ملف جريدة الجريدة
ويغادرنا بهدوء
- الكويت - آدم يوسف ولافي الشمري
- القاهرة - أحمد الجمال ومحمد الصادق وخلف علي حسن
- رام الله - أماني سعيد
«رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش»... هكذا أوقفت وكالات الأنباء بكل هدوء رحلة التشرد والشعر والقضية. الخبر الصاعقة كما وصفه بعض المبدعين من أصدقاء درويش، أحدث ضجة في الوجدان العربي، وأثار مزيداً من الأسئلة وردات الفعل. أنّى للشعر أن يصنع كل هذا البهاء، ويحمل كل هذه الهموم، ويتغلغل في عمق السياسة، ونفق الإنسانية وهمومها المتتالية. هو وحده درويش حقق المعادلة الصعبة، وانتقل بالشعر من هواجس النفس الصغيرة، إلى آفاق القضية الكبرى من دون أن يسقط في شرك المباشرة، أو الوعظية الفجّة. وحده درويش استطاع أن يدهش النقاد، ومتابعي الأدب من مشرق الأرض إلى مغربها، لم يجرؤ أحد أن يضع علامة استفهام حول أدواته الفنية، أو مداراته الشعرية المنفتحة على ذاتها، وهي مدارات يصعب التشبه بها. يشكك دارسو الأدب بصورة دائمة في «إبداع المقاومة» أياً كان شكله، باعتباره يرتكز على المضمون أكثر من الشكل، ويقع غالباً في شرك الانفعال، وتصورات اللحظة الراهنة. وحده درويش استطاع أن يحمل القضية معه، أربعين سنة، من دون أن يكرر ذاته، أو يستهين بلغته ورؤاه الشعرية.
كان درويش شاعراً صاحب موقف، انخرط في دهاليز السياسة من دون أن يتخلى عن مبادئه، ولم تكن مفاجئة، معارضته الشديدة لاتفاقية أوسلو سنة 1993، فهي في رأيه اتفاقية ظالمة، بل استقالته من المجلس الوطني الفلسطيني، على خلفية هذه الاتفاقية. كان منتمياً إلى الشعر وحده. آمن بإبداعه منذ بواكيره الشعرية وهو لايزال في الـ17 من عمره، رفض المنفى وتمسك بحق العودة، حتى بعد أن عاد إلى قريته «البروة» سنة 1994 ووجدها دمرت تماماً، لم يختر الرحيل، بل فضل البقاء في فلسطين، متأملاً أرضه ومزارع أهله التي أقيم على أنقاضها مستوطنة يهودية سميت «أحي هود». لقد صنع هذا الموقف في نفسه شرارة الشعر الأولى، وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي تحولت حياته إلى دوامة من الشعر والكتابة والنضال الثقافي والفكري، ولعل هذا ما أتعب قلبه الصغير، فلم يحتمل كل هذه الهموم، ما جعله يصبح نهماً للأطباء والعمليات الجراحية. استطاع هزيمة الموت في عمليتين متتاليتين للقلب (1984 و1998)، ولكنه سقط في الثالثة، حيث وافاه الأجل المحتوم مساء السبت المنصرم في مدينة هيوستن بالولايات المتحدة الأميركية. أطفئت شعلة درويش، ولكن القضية لم تتوقف، والشعر لم تخمد جذوته. ولابد أن يفتح رحيله المفاجئ الأبواب مشرعة أمام دراسة قصائده ودواوينه، ليس من المنطلق السياسي فحسب، وإنما من حيث مكانة درويش في خارطة الإبداع العربي المعاصر، والخصائص الفنية التي تميزت بها قصائده، وكذلك لغته، والمجاز اللغوي الذي منح قصائده شيئاً من نكهة الحداثة، ودهشة العبارة المفاجئة، من دون الغاز، أو غموض فني متعمّد. سوف يبقى السؤال محيّراً، كيف استطاع درويش أن يسحر المتخصصين وعامة الناس في الوقت ذاته؟ كيف له أن أصبح شاعر الجماهير العريضة وشاعر الجامعات ودارسي الأدب؟
حين نشر قصيدته الشهيرة «عابرون في كلام عابر» أزعج خصومه، وأذهل مريديه، ولم يتوان الكنيست الإسرائيلي عن مدارستها في إحدى جلساته، فالعبور طريق إلى العودة، والعودة مفتاح انجلاء المحتل، وهو ما يبدو بعيد المنال، من الوجهة السياسية، وحلماً ممكن المنال، حمله درويش في طيات رحيله.
يستند الناقد السعودي د. عبدالله الغذامي على جملتين متقابلتين من قصيدة درويش آنفة الذكر هما: «أيها المارون بين الكلمات العابرة» و«أيها الباقون في اللغة الباقية» ويقول: تتردد الجملة الأولى ست مرات في نص القصيدة، وهذا يستدعي بالضرورة تكرار الجملة النقيض «أيها الباقون...» وهذا يجعل قصيدة درويش تتحرك على مستويين متلاحمين، وهذان المستويان يتصارعان صراعاً محتدماً، هو نتاج ذلك التلاحم الإجباري. «المارون» ظاهر النص وعنوانه، بينما «الباقون» هم المستورورن في الداخل والمغطى عليهم، ويقصد بهم بالطبع الفلسطينيين. ولعل هذا التفسير يوضح لنا سبب الانزعاج الإسرائيلي من هذه القصيدة، فهي في رأي درويش دولة عابرة، وهم مجرد أناس «عابرين».
رحلة الحياة والإبداع
ولد محمود درويش عام 1941 في قرية البروة في الجليل، ونزح مع عائلته إلى لبنان في نكبة 1948، وعاد إلى فلسطين متخفيا ليجد قريته قد دمرت، فاستقر في قرية الجديدة شمالي غربي قريته البروة. وأتم تعليمه الابتدائي في قرية دير الأسد بالجليل، وتلقى تعليمه الثانوي في قرية كفر ياسيف.
انضم درويش إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي في فلسطين، وعمل محررا ومترجما في صحيفة الاتحاد ومجلة الجديد التابعتين للحزب، وأصبح في ما بعد مشرفا على تحرير المجلة كما اشترك في تحرير جريدة الفجر.
اعتقاله
اعتقل درويش أكثر من مرة من قبل السلطات الإسرائيلية منذ عام 1961 بسبب نشاطاته وأقواله السياسية، وفي عام 1972 توجه إلى موسكو ومنها إلى القاهرة وانتقل بعدها إلى لبنان، إذ ترأس مركز الأبحاث الفلسطينية وشغل منصب رئيس تحرير مجلة شؤون فلسطينية، ورئيس رابطة الكتاب والصحافيين الفلسطينيين، وأسس مجلة الكرمل الثقافية في بيروت عام 1981 وبقي رئيساً لتحريرها حتى رحيله.
انتخب درويش كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية عام 1988، ثم مستشارا للرئيس الراحل ياسر عرفات، وفي عام 1993 استقال من اللجنة التنفيذية احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو.
عاد عام 1994 إلى فلسطين ليقيم في رام الله، بعد أن تنقل في عدة أماكن كبيروت والقاهرة وتونس وباريس.
بدأ كتابة الشعر في المرحلة الابتدائية وعرف كأحد أدباء المقاومة، ولدرويش ما يزيد على ثلاثين ديوانا من الشعر والنثر، بالإضافة إلى ثمانية كتب، وترجم شعره إلى عدة لغات.
التقاتل الداخلي
نشر درويش آخر قصائده بعنوان «أنت منذ الآن غيرك» يوم 17 يونيو 2007، وقد انتقد فيها التقاتل الفلسطيني. ومن دواوينه عصافير بلا أجنحة، وأوراق الزيتون، وأصدقائي لا تموتوا، وعاشق من فلسطين، والعصافير تموت في الجليل، ومديح الظل العالي، وحالة حصار، وغيرها.
الجوائز
كما حصل على عدة جوائز منها جائزة لوتس عام 1969، جائزة البحر المتوسط عام 1980، ودروع الثورة الفلسطينية عام 1981، ولوحة أوروبا للشعر عام 1981، وجائزة ابن سينا في الاتحاد السوفييتي عام 1982، وجائزة لينين في الاتحاد السوفييتي عام 1983، وجائزة الأمير كلاوس (هولندا) عام 2004، وجائزة العويس الثقافية مناصفة مع الشاعر السوري أدونيس عام 2004.
فلسطين رسمياً وشعبياً تنعى الشاعر الكبير
بدا الحزن واضحاً في الشارع الفلسطيني كما العربي على رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، الذي احتفلت السلطة الفلسطينية أخيراً بوضع صورته على طوابع البريد تكريماً لنشاطه الابداعي في خدمة القضية الفلسطينية.
ونعى الرئيس الفلسطيني محمود عباس الشاعر الكبير محمود درويش واعلن الحداد العام لثلاثة أيام تكريما لروح فقيد الشعب والانسانية، وتعبيرا عن حب هذا الشعب لابنه البار محمود درويش.
وقال الرئيس: «كم هو مؤلم على قلبي وروحي ان انعى للشعب الفلسطيني والامة العربية والاسلامية وكل محبي السلام والحرية في العالم رحيل نجم فلسطين وزينة شبابها وفارس فرسانها الشاعر الكبير محمود درويش الذي انتقلت روحه الى بارئها».
وأضاف «ان غياب شاعرنا درويش عاشق فلسطين، رائد المشروع الثقافي الفلسطيني الحديث، والقائد الوطني اللامع والمعطاء، سيترك فراغا كبيرا في حياتنا الثقافية والسياسية والوطنية لن يملأه سوى اولئك المبدعون الذين تتلمذوا في مدرسته وتمثلوا اشعاره وكتاباته وافكاره، وسيواصلون حمل رسالته الابداعية لهذا الجيل وللاجيال القادمة».
كما نعى رئيس الوزراء والحكومة، الشاعر الكبير ابن فلسطين البار محمود درويش، وقالت الحكومة في بيان لها: ينعى رئيس مجلس الوزراء د. سلام فياض والحكومة إلى جماهير شعبنا والأمتين العربية والإسلامية، وكل أحرار العالم، وفاة شاعر الوطن والثورة، شاعر الأرض والحياة، رمز الثقافة الفلسطينية وأحد رموز الهوية الوطنية لشعبنا، بل أحد أبرز رموز الثقافة الإنسانية المعاصرة، الشاعر الكبير ابن فلسطين البار محمود درويش.
وبرحيل الشاعر الكبير يفقد الشعب الفلسطيني ومعه الامتان العربية والاسلامية قامة شعرية وادبية سامقة وواحدا من فحول الشعراء الذين اسهموا بما قدموه من ثراء فكري ومعرفي وشعري في استنهاض الامة وبعث الحياة في وجدانها بعد ان تكالبت عليها الامم في لحظة مفصلية صعبة ما زالت ترزح تحت وطأتها.
من جهته، قال وزير الاسرى اشرف العجرمي: إن رحيل هذا الرمز الثقافي الذي لم يعد رمزا فلسطينيا فحسب بل هو رمز فلسطيني عربي انساني، خسارة كبيرة للشعب الفلسطيني وللقضية وخسارة للثقافة وللمثقفين.
واضاف العجرمي أن رحيل درويش، الذي كرم في حياته وسيكرم بعد رحيله من خلال الارث الانساني الذي تركه، سيترك فراغا فهو يعتبر نبعا سوف تشرب منه الاجيال، خاصة القيم الانسانية التي كان ينادي بها الشاعر الكبير، لاسيما ونحن الآن في امس الحاجة اليها.
بدوره، قال النائب الدكتور مصطفى البرغوثي الامين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية إن رحيل الشاعر الكبير هو خسارة للشعب الفلسطيني والامة العربية والثقافة العالمية بأسرها.
من جانبه، نعى خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» الشاعر الفلسطيني محمود درويش، «الذي يعدّ أحد أعلام الأدب الفلسطيني والعربي والدولي» والذي وافته المنية مساء السبت في الولايات المتحدة الأميركية.
واعتبر مشعل في بيان صادر عن المكتب الإعلامي لحركة حماس أن «الأدب الفلسطيني فقد بوفاة درويش إحدى ركائزه الأساسية»، مشيراً إلى الدور الذي لعبه الشاعر الفقيد في التعريف بالنضال الفلسطيني خلال مسيرته الأدبية المعاصرة.
وأضاف مشعل أن «الشعب الفلسطيني الذي أنجب درويش قادر على إنجاب غيره»، موجهاً خالص التعازي إلى عائلة الفقيد، وذويه والشعب الفلسطيني.
ونعت حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين فقيد الشعب الفلسطيني الشاعر درويش الذي سخر إبداعه الأدبي والشعري للدفاع عن قضية شعبه العادلة، وقالت إنها إذ تنعى الشاعر الوطني الكبير فإنها تؤكد أن فلسطين ستظل تذكر الشاعر بمداد الفخر والاعتزاز.
وقالت إن إبداعات الشعب الفلسطيني التي ولدت من رحم المعاناة لن تتوقف، وسينجب شعبنا مبدعين يحملون قضية شعبهم في كل المجالات.
من قصائده
عابرون في كلام عابر
أيها المارّون بين الكلمات العابرة
احملوا اسماءكم، وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
واسرقوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا
انكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من ارضنا سقف السماء...
ايها المارّون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار - ومنا لحمنا
منكم دبابة اخرى - ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا... وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص... وانصرفوا
وعلينا، نحن، ان نحرس ورد الشهداء...
وعلينا، نحن، ان نحيا كما نحن نشاء!
ايها المارّون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر، مروا اينما شئتم ولكن لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندى اجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا:
حجر... او حجل
فخذوا الماضي، اذا شئتم، الى سوق التحف
واعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، ان شئتم، على صحن خزف.
فلنا ما ليس يرضيكم: لنا المستقبل
ولنا في ارضنا ما نعمل
ايها المارّون بين الكلمات العابرة
كدّسوا اوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
واعيدوا عقرب الوقت الى شرعية العجل المقدس
او الى توقيت موسيقى المسدس!
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف شعبا ينزف
وطنا يصلح للنسيان او للذاكرة...
ايها المارون بين الكلمات العابرة
آن ان تنصرفوا
وتقيموا اينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا اينما شئتم، ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في ارضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الاول
ولنا الماضي، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا... والآخرة
فاخرجوا من ارضنا
من برنا... من بحرنا
من قمحنا... من ملحنا... من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
ايها المارّون بين الكلمات العابرة!
**********
على سرير الغريبة... الموت والمنفى في حياة درويش
على سرير الغريبة في الولايات المتحدة الأميركية مات شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، وهو الذي طارده الموت طوال سنين حياته، وكان يهرب منه مرتحلا بين المنافي وقال فيه شعرا «من سوء حظي أَني نجوت مراراً... من الموت حبّاً... ومن حُسْن حظّي أني مازلت هشاً... لأدخل في التجربةْ ومن حسن حظِّي أَني أنام وحيداً فأصغي إلى جسدي... وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ... فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق... عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً... وأُخيِّب ظنّ العدم». ورغم ذلك فإن صورة الميت الشهيد تحتل مكانة متميزة وآسرة في تجربته، فهي الذات المعطاءة التي قدمت أقصى ما تستطيع حماية للأجيال القادمة.
ودرويش الذي خاض تجارب حياتية وشعرية عدة إلا أنه كان دائم الهرب من الموت، وهي التجربة التي كانت تستعصي على الدخول إليها، ولكنها إذ جاءته لن يعاندها «لا أريد الموت مادامت على الأرض قصائد... وعيون لا تنام... فإذا جاء ولن يأتي بإذن لن أعاند... بل سأرجوه لكي أرثي الختام».
والموت يستشعره مع كل لحظة يرتحل فيها بين العواصم التي كان يجوبها بحقيبة صغيرة وجرح مفتوح، ويترك في كل محطة قطرة دم، وفي كل مطار وخزة ألم، وفي كل بلد يترك عيونا من نبيذ وعسل.
ففي المنفى هروب «من أنا دون منفى» ومتسع من الوقت كي يراوغ الموت «هزمتك يا موت»، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش كانا يقدران على إخافة الشاعر إنما حسبما يقول الناقد عبده وازن ان موته الشعري إذا حصل هو الأقسى، لذلك يواجه الموت الحقيقي بالموت الشعري، أي يواجه الموت الواقعي بالحياة الشعرية، فالشعر هو انتماء درويش الأول والأخير، واللغة هي حاضره ومستقبله وهناك العديد من القصائد ومنها قصيدة جدارية لا تستحضر أشياء الحياة إلا عبر الموت. لا جماعة هنا ولا وطن ولا منفى جغرافياً ولا خريطة، بل ذات غريبة في عالم غريب «وأنا» مفردة تقاسي العزلة والألم وذاكرة تستعيد الماضي في صور تلتمع كالسراب. السفر هو في الداخل والمنفى في الداخل أيضا.
****
كلمات وشهادات وفاء
سليمان الشطي: منقذ القضية الفلسطينية
الحديث عنه يطول ولا يمكن اختصاره في بضعة سطور، فهو شاعر من أهم الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد ترك مساراً له في الشعر عندما بدأ اسمه يبرز في الستينيات لأنه كان يقدم نوعية خاصة من شعر المقاومة حيث لم يكن شعراً فحسب يتحدث به من خلال الحنجرة، لكن كان شعراً في عمق المسألة الفلسطينية، كان صوتاً جديداً ولذلك تلقفته الجماهير العربية خاصة بعد النكسة عام 1967، لأن ش عر القضية الفلسطينية قبل النكسة كان شعراً حماسياً وليس شعراً فكرياً، أما درويش فإن مواكبة شعره لهذه المرحلة الفاصلة ومعه شعراء آخرون إنما جاءوا لإنقاذ القضية الفلسطينية من محنتها، لاسيما بعد سقوط الشعارات وبروز شعر درويش مع النضال بعمقه الحضاري والفكري إضافة الى الإنساني وصولاً إلى المقاومة.
لم يقتصر محمود درويش على شعر النضال مضمناً بقيم القصيدة الاساسية بل أقام معادلة مهمة بين شعر النضال وشعر الفكرة وقيمة الطرح وحداثة الشكل، بهذا الزخم الذي دخله درويش أخذ مكانته في ساحة الشعر العربي والآن بعد هذه الرحلة الطويلة الشاقة وبعد أن وصل إلى كل الجماهير العربية سيظل درويش باقياً ولن يهزمه الموت وسيهزم الموت ليبقى اسماً مهماً خالداً حياً مرتبطاً بالقضية التي آمن بها ودافع عنها فأخلص الدفاع.
خليفة الوقيان: خلّص الشعر من أسر الخطابة
قال الأديب خليفة الوقيان عن رحيل الشاعر محمود درويش: فقدت الساحة الثقافية أحد أعلام التجديد في الشعر العربي المعاصر وهو صاحب تجربة مميزة في الخروج من الشعر المقاوم من أسر الخطابة والبيانات السياسية إذ استطاع أن يحقق المعادلة الدقيقة في المزج بين شروط الشعرية في النص من جهة، والالتزام بالموقف الوطني من جهة ثانية، وقد فقدت الحركة الشعرية المعاصرة بغيابه واحداً من رموزها المميزين، سيترك درويش فراغاً من الصعب تعويضه لأن المبدع راهناً ليس من السهولة ايجاده لاسيما في ظل تدهور الأمور.
عباس الحداد: شاعر الخيال الممكن
تتشكل أهمية تجربة درويش الشعرية من خلال ارتباطها بضمير الشارع الفلسطيني من جهة، وحركة المقاومة الفلسطينية من جهة اخرى، اذ استطاع ان يبني تجربته الشعرية مستوعبا الهم العربي والمعاناة الفلسطينية. فقد ولد درويش شعريا مع حركة المقاومة الفلسطينية واستطاع ان يحافظ على حضوره الشعري حتى الآن. وعلى الرغم من الحضور الطاغي للسردية فقد استطاع درويش ان يبني له كيانا شعريا ضخما ومتينا من خلال الاقتراب من «الخيال الممكن» أو الخيال «المقارب للواقع» الذي استطاع معه وبه الحفاظ على حضوره الجماهيري وجماهيرية حضوره. فلم يكن الشعر لديه بعيدا عن الجماهير بلغته وصوره وتراكيبه انه شعر يقترب من الذائعة الخاصة على نحو حافظ معه على الوزن والاتباع الشعري المتصل اتصالا وثيقا بالجماهير.
عندما غاب الجمهور عن الامسيات الشعرية ولم يعد للشعر حضوره البهي حافظ درويش على جماهيريته وجمهوره في الحضور وربما اخر امسية شعرية اقامها درويش في بلدية رام الله دليل على ذلك، فقد كان الحضور يفوق الاربعة آلاف شخصا.
وقد استطاعت تجربة درويش الشعرية ان تؤرخ شعريا وفنيا لحركة المقاومة الفلسطينية خاصة ومعاناة الانسان العربي عامة ضد الاحتلال دون ان تتخلى عن شعريتها وتستعد في الخطابية.
رجا القحطاني: استمد شهرته من وطنيته
أقدِّم أحر التعازي لذويه، أما بخصوص رأيي في مكانته الشعرية فأعتقد أنه استمد شهرته من تركيزه على القضية الفلسطينية، كما ان قصائده في التفعيلة التي ذاع صيتها لا تستهوي إلا جمهور النخبة لكنها بعيدة عن تفاعل جل جمهور متذوقي الشعر مهما حاول نقاد الحداثة انكار هذه الحقيقة مستشهدين بالشعر الحر تاركين القصائد الحقيقية أو الكلاسيكية لأمير الشعراء أحمد شوقي وسواه من الشعراء الفحول في الشعر المقفى، ومنهم الجواهري وأحمد غراب حيث الشعر المتسربل بالجزالة والقوة والحكمة.
فهد الهندال: حضوره مستمر
أصنف الشاعر الراحل محمود درويش بمنزلة الشاعر نزار قباني لدى المتلقي العربي، لاسيما أن درويش كان ينطق بلسان شعب كامل، متجرعاً مرارة عام النكبة الذي أبصر الدنيا فيه متشرداً مرتحلاً بين المدن مشكلاً لديه مخزونين فكري ومعرفي، استطاع الاستفادة منهما في تنوع الإراض الشعرية لديه، متأثراً برفيق دربه أمين الحبيبي، متشاطراً معه حجم المعاناة والألم، هو أحد رواد القصيدة العربية بشكلها المتجدّد وساهم في تزويد الشعر بنبض جديد، وغيابه خسارة كبيرة كإنسان، بينما حضوره كشاعر يستمر.
حمد الحمد: قامة شعرية
يعتبر الشاعر محمود درويش قامة شعرية حيث تميز نتاجه الشعري بالكلمة المنتقاة والقصائد الرصينة إذ قرأ الواقعين الفلسطيني والعربي بدقة متناهية، وحينما نذكر الشعراء المبدعين الذين يعتز تاريخ الشعر الحديث يبرز اسم محمود درويش، فمن الصعب تكرار شاعر بموهبته لأن ساحة الشعر لن تشهد شاعراً بمستواه والأمثلة كثيرة، حيث لم يتكرر شاعر على شاكلة الشاعرين الجواهري والبياتي.
برحيل الشاعر محمود درويش تفقد الساحة الشعرية في الوطن العربي شاعراً يشار إليه بالبيان وأجمل ما يميزه أنه كان يكتب عن القضية الفلسطينية من منظور عروبته.
عقيل يوسف عيدان: كلمات عن الموت المفاجئ
بين حين وآخر يباغتنا الموت، فيخطف واحداً من أفضلنا.
الموت برصاص إرهابيين تقودهم قوى تسعى للعودة بنا إلى الأصولية المظلمة.
الموت قهراً بسبب الحصار والتضييق حتى يتفطَّر القلب وينفجر.
الموت الخفي الذي يتسلَّل حتى يتملَّك كل الدماغ والخلايا.
الموت الذي يُعشعش في حياتنا ونفوسنا وهمّنا.
...
ركود الزمن... موت
انحسار القضية- الهم العام من العقول والاهتمامات... موت
مسايرة الهمجية والفظاظة والتفاهة والغباء... موت
وكان محمود درويش يقف عنيداً ضد كل ألوان هذا الموت. وفي كل طقوسنا لمواجهة هذا الموت، نقف محزونين وقد التأم شملنا، وتحلَّقنا -كشعراء وكتّاب... الخ- في دائرة صمت، نبكي ونرثي هذا الفقيد الكبير.
وهكذا... نكتب اليوم لندفن محمود درويش، ولنقول مرثيات إنشائية، ولنواسي بوسائل التعاطف وقراءة «الفاتحة» التي نختم بها جهدنا في التشييع والتعزية والقيام بالواجب بقول: آمين.
فإن أردنا أن نكرِّم روح محمود درويش الذي أعطى للغة والشعر والفكر الكثير مما لا ندعي حصره هذه العجالة، فدعونا نحتف بالمبدعين الأحياء، دعونا ندافع عن الحي- الخلاّق- الفعّال في حياتنا.
بذلك فقط يمكن أن نقطع الحبل على الموت المفاجئ، ونوقفه!
يوسف خليفة: شعره متنوع الأغراض
يعد درويش من الشعراء القلائل الذين استطاعوا أن يرصعوا ذاكرة متذوقي الشعر بقصائد متنوعة الأغراض الشعرية، إنه مبدع من طراز مختلف كرس شعره لخدمة قضايا وطنه، ترك أثراً كبيراً لدى المتلقي يصعب نكرانه، وهذه مشكلة أغلب المبدعين العرب.
دخيل الخليفة: خسارة كبيرة
خسارة الشعر العربي كبيرة برحيل أحد أهم أعمدته على الإطلاق، فمنذ ديوانه «أغصان الزيتون» الصادر عام 1964 كان محمود درويش مشروعا شعريا يتطور، ومنذ خروجه من فلسطين إلى لبنان مرورا بمصر تحول وعيه الثوري إلى وعي إنساني عام، شاعر تمحور عالمه حول الأرض والمرأة، وكلتاهما رمز للحياة التي تحتوي الإنسان في تحولاته كافة.
يرى درويش في الرسائل التي تبادلها مع سميح القاسم «أن سؤال الحياة والموت المهمين على الذات العربية هو سؤال الوجود الذي يصوغ شكله المادي والألوهي واعتبره أهم من السؤال الأخلاقي عن دور الشعر والشاعر في زمن يسود فيه الموت». ودرويش يؤمن بالحالة الفلسطينية العامة التي تولدت على مدى 60 عاما من النضال وهي أن الموت حياة أبدية، لذا كان يكتب نصا دراميا ذا عالم فني مركّب، وتحولت الثورة الكامنة في روحه إلى شعر، ولا شك في أنه «شاعر يملك حساسية ثقافية ذات صفاء استثنائي» كما يقول عنه إدوارد سعيد، وهو بالنهاية مدرسة متفردة في الشعر العربي الحديث.
نعم فقدنا بيرقا خفاقا من الصعب أن نعوضه في حالة الضياع التي نعيشها ثقافيا، فهذا الرجل كان نتاج مرحلة مريرة في الحياة السياسية العربية. رحم الله محمود درويش.
سعد الجوير: صوت المقاومة الحقيقية
لا يُقاس حجم الشاعر والمبدع في حضوره وحسب، إنما في غيابه، لاسيما حينما يكون شاعراً ترك إرثاً في الذهنية العربية لا يبددها تقادم الأيام، حيث كان صوتاً للمقاومة الحقيقية، مستخدماً لغة سهلة ممتنعة، يصعب على الآخرين تقليدها، وإن حاول الشعراء اتباع خطه، فسيعرف المتلقي أنهم كتبوا ضمن اسلوب محمود درويش، الذي جربّ قصيدة النثر أيضا، لكنه فضّل عدم تقديمها ضمن سياق الشعر وأوردها تحت قائمة نصوص نثرية.
حمود الشايجي:غيابه لا يُعوَّض
الحديث عن شاعر أغنى القصيدة العربية، وهو شاعر اكتسب شهرته الواسعة بفضل قصائده التي جذبت إليها متذوقي الشعر، سيكون مصحوباً بالشجن والحزن، لاسيما بعد الفراغ الذي سيتركه بعد رحيله عنا.
ميس العثمان: شاعر إنساني
غادرنا «درويش» الشاعر المزدحم بالثورة، إذ عبّر عن مأساة وطنه باستخدام «لغته» التي لا تشبه سواه... شاعر إنساني، وله سلسلة من «تجارب» خاض منها « السري» الكثير مما لا نعرف منه إلا ما أراد لنا.
في عالمنا العربي، يندر جدا أن تمتلئ قاعة بجماهيرها، لأجل «شـــاعر»!
غير أن الاختلاف لازم «درويش» في أمسياته، تلك التي تتحلق بها القلوب قبل الأسماع كي ترتوي من نبضه، فجعل المتلقي العربي من دواوينه «ملاذاً» حينما يشتد الوجع كيفما كان.
تركنا «درويش» بعد أن صارع «الموت» لمرة ونجا.
ولأستعير تعبير صديقتي الفنانة التي أرسلت لي كلماتها حزنا على رحيل «محمود درويش» إذ قالت: «سرير الغريبة البارحة بلا غطاء...».
****
أدباء وشعراء: قصيدة المقاومة لن تموت
رحيل درويش أثار التساؤل بشأنها
بعد رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش ماذا سيبقى لقصيدة المقاومة؟ وهل ستكتب الأجيال الجديدة قصيدة مثلما كتب درويش؟ أسئلة عديدة تلقي بظلالها بعد رحيل الشاعر محمود درويش، وقامت «الجريدة» باستطلاع الآراء.
الشاعر رفعت سلام قال: إنه لا يمكن أن تموت قصيدة المقاومة مادام هناك محتل وظلم على الأرض الفلسطينية ومادام هناك شعراء يكتبون، وأضاف أن تجربة درويش كرست فعل المقاومة عبر أشعار تحمل جمالية شديدة وليست مباشرة فجة، ويمكن أن نلخص تجربة درويش في أنها تطمح إلى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية، وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية وأسطرتها والكشف عن البعد الملحمي فيها، بالشخوص والحيوات وحشد الاستعارات والصور المركبة التي تزدحم في قصائده بدءا من «أوراق الزيتون» وصولا إلى «سرير الغريبة».
سيد حجاب
أما الشاعر سيد حجاب فقال: درويش أعاد إنتاج التجربة الفلسطينية، ولخص الشرط التراجيدي للوجود الفلسطيني بعد الخروج. في هذه المرحلة من مراحل تطور تجربته الشعرية، وجدل ما هو وطني قومي بما هو إنساني، لتصبح التجربة الفلسطينية وجها آخر من وجوه عذاب البشر على هذه الأرض وأن ذلك عكس غموضا فاتنا على صوره وعالمه الشعري الذي ظل يحاول، لفترة زمنية طويلة، التخلص من حمولته السياسية المباشرة لصالح إنجاز قصائد كبيرة قادرة على أن تجدل الراهن بالعابر للتاريخ والمتجدد عبر الزمان، والقصيدة المقاومة بعد درويش لا مكان لها فهو من صنع لبناتها الأولى ولن يتكرر ذلك في شعرنا العربي مرة أخرى.
سهير المصادفي
من جانبها، أكدت الشاعرة سهير المصادفي أن شعر درويش يعبر عن الروح الفلسطينية المعذبة الباحثة عن خلاص فردي جماعي من ضغط التاريخ وانسحاب الجغرافيا، ودللت على ذلك بقصيدته «أحد عشر كوكبا» والتي قدمت أمثولات تاريخية صالحة للتعبير عن التجربة الفلسطينية من بين تجارب أخرى، ووفاة درويش خسارة كبيرة للشعر العربي، فهو واحد من أبرز وجوهها، ومن أكثرهم حضوراً في الساحة الشعرية، نافذته الكبرى كانت الجماهير التي التقت حوله وأحبت قصيدته ورحبت بها.
وقالت: إن درويش هو أبرز شعراء المقاومة الفلسطينية منذ أن قدمه رجاء نقاش قبل 40 سنة مع زملائه من الشعراء الآخرين، من وقتها ودرويش نجم ساطع في سماء الشعر، لأنه بالإضافة الى موهبته الكبيرة كان ذكياً واستطاع أن يواصل نجوميته، وان صوت المقاومة بالشعر أو الشعر المقاوم سوف يخبو بعده إن لم تستطع الأجيال التالية أن تسير على درب درويش.
وأضافت أنه نجح في تجديد قصيدته واستطاع أن ينقل من الغنائية الرومانسية في دواوينه الأولى إلى شاعرية أكثر تماسكاً، واستطاع أن يكتب القصيدة الطويلة الملحمة في بعض دواوينه، وفي ديوانه الأخير «أثر الفراشة» كتب قصيدة الومضة «القصيرة المركزة» ونجد بعض هذه القصائد تأخذ الشكل العمودي بلغة شديدة البساطة والعمق.
سيد الوكيل
أما الناقد سيد الوكيل فقال: درويش نجح رغم تواري معظم شعراء المقاومة في اكتساب أرض جديدة وإضافة تقنيات جديدة لفن الشعر، فهناك محطات عديدة في شعره، وكل محطة هي معبر للتحول والتمرد على قصيدته، لذلك إضافته الشعرية ومنجزه الشعري كبير بكل المقاييس. وأضاف أن قصيدة درويش تثبتت بالأرض الفلسطينية وتحاول باستمرار مقاومة الغزو الإسرائيلي، ومحو الهوية وتيار المقاومة في قصائده يختلف عن التيار الآخر الذي ظهر في الستينيات والسبعينيات الذي يعتمد على إسقاطات سياسية.
وأكد الوكيل أنه واحد من أكبر شعراء العربية في القرن الأخير وعلامة كبيرة على هذه الشعرية العربية، وأظننا خسرنا الكثير بغيابه. قصائده الأولى صنعت منه نجماً، وبموهبته استطاع أن يحافظ على نجوميته ويضيف إليها، هو منذ 40 سنة نجم شعري بسبب موهبته وذكائه كشاعر. وأيضا سيظل دائما علامة فريدة في الشعر العربي المقاوم، وهو باستمرار سعى إلى التمرد على ذاته والسعي إلى تغيير جلده الشعري واستطاع أن ينجح في ذلك.
إبراهيم أصلان
من جانب آخر، علق الروائي إبراهيم أصلان قائلا: موت محمود درويش معناه موت مرحلة كاملة في الشعر العربي، وأعتقد أن ما تركه محمود درويش من شعر سيظل حاملاً اسمه من جيل إلى جيل ليجلس بجوار امرئ القيس والمتنبي وأبي تمام علامة على نضال شعب مازال يحلم بوطن وبأرض وبحقه في الحياة.
موت محمود درويش ليس نهاية له، وإنما بداية لخلوده بين أبناء الأمة العربية كلها بل بين مثقفي العالم كله.
هو الشاعر الذي كنت أحزن أن نوبل لم تشرف به، وإن شرفت به كل الجوائز العربية، وآخرها جائزة مهرجان الشعر في القاهرة التي يبدو أن حصوله عليها كان بداية لنهاية الشاعر.
وأضاف أننا فقدنا أهم شاعر في الوطن العربي في العصر الحديث، درويش مازال حيا، عائشا بشعره الذي لن يذهب، بعد غياب جسده، ما أضافه الى حركة الشعر العربي المعاصرة يوازي ما فعله المبدعون الكبار في العالم. وماذا نقول في هذا الرجل سوى قصائد المديح التي لن يسمعها؟
سعيد الكفراوي
أما الروائي سعيد الكفراوي فقال: أعتقد أن هناك كلاماً يساوي أو يكافئ محمود درويش، فهو شاعر غير كل الشعراء، عظيم متجاوز حتى القضية الفلسطينية التي عاش من أجلها، شاعر عالمي بكل المقاييس، عباراته مفارقة لأي شاعر آخر، لديه موهبة من أعظم المواهب التي أعطاها الله للأمة العربية، على مستوى الشعر، وعلى مستوى النثر أيضاً، هو عظيم من عظماء الكتاب، شيء عبقري في مجاله ولا أعرف سر هذه العبقرية.
*****
شاعر الأرض... بكل لغات العالم
لعل محمود درويش بتاريخه الشعري من أكبر المبدعين الفلسطينيين تأكيداً على جماليات القصيدة وعنفوان المضمون، عبر تناغم اللحظات المختلفة من الواقع العربي المفعم بأسئلة متلاحقة عن الوجود الفلسطيني وهوية الأرض.
درويش العاشق لوطنه آثر الصمت خارج القصيدة، وكأن الكلام نفد ولم يبق سوى تأمل الواقع ورصده، الذي يوحي إليه بعبثية المشهد ويقين السؤال المفعم بإدانة التخاذل والتباس المواقف، والعدو الذي يشرب الشاي في الكوخ العربي ويطأ بقدميه بكارة العشب المبتل.
هكذا تغنى درويش في الوطن، وحين يبدأ الغناء ينتهي الكلام وتنفتح الحواس لالتقاط المعاني في دورة العشق المسائل لتراجيديا الفلسطيني المحاصر بالقمع والتخاذل، لتتجلى مفارقة الجمال المنبعث من صمود الروح في مواجهة عصف الريح والتشبث بالممكن في إنسانية الإنسان.
كان درويش نهراً متدفقاً بالشعور والأناشيد التي تتعاطى الألم والفرح بوجد مستحيل، وعندما ينتهي الكلام ويصمت الإنسان على الشاعر أن يغني الجمال والحب والثورة.
هكذا منحنا درويش البهاء بحضوره وإسهامه الإبداعي في تشكيل الوجدان العربي، واستطاع توصيل القضية الفلسطينية إلى العالم كله عبر الترجمات العديدة لقصائده. التحقيق التالي يضيء هذه المساحة من علاقة درويش بالآخر عبر أعماله المترجمة إلى نحو 22 لغة كانت العبرية إحداها.
يقول د. محمد أبو غدير (رئيس قسم اللغة العبرية في كلية اللغات والترجمة-جامعة الأزهر): «درويش من الشعراء الكبار ليس على الساحة الفلسطينية فقط، بل على الساحتين العربية والدولية أيضاً، وفي إسرائيل أدركوا ذلك مبكراً منذ ستينيات القرن الماضي وقبل أن يغادر مقر إقامته داخل إسرائيل 48، إذ كان يوصف في الساحة السياسية والأدبية الفلسطينية بـ«شاعر القومية العربية»، وتنبأوا بوصوله إلى أعلى المراتب الأدبية عربياً، ومن هنا بدأت مختلف أشكال المضايقات المادية والنفسية له مما جعله يلجأ إلى الهروب إلى خارج إسرائيل ليواصل نضاله المعروف لنا جميعاً منذ وطأت قدماه أرض مصر بعد مغادرته أرض فلسطين، لتحتضنه إذاعة صوت العرب ويُعين في منصب شرفي، وكان لي شرف مقابلته في مكتبه أوائل السبعينيات.
من جانبه يقول الشاعر د. أحمد فضل شبلول (نائب رئيس اتحاد كتاب الإنترنت): «درويش شاعر من أكبر شعراء العربية في العصر الحديث، ولا شك أن القضية الفلسطينية أفادته كثيراً في شعره وفي نظرته للعالم والكون، غير أن ما يميز درويش في تناوله لهذه القضية أنه حوّلها إلى قضية إنسانية في المقام الأول، وهذا هو السر، فعندما تُرجمت أعماله إلى لغات عالمية عدة كان وقعها على أصحاب هذه اللغات وكأنها من إبداع شعرائهم، لأن الحس الإنساني هو الذي يعلو على القضية، ومن هنا تصلح أشعار درويش لكل زمان ومكان، وربما هذا هو السر وراء ترشيحه لجائزة نوبل، رغم أننا نعرف أن هذه الجائزة قد يكون لها توجهات معينة».
أما المترجم المصري د. طلعت شاهين فقال: «درويش ترجم مبكراً منذ بداياته الأولى، نظراً لارتباط شعره بالقضية الفلسطينية، كما كان يسافر كثيراً إلى مناطق للدعوة إلى القضية وهو ما كان يتطلب ترجمة أشعاره لتقديمه هناك، إلى جانب الندوات التي كان يحييها سنوياً في فرنسا وإسبانيا وانكلترا وألمانيا واليونان ويوغوسلافيا.
وبالنسبة للغة الإسبانية فقد تُرجمت له دواوين كاملة، أبرزها «اثنا عشر كوكباً» الذي تُرجم بعد ستة أشهر من صدوره.
د. ليلى عبدالرازق (رئيس قسم الترجمة الفورية في جامعة الأزهر) تقول: «الترجمة وسيلة لنقل أفكارنا إلى الغرب، وأفضل وسيلة للتعبير عن قضايا أمتنا العربية بعامة والقضية الفلسطينية على وجه الخصوص، هي الترجمة، وهو ما حدث مع أشعار درويش التي لخصت القضية بأسلوب إنساني، وعبر أكثر من 22 لغة استطاع أن يوصل رسالته ومعه أصوات كل الفلسطينون والعرب إلى العالم أجمع».
الجريدة
11 اغسطس 2008
***
موت شاعر... فجيعة أمّة
قد يعتقد البعض، أن عنوان المقال يحمل في طياته شيئاً من مجاز أو مبالغة، لكنه ليس كذلك. فميلاد شاعر مبدع، يعني فيما يعني ميلاد أمّة، فليس أصدق وأقدر من الشعر والأدب على ترجمة قضايا وآمال وأحلام ووجود أمة من الأمم، وليس أقدر من الشعر والأدب، على حفر اسم أمّة من الأمم في سجل البقاء الإنساني.
إن ميلاد طفل مكتوب له أن يكون شاعراً في القادم من الأيام، لا يحظى بأكثر مما يحظى به ميلاد أي طفل آخر، من فرح واستبشار بالخير بمقدم زائر جديد، لكن موت شاعر استطاع أن يحفر اسم وطنه بين النجوم، وأن يحمله وجعاً في بؤبؤ قلبه، هو بالتأكيد أمر جلل، موت شاعر مبدع يعني صمت صوت من أصوات الأمّة الأجمل، ويعني صمت صوت يقول بلسان الأمّة، ويخلّد ذكراها في نبض قلبه وكلماته، لذا فإن موت شاعر مبدع هو فقدان الأمّة فلذة من فلذات كبدها، وربما أكثر.
أكتب كلماتي هذه وأنا أقف أمام دواوين الشاعر محمود درويش، أكتب كلماتي وأنا أقف أمام حضور محمود درويش الذي سيبقى، أكتب كلماتي هذه وأنا أعلم أن محمود لن يقرأها ولن يسمعها، أكتب كلماتي وأنا أقرأ نبأ موت محمود، وليس موت الشاعر والشعر.
محمود درويش شاعر حاور الموت مراراً، وكان في كل مرة يخوض في حديث معه، يقول له، أنا الأبقى، لكن الموت هذه المرة، فعل فعلته الأبدية المعروفة بهدوء، استلّ روح محمود من بين جسده، وحلّق بها على بساطه الرباني، من دون أن يصرخ أنا الأقوى، فوحده الموت يعرف أكثر من غيره، أنه محيط ببني البشر، وأنه مار بهم واحداً تلو الآخر، وأن لا مجال لمقارنة سطوته بضعفهم الإنساني الذي خلقهم الله عليه.
يقول الروائي نجيب محفوظ في إحدى رواياته، إن مشكلة الإنسان أنه مخلوق من طين، وأنه يصرّ على أن يحتل مكانته بين النجوم، وربما كان هذا وحده من يدفع الشاعر نحو الشعر، والأديب نحو الأدب، والفنان نحو الفن، ربما وحده، هذا الخلود المنشود، وهذه المكانة العالية، هو الذي يجنّن الشاعر، ويجعله ينذر نفسه لكلمات، تقول الإنسان والوطن والبشرية.
إن البشر يولدون ويموتون كل يوم، وإن الحياة هي الأمد القصير الممتد بين لحظة ميلاد وموت، لكنه الشاعر وحده هو من يمتلك القدرة على أن ينثر وروداً على جانبي الطريق، ووحده يمتلك القدرة على كتابة كلمات وأسماء وجُمَل وقصائد على جانبي الطريق، وحده الشاعر يستطيع أن يسلّي العابرين، ويكنس بمكنسته المصنوعة من الخوص والحب، تراب المسير عن خطواتهم المتعَبة، ووحده يستطيع أن يضيء ليلهم، ويكون بقربهم حين تنهض وحشة الطريق، ويرتفع نعيق الحياة المخيف.
محمود درويش أيها الشاعر الصديق، محمود درويش أيها الباقي شعراً وأملاً وضوء طريق، محمود درويش إنني حين أنعيك فإنما أنعى الشعر والشعراء، وأنعى جزءاً من قلبي معكم.
****
تشييع رسمي لمحمود درويش في رام الله غداً
تحويل قبره إلى نصب تذكاري تحفّه أشجار النخيل
رام الله - أماني سعيد عمان - سامي محاسنه
قالت مصادر في السلطة الفلسطينية أمس إن جنازة وطنية ستقام غداً للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش قبل دفنه في رام الله، وسيشارك رئيس السلطة محمود عباس ورئيس الوزراء سلام فياض في الجنازة التي من المتوقع أن تكون الأضخم منذ وفاة الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في نوفمبر 2004.
يصل جثمان الشاعر الفلسطيني محمود درويش اليوم إلى العاصمة الاردنية عمان في طريقه الى مثواه الاخير في مدينة رام الله الفلسطينية، حيث ستقام له جنازة رسمية، بمراسم عسكرية اردنية تقله من المطار الى جسر الملك حسين الواقع على ضفة نهر الاردن ليواصل الجثمان طريقه الى رام الله.
العاهل الاردني الملك عبدالله الثاني بعث برقية تعزية إلى رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس بوفاة الشاعر الكبير، مؤكدا «أن الراحل كان صوتا ينبض بالإنسانية، تجاوز بحضوره الثقافي وعطائه الشعري المتميز الجغرافيا العربية نحو آفاق العالمية».
كما بعث الملك وعقيلته برقية تعزية إلى أسرة الشاعر درويش، عبرا فيها عن بالغ الحزن والتأثر بوفاة الشاعر الكبير الذي وصفاه بأنه «يشكل علامة فارقة في مسيرة الإبداع العربي».
من جانبها، نعت وزيرة الثقافة الاردنية نانسي باكير والأسرة الثقافية والأدبية الشاعر العربي الكبير. وقالت باكير: إن فقدان «درويش» يُعد خسارة كبيرة باعتباره أحد أعمدة الشعر العربي المُعاصر، وقد كان من أفضل من صوّر الفاجعة الفلسطينية في أشعاره وكتاباته، وليس بمقدور أحد أن ينسى «جدارية درويش، عاشق من فلسطين، يوميات الحزن العادي، العصافير تموت في الجليل، شيء عن الوطن، لماذا تركت الحصان وحيداً وغير ذلك من مؤلفاته».
*استعدادات
من ناحية أخرى، تجرى استعدادات في رام الله لاستقبال الجثمان، حيث تسابق جرافات وزارة الأشغال الفلسطينية الزمن، لتمهيد وترتيب مكان دفن الشاعر الكبير، على تلة مرتفعة قرب قصر رام الله الثقافي، وكانت بلدية رام الله قد تبرعت بقطعة أرض لتحتضن جثمان الشاعر الفقيد بعد أن وافقت أسرته على طلب من الرئاسة ومنظمة التحرير، بدفنه «مؤقتاً» في رام الله، على أمل التمكن من دفنه لاحقاً في القدس، كما هي الحال مع جثمان الرئيس الراحل ياسر عرفات، الذي لا يزال الأمل يحدو الجميع، بأن يأتي اليوم الذي يتمكنون فيه من دفنه في القدس، كما أوصى.
*الضريح وأشجار النخيل
وتبلغ مساحة الأرض التي سيدفن فيها درويش، بقرار رئاسي، قرابة الدونم وربع الدونم، وهي على مقربة من القاعة التي احتضنت آخر أمسياته الشعرية، في قصر رام الله الثقافي.
ومن المقرر وفق وكيل وزارة الأشغال، ماهر غنيم، أن تتم إحاطة القبر بأشجار النخيل، إضافة إلى حفر أحد أبيات قصائده على حجر عملاق سيتم إحضاره خصيصاً من بيرزيت، مشيراً إلى أنه سيتم تجهيز قطعة الأرض المقرر دفن درويش فيها، لاستقبال الجموع الغفيرة المتوقع مشاركتها في جنازته.
ومن المقرر أن يتم تحويل القبر إلى نصب لدرويش، ومن ثم إلى حديقة عامة في المستقبل القريب، حيث يجري العمل على تشكيل لجنة للوقوف على هذه الأمور.
من جهته، أكد المهندس إسلام أحمد مدير أشغال محافظة رام الله والبيرة أنهم سيواصلون الليل بالنهار لإتمام المهمة الملقاة على عاتقهم، قبل وصول جثمان الشاعر الكبير إلى رام الله، مشيراً إلى أن العمل يجري بالتنسيق مع الرئاسة الفلسطينية، وبلدية رام الله، ومحافظتها.
*عدة أماكن
ومنذ نبأ وفاة درويش جرى تداول عدة أماكن في رام الله، لتحتضن جثمان درويش، من بينها مقر الرئاسة (المقاطعة)، حيث جثمان الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، أو مركز خليل السكاكيني الثقافي، حيث مكتبه، أو قصر رام الله الثقافي، الذي شهد آخر أمسياته الشعرية الجماهيرية، مطلع يوليو الماضي. وكانت ساحة قصر رام الله الثقافي، أو حديقته، في البداية، هي الأقرب لتحتضن جثمان درويش، بعد تغيير اسم المبنى إلى مركز محمود درويش الثقافي، في حين تم الاستقرار أخيراً على تخصيص قطعة أرض مجاورة للقصر الثقافي، لدفن درويش، بحيث يتم تحويلها لاحقاً إلى ضريح، أو حديقة عامة، أو متحف خاص به، وهو ما تم فعلاً، بعد أن تبنت الرئاسة الفلسطينية الفكرة.
*مسقط رأسه
من ناحيته، قال وزير الخارجية في السلطة رياض المالكي إن درويش المولود في قرية البروة في الجليل سيدفن في رام الله «تبعا لوصيته»، وأكد «عدم الطلب من اسرائيل السماح» بدفنه في مسقط رأسه الذي دمر بشكل تام خلال حرب عام 1948.
في السياق ذاته، قالت مصادر إن السلطة الفلسطينية طبعت اكثر من خمسة آلاف علم عليه صورة درويش لكي يتم توزيعها خلال التشييع.
الجريدة
12 اغسطس 2008