتساعا من عبارة تقول سجل أنا عربي وحسب. ولأن درويش بموهبته الشعرية المتفردة، أدرك متي يخرج من قفص العبارات الجاهزة بجمالياتها الشعبية الصاخبة، فقد صار أهم شاعر عربي في الخمسين عاما الماضية، ليس علي صعيد حجم الموهبة وحسب بل أيضا علي صعيد ما حقق من انجازات شعرية وإبداعية من خلال هذه الموهبة التي لم تلهه عن قضيته الكبري حيث السؤال الوجودي الكامن ما بين الموت والحياة.. والذي حاول استقصاءه في تلك جداريته الفاتنة. والتي قلنا عنها عبر مراجعة منشورة بعيد صدورها ما نصه أن أسئلة كثيرة وإجابات أكثر توحي بها تلك الجدارية الشعرية التي صاغها الشاعر، بعد تجربة قاسية له مع الموت حين يلوح للمرء تلويحته الأولي قبل أن يغادر واعدا بالعودة الأكيدة حتما، في بناء سيمفوني متصاعد يهبط بعد أن يصل لضربة القدر المركزية بشكل تدريجي يناسب مراحل الحياة في تصاعدها وتنازلها التدريجيين، حيث الشعر هو الحلم المتحقق حتما، وهو الخلاص المتحقق حلما:
سأصير يوما شاعرا،
والماء رهن بصيرتي.
يحتفي محمود درويش في جداريته الطويلة بالموت إذن، كمن يريد أن يحتفي بالحياة، ربما لأنه يلج بوابة الموت عبر المزيد من ممارسة الحياة في حدها الأقصي.
يقول في هذه القصيدة مخاطبا موته السادر في غي الانتظار احتيالا، بكبر الكائن البشري تجاه كل ما ومن هو غير بشري، وبكبرياء الشاعر تجاه كل من سواه :
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش علي حجارة معبد هزمتك انتصرت
وأفلت من كمائنك الخلود..
فأصنع بنا، وأصنع بنفسك ما تريد.
ينظر درويش ،إذن ، تلك النظرة الاستعلائية للموت كمن يرثي محاولاته المستمرة منذ أزل الحياة لإنهاء الحياة عنصرا عنصرا وفردا فردا، دون نجاح حقيقي، سوي تلك النجاحات الصغيرة المتراكمة عبر اللحظات الآنية دون غيرها، ومع قلة يمتهنون الهزيمة ويرفعون للموت رايات الاستسلام، فينجح ذلك الموت في ممارسة ذاته عبر الحالة الفردية الخاصة ، فيضم إلي قافلته أسراه من الكائنات البشرية كائنا تلو الآخر، ولكنه يفشل في تحقيق أي نصر أكيد، أي نصر حقيقي، أي نصر جمعي أخير ونهائي. وتظل تلك النظرة المتباهية تجاه الموت هي موت الموت الحقيقي، وهي النقطة الأخيرة، ولعلها الأولي، في المعني المتاح للبشرية وفي الإجابة علي السؤال الكبير:
وماذا بعد ؟
ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكاية؟
ما البداية؟ ما النهاية؟
لم يعد أحد ليخبرنا الحقيقة!! ، وقد انتهت يومها المراجعة دون أن ينتهي شغف درويش بإغواء ذلك السؤال المزدوج الذي لم يعد أحد من الموت ليخبرنا حقيقته... وها هو درويش يقرر أخيرا أن يذهب بنفسه ليعرف الحقيقة ...

***********

معلقة من زماننا

الجدارية

الموت.. سؤال محمود درويش الدائم. سؤاله الذي كبر معه، حد التآخي من 'جدارية' فصاعدا حتي 'لاعب النرد' وقد اخترنا أن ننشر الجدارية في هذا العدد، لأن محمود أحبها كما لم يحب ديوانا من قبل، وقال في أحد حواراته مع أخبار الأدب أنه كتب معلقته، ويشعر بعدها بفراغ الموت، لكنه راوغ صديقه اللدود سنوات أخري، وكتب 'في حضرة الغياب' 'سرير الغريبة' و'حالة حصار' و 'كزهر اللوز أو أبعد' و'أثر الفراشة'.. وكلها آثار خالدة، لكننا اعتبرنا شهادته للجدارية بمثابة وصية.

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في الممرٌِ اللولبيٌِ“
أري السماء هناك في متناولِ الأيدي .
ويحملني جناح حمامةي بيضاء صوْب
طفولةي أخري . ولم أحلمْ بأني
كنت أحلم . كلٌ شيءي واقعيٌ . كنْت
أعلم أنني ألْقي بنفسي جانبا“
وأطير . سوف أكون ما سأصير في
الفلك الأخيرِ .

وكلٌ شيء أبيض ،
البحر المعلٌق فوق سقف غمامةي
بيضاء . والٌلا شيء أبيض في
سماء المطْلق البيضاءِ . كنْت ، ولم
أكنْ . فأنا وحيد في نواحي هذه
الأبديٌة البيضاء . جئت قبيْل ميعادي
فلم يظْهرْ ملاك واحد ليقول لي :
(( ماذا فعلت ، هناك ، في الدنيا ؟ ))
ولم أسمع هتاف الطيٌِبين ، ولا
أنين الخاطئين ، أنا وحيد في البياض ،
أنا وحيد “

لاشيء يوجِعني علي باب القيامةِ .
لا الزمان ولا العواطف . لا
أحِسٌ بخفٌةِ الأشياء أو ثِقلِ
الهواجس . لم أجد أحدا لأسأل :
أين (( أيْني )) الآن ؟ أين مدينة
الموتي ، وأين أنا ؟ فلا عدم
هنا في اللا هنا “ في اللازمان ،
ولا وجود

وكأنني قد متٌ قبل الآن “
أعرف هذه الرؤيا ، وأعرف أنني
أمضي إلي ما لسْت أعرف . ربٌما
ما زلت حيٌا في مكاني ما، وأعرف
ما أريد “
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما فكرة . لا سيْف يحملها
إلي الأرضِ اليبابِ ، ولا كتاب “
كأنٌها مطر علي جبلي تصدٌع من
تفتٌح عشْبةي ،
لا القوٌة انتصرتْ
ولا العدْل الشريد
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما طائرا ، وأسلٌ من عدمي
وجودي . كلٌما احترق الجناحانِ
اقتربت من الحقيقةِ ، وانبعثت من
الرمادِ . أنا حوار الحالمين ، عزفْت
عن جسدي وعن نفسي لأكْمِل
رحلتي الأولي إلي المعني ، فأحْرقني
وغاب . أنا الغياب . أنا السماويٌ
الطريد .
سأصير يوما ما أريد

سأصير يوما كرمة ،
فلْيعْتصِرني الصيف منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون علي
ثريٌات المكان السكٌريٌِ !
أنا الرسالة والرسول
أنا العناوين الصغيرة والبريد
سأصير يوما ما أريد

هذا هو اسمك /
قالتِ امرأة ،
وغابتْ في ممرٌِ بياضها .
هذا هو اسمك ، فاحفظِ اسْمك جيٌِدا !
لا تختلفْ معه علي حرْفي
ولا تعْبأْ براياتِ القبائلِ ،
كنْ صديقا لاسمك الأفقِيٌِ
جرٌِبْه مع الأحياء والموتي
ودرٌِبْه علي النطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتبْه علي إحدي صخور الكهف ،
يااسمي : سوف تكبر حين أكبر
سوف تحمِلني وأحملك
الغريب أخ الغريب
سنأخذ الأنثي بحرف العِلٌة المنذور للنايات
يا اسمي: أين نحن الآن ؟
قل : ما الآن ، ما الغد ؟
ما الزمان وما المكان
وما القديم وما الجديد ؟
سنكون يوما ما نريد

لا الرحلة ابتدأتْ ، ولا الدرب انتهي
لم يبْلغِ الحكماء غربتهمْ
كما لم يبْلغ الغرباء حكمتهمْ
ولم نعرف من الأزهار غير شقائقِ النعمانِ ،
فلنذهب إلي أعلي الجداريات :
أرض قصيدتي خضراء ، عالية ،
كلام الله عند الفجر أرض قصيدتي
وأنا البعيد
أنا البعيد

في كلٌِ ريحي تعْبث امرأة بشاعرها
­ خذِ الجهة التي أهديتني
الجهة التي انكسرتْ ،
وهاتِ أنوثتي ،
لم يبْق لي إلاٌ التأمٌل في
تجاعيد البحيْرة . خذْ غدي عنٌِي
وهاتِ الأمس ، واتركنا معا
لا شيء ، بعدك ، سوف يرحل
أو يعود

­ وخذي القصيدة إن أردتِ
فليس لي فيها سواكِ
خذي (( أنا )) كِ . سأكْمل المنفي
بما تركتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ .
فأيٌنا منا (( أنا )) لأكون آخرها ؟
ستسقط نجمة بين الكتابة والكلامِ
وتنْشر الذكري خواطرها : ولِدْنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصبٌار . كان الموت أبطأ .
كان أوْضح . كان هدْنة عابرين
علي مصبٌِ النهر . أما الآن ،
فالزرٌ الإلكترونيٌ يعمل وحْده . لا
قاتل يصْغي إلي قتلي . ولا يتلو
وصيٌته شهيد

من أيٌِ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسم جرْحِكِ أعرفِ
الطرق التي سنضيع فيها مرٌتيْنِ !
وكلٌ نبْضي فيكِ يوجعني ، ويرْجِعني
إلي زمني خرافيٌ . ويوجعني دمي
والملح يوجعني “ ويوجعني الوريد

في الجرٌة المكسورةِ انتحبتْ نساء
الساحل السوريٌ من طول المسافةِ ،
واحترقْن بشمس آب . رأيتهنٌ علي
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعت
صوْت الماء في الفخٌار يبكيهنٌ :
عدْن إلي السحابة يرجعِ الزمن الرغيد

قال الصدي :
لاشيء يرجع غير ماضي الأقوياء
علي مِسلاٌت المدي “ذهبيٌة آثارهمْ
ذهبيٌة ورسائلِ الضعفاءِ للغدِ ،
أعْطِنا خبْز الكفاف ، وحاضرا أقوي .
فليس لنا التقمٌص والحلول ولا الخلود

قال الصدي :
وتعبت من أملي العضال . تعبت
من شرك الجماليٌات : ماذا بعد
بابل؟ كلٌما اتٌضح الطريق إلي
السماء ، وأسْفر المجهول عن هدفي
نهائيٌ تفشٌي النثر في الصلوات ،
وانكسر النشيد

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء عالية “
تطِلٌ عليٌ من بطحاء هاويتي “
غريب أنت في معناك . يكفي أن
تكون هناك ، وحدك ، كي تصير
قبيلة“
غنٌيْت كي أزِن المدي المهدور
في وجع الحمامةِ ،
لا لأشْرح ما يقول الله للإنسان ،
لسْت أنا النبيٌ لأدٌعي وحْيا
وأعْلِن أنٌ هاويتي صعود

وأنا الغريب بكلٌِ ما أوتيت من
لغتي . ولو أخضعت عاطفتي بحرف
الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،
وللكلمات وهي بعيدة أرض تجاوِر
كوكبا أعلي . وللكلمات وهي قريبة
منفي . ولا يكفي الكتاب لكي أقول :
وجدت نفسي حاضرا مِلْء الغياب .
وكلٌما فتٌشْت عن نفسي وجدت
الآخرين . وكلٌما فتٌشْت عنْهمْ لم
أجد فيهم سوي نفسي الغريبةِ ،
هل أنا الفرْد الحشود ؟

وأنا الغريب . تعِبْت من درب الحليب
إلي الحبيب . تعبت من صِفتي .
يضيق الشٌكْل . يتٌسع الكلام . أفيض
عن حاجات مفردتي . وأنْظر نحو
نفسي في المرايا :
هل أنا هو ؟
هل أؤدٌِي جيٌِدا دوْرِي من الفصل
الأخيرِ ؟
وهل قرأت المسرحيٌة قبل هذا العرض ،
أم فرِضتْ عليٌ ؟
وهل أنا هو من يؤدٌِي الدٌوْر
أمْ أنٌ الضحيٌة غيٌرتْ أقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحرف المؤلٌف عن سياق النصٌِ
وانصرف الممثٌل والشهود ؟

وجلست خلف الباب أنظر :
هل أنا هو ؟
هذه لغتي . وهذا الصوت وخْز دمي
ولكن المؤلٌِف آخر“
أنا لست مني إن أتيت ولم أصِلْ
أنا لست منٌِي إن نطقْت ولم أقلْ
أنا منْ تقول له الحروف الغامضات :
اكتبْ تكنْ !
واقرأْ تجِدْ !
وإذا أردْت القوْل فافعلْ ، يتٌحِدْ
ضدٌاك في المعني “
وباطِنك الشفيف هو القصيد

بحٌارة حولي ، ولا ميناء
أفرغني الهباء من الإشارةِ والعبارةِ ،
لم أجد وقتا لأعرف أين منْزِلتي ،
الهنيْهة ، بين منْزِلتيْنِ . لم أسأل
سؤالي ، بعد ، عن غبش التشابهِ
بين بابيْنِ : الخروج أم الدخول “
ولم أجِدْ موتا لأقْتنِص الحياة .
ولم أجِدْ صوتا لأصرخ : أيٌها
الزمن السريع ! خطفْتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
ألواقعيٌ هو الخياليٌ الأكيد

يا أيها الزمن الذي لم ينتظِرْ “
لم ينْتظِرْ أحدا تأخٌر عن ولادتِهِ ،
دعِ الماضي جديدا ، فهْو ذكراك
الوحيدة بيننا ، أيٌام كنا أصدقاءك ،
لا ضحايا مركباتك . واتركِ الماضي
كما هو ، لا يقاد ولا يقود

ورأيت ما يتذكٌر الموتي وما ينسون “
همْ لا يكبرون ويقرأون الوقْت في
ساعات أيديهمْ . وهمْ لايشعرون
بموتنا أبدا ولا بحياتهِمْ . لا شيء
ممٌا كنْت أو سأكون . تنحلٌ الضمائر
كلٌها . هو في أنا في أنت .
لا كلٌ ولاجزْء . ولا حيٌ يقول
لميٌِتي : كنٌِي !

.. وتنحلٌ العناصر والمشاعر . لا
أري جسدي هناك ، ولا أحسٌ
بعنفوان الموت ، أو بحياتي الأولي .
كأنٌِي لسْت منٌي . منْ أنا ؟ أأنا
الفقيد أم الوليد ؟

الوقْت صِفْر . لم أفكٌِر بالولادة
حين طار الموت بي نحو السديم ،
فلم أكن حيٌا ولا ميْتا،
ولا عدم هناك ، ولا وجود

تقول ممرٌِضتي : أنت أحسن حالا .
وتحقنني بالمخدٌِر : كنْ هادئا
وجديرا بما سوف تحلم
عما قليل “

رأيت طبيبي الفرنسيٌ
يفتح زنزانتي
ويضربني بالعصا
يعاونه اثنانِ من شرْطة الضاحيةْ

رأيت أبي عائدا
من الحجٌِ ، مغمي عليه
مصابا بضربة شمسي حجازيٌة
يقول لرفٌِ ملائكةي حوْله :
أطفئوني ! “

رأيت شبابا مغاربة
يلعبون الكرةْ
ويرمونني بالحجارة : عدْ بالعبارةِ
واتركْ لنا أمٌنا
يا أبانا الذي أخطأ المقبرةْ !

رأيت ريني شار
يجلس مع هيدغر
علي بعْدِ مترين منٌِي ،
رأيتهما يشربان النبيذ
ولا يبحثان عن الشعر “
كان الحوار شعاعا
وكان غد عابر ينتظرْ

رأيت رفاقي الثلاثة ينتحبون
وهمْ
يخيطون لي كفنا
بخيوطِ الذٌهبْ

رأيت المعريٌ يطرد نقٌاده
من قصيدتِهِ :
لست أعمي
لأبْصِر ما تبصرونْ ،
فإنٌ البصيرة نور يؤدٌِي
إلي عدمي “. أو جنونْ

رأيت بلادا تعانقني
بأيدي صباحيٌة : كنْ
جديرا برائحة الخبز . كنْ
لائقا بزهور الرصيفْ
فما زال تنٌور أمٌِك
مشتعلا ،
والتحيٌة ساخنة كالرغيفْ !

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء . نهر واحد يكفي
لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أختي ، ونهْر واحد يكفي لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء علي جناح الصٌقْر ، وهْو يبدٌِل
الراياتِ والقمم البعيدة ، حيث أنشأتِ الجيوش ممالِك
النسيان لي . لاشعْب أصْغر من قصيدته . ولكنٌ السلاح
يوسٌِع الكلمات للموتي وللأحياء فيها ، والحروف تلمٌِع
السيف المعلٌق في حزام الفجر ، والصحراء تنقص
بالأغاني ، أو تزيد

لاعمْر يكفي كي أشدٌ نهايتي لبدايتي
أخذ الرٌعاة حكايتي وتوغٌلوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض ، وانتصروا علي النسيان بالأبواق والسٌجع
المشاع ، وأورثوني بحٌة الذكري علي حجرِ الوداع ، ولم
يعودوا “

رعويٌة أيٌامنا رعويٌة بين القبيلة والمدينة ، لم أجد ليْلا
خصوصِيٌا لهودجِكِ المكلٌلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونك ؟ نادني ، فأنا خلقتك
عندما سمٌيْتني ، وقتلتني حين امتلكت الاسم “
كيف قتلتني ؟ وأنا غريبة كلٌِ هذا الليل ، أدْخِلْني
إلي غابات شهوتك ، احتضنٌِي واعْتصِرْني ،
واسفك العسل الزفافيٌ النقيٌ علي قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولمٌني .
فالليل يسْلِم روحه لك يا غريب ، ولن تراني نجمة
إلاٌ وتعرف أنٌ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
فهاتِني ليكون لي ­ وأنا أحطٌِم جرٌتي بيديٌ ­حاضِري السعيد

­ هل قلْت لي شيئا يغيٌِر لي سبيلي ؟
­ لم أقلْ . كانت حياتي خارجي
أنا منْ يحدٌِث نفسه :
وقعتْ معلٌقتي الأخيرة عن نخيلي
وأنا المسافِر داخلي
وأنا المحاصر بالثنائياتِ ،
لكنٌ الحياة جديرة بغموضها
وبطائرِ الدوريٌِ “
لم أولدْ لأعرف أنني سأموت ، بل لأحبٌ محتوياتِ ظلٌِ
اللهِ
يأخذني الجمال إلي الجميلِ
وأحبٌ حبٌك ، هكذا متحررا من ذاتِهِ وصفاتِهِ
وأِنا بديلي “
أنا من يحدٌِث نفْسه :
مِنْ أصغر الأشياءِ تولد أكبر الأفكار
والإيقاع لا يأتي من الكلمات ،
بل مِنْ وحدة الجسديْنِ
في ليلي طويلي “

أنا منْ يحدٌِث نفْسه
ويروٌِض الذكري “ أأنتِ أنا ؟
وثالثنا يرفرف بيننا لا تنْسياني دائما
يا موْتنا ! خذْنا إليك علي طريقتنا ، فقد نتعلٌم الإشراق “
لا شمْس ولا قمر عليٌ
تركت ظلٌِي عالقا بغصون عوْسجةي
فخفٌ بِي المكان
وطار بي روحي الشٌرود

أنا منْ يحدٌِث نفسه :
يا بنت : ما فعلتْ بكِ الأشواق ؟
إن الريح تصقلنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ،
نضجتِ يا امرأتي علي عكٌازتيٌ ،
بوسعك الآن الذهاب علي طريق دمشق
واثقة من الرؤيا . ملاك حارس
وحمامتان ترفرفان علي بقيٌة عمرنا ، والأرض عيد “

الأرض عيد الخاسرين ونحن منهمْ
نحن من أثرِ النشيد الملحميٌِ علي المكان ، كريشةِ النٌسْرِ
العجوز خيامنا في الريح . كنٌا طيٌِبين وزاهدين بلا تعاليم
المسيح . ولم نكنْ أقوي من الأعشابِ إلاٌ في ختام
الصيْفِ ،
أنتِ حقيقتي ، وأنا سؤالكِ
لم نرِثْ شيئا سوي اسْميْنا
وأنتِ حديقتي ، وأنا ظلالكِ
عند مفترق النشيد الملحميٌِ “
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كنٌ يبدأن النشيد
بسحرهنٌ وكيدهنٌ . وكنٌ يحْمِلْن المكان علي قرون
الوعل من زمنِ المكان إلي زمان آخري “

كنا طبيعيٌِين لو كانت نجوم سمائنا أعلي قليلا من
حجارة بئرنا ، والأنبياء أقلٌ إلحاحا ، فلم يسمع مدائحنا
الجنود “

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيٌون من زمني إلي زمني كما هِي في
خصوبتها .
ولي منها : تأمٌل نرْجسي في ماء صورتِهِ
ولي منها وضوح الظلٌِ في المترادفات
ودقٌة المعني “
ولي منها : التٌشابه في كلام الأنبياءِ
علي سطوح الليلِ
لي منها : حمار الحكمةِ المنسيٌ فوق التلٌِ
يسخر من خرافتها وواقعها “
ولي منها : احتقان الرمز بالأضدادِ
لا التجسيد يرجِعها من الذكري
ولا التجريد يرفعها إلي الإشراقة الكبري
ولي منها : أنا الأخري
تدوٌِن في مفكٌِرة الغنائيٌِين يوميٌاتها :
((إن كان هذا الحلْم لا يكفي
فلي سهر بطوليٌ علي بوابة المنفي “ ))
ولي منها : صدي لغتي علي الجدران
يكشِط مِلْحها البحريٌ
حين يخونني قلْب لدود “

أعلي من الأغوار كانت حكمتي
إذ قلت للشيطان : لا . لا تمْتحِنٌِي !
لا تضعْني في الثٌنائيٌات ، واتركني
كما أنا زاهدا برواية العهد القديم
وصاعدا نحو السماء ، هناك مملكتي
خذِ التاريخ ، يا ابن أبي ، خذِ
التاريخ “ واصنعْ بالغرائز ما تريد

ولِي السكينة . حبٌة القمح الصغيرة
سوف تكفينا ، أنا وأخي العدوٌ ،
فساعتي لم تأْتِ بعْد . ولم يحِنْ
وقت الحصاد . عليٌ أن ألِج الغياب
وأن أصدٌِق أوٌلا قلبي وأتبعه إلي
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بعْد .
لعلٌ شيئا فيٌ ينبذني . لعلٌِي واحد
غيري . فلم تنضج كروم التين حول
ملابس الفتيات بعْد . ولم تلِدْني
ريشة العنقاء . لا أحد هنالك
في انتظاري . جئْت قبل ، وجئت
بعد ، فلم أجد أحدا يصدٌِق ما
أري . أنا منْ رأي . وأنا البعيد
أنا البعيد

منْ أنت ، يا أنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن ، وفي القيامة واحد .
خذْني إلي ضوء التلاشي كي أري
صيْرورتي في صورتي الأخري . فمنْ
سأكون بعدك ، يا أنا ؟ جسدي
ورائي أم أمامك ؟ منْ أنا يا
أنت ؟ كوٌِنٌِي كما كوٌنْتك ، ادْهنٌِي
بزيت اللوز ، كلٌِلني بتاج الأرز .
واحملني من الوادي إلي أبديٌةي
بيضاء . علٌِمني الحياة علي طريقتِك ،
اختبِرْني ذرٌة في العالم العلْوِيٌِ .
ساعِدْني علي ضجر الخلود ، وكنْ
رحيما حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورود “

لم تأت ساعتنا . فلا رسل يقِيسون
الزمان بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكة
يزورون المكان ليترك الشعراء ماضِيهمْ علي الشٌفق
الجميل ، ويفتحوا غدهمْ بأيديهمْ .
فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة ، ياعناة ،
قصيدتي الأولي عن التكوين ثانية “
فقد يجد الرٌواة شهادة الميلاد
للصفصاف في حجري خريفيٌ . وقد يجد
الرعاة البئر في أعماق أغنية . وقد
تأتي الحياة فجاءة للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةي علِقتْ
بقافيةي ، فغنٌِي يا إلهتي الأثيرة
يا عناة ، أنا الطريدة والسهام ،
أنا الكلام . أنا المؤبٌِن والمؤذٌِن
والشهيد

ما قلت للطٌللِ : الوداع . فلم أكنْ
ما كنْت إلاٌ مرٌة . ما كنْت إلاٌ
مرٌة تكفي لأعرف كيف ينكسر الزمان
كخيمة البدويٌِ في ريح الشمال ،
وكيف ينْفطِر المكان ويرتدي الماضي
نثار المعبد المهجور . يشبهني كثيرا
كلٌ ما حولي ، ولم أشْبِهْ هنا
شيئا . كأنٌ الأرض ضيٌِقة علي
المرضي الغنائيٌِين ، أحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حلْما جميلا لقٌنوا الببغاء شِعْر
الحب ، وانفتحتْ أمامهم الحدود “

وأريد أن أحيا “
فلي عمل علي ظهر السفينة . لا
لأنقذ طائرا من جوعنا أو من
دوارِ البحر ، بل لأشاهِد الطوفان
عن كثبي : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعل الناجون بالأرض العتيقة ؟
هل يعيدون الحكاية ؟ ما البداية ؟
ما النهاية ؟ لم يعد أحد من
الموتي ليخبرنا الحقيقة “ /
أيٌها الموت انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِك ، ريثما أنهي
حديثا عابرا مع ما تبقٌي من حياتي
قرب خيمتك ، انتظِرْني ريثما أنهي
قراءة طرْفة بنِ العبْد . يغْريني
الوجوديٌون باستنزاف كلٌِ هنيْهةي
حرية ، وعدالة ، ونبيذ آلهةي “ /
فيا موْت ! انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهشٌ ،
حيث ولدت ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صبٌوني
بحرف النون ، حيث تعبٌ روحي
سورة الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي علي خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي . ولا
تضعوا علي قبري البنفسج ، فهْو
زهْر المحْبطين يذكٌِر الموتي بموت
الحبٌِ قبل أوانِهِ . وضعوا علي
التابوتِ سبْع سنابلي خضراء إنْ
وجِدتْ ، وبعْض شقائقِ النعْمانِ إنْ
وجِدتْ . وإلاٌ ، فاتركوا ورْد
الكنائس للكنائس والعرائس /
أيٌها الموت انتظر ! حتي أعِدٌ
حقيبتي : فرشاة أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثياب .
هل المناخ هناك معْتدِل ؟ وهل
تتبدٌل الأحوال في الأبدية البيضاء ،
أم تبقي كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتاب واحد يكفي
لِتسْلِيتي مع اللاٌ وقتِ ، أمْ أحتاج
مكتبة ؟ وما لغة الحديث هناك ،
دارجة لكلٌِ الناس أم عربيٌة
فصْحي/

.. ويا موْت انتظرْ ، ياموت ،
حتي أستعيد صفاء ذِهْني في الربيع
وصحٌتي ، لتكون صيٌادا شريفا لا
يصيد الظٌبْي قرب النبع . فلتكنِ العلاقة
بيننا ودٌيٌة وصريحة : لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها ..
ولي منك التأمٌل في الكواكب :
لم يمتْ أحد تماما ، تلك أرواح
تغيٌِر شكْلها ومقامها /
يا موت ! ياظلٌِي الذي
سيقودني ، يا ثالث الاثنين ، يا
لوْن التردٌد في الزمرٌد والزٌبرْجدِ ،
يا دم الطاووس ، يا قنٌاص قلب
الذئب ، يا مرض الخيال ! اجلسْ
علي الكرسيٌ ! ضعْ أدواتِ صيدك
تحت نافذتي . وعلٌِقْ فوق باب البيت
سلسلة المفاتيح الثقيلة ! لا تحدٌِقْ
يا قويٌ إلي شراييني لترصد نقْطة
الضعف الأخيرة . أنت أقوي من
نظام الطبٌ . أقوي من جهاز
تنفٌسي . أقوي من العسلِ القويٌ ،
ولسْت محتاجا ­ لتقتلني ­ إلي مرضي .
فكنْ أسْمي من الحشرات . كنْ منْ
أنت ، شفٌافا بريدا واضحا للغيب .
كن كالحبٌِ عاصفة علي شجر ، ولا
تجلس علي العتبات كالشحٌاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شرطيٌ سيْري في
الشوارع . كن قويٌا ، ناصع الفولاذ ، واخلعْ عنك أقنعة
الثعالب . كنْ
فروسيا ، بهيا ، كامل الضربات . قلْ
ماشئْت : (( من معني إلي معني
أجيء . هِي الحياة سيولة ، وأنا
أكثٌِفها ، أعرٌِفها بسلْطاني وميزاني )) .. /
وياموْت انتظرْ ، واجلس علي
الكرسيٌ . خذْ كأس النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلك لا يفاوِض أيٌ
إنساني ، ومثلي لا يعارض خادم
الغيبِ . استرح “ فلربٌما أنْهِكْت هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أنا
لتزورني ؟ ألديْك وقْت لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأن
شأنك . أنت مسؤول عن الطينيٌِ في
البشريٌِ ، لا عن فِعْلِهِ أو قوْلِهِ /
هزمتْك يا موت الفنون جميعها .
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسلٌة المصريٌ ، مقبرة الفراعنةِ ،
النقوش علي حجارة معبدي هزمتْك
وانتصرتْ ، وأِفْلت من كمائنك
الخلود “
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا “
فلي عمل علي جغرافيا البركان .
من أيام لوط إلي قيامة هيروشيما
واليباب هو اليباب . كأنني أحيا
هنا أبدا ، وبي شبق إلي ما لست
أعرف . قد يكون الآن أبعد .
قد يكون الأمس أقرب . والغد الماضي .
ولكني أشدٌ الآن من يدِهِ ليعبر
قربي التاريخ ، لا الزٌمن المدوٌر ،
مثل فوضي الماعز الجبليٌِ . هل
أنجو غدا من سرعة الوقت الإلكترونيٌ ،
أم أنجو غدا من بطْء قافلتي
علي الصحراء؟ لي عمل لآخرتي
كأني لن أعيش غدا. ولي عمل ليومي
حاضري أبدا . لذا أصغي ، علي مهلي
علي مهل ، لصوت النمل في قلبي :
أعينوني علي جلدي . وأسمع صرْخة
الحجر الأسيرة : حرٌِروا جسدي . وأبصر
في الكمنجة هجرة الأشواق من بلدي
ترابيٌ إلي بلدي سماويٌ . وأقبض في
يد الأنثي علي أبدِي الأليفِ : خلِقت
ثم عشِقْت ، ثم زهقت ، ثم أفقت
في عشْبي علي قبري يدلٌ عليٌ من
حيني إلي حيني . فما نفْع الربيع
السمح إن لم يؤْنِس الموتي ويكْمِلْ
بعدهمْ فرح الحياةِ ونضْرة النسيان ؟
تلك طريقة في فكٌِ لغز الشعرِ ،
شعري العاطفيٌ علي الأقلٌِ . وما
المنام سوي طريقنا الوحيدة في الكلام /
وأيٌها الموت التبِسْ واجلسْ
علي بلٌوْرِ أيامي ، كأنٌك واحد من
أصدقائي الدائمين ، كأنٌك المنفيٌ بين
الكائنات . ووحدك المنفيٌ . لا تحيا
حياتك . ما حياتك غير موتي . لا
تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفال
من عطشِ الحليب إلي الحليب . ولم
تكن طفلا تهزٌ له الحساسين السرير ،
ولم يداعِبْك الملائكة الصغار ولا
قرون الأيٌِل الساهي ، كما فعلتْ لنا
نحن الضيوف علي الفراشة . وحدك
المنفيٌ ، يا مسكين ، لا امرأة تضمٌك
بين نهديها ، ولا امرأة تقاسِمك
الحنين إلي اقتصاد الليل باللفظ الإباحيٌِ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تلِدْ ولدا يجيئك ضارعا : أبتي ،
أحبٌك . وحدك المنفيٌ ، يا ملِك
الملوك ، ولا مديح لصولجانك . لا
صقور علي حصانك . لا لآلئ حول
تاجك . أيٌها العاري من الرايات
والبوق المقدٌسِ ! كيف تمشي هكذا
من دون حرٌاسي وجوْقةِ منشدين ،
كمِشْية اللصٌِ الجبان . وأنت منْ
أنت ، المعظٌم ، عاهل الموتي ، القويٌ ،
وقائد الجيش الأشوريٌِ العنيد
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريد

وأنا أريد ، أريد أن أحيا ، وأن
أنساك “. أن أنسي علاقتنا الطويلة
لا لشيءي ، بل لأقرأ ما تدوٌِنه
السماوات البعيدة من رسائل . كلٌما
أعددت نفسي لانتظار قدومِك
ازددت ابتعادا . كلما قلت : ابتعدْ
عني لأكمل دوْرة الجسديْنِ ، في جسدي
يفيض ، ظهرت ما بيني وبيني
ساخرا : لا تنْس موْعِدنا “
­ متي ؟ ­ في ذِرْوة النسيان
حين تصدٌِق الدنيا وتعبد خاشعا
خشب الهياكل والرسوم علي جدار الكهف ،
حيث تقول : آثاري أنا وأنا ابن نفسي . ­ أين موعدنا ؟
أتأذن لي بأن أختار مقهي عند
باب البحر ؟ ­ لا “. لا تقْترِبْ
يا ابن الخطيئةِ ، يا ابن آدم من
حدود الله ! لم تولدْ لتسأل ، بل
لتعمل “. ­ كن صديقا طيٌِبا يا
موت ! كنْ معني ثقافيا لأدرك
كنْه حكمتِك الخبيئةِ ! ربٌما أسْرعْت
في تعليم قابيل الرماية . ربٌما
أبطأت في تدريب أيٌوبي علي
الصبر الطويل . وربما أسْرجْت لي
فرسا لتقتلني علي فرسي . كأني
عندما أتذكٌر النسيان تنقِذ حاضري
لغتي . كأني حاضر أبدا . كأني
طائر أبدا . كأني مذْ عرفتك
أدمنتْ لغتي هشاشتها علي عرباتك
البيضاءِ ، أعلي من غيوم النوم ،
أعلي عندما يتحرٌر الإحساس من عبء
العناصر كلٌها . فأنا وأنت علي طريق
الله صوفيٌانِ محكومان بالرؤيا ولا يريان /
عدْ يا موْت وحدك سالما ،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك . وعدْ إلي منفاك
وحدك . عدْ إلي أدوات صيدك ،
وانتظرني عند باب البحر . هيٌِئ لي
نبيذا أحمر للاحتفال بعودتي لِعِيادةِ
الأرضِ المريضة . لا تكن فظٌا غليظ
القلب ! لن آتي لأسخر منك ، أو
أمشي علي ماء البحيْرة في شمال
الروح . لكنٌِي ­ وقد أغويتني ­ أهملت
خاتمة القصيدةِ : لم أزفٌ إلي أبي
أمٌِي علي فرسي . تركت الباب مفتوحا
لأندلسِ الغنائيٌِين ، واخترت الوقوف
علي سياج اللوز والرمٌان ، أنفض
عن عباءة جدٌِي العالي خيوط
العنكبوت . وكان جيْش أجنبيٌ يعبر
الطرق القديمة ذاتها ، ويقِيس أبعاد
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها “ /
يا موت ، هل هذا هو التاريخ ،
صِنْوك أو عدوٌك ، صاعدا ما بين
هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عشٌها
وتبيض في خوذ الحديد . وربما ينمو
نبات الشٌِيحِ في عجلاتِ مرْكبةي محطٌمةي .
فماذا يفعل التاريخ ، صنوك أو عدوٌك ،
بالطبيعة عندما تتزوٌج الأرض السماء
وتذرف المطر المقدٌس ؟ /

أيها الموت ، انتظرني عند باب
البحر في مقهي الرومانسيٌِين . لم
أرجِعْ وقد طاشتْ سهامك مرٌة
إلاٌ لأودِع داخلي في خارجي ،
وأوزٌِع القمح الذي امتلأتْ به روحي
علي الشحرور حطٌ علي يديٌ وكاهلي ،
وأودٌِع الأرض التي تمتصٌني ملحا ، وتنثرني
حشيشا للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
ولا تصدٌِقْني أعود ولا أعود
وأقول : شكرا للحياة !
ولم أكن حيٌا ولا ميْتا
ووحدك ، كنت وحدك ، يا وحيد !

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ : يا قلب !
يا قلْب ! خذْني
إلي دوْرة الماءِ “/
ما قيمة الروح إن كان جسمي
مريضا ، ولا يستطيع القيام
بواجبه الأوليٌِ ؟
فيا قلب ، يا قلب أرجعْ خطاي
إليٌ ، لأمشي إلي دورة الماء
وحدي !

نسيت ذراعيٌ ، ساقيٌ ، والركبتين
وتفٌاحة الجاذبيٌةْ
نسيت وظيفة قلبي
وبستان حوٌاء في أوٌل الأبديٌةْ
نسيت وظيفة عضوي الصغير
نسيت التنفٌس من رئتيٌ .
نسيت الكلام
أخاف علي لغتي
فاتركوا كلٌٌ شيء علي حالِهِ
وأعيدوا الحياة إلي لغتي !..

تقول ممرٌِضتي : كنْت تهذي
كثيرا ، وتصرخ بي قائلا :
لا أريد الرجوع إلي أحدِ
لا أريد الرجوع إلي بلدِ
بعد هذا الغياب الطويل “
أريد الرجوع فقطْ
إلي لغتي في أقاصي الهديل
تقول ممرٌِضتي :
كنْت تهذي طويلا ، وتسألني :
هل الموت ما تفعلين بي الآن
أم هو موْت اللغةْ ؟

خضراء ، أرض قصيدتي خضراء ، عالية “
علي مهلي أدوٌِنها ، علي مهلي ، علي
وزن النوارس في كتاب الماءِ . أكتبها
وأورِثها لمنْ يتساءلون : لمنْ نغنٌِي
حين تنتشر الملوحة في الندي ؟ “
خضراء ، أكتبها علي نثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ ، قوٌسها امتلاء شاحب
فيها وفيٌ . وكلٌما صادقْت أو
آخيْت سنْبلة تعلٌمْت البقاء من
الفناء وضدٌه : (( أنا حبٌة القمح
التي ماتت لكي تخْضرٌ ثانية . وفي
موتي حياة ما “ ))

كأني لا كأنٌي
لم يمت أحد هناك نيابة عني .
فماذا يحفظ الموتي من الكلمات غير
الشٌكْرِ : إنٌ الله يرحمنا “
ويؤْنِسني تذكٌر ما نسِيت مِن
البلاغة : لم ألِدْ ولدا ليحمل موْت
والِدِهِ “
وآثرْت الزواج الحرٌ بين المفْردات “.
ستعْثر الأنثي علي الذٌٌكر الملائِمِ
في جنوح الشعر نحو النثر “.
سوف تشٌبٌ أعضائي علي جمٌيزةي ،
ويصبٌ قلبي ماءه الأرضيٌ في
أحدِ الكواكب “ منْ أنا في الموت
بعدي ؟ منْ أنا في الموت قبلي
قال طيف هامشيٌ : (( كان أوزيريس
مثْلك ، كان مثلي . وابن مرْيم
كان مثلك ، كان مثلي . بيْد أنٌ
الجرْح في الوقت المناسب يوجِع
العدم المريض ، ويرْفع الموت المؤقٌٌت
فكرة “ )).
من أين تأتي الشاعريٌة ؟ من
ذكاء القلب ، أمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول ؟ أمْ من وردةي حمراء
في الصحراء ؟ لا الشخصيٌ شخصيٌ
ولا الكونيٌ كونيٌ “

كأني لا كأني “/
كلما أصغيت للقلب امتلأت
بما يقول الغيْب ، وارتفعتْ بِي
الأشجار . من حلْم إلي حلْمي
أطير وليس لي هدف أخير .
كنْت أولد منذ آلاف السنين
الشاعريٌةِ في ظلامي أبيض الكتٌان
لم أعرف تماما منْ أنا فينا ومن
حلْمي . أنا حلْمي
كأني لا كأني “
لم تكنْ لغتي تودٌِع نبْرها الرعويٌ
إلاٌ في الرحيل إلي الشمال . كلابنا
هدأتْ . وماعِزنا توشٌح بالضباب علي
التلال . وشجٌ سهْم طائش وجْه
اليقين . تعبت من لغتي تقول ولا
تقول علي ظهور الخيل ماذا يصنع
الماضي بأيٌامِ امرئ القيس الموزٌعِ
بين قافيةي وقيْصر “/
كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر آلهتي ،
هنالك ، في بلاد الأرجوان أضاءني
قمر تطوٌِقه عناة ، عناة سيٌِدة
الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي علي
أحدِ ، ولكنْ من مفاتِنِها بكتْ :
هلْ كلٌ هذا السحرِ لي وحدي
أما من شاعري عندي
يقاسِمني فراغ التخْتِ في مجدي ؟
ويقطف من سياج أنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أما من شاعر يغْوي
حليب الليل في نهدي ؟
أنا الأولي
أنا الأخري
وحدٌِي زاد عن حدٌِي
وبعدي تركض الغِزلان في الكلمات
لا قبلي “ ولا بعدي /

سأحلم ، لا لأصْلِح مركباتِ الريحِ
أو عطبا أصاب الروح
فالأسطورة اتٌخذتْ مكانتها / المكيدة
في سياق الواقعيٌ . وليس في وسْعِ القصيدة
أن تغيٌِر ماضيا يمضي ولا يمضي
ولا أنْ توقِف الزلزال
لكني سأحلم ،
ربٌما اتسعتْ بلاد لي ، كما أنا
واحدا من أهل هذا البحر ،
كفٌ عن السؤال الصعب : (( منْ أنا ؟ “
هاهنا ؟ أأنا ابن أمي ؟ ))
لا تساوِرني الشكوك ولا يحاصرني
الرعاة أو الملوك . وحاضري كغدي معي .
ومعي مفكٌِرتي الصغيرة : كلٌما حكٌ
السحابة طائر دوٌنت : فكٌ الحلْم
أجنحتي . أنا أيضا أطير . فكلٌ
حيٌ طائر . وأنا أنا ، لا شيء
آخر /

واحد من أهل هذا السهل “
في عيد الشعير أزور أطلالي
البهيٌة مثل وشْم في الهوِيٌةِ .
لا تبدٌِدها الرياح ولا تؤبٌِدها “ /
وفي عيد الكروم أعبٌ كأسا
من نبيذ الباعة المتجوٌِلين “ خفيفة
روحي ، وجسمي مثْقل بالذكريات وبالمكان /
وفي الربيع ، أكون خاطرة لسائحةي
ستكتب في بطاقات البريد : (( علي
يسار المسرح المهجور سوْسنة وشخْص
غامض . وعلي اليمين مدينة عصريٌة )) /

وأنا أنا ، لا شيء آخر “
لسْت من أتباع روما الساهرين
علي دروب الملحِ . لكنٌِي أسدٌِد نِسْبة
مئويٌة من ملح خبزي مرْغما ، وأقول
للتاريخ : زيٌِنْ شاحناتِك بالعبيد وبالملوك الصاغرين ، ومرٌ
“ لا أحد يقول
الآن : لا .

وأنا أنا ، لا شيء آخر
واحد من أهل هذا الليل . أحلم
بالصعود علي حصاني فوْق ، فوْق “
لأتبع الينْبوع خلف التلٌِ
فاصمدْ يا حصاني . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ

أنت فتوٌتي وأنا خيالك . فانتصِبْ
ألِفا ، وصكٌ البرق . حكٌ بحافر
الشهوات أوعية الصدي . واصعدْ ،
تجدٌدْ ، وانتصبْ ألفا ، توتٌرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفا ، ولا تسقطْ
عن السفح الأخير كرايةي مهجورةي في
الأبجديٌة . لم نعدْ في الريح مخْتلِفيْنِ ،
أنت تعِلٌتي وأنا مجازك خارج الركب
المروٌضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفرْ زماني
في مكاني يا حصاني . فالمكان هو
الطريق ، ولا طريق علي الطريق سواك
تنتعل الرياح . أضئْ نجوما في السراب !
أضئْ غيوما في الغياب ، وكنْ أخي
ودليل برقي يا حصاني . لا تمتْ
قبلي ولا بعدي علي السفح الأخير
ولا معي . حدٌِقْ إلي سيٌارة الإسعافِ
والموتي “ لعلٌِي لم أزل حيٌا /

سأحلم ، لا لأصْلِح أيٌ معني خارجي .
بل كي أرمٌِم داخلي المهجور من أثر
الجفاف العاطفيٌِ . حفظت قلبي كلٌه
عن ظهر قلبي : لم يعدْ متطفٌِلا
ومدلٌلا . تكْفيهِ حبٌة أسبرين لكي
يلين ويستكين . كأنٌه جاري الغريب
ولست طوْع هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يصْدأ كالحديدِ ، فلا يئنٌ ولا يحِنٌ
ولا يجنٌ بأوٌل المطر الإباحيٌِ الحنينِ ،
ولا يرنٌ ٌكعشب آب من الجفافِ .
كأنٌ قلبي زاهد ، أو زائد
عني كحرف الكاف في التشبيهِ
حين يجفٌ ماء القلب تزداد الجماليات
تجريدا ، وتدٌثر العواطف بالمعاطفِ ،
والبكارة بالمهارة /

كلٌما يمٌمْت وجهي شطْر أولي
الأغنيات رأيت آثار القطاة علي
الكلام . ولم أكن ولدا سعيدا
كي أقول : الأمس أجمل دائما .
لكنٌ للذكري يديْنِ خفيفتين تهيٌِجانِ
الأرض بالحمٌي . وللذكري روائح زهرةي
ليليٌةي تبكي وتوقظ في دمِ المنفيٌِ
حاجته إلي الإنشاد : (( كوني
مرْتقي شجني أجدْ زمني )) “ ولست
بحاجةي إلاٌ لِخفْقةِ نوْرسِ لأتابع
السفن القديمة . كم من الوقت
انقضي منذ اكتشفنا التوأمين : الوقت
والموت الطبيعيٌ المرادِف للحياة ؟
ولم نزل نحيا كأنٌ الموت يخطئنا ،
فنحن القادرين علي التذكٌر قادرون
علي التحرٌر ، سائرون علي خطي
جلجامش الخضراءِ من زمني إلي زمني “ /

هباء كامل التكوينِ “
يكسرني الغياب كجرٌةِ الماءِ الصغيرة .
نام أنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
ملْتفٌا بحفْنةِ ريشِهِ الطينيٌِ . آلهتي
جماد الريح في أرض الخيال . ذِراعِي
اليمْني عصا خشبيٌة . والقلْب مهجور
كبئري جفٌ فيها الماء ، فاتٌسع الصدي
الوحشيٌ : أنكيدو ! خيالي لم يعدْ
يكفي لأكمل رحلتي . لا بدٌ لي من
قوٌةي ليكون حلْمي واقعيٌا . هاتِ
أسْلِحتي ألمٌِعْها بمِلح الدمعِ . هاتِ
الدمع ، أنكيدو ، ليبكي الميْت فينا
الحيٌ . ما أنا ؟ منْ ينام الآن
أنكيدو ؟ أنا أم أنت ؟ آلهتي
كقبض الريحِ . فانهضْ بي بكامل
طيشك البشريٌِ ، واحلمْ بالمساواةِ
القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نعمٌِر الأرض الجميلة بين
دجلة والفراتِ ونحفظ الأسماء . كيف
مللْتني ، يا صاحبي ، وخذلْتني ، ما نفْع حكمتنا بدون
فتوٌةي “ ما نفع حكمتنا ؟ علي باب المتاهِ خذلتني ،
يا صاحبي ، فقتلتني ، وعليٌ وحدي
أن أري ، وحدي ، مصائرنا . ووحدي
أحمل الدنيا علي كتفيٌ ثورا هائجا .
وحدي أفتٌِش شارد الخطوات عن
أبديتي . لا بدٌ لي من حلٌِ هذا
اللغْزِ ، أنكيدو ، سأحمل عنك
عمْرك ما استطعت وما استطاعت
قوٌتي وإرادتي أن تحملاك . فمن
أنا وحدي ؟ هباء كامل التكوينِ
من حولي . ولكني سأسْنِد ظلٌٌك
العاري علي شجر النخيل . فأين ظلٌك ؟
أين ظلٌك بعدما انكسرتْ جذوعك؟
قمٌة
الإنسان
هاوية “
ظلمتك حينما قاومت فيك الوحْش ،
بامرأةي سقتْك حليبها ، فأنِسْت “
واستسلمت للبشريٌِ . أنكيدو ، ترفٌقْ
بي وعدْ من حيث متٌ ، لعلٌنا
نجد الجواب ، فمن أنا وحدي ؟
حياة الفرد ناقصة ، وينقصني
السؤال ، فمن سأسأل عن عبور
النهر ؟ فانهضْ يا شقيق الملح
واحملني . وأنت تنام هل تدري
بأنك نائم ؟ فانهض .. كفي نوما !
تحرٌكْ قبل أن يتكاثر الحكماء حولي
كالثعالب : ( كلٌ شيء باطل ، فاغنمْ
حياتك مثلما هِي برهة حبْلي بسائلها ،
دمِ العشْب المقطٌرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلٌ شيء زائل . فاحذرْ
غدا وعشِ الحياة الآن في امرأةي
تحبٌك . عِشْ لجسمِك لا لِوهْمِك .
وانتظرْ
ولدا سيحمل عنك روحك
فالخلود هو التٌناسل في الوجود .
وكلٌ شيءي باطل أو زائل ، أو
زائل أو باطل)
منْ أنا ؟
أنشيد الأناشيد
أم حِكْمة الجامعةْ ؟
وكلانا أنا “
وأنا شاعر
وملِكْ
وحكيم علي حافٌة البئرِ
لا غيمة في يدي
ولا أحد عشر كوكبا
علي معبدي
ضاق بي جسدي
ضاق بي أبدي
وغدي
جالس مثل تاج الغبار
علي مقعدي

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

ألرياح شماليٌة
والرياح جنوبيٌة
تشْرِق الشمس من ذاتها
تغْرب الشمس في ذاتها
لا جديد ، إذا
والزمنْ
كان أمسِ ،
سدي في سدي .
ألهياكل عالية
والسنابل عالية
والسماء إذا انخفضت مطرتْ
والبلاد إذا ارتفعت أقفرت
كلٌ شيء إذا زاد عن حدٌِهِ
صار يوما إلي ضدٌِهِ .
والحياة علي الأرض ظلٌ

لما لا نري “.
باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ

1400 مركبة
و12,000 فرس
تحمل اسمي المذهٌب من
زمني نحو آخر “
عشت كما لم يعِشْ شاعر
ملكا وحكيما “
هرِمْت ، سئِمْت من المجدِ
لا شيء ينقصني
ألهذا إذا
كلما ازداد علمي
تعاظم همٌِي ؟
فما أورشليم وما العرْش ؟
لا شيء يبقي علي حالِه
للولادة وقْت
وللموت وقت
وللصمت وقْت
وللنٌطق وقْت
وللحرب وقْت
وللصٌلحِ وقْت
وللوقتِ وقْت
ولا شيء يبقي علي حالِهِ “
كلٌ نهْري سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن ،
لاشيء يبقي علي حالِهِ
كلٌ حيٌ يسير إلي الموت
والموت ليس بملآن ،
لا شيء يبقي سوي اسمي المذهٌبِ
بعدي :
(( سليمان كان )) “
فماذا سيفعل موتي بأسمائهم
هل يضيء الذٌهبْ
ظلمتي الشاسعةْ
أم نشيد الأناشيد
والجامعةْ ؟

باطل ، باطل الأباطيل “ باطلْ
كلٌ شيء علي البسيطة زائلْ /“

مثلما سار المسيح علي البحيْرةِ ،
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ،ولا
أبشٌِر بالقيامةِ . لم أغيٌِرْ غيْر
إيقاعي لأسمع صوت قلبي واضحا .
للملحميٌِين النٌسور ولي أنا : طوق
الحمامةِ ، نجمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع متعرٌِج يفْضي إلي ميناءِ
عكا ­ ليس أكثر أو أقلٌ ­
أريد أن ألقي تحيٌاتِ الصباح عليٌ
حيث تركتني ولدا سعيدا لم
أكنْ ولدا سعيد الحظٌِ يومئذي ،
ولكنٌ المسافة، مثل حدٌادين ممتازين ،
تصنع من حديدي تافهي قمرا
­ أتعرفني ؟
سألت الظلٌ قرب السورِ ،
فانتبهتْ فتاة ترتدي نارا ،
وقالت : هل تكلٌِمني ؟
فقلت : أكلٌِم الشبح القرين
فتمتمتْ : مجنون ليلي آخر يتفقٌٌد
الأطلال ،
وانصرفتْ إلي حانوتها في آخر السوق
القديمةِ“
ههنا كنٌا . وكانت نخْلتانِ تحمٌِلان
البحر بعض رسائلِ الشعراءِ “
لم نكبر كثيرا يا أنا . فالمنظر
البحريٌ ، والسٌور المدافِع عن خسارتنا ،
ورائحة البخور تقول : ما زلنا هنا ،
حتي لو انفصل الزمان عن المكانِ .
لعلٌنا لم نفترق أبدا
­ أتعرفني ؟
بكي الولد الذي ضيٌعته :
((لم نفترق . لكننا لن نلتقي أبدا )) “
وأغْلق موجتين صغيرتين علي ذراعيه ،
وحلٌٌق عاليا “
فسألت : منْ منٌا المهاجِر ؟ /
قلت للسٌجٌان عند الشاطئ الغربيٌ :
­ هل أنت ابن سجٌاني القديمِ ؟
­ نعم !
­ فأين أبوك ؟
قال : أبي توفٌِي من سنين.
أصيب بالإحباط من سأم الحراسة .
ثم أوْرثني مهمٌته ومهنته ، وأوصاني
بان أحمي المدينة من نشيدك “
قلْت : منْذ متي تراقبني وتسجن
فيٌ نفسك ؟
قال : منذ كتبت أولي أغنياتك
قلت : لم تك قد ولِدْت
فقال : لي زمن ولي أزليٌة ،
وأريد أن أحيا علي إيقاعِ أمريكا
وحائطِ أورشليم
فقلت : كنْ منْ أنت . لكني ذهبت .
ومنْ تراه الآن ليس أنا ، أنا شبحي
فقال : كفي ! ألسْت اسم الصدي
الحجريٌِ ؟ لم تذهبْ ولم ترْجِعْ إذا .
ما زلت داخل هذه الزنزانة الصفراءِ .
فاتركني وشأني !
قلت : هل ما زلت موجودا
هنا ؟ أأنا طليق أو سجين دون
أن أدري . وهذا البحر خلف السور بحري ؟
قال لي : أنت السجين ، سجين
نفسِك والحنينِ . ومنْ تراه الآن
ليس أنا . أنا شبحي
فقلت محدٌِثا نفسي : أنا حيٌ
وقلت : إذا التقي شبحانِ
في الصحراء ، هل يتقاسمانِ الرمل ،
أم يتنافسان علي احتكار الليل ؟ /

المقطع قبل الأخير
كانت ساعة الميناءِ تعمل وحدها
لم يكترثْ أحد بليل الوقت ، صيٌادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموج . والعشٌاق في ال ديسكو .
وكان الحالمون يربٌِتون القبٌراتِ النائماتِ
ويحلمون “
وقلت : إن متٌ انتبهت “
لديٌ ما يكفي من الماضي
وينقصني غد “
سأسير في الدرب القديم علي
خطاي ، علي هواءِ البحر . لا
امرأة تراني تحت شرفتها . ولم
أملكْ من الذكري سوي ما ينفع
السٌفر الطويل . وكان في الأيام
ما يكفي من الغد . كنْت أصْغر
من فراشاتي ومن غمٌازتينِ :
خذي النٌعاس وخبٌِئيني في
الرواية والمساء العاطفيٌ /
وخبٌِئيني تحت إحدي النخلتين /
وعلٌِميني الشِعْر / قد أتعلٌم
التجوال في أنحاء هومير / قد
أضيف إلي الحكاية وصْف
عكا / أقدمِ المدنِ الجميلةِ ،
أجملِ المدن القديمةِ / علبة
حجريٌة يتحرٌك الأحياء والأموات
في صلصالها كخليٌة النحل السجين
ويضْرِبون عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كلٌما
اشتدٌ الحصار / وعلٌِميني الشِعْر /
قد تحتاج بنت ما إلي أغنية
لبعيدها : (( خذْني ولو قسْرا
إليك ، وضعْ منامي في
يديْك )) . ويذهبان إلي الصدي
متعانِقيْنِ / كأنٌني زوٌجت ظبيا
شاردا لغزالةي / وفتحت أبواب
الكنيسةِ للحمام “ / وعلٌِميني
الشِعْر / منْ غزلتْ قميص
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أوْلي بالحديث عن المدي ، وبخيْبةِ
الأملِ : المحارب لم يعدْ ، أو
لن يعود ، فلست أنت من
انتظرت “ /

ومثلما سار المسيح علي البحيرة “
سرت في رؤياي . لكنٌِي نزلت عن
الصليب لأنني أخشي العلوٌ ولا
أبشٌِر بالقيامة . لم أغيٌِر غير إيقاعي
لأسمع صوت قلبي واضحا “
للملحميٌِين النسور ولي أنا طوْق
الحمامة ، نجْمة مهجورة فوق السطوح ،
وشارع يفضي إلي الميناء “ /
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
هذا الرصيف وما عليْهِ
من خطاي وسائلي المنويٌِ “ لي
ومحطٌة الباصِ القديمة لي . ولي
شبحي وصاحبه . وآنية النحاس
وآية الكرسيٌ ، والمفتاح لي
والباب والحرٌاس والأجراس لي
لِي حذْوة الفرسِ التي
طارت عن الأسوار “ لي
ما كان لي . وقصاصة الورقِ التي
انتزِعتْ من الإنجيل لي
والملْح من أثر الدموع علي
جدار البيت لي “
واسمي ، إن أخطأت لفْظ اسمي
بخمسة أحْرفي أفقيٌةِ التكوين لي :
ميم / المتيٌم والميتٌم والمتمٌِم ما مضي
حاء / الحديقة والحبيبة ، حيرتانِ وحسرتان
ميم / المغامِر والمعدٌ المسْتعدٌ لموته
الموعود منفيٌا ، مريض المشْتهي
واو / الوداع ، الوردة الوسطي ،
ولاء للولادة أينما وجدتْ ، ووعْد الوالدين
دال / الدليل ، الدرب ، دمعة
دارةي درستْ ، ودوريٌ يدلٌِلني ويدْميني /
وهذا الاسم لي “
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جسدي المؤقٌت ، حاضرا أم غائبا “
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن “
لي مِتْر و75 سنتمترا “
والباقي لِزهْري فوْضويٌ اللونِ ،
يشربني علي مهلي ، ولي
ما كان لي : أمسي ، وما سيكون لي
غدِي البعيد ، وعودة الروح الشريد
كأنٌ شيئا لم يكنْ
وكأنٌ شيئا لم يكن
جرح طفيف في ذراع الحاضر العبثيٌِ “
والتاريخ يسخر من ضحاياه
ومن أبطالِهِ “
يلْقي عليهمْ نظرة ويمرٌ “
هذا البحر لي
هذا الهواء الرٌطْب لي
واسمي ­
وإن أخطأت لفظ اسمي علي التابوت ­
لي .
أما أنا ­ وقد امتلأت
بكلٌِ أسباب الر حيل ­
فلست لي .
أنا لست لي
أنا لست لي “

*****

محمد دكروب

حياتي.. وقضيتي.. وشعري

أول حوار مع محمود درويش في الصحافة العربية أجراه معه الناقد اللبناني محمد دكروب ونشرته مجلة الطريق عام 1968 في موسكو، أول عاصمة يزورها محمود درويش.
لم أكن قد التقيت به قبلا، ولكني كنت اعرفه من زمن طويل، منذ أخذ ينشر هناك اشعاره التي جمعها في ديوانه 'أوراق الزيتون'.. اتتبع ما يتسرب إلينا من قصائده وقصائد رفاقه الاخرين.. وعندما اجتاز شعره الاسلاك الاسرائيلية الشائكة، وانطلق في العالم العربي خصوصا بعد نكسة حزيران شعلة أمل واصرار وسط اليأس الشعري القاتل في تلك الفترة، شعرنا هنا باعتزاز كبير: هذا واحد منا، عملاق شعري آخر يؤكد طليعية شعرنا التقدمي، ويعطي، هو ورفاقه، المثل الحي علي اندماج الشاعر بشعبه، والشعر بالقضية.
في صوفيا، أيام مهرجان الشباب العالمي، جاء من يقول لي: 'محمود وسميح هنا، يريدان رؤيتك'..
وفي أحد احتفالات التضامن مع الشعوب العربية، التقيت بمحمود درويش.. شاب نحيل، وجه اليف جدا، قريب إلي القلب.. اكتشفنا كاننا نعيش معا من زمان.. هو ايضا يعرف الكثير عني وعن رفاقي الكتاب هنا. قال انه ورفاقه، هناك، فتحوا عيونهم علي الادب التقدمي من خلال 'الثقافة الوطنية' ثم من خلال 'الاخبار'. بعض ما نكتبه في صحفنا، كانوا ينقلونه إلي صحفهم. كانت صحفنا، كما قال، نافذتهم إلي العالم العربي، والشريان الذي ينقل إليه حركة الادب والفكر والكفاح.
يا محمود!.. أنت اسطورة عندنا.
ابتسم بحياء... قال انا انسان عادي جدا، ما اقوم به يقوم به الكثيرون، ولكن صوتي، كشاعر، يصل إلي مسافات أوسع..
التقينا بعدها عدة مرات في صوفيا، وسط ضجيج المهرجان، واهازيجه، وزيناته، ومشاكله... ثم التقينا في موسكو، حيث اتيح لي، في جو هاديء، ان أجري معه هذا الحديث، محاولا ان يكون وثيقة أدبية وانسانية، عن حياة، وشعر، وكفاح شاعر المقاومة العربية في فلسطين: محمود درويش.
في ديوان 'عاشق من فلسطين' تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية... ولعل الترامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم.
طفولتي: بداية الماسأة
حدثنا عن نشأتك.. البيئة والجو والناس... وانعكاس احداث تلك الفترة الاولي علي نفسك ومسيرتك فيما بعد...
أضع أمامكم طفولتي، لا لأني من أولئك المولعين بالحنين إلي 'البراءة المفقودة'، ولا لأني انتمي إلي الذين يعاملون مرحلة الطفولة علي انها العنصر الحاسم الذي يحدد اتجاه الشعر. ولكن الطفولة، في مثل حالتنا، اكتسبت ميزة خاصة وستساعدنا، ولو قليلا، علي فهم هذه الصلة التلقائية المبكرة بين الخاص والعام. ان طفولتي هي بداية مأساتي الخاصة التي ولدت مع بداية مأساة شعب كامل.
لقد وضعت هذه الطفولة في النار، في الخيمة، في المنفي، مرة واحدة وبلا مبرر تتمكن من استيعابه، ووجدت نفسها فجأة تعامل معاملة الرجال ذوي القدرة علي التحمل ولاتستثني من مصيرهم. فالرصاص الذي انطلق في تلك الليلة من صيف 1948 في سماء قرية هادئة (البروة) لم يميز بين أحد، ورأيت نفسي، وكان عمري يومها ست سنوات، أعدو في اتجاه أحراش الزيتون السوداء، فالجبال الوعرة مشيا علي الأقدام حينا وزحفا علي البطون حينا، وبعد ليلة دامية مليئة بالذعر والعطش وجدنا أنفسنا في بلد اسمه: لبنان، وحين صحا ذلك الطفل الممزق الثياب من التعب والرهبة كان رأسه يزدحم بالأسئلة التي هاجمته دفعة واحدة وبلا تسلسل. ومنذ تلك الليلة انقلبت الصفة الخاصة لعالم الطفولة، واصبح ذلك الطفل محروما من الاشياء واللغة التي تميزه عن الكبار. والغريب، هو أن تلك الليلة أكسبته شعورا غامضا بأنه، منذ الان، لن يختلف عن الكبار. والتصقت بذهنه وعاطفته كلمات جديدة صار يعرف انها مصيرية: الحدود، اللاجئون، الاحتلال، وكالة الغوث، الصليب الاحمر، الجريدة، الراديو، العودة، وفلسطين... اذ لم تكن به حاجة، علي ما يبدو، لان يعرف بأنه من فلسطين قبل الآن. من هنا، الاحظ أن ارتباطي الاول بالقضية بدأ بتعرفي المفاجيء علي كلمات. وعندما كنت أسأل أهلي عن ترجمة هذه الكلمات، كنت أدخل عالم قضايا جديدة والتصق بها رغما عني، مبتعدا بوتيرة سريعة، عن عالم الطفولة اذا كان يعني ما يحظي به الطفل من تفوق وتمييز، وصرت اقترب، بوتيرة سريعة ايضا، من عالم الطفولة الذي صار يعني المكان الذي ستخلصني العودة إليه من هذه الكلمة الجارحة: لاجيء وهكذا، تحولت عواطفي إلي اسيرة لكلمة 'العودة' التي تعني المصلحة والانتهاء من العار. وصرت انتظر، حيث أصبح الاحساس المرهف بالحرمان والظلم والتشرد مسيطرا علي ذهني الصغير وكل ما ورثته من حب للدنيا استبدله الواقع الجديد بضيق شديد بها. ولهذا أذكر فقدت موهبة اللعب وتسلق الشجر وقطف الازهار ومطاردة الفراش، وورثت عن أهلي عادة التأفف والركون إلي الصمت والتأمل. واستطيع الآن أن أحدد، من بعيد، أن الموهبة الاولي التي قادتني إلي الشعر كانت موهبة التأمل، بمعني انها اوصلتني إلي الارتباط المرهق بهموم الكلمات الجديدة، وسط جو كثيف من الغربة، فعمقت احساسي بالسبب والشكوي، ومن هنا ايضا استطيع أن أحدد منبع حساسيتي الشديدة تجاه العدوان فان طفولتي كانت ضحية عدوان وأجد الآن، خلال هذه المراجعة أن الطفولة لم تكن تعني مرحلة من مراحل حياتي، وانما كانت وطني، وفي وطن الطفولة كنت أشعر بالمراحل: الحرمان الخوف طرح الاسئلة، العزلة، التأمل، ثم الغضب علي شيئين: علي الواقع الجديد، وعلي الذين احتلوا طفولتي وطني، وقادوني إلي هذا الواقع. هذه هي تجربة 'الطفولة المنفية'. وتليها تجربة أخري:
العودة... منفي آخر!
قيل لي في مساء ذات يوم: الليلة تعود إلي فلسطين. وفي الليل، وعلي امتداد عشرات الكيلومترات في الجبال والوديان، الوعرة، كنا نسير.. أنا واحد اعمامي ورجل آخر هو الدليل. والدليل رجل خبير بمسارب الجبال، استغل هذه الخبرة لتصبح مصدر رزق.
في الصباح، وجدت نفسي اصطدم بجدار فولاذي من خيبة الامل أنا الان في فلسطين الموعودة. ولكن أين هي؟ لا. هذه ليست فلسطين تلك الارض السحرية.. الخلاص من الظلم الحرمان، لا تحتضنني كما تصورت. وهذا الصبي العائد، بعد سنتين من الانتظار، يجد نفسه اسيرا لمصير المنفي ذاته، باسلوب آخر وعلي ارض ليست له.. ليست له! هذه هي الحقيقة الثانية التي مازالت، حتي الآن، اعنف يد تحرك احساسي بالمأساة، كما كانت أول محاولة شعرية لي. لم أعد إلي بيتي وإلي قريتي، فقد ادركت بصعوبة بالغة، ان القرية هدمت وحرثت. كيف تهدم القري؟ ولماذا؟ وكيف يعاد بناؤها؟ ثم أجد أن اللغة الجديدة مازالت تلبسني.
اسمي الان: لاجيء فلسطيني في فلسطين!!
وأعود مرة أخري إلي وكالة الغوث والغربة ومطاردة الشرطة لاننا لم نكن نحمل بطاقة هوية اسرائيلية.. لاننا متسللون! واذا كان من المتاح الان تقويم هذه التجربة، تجربة اللاجيء في وطنه، فاني اشعر بانها تبعث علي خطر القتل النفسي بصفاقة اقسي من تجربة المنفي. في المنفي يتوفر لديك الاحساس بالانتظار، وبأن المأساة مؤقتة فتنسم رائحة أمل. وتحمل عذاب المنفي مبرر. والتصور للمنزل والحقل والجمال المنشود والسعادة القصية وغيرها أمر مشروع. أما التجربة الاخري، اللجوء في الوطن. فانه أمر غير مبرر وصعب الاستيعاب في حدود وعي الطفل والصبي. انك تشعر بالقصة والقهر حتي في اجمل احلامك. وتكتسب ملامحك انعكاسات واقع هي اقرب ما تكون إلي الرموز. كنت اشعر باني مستعار من كتاب قديم يخلق في انطباع غامض لاني لا أحسن قراءته.
ولكن الكابوس لايستمر بهذا الشكل. فان 'اللاجيء الفلسطيني في فلسطين' لم يترك 'حرا بحرمانه'. وهنا يضاف عنصر جديد هو عنصر التحدي من جانب السارق، وهو ذو حدين: الحد الاول، يزيد من الشعور بالتمزق، والحد الثاني يفجر هذا الشعور في نقطة ما..
في التحدي المضاد الذي يتطور إلي طريق عمل وكفاح.

عن القصائد الأولي

كيف بدأت تتلمس الطريق إلي الشعر؟
حدثنا عن الاشعار الاولي.. القصيدة الاولي التي نشرت لك، وتأثير نشرها علي نفسك، وفي حياتك.. ثم التيارات الادبية والسياسية التي تأثرت بها في تلك الفترة..
لا أذكر متي بدأت، بالضبط، محاولة كتابة الشعر. ولا أذكر الحافز المباشر لكتابة 'القصيدة' الأولي، وان كنت اذكر اني حاولت، في سن مبكرة، كتابة 'قصيدة طويلة' عن عودتي إلي الوطن، حذوت فيها حذو المعلقات، فآثرت سخرية الكبار ودهشة الصغار. واذكر ان بعض الصحف بدأت بنشر محاولاتي عندما كنت في المدرسة الابتدائية، وكنت أحدق طويلا باسمي المطبوع في الجريدة، فاطمح بان يطبع مرات أخري! وخلال دراستي الثانوية صارت كتابة الشعر تحتل الجزء الاكبر من اهتمامي. وكنت سريع التأثر بالشعراء الذين اقرأ لهم مؤخرا. وكانت محاولاتي تتسم بالزخرف والنغم المسموع جيدا، وكان اندفاعي وراء الانسياق الموسيقي ينسيني أو يضيع علي: الفكرة، في تلك السنوات كنت دائم البحث عن نفسي وعن الطريقة الافضل لكتابة، ومن المؤكد ان الرومانسية تستهوي كل ابناء هذا الجيل، ولكن هذا الشعر الجديد الذي نقرأه في 'الاتحاد' و'الجديد' للشرقاوي والبياتي والبغدادي وبسيسو والسياب وغيرهم يشعرنا بعلاقة أقرب ويلهينا بالحرارة لصلته المباشرة بالواقع، فاخذني هذا الشعر إلي أول الطريق. وانفصلت عن حبي الجارف لشعراء المهجر وعلي محمود طه. ولكن لم أجد، بعد، وسيلة التعبير، كان يشغلني في هذه المرحلة كيفية التعبير عن قلقي وتمزقي وغضبي كشاب ينتسب إلي شعب مضطهد ومسحوق، بما يخيل لي انه أفضل الاشكال واقربها إلي القلب. ثم، كيف أجمع بين حبي لفتاة وارتباطي بالقضية العامة. وكانت تلك السن تصور لي ان في الصورة شخصيتين متناقضتين وكنت أتأثر بأي انتصار ثوري في أي مكان في العالم، فأسارع إلي 'تخليد' هذا الانتصار.
انتميت إلي الحزب الشيوعي
فتحددت معالم طريقي
وفي تلك الفترة تعرفنا علي عملية غسل الدماغ الثقافي الذي نتعرض له. اكتشفنا انهم، في المدرسة، يعلموننا عن تيودور هرتسل اكثر مما نتعلمه عن محمد، والنماذج الذي ندرسها من شعر حاييم نجمان بياليك أكبر بكثير من نماذج شعر المتنبي، ودراسة التوراة اجبارية، أما القرآن فلا وجود له، فأحسسنا أن غزوا ثقافيا لنشر العبرية يزحف إلينا ناعما كالافعي، فكان لابد لنا من أن نمنح انفسنا الوقاية، وازداد اقترابنا من الاوساط اليسارية، وصرنا نقرأ مباديء الماركسية التي اشعلتنا حماسا واملا، وتعمق شعورنا بضرورة الانتماء إلي الحزب الشيوعي الذي كان يخوض المعارك دفاعا عن الحقوق القومية ودفاعا عن حقوق العمال الاجتماعية.
وحين شعرت أني أملك القدرة علي ان اكون عضوا في الحزب دخلت إليه في عام 1961، فتحددت معالم طريقي وازدادت رؤيتي وضوحا وصرت أنظر إلي المستقبل بثقة وايمان. وترك هذا الانتماء آثارا حاسمة علي سلوكي وعلي شعري.
عن دواويني وشعري: من المباشر إلي الرمز الشفاف
ديوانك الاول.. اسمه، طابعه العام. ماذا يمثل: في المضمون، في الشكل، في حياتك الخاصة، وفي الشعر العربي داخل اسرائيل لا... الديوان الثاني.. والثالث.. والرابع.
... ماذا يمثل كل ديوان، في نظر النقاد عندكم، وفي نظرك وفي حركة التطور الشعري عندك؟ هل وضعت شعرا وانت في السجن؟
تأثير السجن في نفسك وشعرك..
أول ديوان مطبوع لي، لا يستحق الوقوف. كنت في سنتي الدراسية الاخيرة (18 سنة)، وكان تعبيرا عن محاولات غير متبلورة، صدر عام 1960 واسمه 'عصافير بلا أجنحة'.

أما الديوان الثاني 'أوراق الزيتون' الصادر عام 1964 فأعتبره البداية الجادة في الطريق الذي أواصل السير عليه الان، الطابع العام المميز لقصائده هو التعبير الجديد، بالنسبة لشعرنا، عن الانتقال من مرحلة الحزن والشكوي إلي مرحلة الغضب والتحدي، والتحام القضية الذاتية بالقضية العامة، متنقلا من سمة 'الثوري الحالم' إلي الثوري الاكثر وعيا. وتشيع في جو الديوان رائحة الريف، وآلام الناس، والتغني بالارض والوطن والكفاح، والاسرار علي رفض الامر الواقع، وحنين المشردين إلي بلادهم، ومحاولة العثور علي مبرر لصمود الانسان امام مثل هذا العذاب، كما ترون في هذه الاغنية مثلا:
وضعوا علي فمه السلاسل ربطوا يديه بصخرة الموتي وقالوا: انت قاتل!
اخذوا طعامه، والملابس، والبيارق
ورموه في زنزانة الموتي
وقالوا: انت سارق!
ردوه عن كل المرافئ
اخذوا حبيبته الصغيرة
ثم قالوا: أنت لاجئ!
يادامي القدمين والعينين
ان الليل زائل
لاغرفة التوقيف باقية
ولازرد السلاسل
فحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي.. سنابل!
وقد استقبل الديوان برضا بالغ من القراء والنقاد والشعراء الذين اعتبروه مفاجأة وقفزة في الشعر العربي في بلادنا. ويسعدني أن اذكر أن 'أوراق الزيتون' هو الكتاب العربي الوحيد الذي طبع طبعتين.
'عاشق من فلسطين'
وشاعر في السجن

الديوان الثالث هو 'عاشق من فلسطين' صدر عام 1966، أن طريقتي في التناول هنا تختلف عنها في 'أوراق الزيتون' مما نتج عنه تغير في النبرة. صوتي هنا اكثر انخفاضا وهمسا وشفافية.
تخلصت من شرح تفاصيل الصورة واكتفيت بالاشارة الموحية. وحين انظر إلي الاشياء لا التصق بها فقط، وانما اتوغل فيها أو هي تتوغل في. كان وعيي ووجداني يدخلان في معادلة واحدة. ولعل التزامي هنا لم يعد مبدأ أو وجهة نظر أو طريقة، وانما صار نبضا في الدم. واعتقد ان للتجربة التي خلفت 'عاشق من فلسطين' فضلا علي ما أدعيه. القسم الاكبر من الديوان كتب في السجن أو عن السجن. واظن ان للمكان بعض التأثير علي بناء القصيدة ايضا. ويخيل لي أن كتابة القصيدة في السجن اشبه ما تكون بعملية التقاط سريع أو اصطياد خاطف، وماهر، في نغمة اشبه ما تكون بالدندنة، حيث لا تكون للشاعر هناك أدوات الكتابة المادية التي اعتاد عليها. وقد يكون العامل المريح الذي يكتب فيه الانسان. شاء أم لم يشأ، أحد العوامل التي تدفعة إلي العناية الشديدة بالاناقة. من هنا تجد ان قصيدة السجن قصيرة، مكثفة، وتحتوي علي فراغ جميل ذي ايحاء، فانك تشعر ان هذا الشاعر السجين لم يقل كل شيء، لم يستهلك تجربته، ومازالت هنالك ظلال غير مرئية. وهذه الميزة ميزة الانطباع بوجود ما لم يقل تعجبني كثيرا في الشعر، كقاريء من حقي المطالبة بأن يتعدي دوري جهاز الاستقبال، إلي المشاركة في العملية الابداعية. ومع ذلك، فاننا نظلم المسألة اذا جعلناها وقفا علي عنصر المكان الا بقدر ما يعنيه من وعاء للتجربة أو مسرح لها. ان السجن يرغم المرء علي المراجعة والتأمل في كل شيء، وكون السجين مقطوعا عن العالم الخارجي ومحروما منه يحمل ارتباطه العاطفي والفكري به اكثر التحاما وحميمية. كل شيء في هذه الدنيا الطليقة خارج الاسوار يصبح ذا ذكريات ومواعيد، لدي موعد مع كل شيء.. عندما يطلق سراحي سأقف طويلا لكي امتليء بزرقة البحر وملوحته. وفي السجن 'اكتشفت' الشجر بكل ما فيه من مودة، كرد فعل للون الرمادي، وهكذا تصبح الالوان مثار اهتمام من نوع جديد. مازلت اقول ان النفي الحقيقي للانسان هو ان تبعده عن الشجر. كل عشية تتحول إلي رمز. وفي السجن تكتشف علاقاتك الحميمة بالناس، ويزداد الانتماء حنانا، وتري اهلك من زاوية أخري لم تنتبه لها من قبل. لقد كنت مضحكا جدا عندما كتبت إلي أهلي: 'اكتشفت اني احبكم بلا حدود. لاتؤاخذوني علي هذا الاعتراف'، ولكني كنت صادقا. ملخص القول ان العالم الخارجي الذي يتحول إلي وحدة رمزية واحدة يتداخل في السجين من أجل قضية، وتصبح كل العناصر مشاركة في هذه القضية التي يلح عليك السجن بالتشبث بها.
هذا ما حاولت أن أكتب عن حنيني إليه بطريقة قتلت فيها عنصر الحنين، لان السجن لم يبعدني عن الناس والاشياء والقضية، وانما جعلني اهضمها بشهية ونهم.
وهكذا، أري اني خطوت خطوة نحو المزج بين الاشياء مما استدعي صيغة اكثر مرونة تسع لحركة المزج، اسفرت عن انزال ضربة، غير مقصودة لذاتها، ببناء القصيدة الكلاسيكي. وقد حدث ذلك بما يشبه التلقائية، اذ لا خيار لك وسط هذه الحركات والرموز في ان 'تقرر' شكلا ما، فالعملية هنا هي التي اخذت اطارها وشكلها.
'آخر الليل..': مشكلة
الرمز.. والوضوح.. والقراء

آخر دواويني هو 'آخر الليل'. وارائي في غني عن تقديمه لكم لانه نشر في العالم العربي علي نطاق واسع، ولكني اشعر بان مسافة التطور الفني، بينه وبين 'عاشق من فلسطين' أوسع من المسافة الممتدة بين 'عاشق من فلسطين' و'أوراق الزيتون'، اشعر ان كلمات 'آخر الليل' اكثر ظلالا وايحاء، وصار الرمز، عندي، اغني بالكثافة، وان كان الجو العام شفافا. واستطعت، كما يبدو لي، أن أحقق الصداقة بين الحلم والواقع، بين سبب الرمز ومدلوله، وتلقائية العلاقة بين الفكر والوجدان، وفي الحوار القاسي أو الصراع بين الموت والحياة انتصرت علي الموت دون ان اجعل ايديولوجيتي تتدخل، ظاهريا.
ولكن 'آخر الليل' الذي اعتبره افضل ما كتبت، استقبل بفتور علني من اغلبية القراء في بلادنا. وقال لي عشرات من المثقفين: 'يامحمود! عد إلي الوراء. اذا كان هذا هو التقدم الفتي فليتك لم تتقدم'.. وقيل لي، بشفقة، ليتك لم ترحل عن القرية.. هذا الشعر غير مفهوم. ومجمل رأي القطاع الاوسع من القراء هو ان هذا الديوان يمثل بداية سقوطي. يضاف إلي ذلك ان الذين يكتبون النقد في بلادنا، عادة، لم يعيروا الكتاب أي اهتمام. وكتب احد رفاقي مؤنبا: 'هل سيأتي كل قاريء إلي الشاعر ليفسر له هذه الرموز، أم يبحث عن منجم' وأعرب عن أسفه لانجراري وراء الشعراء الرمزيين!!
من المكابرة ان اقول اني لم اشعر بعذاب نفسي. هل يترتب علي، لكيلا ينقطع التفاعل بين شعري وبين الناس، أن أعود إلي التعبير المباشر، والحث الصريح علي الكفاح والتمسك بالامل والعقيدة؟ هل اعلل هذه الظاهرة بعدم وجود نقاد جادين؟ هل هذه الظاهرة تطرح قضية 'التناقض' الفني بين متطلبات التجديد عند الشاعر وبين مدي الامكانيات الفنية المتوفرة لدي قطاع واسع من الناس؟ هل أصبحت صوري ورموزي وطريقة تناولي معتمة؟ هل غامرت كثيرا؟ ان هذه الاسئلة تشغل بالي بشكل ملح، خاصة اني اعتبر نفسي شاعرا ثوريا يخاطب الجماهير ويلتزم بقضية الجماهير ويكتب من أجل الجماهير. ويطرح امامي سؤالا للمستقبل: كيف أوفق بين شق الطريق امام الكلمة لتمارس مفعولها بين الجماهير بصفتها كلمة ثورية من ناحية، وبين متطلبات الشروط الفنية المتطورة لهذه الكلمة؟ ثم، انني مليء بالإحساس في ان 'اللعبة الفنية'، عندي، مكشوفة خلف منديل شفاف.
معارك.. ضد السلطة
والعدمية وانعزال الفنان

تخوضون معارك كثيرة.. حدثنا عن المعارك الفكرية
والاجتماعية التي مارستها... وعن محاربة السلطة لكم ولشعركم... وعن السجن...
كل هذه المعارك تقريبا تدور، مباشرة، في دائرة المعركة السياسية، سواء كانت السلطة الطرف الآخر والمباشر، وسواء كان الفكر الرجعي أو الانتهازي أو العدمي محفوفا بعطف السلطة أو تأييدها أو لا يعدو كونه جندا من جنودها. ولعل مكافحة سعي السلطة إلي اشاعة العدمية القومية في صفوف الجيل العربي الجديد قد اصبحت احدي معاركنا اليومية.
وتكرس السلطة جهودا خاصة لاضعاف قوة جذب حزبنا للشباب بالهجوم المستمر علي الفكر اليساري وعلي الاشتراكية، داعمة هذا الهجوم باساليب الارهاب غير الاخلاقية، وبفتح الابواب علي مصارعيها لكل أنماط الحياة الامريكية وثقافتها.
وتوحي السلطة مثلا لاحد مأجوريها، بين الحين والآخر، لاختلاق مناقشة واسعة حول: 'هل العرب يؤلفون شعبا؟' وتملأ صحفها بالمصادر 'والبراهين والأدلة العلمية القاطعة!' علي أن هذه الشعوب المسماة غريبة ليست عربية!! ولم يكن من الطبيعي ان نجلس مكتوفي الايدي أمام مثل هذه الاسئلة، ودخلنا معركة طويلة مع أصحاب هذا 'الفكر'. أورد ذلك فقط علي سبيل المثال. ثم إننا نحارب التثقيف الرسمي للشباب اليهود بروح الشوفينية والغطرسة القومية والتفوق العرقي وتزييف التاريخ، سواء كان ذلك في برامج التعليم أو الصحف أو الادب والفكر.
وفي الميدان الادبي، دخلنا عدة معارك حول الالتزام في الادب، وما هو الأدب؟ وهل هو الحياة أم لذاته؟ وغيرها من المواضيع التي اشغلت حياتنا الادبية، بشكل ملح، ذات يوم. ثم ان لابد من دخول معركة حول قضية كانت قضية الساعة: قضية الشعر الحديث، وغيرها من المناقشات الدائرة حول قضايا الفن والادب، والروايات العربية الرخيصة التي أغرقت المكتبات.
أما محاربة السلطة لشعري وشعر زملائي فقد كانت السلطة، في البداية، تجهد لجعلها غير مرئية بكل ثقلها، خاصة ان السلطة تحرص كثيرا علي مباهاة العالم 'بواحة الديمقراطية في صحراء الشرق'!! 'أكتب ما تشاء وأدفع الثمن الذي نشاء' هذا هو الشعار غير المكتوب. ولكن، ما هو الثمن؟ لن تعمل، لن تمارس حرية التجول، ولن تترك طليقا، وستبقي عرضة للاعتقال. فان انظمة الطواريء الانتدابية التي لاتزال سارية المفعول، تتيح للسلطة العسكرية ممارسة كافة الاجراءات ضد أي مواطن وهي في حل تام من تبيين الاسباب أو تقديمه للمحاكمة. وهكذا أصدرت السلطة العسكرية أوامر الاقامة الاجبارية ضد الشعراء العرب التقدميين بدون استثناء. وأنا، مثلا، لا أستطيع مغادرة حيفا منذ أربع سنوات. وسميح القاسم أمر بملازمة بيته منذ غروب الشمس حتي شروقها لمدة ثلاثة أشهر متتالية. وتوفيق زياد وسالم جبران محددا الاقامة في منطقة الجليل. ثم، هنالك المراقبة العسكرية علي طبع دواوين الشعر: لايستطيع الشاعر أو صاحب المطبعة ان يطبع أية مجموعة شعرية الا بعد ان تجيزها المراقبة العسكرية. ومن الواضح ان الرقيب لايرضي أن يكون عاطلا عن العمل أو كسولا!!، ثم، هناك الفصل من العمل اذا كنت موظفا: عيسي لوباني وسميح القاسم وغيرهما طردوا من جهاز التعليم. ثم، هناك السجن، رغم ان السلطة لم تجرؤ، حتي الآن، ولمتطلبات الدعاية، علي محاكمة شاعر لانه كتب قصيدة، وقد حاولت تقديمي إلي المحاكمة في عام 1961 علي قصيدة عن غزة، واستدعيت للتحقيق وقدمت لي لائحة اتهام، ونشرت الصحف ان العقوبة ستبلغ خمس سنوات سجن، ولم أحاكم حتي الآن. ولكني حوكمت لاني سافرت إلي القدس لالقاء قصيدة وسجنت شهرين.
وأذكر أني في عام 1961 وجدت نفسي في غرفة التوقيف لمدة عشرة أيام بدون تهمة وبدون تحقيق. وفي حرب حزيران اعتقلت مرة أخري.
ولكن السلطة لاتكتفي باتخاذ الاجراءات المباشرة ضد الشاعر. أنها تمارس المعركة النفسية عن طريق الصحف، فحين أحظي بإشارة صحفية في صحيفة. حكومية أجد نفسي من خلالها شبيها بالوحش، فليست معركتي الا معركة عنصرية.. أعاني مركبات الحقد وكراهية اليهود وغيرها من الالقاب!! واني اتصدي لهذه الصورة باعصاب باردة، بالتمييز بين السلطة الصهيونية وبين اليهود. أذكر أن صحيفة 'دافار'، مثلا، وصفت قصيدة لي عن الحرب بانها 'طعن لافضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'، فقلت 'لدافار': انكم أنتم الذين تشتمون شعبكم، فأنا احتج علي العدوان والقتل والتدمير والتنفس من رئات الآخرين، فتقولون لي: 'انك تطعن افضل ما لدي الشعب اليهودي من قيم'.
ومن المفيد ان نعلم ان التحريض علي شعرنا ليس من اختصاص الصحفيين فقط، واذكر ان نائب وزير الدفاع السابق شمعون بيريس حين أراد البرهنة علي ضرورة بقاء الحكم العسكري علي العرب لم يجد الا شعرنا سببا كافيا لاستمرار هذا الحكم!
حزيران..
الدماء والدروس

حرب حزيران.. كيف واجهت وطأتها؟.. تأثيرها في حياتك، وموقفك.. والطابع الذي اتخذه شعرك في تلك الفترة المريرة، وبعدها.
أدبيا، لم تخلق تأثيرا مفاجئا، ولم تقلب افكاري رأسا علي عقب، ولم تحطم قيمي كما فعلت، ومن الخير انها فعلت، بالكثيرين من الشعراء العرب خارج بلادي. لم أكن جالسا في برج حمام لكي تقنعني، بمثل هذا الدليل الفادح، علي ضرورة النزول إلي الشارع. ولكنها كانت مكاشفة جارحة. وأضافت، لمن لم يصدق حتي ذلك الحين، برهانا جديدا علي ضرورة ممارسة العمل والفكر الثوريين الحقيقيين، وعلي ان الادب ليس سلعة أو متعة.
وهذا ما كنا نؤمن به، حتي النخاع، قولا وعملا، وما زلنا بعد حزيران أشد ايمانا. ومن الضروري ان يستفيد منها اولئك الذين سودوا اطنانا من الورق ضد التزام الأديب بقضية، وضد تسلح الاديب بفكر ثوري حقيقي. ومن الموجع حقا ان يحتاج أديب إلي مثل هذه الكارثة لاكتشاف ما يشبه البديهيات، وأذكر اني قلت لفدوي طوفان، في لحظات لقائنا الاول في حيفا: هل ترين يافدوي ان شهرا واحدا من الاحتلال قد حل، عندك، كل المناقشات الطويلة حول الشعر؟ مشيرا إلي الانعطاف الواضح في شعر فدوي بعد احتلال نابلس. وقلت لها، بكثير من الوجع، 'آمل ان يستفيد الجميع مما حدث، لئلا يأتي نزار قباني، مثلا، لزيارتنا'!
من الواضح، أن أحدا لايحاول التخفيف من قبضة الذهول، وتفتح الجراح الجديدة، والجراح القديمة التي تخفر مرتين أو ثلاث مرات. وأنا شخصيا، وأنا قابع في السجن، تعطلت اعصابي. وبعد خروجي لم اجرؤ علي القيام بمحاولة الكتابة، لأن التشنج والرؤية الفارقة في الدم والحروق لم تتح لي بلورة المدخل الذي سأنفذ منه إلي مثل هذا الموضوع المهلك، والصعوبة الفنية في مثل هذه المواضيع هي العثور علي فتحة ضيقة تتمكن من السيطرة عليها والتطلع إلي ساحة الموضوع وآفاقها. ويبدو أن سخونة الوجدان الزائدة عن الحد المعقول تفسد العملية الابداعية بقدر ما تفسدها برودة العقل الزائدة عن الحد المعقول. بعد شهور وجدت نفسي اكتسب بهدوء ظاهري هذه القصائد التي يحتويها ديوان 'آخر الليل'. وقد سهل علي العملية، إلي حد ما. إدراكي انه لم يتبق لي شيء.. الا العقيدة والكلمة. فلماذا تسقطان؟ وهما وسيلتاي للصداقة مع الحياة، والتعويض الباقي.
لقد استطعت في هذه القصائد، واقول ذلك بنبرة فخر، ان انقذ انسانيتي من الموت، في تلك الفترة العنيفة التي هددت انسانية الانسان بأفدح الاخطار. عندما انفجر الحلم، وجدت اني مازلت متشبثا بانبل تراث: انسانيتي.
شعر المقاومة
احتجاج وتغيير

ان شعرك وشعر زملائك يعتبر جزءا من شعر المقاومة العربي والعالمي.. حدثنا عن مفهومك انت لشعر المقاومة.
شعر المقاومة، كما افهمه، تعبير عن رفض الامر الواقع.. معبأ باحساس ووعي عميقين بلا معقولية استمرار هذا الواقع وبضرورة تغييره والايمان بامكانية التغيير. قد يبدأ هذا الشعر، غالبا، بالتعبير عن الالم والظلم، ثم الاحتجاج والغضب والرفض. ولكن لكي يفعل هذا الشعر مفعوله عليه ان يكون عملية للتغيير فيتسلح بنظرية ثورية ذات محتوي اجتماعي، وهكذا يجد نفسه شعرا جماهيريا. ان شعر المقاومة، بطبيعته. شعر ثوري. وكون هذا الشعر جماهيريا قد يهلك أشباه الشعراء فنيا، عندما تصبح النية الطيبة والمباشرة والخطابة الرنانة هي العناصر الاساسية في شعرهم. ان 'اللعبة' الفنية في شعر المقاومة تصبح اكثر انفضاجا. وعلي الشاعر ان يتداخل مع الواقع وينسق بكلمات متحررة من الهجاء والخطابة المباشرين. وأري ان من اتقي ميزات شعر المقاومة، عادة، الصفاء الانساني الشامل، فصرخة الانسان المضطهد المقاوم في أي مكان هي صرخة انسانية تخص كل انسان، والظلم والسجن والقتل والاضطهاد وقائع معادية للانسانية غير منحصرة في حدود جغرافية، ومقاومة الانسان لها هي عملية انسانية نبيلة. ويتمتع شعر المقاومة، عادة، بحساسية شديدة بالترنح كجزء من تمسكه بجذور عميقة تعينه علي الصمود وعلي تبرير هذا الصمود واحتقار هذا الظلم الطاريء امام جبروت التاريخ.
وأنا أعتبر نفسي امتدادا نحيلا، بملامح فلسطينية، لتراث شعراء الاحتجاج والمقاومة ابتداء من الصعاليك حتي حكمت ولوركا واراغون الذين هضمت تجاربهم في الشعر والحياة، وأمدوني بوقود معنوي ضخم.
عن الرمز والشجر
الذي صار بلون الدم

في شعرك كثير من الرمز، وذكر لاشياء الطبيعة (الزيتون والبرتقال والشراب) لها عدة ابعاد رمزية وايحاءات... يقال: ان هذه الوسائل الرمزية 'تبعد' الشاعر الواقعي عن واقعيته... ما رأيك في هذا، من خلال تجربتك الشعرية نفسها؟

أشياء الطبيعة هذه، هي التي غالبا ما تتحول إلي الرمز عندي، فالبرتقال والزيتون، مثلا، هما من أقوي معالم الطبيعة في بلادي، ولكنهما ليسا طبيعة مجردة وبالمناسبة، انا لا أتحمس لشعر الطبيعة الوصفي الذي يمجد الطبيعة علي اعتبار انها لوحة جميلة. ان هذه الطبيعة تستمد حيويتها ومدلولها وقيمتها من خلال تعامل الانسان معها. ان اهتمامي بالبرتقال والزيتون مستوحي من واقع الانسان الذي غرس هاتين الشجرتين وساقهما بالعرق والامل منتظرا ثمار ما اعطي. هذه العلاقة بين الزارع والشجرة تحمل مدلول استمرار الحياة والامل والوطنية والتلقائية. ولكن، وبشكل مأساوي، قصمت هذه العلاقة بعسف وبكثير من الدم الذي لم يعد يبرر لي المحافظة علي حرفية لون الشجرة مثلا، بعد ان اختلطت أوراقها الخضراء باحمرار الدم وسواد الليل. والمزارع لاقي أحد ثلاثة مصائر: إما الموت عند الشجرة، وإما الهجرة الاجبارية عنها فالتصقت بذاكرته واصبحت رمزا للوطن وانتظار العودة، وأما بقي امامها دون أن يملك القدرة علي احتضانها واستمرار العلاقة بها، فتحولت لديه إلي نبع من الظمأ أو إلي امرأة تسبي امام عينيه. هكذا، لم يبق من الشجرة الا مدلولاتها، أي ان الواقع تحول إلي رمز أو ايحاء. هذا الرمز ايضا ليس جامدا.. امرا مفروغا منه، انه يتحرك مع تطور البيئة هذا الانسان بما يفرزه هذا التطور من حالات نفسية. ولكن الرمز الذي يحافظ علي 'حقيقته' في كل حركات الزيتون، في نهاية المطاف، هو التشبث في التراب والقدرة علي مواجهة الزمن وطول النفس والخضرة الدائمة أخيرا.
من الواضح، ان هذه الصورة لم تأخذ ابعادها الحالية عندي منذ اول الطريق. وقد توصلت إليها بعد احساس بضرورة التخلص من تفصيل الصورة الشعرية، والاكتفاء بما يشبه الرمز للتدليل علي الواقع الحسي دون الاستغناء عنه كليا.
الرمز عندي، كما اراه، ليس مبهما. انه يكتشف بسرعة، وهو في أول الامر وآخره بدليل التعبير المباشر.
هنالك تبرير آخر، لعله قادر علي اعطاء جواب آخر علي عضوية الترابط بين الصيغة والموضوع، كان من دوافع لجوئي إلي الرمز، في البداية، محاولة تخطئي الواقع الذي لايتيح لي امكانية الحديث بشكل مباشر، لاسباب سياسية، فكان لابد لي من ممارسة 'الاحتيال' الفني لعكس واقعي.. وهكذا ترون ان الرمز كان ضرورة وحاجة ثم تحولت إلي طريقة تعبير.
لماذا الرمز وانا واقعي؟ لعل ما قلته عن توصلي إلي الرمز يعطي الجواب، ثم ان استخدامي الرمز جاء لغناء واقعيتي ولخدمتها. والواقعية، كما افهمها، هي طريقة في فهم الحياة وعكسها واعادة خلقها، وليست وسيلة تعبير ميكانيكي جاهز. ولذلك، لا أري تناقضا بين التزامي بقضية وعقيدة وبين سعي إلي ما يبدو لي انه طريقتي الذاتية في التعبير.

في شعرك ملامح من الاساطير والحكايات الشعبية.. ما هي الاساطير والحكايات التي اثرت بك؟
هذه الملامح ليست ساطعة في شعري. وإذا كنت ألجأ، أحيانا، إلي الاساطير فليس ذلك لاعادة خلقها، وانما كنت احاول 'اختطاف' الرمز منها عندما يكون هذا الرمز صالحا لخدمة موضوعي والتوافق مع ذاتيتي، أي عندما اشعر بالتشابه بين ايحاء ذلك الرمز والايحاء الذي اريده.
كنت مولعا، بشكل خاص، بالاساطير اليونانية وبقصص القرآن والتوراة. وقرأت، بشغف، حكايات الف ليلة وليلة.

عن الشكل الجديد للشعر
والالقاء امام الجماهير

كيف يتم التوفيق، عمليا، بين الشكل الجديد للشعر وبين الضرورة التي تواجهونها باستمرار لالقاء الشعر بين الجماهير العربية داخل اسرائيل؟.. حدثنا عن تجاربكم في هذا المجال.
بودي القول ان مهرجانات الشعر العربي في اسرائيل قد تحولت، ذات مرة، إلي احتفالات شعبية ينتظر الناس مواسمها. وأنا اذكر تلك الفترة بفرح حقيقي. كانت ساحة القرية أو المدينة أو دار السينما تزدحم بالناس من جميع الفئات والاعمار للاستماع إلي الشعر بحيوية وتجاوب واضح، حتي ضاقت السلطات ذرعا بهذه الظاهرة 'الخطرة' وقاومتها بمختلف الوسائل ولجأت أخيرا إلي منع الشعراء من الانتقال من أمكنة سكناهم.
لم يكن المستمعون يفكرون ببناء القصيدة بقدر اهتمامهم بما تحمله من الصور والمعاني والايحاءات، واذكر أن القصيدة الاولي المنتمية إلي الشعر الجديد التي سمعتها في مهرجان شعري كانت للشاعر حنا ابوحنا، وقد استقبلت بحماس منقطع النظير لرشاقتها الفنية وبساطتها العميقة ومحتواها الثوري، أن انصار 'الشعر القديم' في بلادنا متشددون حين تكون القصيدة مطبوعة، ومتساهلون أشد التساهل حين تكون مسموعة، وهذا يؤكد لي ان إحدي صعوبات الشعر الجديد، بالنسبة لكثيرين من القراء، هي طريقة قراءته المتعسرة، فلا يعرفون متي تبدأ الفقرة الجديدة ومتي تنتهي الصورة الاولي لتلحقها الصورة الثانية وهكذا... وبالنسبة لي، فوجئت ذات يوم حين أصر المستمعون علي الاستماع إلي قصائد مكتوبة بالطريقة الجديدة. واذكر اني حين ألقيت، لأول مرة، قصيدة غامرت في بنائها الجديد هي 'بطاقة هوية' اجبرت علي إلقائها أربع مرات متتالية. ونتيجة تجارب عديدة ادركت ان القصيدة الانسانية، مهما كان بناؤها، يمكن ان تلقي امام الجماهير، بدون أي حرج. ثم ان القصيدة الطنانة الرنانة تخلق جوا ضوضائيا، بينما القصيدة الجديدة تنشر، بسرعة غريبة، جوا من الذهول الذي يحبه الشاعر في مستمعيه ولا أقول ان كل المستمعين يفهمون، دفعة واحدة، كل ما في القصيدة، ولكنهم يعيشون جوها ويفكرون بها. واعتقد ان علي الشعراء الجدد، لكي يعززوا مكانة الشعر الجديد، ان يزيدوا من إلقاء الشعر للجماهير لكي تعتاد عليه وتتحرر آذانها من النبرة الضخمة القديمة التي اعتادت عليها وتوارثتها جيلا بعد جيل.
التيار التقدمي هو الحاسم
بين الكتاب والشعراء العرب

حدثنا عن أوضاع وتيارات الحركة الفكرية والادبية للكتاب العرب داخل اسرائيل.. وهل يوجد من باع نفسه للشيطان وراح يروج للمفاهيم التي تخدم السلطات؟
استطيع ان اقطع، بسهولة وبسرعة، بأن التيار التقدمي هو التيار الحاسم في حركتنا الثقافية. ومن دلائل هذه الظاهرة هو ان التيار الاخر لايملك الجرأة الفكرية علي مواجهتنا. ان التيار الرجعي عديم النفوذ، وقد شاءت الصدفة المدهشة ان تكون العناصر الرجعية فقيرة المواهب. لنأخذ الشعر، مثلا، وهو وجه الادب العربي في اسرائيل. ان كل الشعراء المعروفين والموهوبين، وبدون استثناء، ليسوا تقدميين فحسب، ولكنهم ينتمون إلي الحزب الشيوعي. ان المعركة عندنا تدور بين الشعراء التقدميين والسلطة مباشرة، والعكاكيز الثقافية التي حاولت السلطة الاعتماد عليها كانت أضعف من اية مواجهة. فنجمت عن هذه الحقيقة ظاهرة جديدة هي ظاهرة الصمت. اننا نجد فئة من الموهوبين تعاني ازمة فكرية ونفسية أوقوفها امام احد اختيارين: إما الكتابة. والكتابة عندنا يشق، عليها الانفلات من الواقع الخشن، وأما الاحتفاظ بلقمة العيش والسلامة. وقد اختارت هذه الفئة الاختيار الثاني، فصمت البعض صمتا تاما، وتحفظ البعض من المواجهة.
أما العناصر الرجعية فانها تسعي إلي ترويج فكرة عدم جدوي الادب الواقعي، واشاعة اليأس والتشكيك، ولكن منابر هذه العناصر تهاوت، فان كل المجلات الثقافية الحكومية المدعومة بميزانيات ضخمة قد اضطرت إلي الاحتجاب، لا بسبب افلاسها المالي وانما بسبب افلاسها الفكري وعجزها عن كسب الانصار من الكتاب والقراء ان هذه الظاهرة ظاهرة فشل المجلات الحكومية، تثبت قوة نفوذ التيار التقدمي في أدبنا الإنساني المعبر عن مشاعر الجماهير وتطلعها إلي حياة أفضل متحررا من الشوفينية ومن العدمية القومية. ومن أشد الادلة علي ذلك ان صحفنا الشيوعية 'الاتحاد' و'الجديد' و'الغد' ذات الموارد المالية الفقيرة تتمتع بتأييد القراء وعطفهم.

ما هو الشعر، بالنسبة لك؟

هل تقرأ كثيرا؟
ماذا تحب ان تقرأ بشكل خاص؟..
ولماذا؟
في السنوات الاخيرة صارت قراءتي خاضعة لبعض التنظيم، فانا أولي الدراسات النظرية والفكرية والسياسية المتعلقة بقضايا الحركة الثورية وهموم العصر المرتبة الاولي من الاختيار لأتمكن من شحذ سلاحي الثقافي ومعرفة العالم الذي اعيش فيه وايجاد مبرر لكفاح الانسان. ولعل اهتمامي الخاص بالدراسات السياسية والتاريخية ناجم ايضا عن طبيعة عملي الصحفي.
وفي الميدان الادبي احاول الموازنة بين حاجتين ماستين: دراسة الآداب القديمة وقمم الكلاسيك العالمي، وملاحقة التيارات الادبية والفنية المعاصرة في العالم. وانا مولع بمطالعة السير الذاتية لانها تحتوي علي الفائدة والمتعة والكشف عن خبايا النفس. ولعلي احتار بين ايثاري للشعر ام للمسرح، لاني مفتون بكل ما يتعلق بالمسرح. وبالمناسبة، لا أري الافلام السينمائية ولا اقرأ عنها رغم ما اتعرض له من نقد الاصدقاء وسخريتهم، واعتبر نفسي جاهلا في هذا الموضوع. وأحب ان اكون حريصا علي مواكبة الادب العربي الحديث والادب العبري الحديث.

هل لك تجارب، غير الشعر، في العمل الابداعي؟.. رواية.. قصة.. مسرحية.. أي شيء... حدثنا عن هذه التجارب سواء نشرت اشياء منها.
لم أحاول كتابة القصة أو الرواية، ولايبدو لي اني سأحاول رغم شغفي الشديد بقراءتهما. ولكنني مشبع بالرغبة في محاولة كتابة مسرحية شعرية.
احب كتابة الادب الصحفي، والريبورتاج، وتسجيل انطباعات عن الكتب والاحداث والامكنة، وقد كتبت مئات المقالات من هذا النوع. ولكنني في السنة الاخيرة لا أكتب إلا المقال السياسي أو التعليق، واتمتع بكتابة الاخبار السياسية.

ماذا تكتب الآن؟
وما هي مشروعاتك؟
اكتب، في هذه الفترة، عن الحب الذي يولد وسط قضية، فيحمل ملامحها وهمومها ويصبح جزءا لايتجزأ منها. أريد أن أكسر الحائط الذي يفصل بين العاشقين وبين الشارع. فالعاشقان ليسا عاشقين فقط، ولكنهما ضحية واحدة وأمل واحد وكفاح واحد. لقد تحدثنا كثيرا عن التحام الخاص بالعام، ولكن هذه الظاهرة أصبحت تأخذ شكلا تلقائيا عندي خاصة في الاغاني التي اكتبها الان. ان طعم العاشقين يحمل مذاق الواقع الخشن.

أي دور تطمع ان تؤديه، في الشعر، وبواسطة الشعر؟
... ان انقل قضية شعبي، بكل ابعادها، إلي الصفحات التي تستحقها في ديوان الشعر الإنساني، فهذه القضية حلقة من صراع الانسان المسحوق ليأخذ دوره الذي يستحق في الحياة وفي نشاط البشرية.
ومن الظلم أن أطالب غيري بتأدية هذا الدور. ومهما يكن حجم الآلة التي أعزف عليها صغيرا، فان لها مكانها في التشييد الانساني الشامل.
ان اصوات الشعراء القادمة من انحاء العالم، مجتمعة، هي التي تؤلف هذا النشيد. وتمسكي بهذه الآلة الفلسطينية لايتنافي مع وعي لشمولية الكفاح الانساني. ومجموعة الاشجار هي التي تصنع الغابة!