جريدة البديل -2 السبت 16 اغسطس

دروسه الثمينة

سيد محمود

لا أذكر المرة الأولي التي تعرفت فيه إلي شعره ، فقط اذكر جامعة القاهرة في العام 1988 كانت فرقة العودة التي أسسها محمد عزت ورفاقه تغني في مسرح كلية الحقوق " سجل أنا عربي " وبعد الاغنية سرنا في مظاهرة طويلة لنرتاح بعدها علي أرصفة الكلية قبل ان تصلنا الطبعة الأولي من أعماله الكاملة '' طبعة دار العودة ' ذات اللون الوردي التي طافت بيوتنا جميعا ، ودخلتها دونما استئذان ، ودون أن نعرف بالضبط من هو صاحبها الأصلي ولا كيف وصلت إلينا ، كانت مثل أشعاره تمضي بيننا كنسمة وتصاحبنا كأغنية طويلة ، اقرب لأغنياتنا الريفية ، التي من فرط انتماءها إلينا نجهل ملحنها ، لكننا ننام بين مفرداتها مطمئنين بألفة الأهل . لكن المؤكد أنني اذكر الآن فتنتنا بقصيدته '' سرحان لا يشرب القهوة في الكافتيريا '' كنا نقرأها بما يليق بفتية يظنون أنهم قادرون علي تغيير العالم بقصيدة ، وكنا كلما اقترب أكثر من ظلمة أيامنا نستأنس بمديح الظل العالي او ''هي أغنية '' وملهاة النرجس ''،ونزحف الي القاعات التي يلقي فيها شعره قبل عام من الآن كان درويش قليل الحضور الي القاهرة ، التي تحاول أن تستيقظ من غيبوبتها العربية ، كان مثل كثيرين من المبدعين العرب الذين شعروا أن مدينة باتساعها ضيق أن تحمل أحلامهم بعروبة جديدة ، وخلال هذه الغفوة لم تكن ثمة طريقة للتواصل معه الا عبر وسطاء ، اعتبرناهم ممثلين شخصيين لجلالته ، وهنا كانت تجربة '' التعاطي مع مجلة "الكرمل '' التي كانت خطوتنا الثانية لاختبار حماسنا له ، كنا نمني أنفسنا بكتابة من نوع آخر ، ولا نريد تلك الشعارات التي اطمأن اليها من ماتوا في أحضانها باليقين ، فوجدنا ''الكرمل ''معنا ، كانت كما كنا نريدها تماما ، ساطعة كشمس ، تهرب بنصوصها من ضجيج الشعار ولكنها مسكونة بألم القضية ، ودونما مزايدات تنمي وعينا بالطريق الذي مضينا اليه ، وكنا ونحن نقلب صفحاتها أشبه بأولئك الصاعدين إلي جبل الدهشة ، لا نكف عن التساؤل كيف استطاع محمود درويش أن ينمي فينا هذا الخيار المنحاز تماما لصفاء الفن دون أن يعكر وعينا بالقضية وكيف يجرؤ علي الهرب من '' رشوة الجمهور '' الذي يريده كما عرفه '' عاشق من فلسطين '' ؟ كبرنا وكبرت الأسئلة معنا حتي رأيته للمرة الاولي في حياتي في مسرح الجمهورية بالقاهرة وإلي جواره '' ياسر عرفات '' في أسبوع فلسطين ووجدت مئات الناس من حوله فخفت من هذه '' الهالة '' التي تضع صاحبها في مصاف النجوم والزعماء وظل هذا الإحساس يطاردني الي ان رتبت لي الظروف في القاهرة موعدا لمحاورته ومن جديد عادت لي ذكريات '' مع سرحان '' لكن صاحب القصيدة بدا لي ،'' أبسط مما أظن ويوم ان التقينا في الشام لنؤبن صديقنا المشترك ممدوح عدوان اكتشفت فيه أمورا لم أتبينها الا ونحن في حضرة شاعر كبير مثل محمد الماغوط الذي بدا لنا يائسا وعبثيا للدرجة لا تحتمل لكن الي جوار سريره تستيقظ رغبة واضحة في الاحتفاء بدرويش والإعلان عن محبته ، أما درويش فقد كان خجولا كزهرة ،متواضع مثل الطبيعة ، وكلما جمعتنا جلسة لا يكف عن الاحتفاء بشاعر آخر هو أحمد عبد المعطي حجازي، ويدعونا للاحتفاء به كأستاذ ، وأنا أقول لنفسي هو درس آخر في التواضع .
مساء أول أمس عندما علمت أنه مات ، كنت أهرب من الخبر ، لا اري التليفزيون ولا اتابع وكالات الانباء خوفا من " الكارثة " وبينما كان الناس يشيدون بحواري الأخير معه كنت أبكي بصمت لأني فقدت صديقا منحني ثقة كبيرة ، ولم يبخل بعطائه في أي لحظة.
لم اتبين المعني إلا حين قرأت خبر وفاته وعدت الي نصه الأخير " في أثر الفراشة " :
يرنو الي أعلي / فيصير نجمة ، ترنو اليه / يرنو الي الوادي فيبصر قبره يرنو اليه/ يرنو الي أمراة/ تعذبه وتعجبه ولا ترنو إليه / يرنو الي مرآته فيري غريبا مثله يرنو اليه) ربما كان الموت رقيقا لانه فاجئك وربما كان وداعا قاسيا أليما
لكنه جاءك كما اردت وكتبت لتراوغ الموت وتلاعبه وتستخف به وتعلم انه سينتصر ، لكن ما لفت نظري النص الذي كتبته بيدك وانا الي جوارك في بيت كفافيس حين كتبت " مكان الشاعر الحقيقي والطبيعي هو القصيدة ، القصيدة فقط التي يضيق بها المكان " ولذلك فأنا في انتظارك في مكانك دائما في قصيدتك التي رافقتني طوال عمري

******************

الموت يعشق فجأة

شاهر عياد

ليل السبت غيب الموت محمود درويش.. وغيبتنا الحياة عن رفقته.. سقط جزء آخر من خريطة فلسطين.. من تضاريسها.. من معالمها.. عندما أكدت متحدثة باسم المستشفي الذي كان يرقد فيه درويش في الولايات المتحدة نبأ الغياب.. بعد أن طلبت عائلته نزع أجهزة التنفس الصناعي.. ليتوقف قلبه أخيرا.. بعد 67 عاما من الحياة. وقال متحدث آخر.. باسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس هذه المرة.. إن السلطة الفلسطينية تعلن الحداد في أراضي فلسطين.. التي لم يتبق لأهلها من درويش سوي دواوين وصور وطابع بريد قررت السلطة الفلسطينية إصداره قبل أسبوع من الغياب.
عندما أعلنت قناة الجزيرة نبأ وفاته، وتناقلته وكالات الأنباء العالمية، بدأنا مرحلة الإعداد لملف يتناول حياة الشاعر.. استغرق الأمر بعض الوقت كي نستوعب أننا سنلحق كلمة "الراحل" باسمه.. ستصبح هكذا: "الشاعر الراحل محمود درويش".. لا تبدو جملة متناسقة.. إلا أن السرعة التي نفي خلالها المتحدث الرسمي باسم الرئيس الفلسطيني محمود عباس نبأ الوفاة.. وسرعة استجابة وكالات الأنباء لخبر النفي وكأنها تحاول أن تغير مجري التاريخ.. زرعت في نفوسنا بعض الأمل.. استجبنا لهذه المحاولات اليائسة.. تنفسنا الصعداء واجتاحنا الأمل جميعا.. لم نكن بحاجة إلي صدمة جديدة.. لكن ما كان قد كان.. سقط درويش هذه المرة ولم يقاوم كعادته.
قبل موته كان قد واجه الموت مرات ومرات.. قبل العملية المشئومة أجري عمليتين في قلبه، الأولي عام 1984 والثانية عام 1998. بعد نجاح الثانية بعام كتب جداريته.. ثم قال: «إنها جاءت بعد أن استبد بي هاجس النهاية منذ أدركت أن الموت النهائي هو موت اللغة إذ خيل إلي بفعل التخدير أنني أعرف الكلمات، وأعجز عن النطق بها فكتبت علي ورق الطبيب".. نفس العلة في نفس القلب الذي احتمل مع صاحبه ملابسات قضية عمرها ستون عاما.. عمره أكبر من عمر قضيته بسبعة أعوام.. ولد عام 1941 في قرية البورة بالقرب من عكا.. وعندما صار صبيا ابن سبعة أعوام ظهرت إسرائيل علي الخريطة.. عام 1948، تحول بعدها إلي لاجئ في لبنان.. أصبح رقما في ملفات الأونروا.. قبل أن يعود "متسللا" إلي وطنه بعد عام ليكمل دراسته الابتدائية في قرية دير الأسد في الجليل.
انضم درويش إلي الحزب الشيوعي الإسرائيلي بعد أن أتم دراسته الثانوية، وبدأ يكتب الشعر وينشر المقالات في الصحف والمجلات مثل "الاتحاد" و"الجديد" قبل أن يصبح مشرفا علي تحرير الأخيرة. اعتقلته القوات الإسرائيلية غير مرة منذ عام 1961. عندما أصدر ديوانه الأول "عصافير بلا أجنحة". وتوالت الدواوين وتوالت معها أيام الاعتقال.. وعام 1972 نزح إلي مصر ثم انتقل إلي لبنان وواصل الشعر وواصل الصحافة. صدر لدرويش دواوين عدة.. منها "الزيتون" 1964، "عاشق من فلسطين" 1966، "تلك صورتها وهذا انتحار عاشق" 1975، "مديح الظل العالي" 1987، "لا تعتذر عمّا فعلت" 2004، وكان آخر دواوينه "كزهر اللوز.. أو أبعد" 2005 <

******************

رأيت الوداع الأخير

رأيت الوداع الأخير: سأودع قافية من خشب
سأرفع فوق أكف الرجال، سأرفع فوق عيون النساء
سأرزم في علم، ثم يحفظ صوتي في علب الأشرطة
ستغفر كل خطاياي في ساعة، ثم يشتمني الشعراء
سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة
ستأتي فتاة وتزعم أنني تزوجتها منذ عشرين عاماً.. وأكثر
ستروي أساطير عني، وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدة
ستبحث صاحبتي عن عشيق جديد تخبئه في ثياب الحداد
سأبصر خط الجنازة، والمارة المتعبين من الانتظار
ولكنني لا أري القبر بعد. ألا قبر لي بعد هذا التعب؟

******************

صحف العالم ترثي درويش «الأوديسا الفلسطينية»
هاآرتس: رحل الصوت المعبر عن المعاناة الفلسطينية
الجارديان: قصائده تشكل جزءا من نسيج الثقافة العربية

كتب : تامر فتحي .سلمي الورداني

مات محمود درويش، الذي لم يكف عن كتابة الشعر للحظة، في غرفة العمليات بعد أن وقع علي وثيقتين، تدلل علي قبوله التام للموت عند حلوله، إحداهما تنص علي عدم محاولة إبقائه علي قيد الحياة في حالة موته اكلينيكيا، والثانية توصي بدفنه في فلسطين، وكالعادة تناقلت الجرائد الاجنبية نبأ موته كما تفعل مع الكتاب المشاهير
في جريدة «هاآرتس» الإسرائيلية وفي طبعتها الإنجليزية، نقلت الجريدة خبر موت درويش، واصفة إياه بأنه كان " الصوت المعبر عن معاناة الفلسطينيين"، واقتبست من حوار سابق لها مع الشاعر الراحل قوله عن الموت " لا أحب أن يأتي مثل اللص، بل ليأخذني في انقضاضته"، كما استعرضت آخر قصيدة له " السيناريو الجاهز" التي تدور عن حادث افتراضي لسقوط فلسطيني وإسرائيلي في حفرة واحدة، وما دار بينهما من حوار مفترض،
وقالت الجريدة إن السلطة الفلسطينية لم تسلم من نقده كما، لم يسلم الاحتلال الإسرائيلي وحكومته من نيرانه الغاضبة، وأكدت أن عظمة شعره تكمن في قدرته علي "اقتناص وسبك" ذاكرة اللاجئيين الفلسطينيين وتجربتهم في قصائده، وفي قصيدته " لماذا تركت الحصان وحيدا؟"، تعتقد الـ «هاآرتس» الإسرائيلية أن محمود درويش استطاع الربط بين تجربة الفلسطينيين في المنفي وعلاقتهم بذويهم الأحياء في الأراضي المحتلة،
وأشارت الجريدة إلي أن درويش كان متابعا جيدا لما يحدث في إسرائيل، وفي حوار سابق، أكد أنه مهتم بالشعر الإسرائيلي، خاصة شعر ايهودا امتشاي، الذي جعله يعتقد أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لم يكن عسكريا فحسب بل كان صراعا ثقافيا وأدبيا، درويش أكد ، كما تشير «هاآرتس» في تقريرها عن وفاته، أن الشعر القومي العبري دعم الروح العبرية في التمسك بحق وجود وطن لليهود، في حين أن شعراء فلسطينيين استثنوا أنفسهم من حق المطالبة بالرجوع إلي الارض، وهذا ما يراه درويش ضعفا،
درويش - الناقم علي وجود الاحتلال الإسرائيلي في أرضه - وصفته «هاآرتس» بأنه، علي الرغم من تلك النقمة، كان آملا في أن يوما سيأتي يسود فيه السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ونقلت الجريدة قوله ، " أنا صبور وأكتب من أجل ثورة عميقة في كيان الإسرائيليين، العرب مستعدون لقبول إسرائيل كدولة لها قوتها النووية لكن علي شرط أن تفتح أبواب حصونها وتكون مستعدة للسلام"،
أما «التليجراف» البريطانية فقد وصفته بشاعر " المقاومة" الذي لخص شعره روح المنفي والتشرد وبث روح النضال ضد المستعمرين، كما وصفت قصيدته " بطاقة هوية" المنشورة في ستينيات القرن الماضي بأنها فتحت له بوابة الشهرة ، واستعرضت الجريدة آراء العديد من الشخصيات العامة عن درويش،
كان الضمير الفلسطيني، وكان يملك رؤية ليست فقط لما نحن عليه الآن، بل لما يجب أن نكون عليه" هكذا وصفته عضو مجلس التشريع الفلسطيني حنان عشراوي لجريدة التليجراف، أما وزير التعليم الإسرائيلي السابق يوسي ساريد الذي أقرر أعمال درويش في مناهج المدارس الإسرائيلية فقد قال للجريدة " أنا واثق ان الذين انتقدوني لفعل هذا العمل لم يقرأوا شعر درويش، درويش كان ناقما علينا وهذا امر طبيعي"
أما صحيفة «الجارديان» البريطانية فقالت عنه إنه أكثر من عبر عن الضمير الوطني الفلسطيني، خاصة بعد حرب يونيو 1967، وأن أبياته أصبحت جزءا لا يتجزأ من النسيج الثقافي العربي،
الناقدة البريطانية ورئيس تحرير مجلة بانيبال "مارجريت أوبانك" كتبت في صحيفة الجارديان البريطانية عن تجربتها مع "شاعر المقاومة":
كان محمود شخصا عقلانيا ويمتلك فلسفة خاصة في الحياة، و كان قارئا نهما شديد الاهتمام بمظهره ،
عرفته من خلال قصائده التي بدأت في قراءتها في سبعينيات القرن الماضي، ومن خلال ما كان يرويه زوجي الكاتب العراقي صمويل شيمون عنه، وكان محمود من اكثر المؤيدين لمجلة بانيبال الادبية التي أسسناها أنا وزوجي عام 1998 ، وكان شديد الإعجاب سواء بالقضايا التي نطرحها بمجلتنا، أو بالحوارات التي نجريها ،
وعلي الرغم من قيمته الأدبية الكبيرة الا أن رأيه في نفسه كان شديد التواضع، فعندما اتصلنا به منذ ثلاثة أشهر لنقوم بعدد خاص عنه في المجلة - وهي أول مجلة تصدر بالإنجليزية وتهتم بتقديم أعمال لكتاب وشعراء عرب- قال : "هل تعتقدوا أنني أستحق كل ذلك حقا؟! اذا كنتم متأكدين من ذلك، فأنا موافق!"
كنا مع محمود عندما فاز بجائزة الأمير كلاوس بامستردام عام 2004 وكان خطاب الجائزة الذي ألقاه قويا ومؤثرا، قال فيه : "الإنسان يولد في مكان واحد فقط، ولكن الموت يمكن أن يأتيه أكثر من مرة،،، في المنفي ،،، في السجن ،،،،أو في وطن أحاله الاحتلال والقمع الي كابوس محقق، والشعر هو الذي يعلمنا كيف نغذي حلمنا، وكيف نولد من جديد، وكيف نستخدم الكلمات لبناء عالم أفضل، عالم وهمي يمكننا فيه التوقيع علي ميثاق للسلام دائم وشامل،،، مع الحياة"
أما صحيفة الإندبندنت البريطانية فوصفته بأنه "صوت الاوديسا الفلسطينية " وأضافت في مقالتها الصادرة أمس :"عكست كتاباته الصارخه اليأس والاغتراب الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني، أشعاره محفورة في قلوب ملايين الفلسطينيين،وكلماته هتف بها المتظاهرون في شوارع رام الله ودمشق والقاهرة، وتغني بها المطربون العرب مثل أغنية احن الي خبز أمي ، وكانت قصائده في المرحلة الأخيرة من عمره تعبر عن حزنه وشعوره باقتراب الموت، ومن الانقسام الذي وصل اليه الفلسطينيون ، "
ونقلت الصحيفة نفسها عن محمود العطشان، أستاذ الأدب العربي المعاصر بجامعة بيرزيت قوله:
"انطلق درويش من الدائرة الفلسطينية الصغيرة الي العالمية، تخطي حدود فلسطين وانطلق الي العالم الأوسع ، آخر مرة رأيته فيها كانت لدي زيارته لرام الله، وكان يوزع الورود علي الناس، وعندما صافحني بيده وأعطاني وردة، شعرت وقتها إنه يقول لي الوداع! "
أما «النيويورك تايمز» الأمريكية فقالت عنه: "كلماته المؤلمة عن المنفي الفلسطيني، وأبياته العذبة عن الإنسانية جعلته رجل الأدب الفلسطيني، وواحدا من أكبر شعراء العرب المعاصرين، " ونقلت عن الشاعر الفلسطيني غسان زقطان شهادته التي قال فيها: "كان درويش يتحدث عن الحياة اليومية بلغة رفيعة ومتميزة ، وقد بقي درويش متربعا علي عرش الشعر العربي لمدة أربعين عاما، ورغم أنه كان يستخدم الفصحي أكثر من لغة الشارع، إلا أن شعره كان أبعد ما يكون عن التكلف والصنعة، إذ كان شديد المباشرة والحرارة في الوقت ذاته <

******************

رسالة إلي محمود درويش

بقلم سميح القاسم

عزيزي محمود ..
الحرج قائم، سواء كتبت إليك أم لم أكتب، وحتي لو كانت لدي طائرة فانتوم فإنني لا أستطيع تحميلها هذه الرسالة إليك، فالخوازيق الجوية المتربصة علي ضفة القناة الغربية جعلت بريد الفانتوم في خطر شديد، ومن هنا فإن «الجديد» سليلة الحمام الزاجل خير رسول إليك، هناك في مصر الشجاعة واقعاً وأسطورة، أرضا وبشراً، وماضياً وحاضراً.
وبعد،
لا أريد تقريعك علي فعل ماض أصبح أمرا واقعاً، فمن أين لنا القدرة علي إعادة الرصاصة المنطلقة إلي فوهتها الأم!
لكنني أريد مجاهرتك ببعض الخواطر التي آثارها في بيانك العاطفي المذاع من موقعك الجديد، وموقفك القديم.
ونعود إلي عملنا هنا..
منذ قيام إسرائيل، ومبارد العنصرية تنحت في لحم البقية الباقية من العرب الفلسطينيين في وطن آبائهم وأجدادهم، ولكن القوي الوطنية والديمقراطية، وفي طليعتها الشيوعيون، أدركت ما ترمي إليه السلطات الصهيونية من وراء الاضطهاد والقمع والإرهاب.
أدركت أن الشعار الأول والرئيسي الذي رفعته الحركة الصهيونية هو: المزيد من الأراضي، والأقل من العرب، ومن كان منا يؤمن بهذا الشعب فليحمل صليبه، وإذا كان هذا الشعب قد قرر البقاء علي صدورهم، فعلي حاملي الصلبان ألا يتزحزحوا، وإذا كان في تاريخ الشعراء والأدباء بعض أصحاب الصلبان الذين غيروا مواقعهم، مثل ناظم حكمت وبرتولد بريخت، فذلك لأن أعداءهم أرادوا تجريدهم حتي من الصليب ذاته، أما نحن فان صليبنا الكبير مازال في أيدينا، وأنت تشهد في بيانك، بأن النضال «بطولي».
قلت إن وطننا لم يعد جبلاً وسهلاً، بل قضية ولا أستطيع ألا أن اختلف معك في هذا فالوطن الميتافيزيقي، الوطن الفكرة، أو القضية، الوطن الذي ليس سهلاً ولا جبلاً هو وطن الحركة الصهيونية!! وطننا نحن، سهل وجبل وقضية في الوقت نفسه، وطننا فلاحون يعتدي عليهم في أرضهم، تجار يعتدي عليهم في متاجرهم، بشر يتكلمون ويأكلون ويفرحون ويحزنون وينزفون دماً في مدنهم وقراهم، في غزة وحيفا والخليل والرامة والجديدة وحتي في البروة التي لم يبق منها سوي أطلال كنيستها، وأهلها!.
في أيام المغول والتتار كان المحتلون يجهلون علم النفس، كانوا يبيدون ضحاياهم ابادة جسدية، أما اليوم، فإن حضارة القرن العشرين علمت المحتلين أساليب الإبادة الفكرية ومناهج التدمير النفسي، إلي جانب التصفية الجسدية.
وكثيراً ما يلجأ المضطهدون- بكسر الهاء- المودرن، إلي القمع النفسي لدفع ضحاياهم إلي الهرب في سبيل خلاص ذاتي موهوم، أنهم يمارسون الإرهاب السيكولوجي ليخلقوا في نفوس مضطهديهم- بفتح الهاء- ما يسمي بالبارانويا، وهو مرض الخوف والملاحقة، أو البسيخوفرينيا، وهو ضرب من الهلوسة وفقدان السيطرة علي الذات. فهل نسمح لحكام إسرائيل بأن يجعلوا منا أرانب لتجاربهم؟
لا أشك للحظة في حبك لشعبك ووطنك، ولا أشك للحظة في حبك لرفاقك ومكتبك العتيق الصابر بين مكاتبهم العتيقة الصابرة، حيث العمل اليومي المتوتر والمرهق، ولكنني أشك في أن خطوتك كانت أمراً لا مفر منه، وأخيراً، إليك هذا النبأ الشخصي، ديوانك الذي تركته في ذمتنا سيصدر قريباً، سيصدر في الناصرة، ولن أرسل إليك نسختك مع الصليب الأحمر الدولي، سأحفظها لك هنا حتي تعود لرفاقك.. وستعود!

مجلة الآداب أبريل 1971

******************

درويش ومحفوظ

د. عفاف عبد المعطي

طلب مني الناقد التونسي المعروف محمود طرشونة أن يلتقي بنجيب محفوظ عندما أتي لمصر في مؤتمر الرواية الأول فما كان مني الا أن نقلت للصديق الكاتب يوسف القعيد رغبة طرشونة فأسرع القعيد بشهامة لتحديد موعد فذهبت والروائية سلوي بكر وطرشونة إلي فرح بوت حيث مجلس نجيب محفوظ مع حرافيش كل ثلاثاء، كان من الصعب استيعاب كل هؤلاء في مكان واحد كان في المكان الأبنودي والغيطاني والقعيد والروائي الفلسطيني المعروف ووزير الثقافة فيما بعد يحيي يخلف، وبين هذه النخبة جلس محمود درويش في هدوء جم والكل يحيطون بمحفوظ الذي استطاع أن يجمع كل هؤلاء علي حبه، كان درويش يتبادل الحوار مع الجميع بجمال كأنه يردد قصيدة. لذا، يصعب علي الإنسان أن يقدم رثاءً لشخصية في قامة الشاعر العربي محمود درويش أو حتي يكتب عنه الآن هذا الشاعر الذي ملأ السمع والبصر ولم تفده القضية بقدر ما أفادها وقاوم من أجلها عبر الكلمة الشعرية، إن محمود درويش هو الشاعر الفلسطيني والعربي الوحيد، الذي استطيع أن يخلق ازدحاماً في أي عاصمة عربية تنعقد فيها أمسية شعرية له. فهل ذلك لأن السبب شعره وشاعريته العالية، وإبداعه الفذ، وقدرته علي التمثيل الشعري الإبداعي لوجدان الإنسان العربي (قبل الفلسطيني) الذي يتزاحم علي بوابة درويش، فقط؟، أم أن ثمة أسباباً أخري؟..
لعل المرحلة الأولي من شعره التي نسميها مرحلة التحدي والتي تمتد من الفترة التي عاشها محمود في الأرض المحتلة إلي خروج المقاومة من لبنان في أواسط الثمانينيات تجيب عن ذلك، إنها مرحلة تتميز وطنياً وفكرياً بالتماسك والتصاعد والجرأة البالغة والمحافظة نسبياً علي النفوذ السياسي القوي لمنظمة التحرير الفلسطينية خاصة في لبنان بعد تحولها إلي الكفاح المسلح، هذه الفترة التي تستغرق مرحلة الفتوة والشباب لمحمود درويش هي التي صنع إنتاجه الشعري فيها شهرته الأساسية لشاعر يمثل أولاً طليعة تيار شعراء الأرض المحتلة، وثانياً طليعة الشعر المقاوم الذي برز فيه بعد تركه الأرض المحتلة إلي مصر فترة قصيرة في أواخر العهد الناصري، ثم إلي لبنان حيث غدا الممثل الأول لشعر المقاومة الفلسطينية، وهذا ما يفسّر مثلاً ظهور قصائد مثل (سَجّلْ أنا عربي) التي نُشرت في مطلع الستينيات وظهرت في ختام مجموعته الأولي (أوراق الزيتون) الصادرة عام 1964.
وهنا نواجه شعراً عربياً جديداً بكل معني الكلمة شكلاً ومضموناً ومعبّراً في الوقت ذاته عن روح التحدي الجسور والاعتزاز بالهوية القومية والوطنية في مواجهة الاحتلال الاستيطاني بلغةٍ في منتهي البساطة والمباشرة والوضوح، ومع ذلك فقد بدت قصيدة جديدة بسبب لغتها الطازجة جداً وزوايا التصوير المبتكرة والتقنيات التعبيرية المستحدثة، وهذه النكهة من الحداثة التي هبّت علينا من داخل الأرض المحتلة فأنعشتنا، وحتي في موضوعات الغزل الأكثر استهلاكاً وتداولاً وبالتالي صعوبة في الابتكار والتجديد سوف نفاجأ برائحة لطيفة لحداثةٍ شعرية مقبولة لم نعهدها من قبل تنعش ذاكرتنا وتحرّض ذائقتنا علي تقبل المزيد من طعوم الحداثة الوافدة.
وربما يعتقد البعض (لنقل: البعض علي الأقل) أن ذاك "التزاحم" حول شعر محمود درويش حصل بسبب كونه (شاعر القضية الفلسطينية)، ولكن من لا ينتبه إلي حقيقة أن شعر درويش لم يعد، منذ زمن، شعر القضية بقدر ما بات شعراً ذاتياً يتعالي علي المتلقي، ذاته، سواء أكان قارئاً لدواوينه، أو مزاحماً علي أبواب أمسياته؟..
وفي المرحلتين الأخيرتين الثالثة: مرحلة (الاعتراف بالأمر الواقع) والرابعة الأخيرة مرحلة (مراجعة الذات والموضوع) يهدأ محمود درويش كما هدأ الكفاح المسلح نسبياً وقد انتقل زخمه الأعنف من (فتح) وباقي الفصائل الداخلة في منظمة التحرير إلي المنظمات الإسلامية المتطرفة التي خلقها الفراغ السياسي داخل الأرض المحتلة بعد انقطاع الداخل مع الخارج إلي حد كبير، بعد أن انتقل زخم الكفاح المسلح إلي هذه المنظمات مثل (حماس) و(الجهاد) فيكتب محمود مثلاً مجموعة (حصار) التي تعبر فعلاً عن التحولات الجديدة للقضية وقد حوصرت من كل الجهات ولم يبق لها من منفذ سوي إسماع صوتها النائي إلي جيرانها العاجزين وإلي العالم المتحيز لخصومها، وقد رضيت بالأمر الواقع ولم يرض به المعتدون الطامعون إلي الأكثر في مقطوعات قصيدة أشبه ما تكون بلقطات كاميرا سينمائية تتحرك في إطار مغلق علي الشكوي والأنين الخافت بعيداً عن الاستفزاز والعنف كما في هذه المقطوعة
(أيها الواقفون علي العتبات ادخلوا
واشربوا معنا القهوة العربية
قد تشعرون بأنكم بشر مثلنا
أيها الواقفون علي عتبات البيوت
اخرجوا من صباحاتنا
كي نطمئن إلي أننا بشر مثلكم.
يبدو أن درويش نظر إلي عالم أكثر رحابة، وأكثر دعة.. لا علاقة له بتحمل النظر إلي تفاصيل حياة الفلسطيني تحت الاحتلال، أو طي المنافي وذل اللجوء وقهر الشتات وبؤس المخيمات، والتنطح لمهمات التعبير إبداعياً عنها.. ولا بتحمل مشقة التأمل في أشلاء الفلسطيني.. ولا بتحمل مشقة التأمل في أشلاء الفلسطيني.. ويحول المحسوس إلي مجرد، والوقائع إلي واقعة، تختلط فيها صورة الضحية بالقربان، وصورة العدو بالغريب..
بهذا المعني، لا يمكن عد محمود درويش (شاعر القضية)، إذا كانت الأخيرة تعني تحرير فلسطين، ولا (شاعر فلسطين) إذا كنا نقصد الدولة الصغيرة حجما الكبيرة كفاحاً .

**************

أحمد فؤاد نجم: درويش شاعر كبير أفسدته السلطة

كتبت: سارة المصري

علي الرغم من أن كثيرين يهوون الربط بين محمود درويش وأحمد فؤاد نجم باعتبارهما من شعراء الرفض والمقاومة، فإن المفاجأة كانت كبيرة عندما لجأنا للشاعر أحمد فؤاد نجم للاستماع إلي شهادته حول الشاعر الراحل، إذ أكد «نجم»، أن الذي قتل محمود درويش هو الفساد ولصوص الشعب الفلسطيني، ويوضح: لقد قتلوه بالتخمة، وحاصرونه حتي مات ويؤكد أن درويش عندما أتي إلي مصر لم تقم بينهما صداقة قوية علي الرغم من حبه الشديد له لعدة أسباب منها أن درويش عندما جاء مصر، لأول مرة، كان في ضيافة رموز الدولة الذين اختاروا أن يأتوا بالأبنودي ليقابله، كما أن درويش فضل زيارة نجم في «حوش آدم»وفي نوع من التعالي والاعتزاز الزائد بالنفس.
أما عن علاقة درويش بالسلطة الفلسطينية، فيري نجم أنه ارتكب خطأ كبيرا جدا عندما انضم لمنظمة التحرير، ولا يبرر هذا الخطأ انفصاله عنها بعد أوسلو، فهو شاعر أولا وأخيرا لابد وأن يفصل نفسه عن كل الشبهات، أن يتجه أكثر لنصرة قضيته حتي يستطيع أن يبدع أكثر، وهذا لا ينفي كونه عبقرية فذة، ويوضح أكثر أن الموقف الشهير الذي حدث بينه وبين ناجي العلي، يوضح علاقة درويش بالسلطة بعد أن قام «العلي» برسم كاريكاتوري لدرويش بعد انضمامه لمنظمة التحرير يقول فيه «درويش خيبتنا»، وهو الأمر الذي يوضح أن كل فئات الشعب الفلسطيني قد قدروه، لكنهم عابوا عليه هذا الموقف

**************

غياب الرمز

الشاعر عبدالمنعم رمضان

محمود درويش لم يعد شاعراً فقط، هو شاعر ورمز لوطن فقدناه بفعل قياداتنا السياسية وسنظل فاقدين له بفعل هذه القيادات المستمرة والدائمة والتي لا تنوي أن تزول.
مات آخر الشعراء النجوم، هناك شعراء ليسوا نجوماً، وهم شعراء كبار جداً لا يعرفهم العامة والبسطاء، وهناك نجوم باسم الشعر، علي سبيل المثال: سعاد الصباح الكويتية، أحمد مطر، وفاروق جويدة المصري إلي آخره، أما درويش فقد جمع بين الأمرين، هو شعار كبير وفي الوقت ذاته نجم كبير، لهذا أشعر أن خسارتنا فيه فادحة، لأن الشعراء النجوم يصلوننا بالجمهور، الجمهور يتماس ويتلامس مع الشعر عن طريقهم، خطر جداً أن يتلامس الجمهور مع الشعر عن طريق النجوم الذين ليسوا بشعراء، لأنهم سيهبطون بذائقتهم.
خسارة درويش أيضاً تؤلمني علي المستوي الشخصي، لقد حدث اختلاف بيننا حول مفهوم كل منا للشعر، ولا أستطيع أن أعتب عليه الآن غضبه الشديد من بعض آرائي، لأنها آراء لم تمس قيمته الحقيقية داخلي.
قابلت محمود في مدن كثيرة، خاصة في القاهرة، ولم أصادف شاعراً في ذكائه علي الإطلاق، لم أصادف شاعراً في وسامته وفي عدم ترخصه.
ماذا أتمني لدرويش إلا أن تتغير أنظمتنا ونتغير نحن، حتي يتحقق ما كان يحلم به <

**************

روحه امتلأت بمحبة مصر

سعيد الكفراوي

خسارة، محمود درويش الشاعر والإنسان، هي خسارة للأمة العربية كلها، إنه شاعر حمل قضية كبيرة ودافع عنها في شعره ونثره، وإنسان أخلص إخلاصا شديدا للقضية الفلسطينية، وكانت هي همه في الأساس وماضيه ومستقبله وهي التجلي الأمثل في كل شعره، جدد القصيدة من شعر التفعيلة للحداثة، واستلهم أفقاً جديدة من خلال قصائد تمثل ملاحم في الشعر العربي، كنت أقابله فأجد الدماثة والروح المضيئة ومحبة البشر، وكان أحد أحباء الثقافة المصرية وعمل في أوائل السبعينيات بجريدة الأهرام فامتلأت روحه بمحبة مصر، أشعر بالحزن لفراق هذا الشاعر الكبير الذي يمثل جوهرة في عقد كل العظام الذين دفعوا أعمارهم في سبيل الوطن وسبقوه إلي الموت <

**************

أحترمه لأني التلميذ الفاشل

أشرف يوسف

أحترم محمود درويش فتي الخيال المدلل لأنني التلميذ الفاشل للخيال .. أحترم النقيض الذي جعل من الشعر فنا ممكنا للأقلية الهائلة في ظل ثقافة غير متسامحة مع رموزها وتظل تعاملهم علي طريقة ( امسك غلطة ) وكأنهم أنبياء كذبة إذا لم يمروا علي جهاز كشف الكذب والنوايا الحسنة .. ثقافة تجهل المنجز .
أحترم محمود درويش الشاعر الرحلة منذ أحمد الزعتر ومديح الظل العالي في الثمانينيات إلي أثر الفراشة في الثامنة بعد الألفين .. أحترم إيثاكا الشعر العربي الحديث .
أحترم محمود درويش الذات المفرطة في الثقة بنفسها وبصوتها المتجدد بتجدد المدح والذم في آن واحد .. ألست القائل يا صديقي : علي هذه الأرض ما يستحق الحياة.

**************

نصائح أحمد عبدالمعطي حجازي

أحمد عبدالمعطي حجازي

أنت تعلم يا صديقي أن كل العيون الآن مفتوحة عليك
عيون شعبك العربي في كل أقطاره، وعيون رفاقك في الأرض المحتلة، وعيون أعدائك أيضاً.
وأنت تعلم أيضا أن الناس الذين يطعنوا بما فيه الكفاية، وخدعوا بما فيه الكفاية يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلي أنفسهم من المصير الذي ينتهي إليه في العادة نضال اللاجئين السياسيين وهو أن يقبعوا في ركن مقهي، بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحي بهذه الشفقة، وربما قرأت في بعض صحف عواصم عربية أخري تعليقات تصرح بها.
ولقد أعلنت أنت أنك خرجت لتواصل نضالك على نحو أفضل، وأنت بالطبع كفء لأن تواصل النضال وتظل أمينا علي القضية.
إن ثلاثين عاما في هذه المهنة، مهنة النضال كما كان يسميها ناظر حكمت ليست بالتراث القليل الذي يمكن أن يتجاهله الإنسان بسهولة.
وأنت شاعر يا صديقي.
وإذا كنت قد أصبت في هذه المهنة الأخري مجداً فقد أصبته لأنك تشتغل بالمهنتين معاً.. فأنت شاعر مجيد لأنك شاعر مناضل هذه هي فرسك كما عودتها لن يستجيب لك الشعر إلا وأنت علي تلك الفرس الخطرة. وأنت تسلحت بنظرية ثورية، وتربيت في حزب وسوف ينتظر الناس وننتظر نحن وأيضا في أي شيء تختلف تجربتك أنت وقد صرت وحدك- عن تجارب الذين لا يملكون هذا التراث.
ويقول أعداؤك وأعداؤنا إن محمود درويش ورفاقه ظاهرة إسرائيلية، وهم يقصدون بهذا الزعم أن النجاح الذي حققتموه إنما هو ثمرة ما اتاحوه لكم في إسرائيل، وأنا أعلم أن الوقائع تكذبهم فهم لم يتيحوا لكم إلا الاضطهاد والقهر لكننا ننتظر منك أنت الرد عليهم لا بأن تظل شاعراً مجيدا فحسب بل أيضا يظل شعرك تعبيرا وإلهاما لمقاومة شعبك وثورته وتضحياته التي لن تتوقف، لقد قدمت القاهرة ببالغ الاعزاز نصيبها في الحرص عليك حين هيأت لك مكانك في صوت العرب، وبقي أن تواصل أنت تقديم نصيبك.
اقترح عليك في البداية أن ينصب نشاطك في صوت العرب في مجال أساسي هو البرنامج العبري الذي تستطيع أن تساهم في التخطيط له وفي تحريره، وهذا تخصص نحن في أشد الحاجة إليه فأنت لا تتكلم العبرية، كما يتكلمها سكان إسرائيل فحسب، بل أنت أيضا تفهم روح هؤلاء القوم، وتعرف ماذا يؤثر فيهم ويثير انتباههم ويخاطب عقولهم. تعرف حججهم ومواطن قوتهم وضعفهم وتعرف أيضا بالطبع حججنا ومواطن قوتنا وضعفنا.
خاطب فقراء اليهود وعقلاءهم من الرجال والنساء، وخاطب أطفالهم، واشرح لهم أي مذبحة تاريخية يريد حكام البيت الثالث أن يسوقوهم إليها علي مدي السنوات المقبلة، وقل لهم بلطف ومحبة إن ملايين الأطفال الفلسطينيين في الطريق.
أقترح عليك أيضا أن تبدأ مشروعاً لترجمة الأدب الإسرائيلي الحديث إلي لغتنا العربية.
إن إعداءنا يعرفوننا عن طريق كاتب مثل نجيب محفوظ أضعاف أضعاف ما يستطيعون أن يعرفونا عن طريق أجهزة أمنهم وجواسيسهم. إن الكاتب جاسوس خطير يقدم معلومات عن النفس التي تفكر وتعمل وتخطط وتتراجع وتتقدم وتحارب ونحن في أشد الحاجة إلي جواسيس من هذا النوع.
وماذا ترجمنا نحن من هذا الأدب؟
«بروتوكولات صهيون»! ذلك الكتاب الأسطوري المزيف الذي يظن بعض الناس أنهم بقراءتهم له يعرفون اليهود وأي معرفة يقدمها لنا حديث الدم والقتل والسم والكذب عن مجتمع عصري له قضاياه ومشاكله التي ينبغي أن نسرقها سرقة موضوعية. نحن نريد أن تترجم لنا شعر ناتال والترمان واسكندر بن. وشلونسكي، ويهودا عميحاي، نريد أن نعرف كيف تحول هؤلاء الشعراء الروس الذين بدأوا حياتهم الشعرية بالروسية إلي كتابة الشعر بالعبرية، نريد أن نعرف كيف يستطيع الشاعر أن يغير لغته في عشرين عاما ومع ذلك يظل يكتب الشعر. نريد أيضا أن نقرأ آراء مفكريهم في مشكلة إسرائيل كما يعانون منها ويتصورون لها الحلول.
لقد قلت لي في حديث سابق إن الصراع سيكون طويلاً لأنه صراع تاريخي معقد لن يحسم قبل أن ينضج.. فلندخله إذن مسلحين.. والوقت أمامنا.
ومن يدري يا محمود.
ألا يكون مقامك في القاهرة بداية لأن تشعل نشاطا وتثير روح العمل من أجل ما نطالبك بأن تقوم به وحدك؟!

روزاليوسف
22/2/1971

**************

ومقال لصلاح عبدالصبور

القديس المقاتل


«ديوان محمود درويش يتحدث للمرة الأولي بلهجة المشارك، لا بلهجة المشاهد، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده».
الكلمة التي حيرتنا منذ عشرين عاما قالها محمود درويش..
كنا نتساءل: كيف نعبر عن القضية وبأي كلمات نستطيع أن نخاطب بالمأساة قلب الإنسان، وأن نخلق للجرح فما ولسانا فصيحا، وكانت تثقلنا في بعض الأحيان بأغلال عنتريتنا الجوفاء، فنصرخ ونتوعد، ونكذب حتي علي أنفسنا، وكانت تثقلنا أحيانا بكائيات رحيلنا الحزين، فنتألم ونتعذب ونجهش بالبكاء.
كان شعر فلسطين - في معظمه - ضائعا بين العنترية الجوفاءوالبكاء الذابل، حتي كتب محمود درويش ورفاقه، لقد تكلموا فحسب، كلمة صادقة حزينة حزن الرجال، فأثبتوا أن الشعر هو صوت الإنسان حين يتكلم، وحين يتكلم من قلبه، وبصوته الخاص لا بأصوات الآخرين والمجموعة الباذخة التي نشرتها مجلة «الهلال» في عدد مايو الأخير من شعر محمود درويش هي في رأيي حدث فني من أحداث حياتنا. ولو استطعت أن أتجرد من ظلال قضيتنا المصيرية، وتذرعت بالحس النقدي وحده، لما تغير رأيي قليلا أو كثيرا، فهي شعر، وشعر عظيم بشتي المقاييس.
وتأتي مجموعة محمود درويش بعد مخاض طويل لشعر النكبة، في مرحلتها الحالية، بعد أن أسهم في هذا المخاض عشرات الشعراء العرب الذين اجتهدوا أن يقولوا كلمتهم التي تحمل رائحة الصدق والشاعرية معا ومثلما كان عام 1948 منحني واضحا في القضية ذاتها كان منحني واضحا أيضا في التعبير عنها. فقبل هذا العام الفاصل كانت أصوات إبراهيم طوقان وأبي سلمي وعبدالرحيم محمود تجلجل في سماء الأرض الفلسطينية، وتصنع للمقاتلين شعاراتهم وبيارقهم.. كانت تتجه إلي الفلسطيني العربي تناشده الثبات والصلابة، ولكنها لم تكن تعني بأن تخاطب الإنسان فيكل مكان، لأننا كنا نتصور في ذلك الوقت أن قضيتنا هي قضية مواجهة رجل لرجل، ولم يكن يدور بخلدنا أن أعداءنا لونوا الرأي العام العالمي بلون العداوة للعرب والمودة لليهود، وبعد كارثة 1948 زلزلت مفاهيمنا عملها وأدركنا كم كنا مقصرين في حق القضية الكبري، وتلمسنا الأبعاد الجديدة وطمحنا أن نخاطب الإنسان في كل مكان، فلم يعد من المجدي أن نخاطب العربي وحده. فقد كفتنا الأحداث الأليمة مئونة هذا الخطاب. ولست أشك في أن هذا جرح فلسطين كما كان هو - علي الصعيد السياسي المحرك لمعظم الانتفاضات الساسية في عالمنا العربي، والباعث الأول لنا علي مراجعة أساليب حياتنا ونظم الحكم في أوطاننا، فقد كان إلي ذلك - في المجال الأدبي والثقافي - من أكبر العوامل علي تمزيق الاسلوب الشكلي التقليدي لفنوننا، كما كان هذا الجرح هو الينبوع الأول لهذا المراج الحزين الذي ساد أدبنا وشعرنا علي التحديد في خمسينيات هذا القرن وستينياته، لأن هذا الجرح كان يمثل خيبة وسائلنا التقليدية إزاء تحديات العصر.
وربما كانت القصائد التي كتبها شعراء العربية المحدثون عن قضية فلسطين محدودة قليلة، لا تعدو بضع قصائد لكل منهم، ولكن الدارس يستطيع أن يحس بظلال هذه القضية في كل ما كتبوا، متمثلة في هذا المزاج الحزين القلق، وفي هذه النبرة الواضحة من الندم والألم، ولو تجاوزنا ذلك المزاج إلي تلك القصائد بالتحديد لوجدنا أن معظمها قد وقع في خطيئة المبالغة العنترية، إذ جنح إلي الخطابية وابتعد عن التعبير الفني إلي التعبير السياسي. وإن قليلا منها قد استطاع أن يعبر عن جوانب إنسانية من القضية، ولكن ظل ينقصه عنصر مهم، وهو أن يتحدث بلهجة المشاهد لا بلهجة المشارك.
وديوان محمود درويش الجديد يتحدث للمرة الأولي بلهجة المشارك، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل، ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده.

*

ينقلنا هذا الديوان شأن الأعمال الفنية الكبيرة إلي عالمه، وتدخل بنا قصائده، قصيدة بعد قصيدة من أبواب مدينة قد لا نعرف اسمها، ولكننا نستطيع أن نعرف ملاحها.. إنها مدينة قد ارغمت علي خلع ثيابها الخالدة، خلع اسمها وطابعها لكي تكتسي ثيابا جديدة أو اسما جديدا أو طابعا جديدا. مدينة كانت عربية فتهودت، واغترب فيها أبناؤها. وأصبح الغريب فيها سلطانا طبع رسمه علي ظهر كل بطاقات البريد، واطلق اسمه علي الطرق والأبنية، ولكن هناك أشياء لا يستطيع السلطان أن يمنعها أو يغيرها. إنه لا يستطيع أن يمنع القصيدة، ولا يستطيع أن يغير الأرض.
ويتقدم لنا من خلال الديوان هذا الشاعر، شاب اسمه محمود، يؤمن بكل ما يؤمن به الرجال.. الأرض والوطن والحب والشجاعة، ويؤمن أيضا بالمستقبل، ويريد أن يغني له ولكن السلطان يمنع أغنيته، ويعتقله، ويعذبه، فلا يذل جبينه ولا يموت غضبه.
ورغم أن محمود درويش يتحدث لصوته الخاص إلا أن مدينته كلها تعيش في شعره، أسرته ورفاقه، وسجآنه وجلاده، وفتاة يهودية اسمها «ريتا» تقف بينها وبينه بندقية ومقاتل يحدثه عن قتلاه ويحلم بالسلام ورجال الصليب الأحمر، ومشردي المخيمات، حتي البيوت والشجر والأقمار.
هنا في هذا الشعر يلتقي الإنسان بالإنسان، أيا كان اسمه أو لونه أو دينه. لابد أن نتعاطف معه كما نتعاطف مع الأبطال في محنتهم وأن نتعاطف مع مدينته كما نتعاطف مع المدن المقهورة الصادمة، وأن نحبه ورفاقه كما يحب الرجال الرجال فإن الأمر ليس أمر بلاغة، ولكنه أمر صدق، ومن الذي لا يتعاطف مع هذه الأسرة الكاملة التي رسمها محمود درويش في اقتدار في القصيدة
«القتيل رقم 48»:

وجدوا في صدره قنديل ورد
وفخر
وهو ملقي ميتا فوق حجر
وجدوا علبة كبريت
وتصريح سفر
وعلي ساعده الغض نقوش

*

قبلته أمه
وبكت عاما عليه
بعد عام
نبت العوسج في عينيه
فاشتد الظلام

*

عندما شب اخوه
ومضي يبحث عن شغل بأسواق
المدينة
حبسوه

*

لم يكن يحمل تصريح سفر
إنه يحمل في الشارع
صندوق عفونة
وصناديق آخري

*

آه أطفال بلادي
هكذا مات الفخر!

*

هذه صورة لأسرة عربية، صريعة للفقر والاضطهاد وتصاريح السفر من مدينة إلي مدينة، يموت شبابها موتا مجانيا كل يوم. وتضمحل ذكراهم كما يضمحل القمر، يواريه التراب فينبت الشوك في عيونهم المذعورة. ليست هنا كلمة صارخة أو عالية النبرة لكن قدرة هذه الصورة علي بعث الأوجاع النائمة لا تقاوم، فإذا استمعنا إلي قتيل آخر يتكلم في القصيدة «القتيل رقم 18» وجدنا صورةأخري للمأساة.. إنه يتحدث إلي حبيبته فيقول:

لك مني كل شيء
لك ظل لك ضوء
خاتم العرس، وما شئت.
وحاكورة زيتون وتين
وسأتيك كما في كل ليلة
أدخل الشباك، في الحلم
وارمي لك فلة
لا تلمني إن تأخرت قليلا
إنهم قد أوقفوني
غابة الزيتون كانت دائما خضراء
كانت يا حبيبي
إن خمسين ضحية
جعلتها في الغروب
بركة حمراء.. خمسين ضحية
يا حبيبي
لا تلمني
قتلوني
... قتلوني
... قتلوني

*

إن هذه القصيدة صوت عامل عربي طيب، محب يتمني لو بني مع محبوبته بيتا وأسرة، يعود في سيارة العمال مع خمسين من رفاقه بعد يوم من العمل الشاق، وهو يحلم بالراحة والدفء، ولكن الطغاة يديرون السيارة إلي الشرق، وهم هادئون، ثم يقتلون العمال، ويلوثون خضرة البركة الزاهرة بدمائهم. إن هذا القتيل مجرد رقم.. الطغيان جعل منه رقما في حياته ورقما في مصرعه، ورغم ذلك فمازالت الحياة تتنفس، ومازال يحلم بأن يعود ليلقي بفلة من شباك حبيبته. إن الحياة أقوي من الموت والطغيان وهذا هو النغم الذي يتماوج في قرار شعر محمود درويش كله.
شعراء الأرض المحتلة.. تحية لكم فقد فتحتم طريقا جديدا للكلمة العربي

***************

والشاعر البحريني
قاسم حداد في شهادة:

درويش.. ريشة في مهب أحلامنا

ربما نكون قد اكتشفنا فلسطين (مثل منجم أحلام لتأثيث مشروعنا الإنساني) من خلال شعره، أكثر مما عرفناها من خلال أدبيات السياسة والعمل النضالي. هذه هي اللحظة الحاسمة التي وضعت محمود درويش في مهب أرواحنا. نحن الجيل الذي ولد مع ولادة فلسطين لكي تشكل مكوناً أساسياً من جغرافية الروح العربية. هذا الجيل الذي (في معظمه) لم يكن قادراً علي معرفة التخوم الواضحة بين تجربته السياسية وعمله الإبداعي. وفيما كنت في الاحتدام نفسه الذي تفرضه علينا طبيعة التجربة ذاتها التي يصدر منها محمود درويش (بالمعني الانهماك في العمل السياسي المباشر)، علمتنا التجربة أن ثمة دورا يتوجب علي الشاعر ألا يتنازل عنه، وهو دور السؤال الإبداعي. وكنت أرقب محمود درويش عن كثب لكي أري إلي أي حد يستطيع أن يساعدني (من حيث لا يقصد علي مجابهة شهوة النضال في امتلاك الشاعر ومصادرته أحيانا. أظن أن واحدة من أهم إسهامات شعر محمود درويش تتمثل في اقتحامه المشهد الأدبي بالنص الشعري المتصل بفلسطين بوصفها الحلم العربي بامتياز. وكان هذا يتقاطع (عمقيا) مع مجمل التجارب الفردية للعديد من الشعراء العرب من جيله. وظل محمود درويش، عبر مراحل حياته، يجسد الصراع غير المعلن بين السياسي والثقافي الذي لم يكن وقتها مقبولا الكلام عن مجرد التمييز بينهما. وحين كان درويش المرشح العلني لأن يكون ضحية السياسة إنسانياً، ويوشك دائماً أن يكون ضحيتها شعرياً، سوف يقدر، بموهبة الميزان، أن ينقذ النص أولاً من براثن السياسي، كذريعة (لا رادّ لها) ليلحق به الشخص مستغرقاً بحريات الشاعر التي لا تضاهي. كنتُ سميتُ محمود درويش ذات مناسبة (ميزان الذهب)، عندما شعرت به يتقدم برشاقة (غزالة المقاومة) -وهذا التعبير لمحمود- مجتازاً الأشراك المنصوبة لخطواته. ودائما كان درويش يخرج من الامتحان منتصراً (كشاعر) علي السياسي. في سياق التجارب الشعرية العربية المعاصرة، تقدم تجربة درويش نموذجاً صادقاً لإخلاص الشاعر وقدرته علي الانتصار دائماً علي ملابسات الواقع السياسي الذي يتورط فيه معرضاً لضغوطات مركبة ليست علي صعيد علاقته الموضوعية بالمؤسسة الفلسطينية الرسمية فحسب، ولكن خصوصاً (وهو الأخطر) علي صعيد القراء (وفي حالة درويش يمكن وصفهم بالجماهير) الذين أدمنوا تعاطي محمود درويش بوصفه الصوت (السياسي) للثورة الفلسطينية وليس باعتباره الجوهر (الشعري) للحلم الإنساني. حتي لكأن ثمة نوعا من التماهي السلبي أحياناً يبالغ في تغييب حرية المخيلة عند الشاعر في سبيل خضوعه للشرط السياسي اليومي والطارئ. وعندما كان درويش يبدو متقمصاً هذا الدور فانه كان صادقاً في تلك اللحظة، غير أن يقظته المتحفزة سرعان ما تستعيده لكي يخرج من وطأة تلك الضغوطات ويخرج عليها، حتي إن تطلب ذلك شيئاً من الاحتدام الحميم مع جمهور القاعة (كما حدث غير مرة) مرسلاً إشارة واضحة بأن ثمة حرية الشاعر التي يتوجب علي القارئ أن يعبأ بها ويكترث، لئلا نقول بأن علي القارئ أن يدرك حقاً بأن الشاعر ليس موظفاً في مؤسسة القارئ. من هذه الشرفة، ستبدو تجربة درويش منسجمة مع ذاتها، وتتأكد قدرته علي اجتياز المراحل متشبثاً بذاته الإنسانية وشخصيته التي تميزه عن شخصية المؤسسة السياسية الرسمية. والذين يتابعون التحولات الجمالية التي تحدث في قصيدة درويش في السنوات الأخيرة، سيدركون أن هذا الشاعر يتقن تصعيد حالته الإنسانية بصورة تتيح له حقاً وضع تجربته الذاتية في سياق أكثر رحابة من حدود الخطاب الصارخ، صادراً من جذوته الأولي المتصلة بالحب. الحب الذي ظل متوارياً يتفلت في نصوص متفرقة في مجمل أعماله السابقة. فمحمود (لمن يتذكره جيداً) بدأ في نصوصه المبكرة يعبر عن درجة صريحة من شفافية العاشق، حتي إنه قدم نفسه لنا مبكراً بوصفه (عاشقا من فلسطين)، سرعان ما غيب انهماكه المباشر في المسئولية السياسية ذلك الشغف والنزق العاطفيين اللذين يمكن أن يدفعاه للتصريح بحب فتاة في معسكر العدو في صيغة متماهية من هجاء السلاح، وهذه إشارة مبكرة للنزوع الفطري عند الشاعر، إشارة لم يتوقف عندها أحد كما أعتقد. حيث الشاعر أساساً هو رسالة حب عميقة إلي العالم، وليس آلة قتل كما يحاول الكثيرون أن يختصروا الشاعر في حدود الدور الذي يمكن أن يقوم به الآلاف من المقاتلين في ميدانهم. وإذا كنا قد أدركنا ذلك متأخرين فإننا غير نادمين علي شيء قدر حسرتنا علي فشلنا في إقناع القارئ بالنص وليس رشوة القارئ به، ولعل التجربة الشعرية الكثيفة التي اختبرها محمود درويش منحته كل هذا الغني والتنوع الذي جعله قادراً علي تكوين لغته الخاصة المتميزة في الكتابة العربية (شعراً ونثرا)، وسلحته أيضاً بشجاعة القادر علي مقاومة سلطة القارئ، والتصرف بحرية عندما يتعلق الأمر بالشعر. فبعد (لماذا تركت الحصان وحيداً) صار علي القارئ أن يتهيأ لمحمود درويش الآخر، المكبوت والأكثر جمالاً، محمود شاعر الحب المؤجل طوال الوقت. وإذا كان الشاعر العربي عموماً قد ظل يعاني الحرمان من البوح بالمشاعر الإنسانية الحرة كالحب والعشق (بسبب الأوهام الأيديولوجية)، فإن الأمر في حالة درويش يتفاقم للدرجة التي تجعل تحوله إلي تجربة (سرير الغريبة) تعبيراً مهماً عن الإخلاص الطبيعي لجذوة الشعر في الشخص الإنساني. وإذا كان البعض لا يزالون يتشبثون بشاعر القضية (كخطاب سياسي)، فانهم يحرمون أنفسهم (بدورهم) من اكتشاف الجمالات اللامتناهية التي يصعد إليها الشاعر دون أن يتخلي عن حلمه الإنساني، ودون أن يفرط (هذه المرة) في ذاته بوصفها جوهرة المراصد التي تري إلي الأفق الرحب ولا تقف في حدود الأفق الحديدي الذي تقترحه المشاريع السياسية. في (سرير الغريبة) وما تلاه من أعمال يعلن درويش ثورته الجميلة هذه المرة. ويتوج تجربته الشعرية التي تأسست بما لا يقاس من المعاناة (علي كل صعيد) بالكتابة التي تمنح الإنسان حريته الأجمل. وعطفاً علي ما أشرت إليه في البداية، فإن علاقتي بتجربة محمود درويش، بوصفه ريشة في مهب أرواحنا، تدفعني إلي الشعور بأنه جعل هذه الريشة أكثر زهواً ورأفة بحبنا العميق له، كشخص (شهقنا له بالقلب عندما تعرض لمحنة المرض)، وكشاعر اقترحَ علي القصيدة العربية نكهته الخاصة الزاخرة بالمكتشفات. لقد تحققت تجربة درويش في المشهد الشعري بصورة لا تتعرض للالتباس. لأنها واحدة من التجارب الشعرية العربية التي لا يستطيع أحد تقليدها دون فضيحة <

***************

شاعر المنفي

ترجمة : سلمي الورداني

"غائب أنا جئت الي وطن الغائبين"، هكذا كتب الشاعر الفلسطيني الرائد محمود درويش .
لم يستطع أي شاعر آخر أن يأسر الوعي الفلسطيني، والذاكرة الجمعية كما فعل هو. كان عندما يلقي أشعاره بأمسياته في باريس كان أو في فلسطين، يجذب الآلاف، بدءا من المسئولين الحكوميين إلي المدرسين الي سائقي التاكسي إلي الطلبة.
عبر درويش في مناسبات كثيرة عن اعتقاده بأن الشعر هو الوحيد الذي يستطيع خلق الانسجام في هذا العالم الذي دمرته الحروب. فكتب من قبل : " يمكن للشعر الوقوف ضد أقسي أنواع الوحشية، فقط إذا أكد قيمة الضعف الإنساني " .
سألته بعدها بعدة سنوات ما إذا كان ما زال يعتقد في ذلك. أجابني: "كنت أعتقد أن الشعر يمكنه أن يغير كل شيء، يمكنه تغيير التاريخ، وأن يخلق الإنسانية، وأن الوهم ضروري لدفع الشعراء ليكونوا أكثر تفاعلا، وأن يؤمنوا بالحلم " . وواصل : "أما الآن فصرت أعتقد أن الشعر يغير الشاعر فقط".
أصدر درويش نحو عشرين كتابا، خمسة منهم عن النثر ، وترجمت كتبه الي أكثر من عشرين لغة، ونال العديد من الجوائز منها جائزة اللوتس 1969، وجائزة لينين للسلام 1983، والوسام الأرفع في فرنسا (الفارس في الفنون والاداب) 1993، و "جائزة مؤسسة لانان للحرية الثقافية" أبريل 2002.
مجموعته (حالة حصار) تتحدث عن حبسه داخل منفاه الداخلي، وشعوره بالفقد، و اقتلاعه من جذوره، وتأملاته في الماضي التاريخي والجمعي والشخصي. وتعكس الكثير من قصائده حالة فقد مزرية للوطن، والإحباطات المتكررة تحت الحصار والاحتلال، في قصيدته (تضيق بنا الأرض)
أما بقية القصائد فتلمح إلي الأساطير، ويسترعي فيها التوازن بين تجربة المواطن الأمريكي وتجربة الفلسطيني، ويتحدث عن أمه، ثم يخاطب حبيبته اليهودية، و في (ريتا والبندقية).
وفلسطين بالنسبة لدرويش هي رمز للمنفي، للظرف الإنساني، لحزن وإحباط التفكك والفقد. ففي مجموعته "أحد عشر كوكبا".
ولد محمود درويش في عام 1941 في قرية البروة الجليل (قضاء عكا) التي دمرت عام 1948، وكان إنشاء دولة اسرائيل يعني إزالة فلسطين من علي الخريطة، وتدمير 417 بلدة فلسطينية، وكانت قرية درويش منها. فهاجر مع عائلته الي لبنان، ثم عاد مرة أخري بعد عدة أشهر إلي فلسطين بطريقة غير شرعية، ولكن جاءت عودته متأخرة، إذ أصبح خارج التعداد الإسرائيلي للسكان من العرب الفلسطينيين الذين بقوا بالوطن. لذلك أصبح وجوده بفلسطين غير مسجل. وصار الحاضر الغائب. وعندما هجر وطنه في عام 1970، ترك غيابه بصمة أكثر تأثيراً في وعي الفلسطينيين , وأصبحت أشعاره أكثر شعبية وجماهيرية، خاصة قصيدته (بطاقة هوية)، التي كتبها عام 1964، ومنها:
سجل /أنا عربي
ومبكرا اكتشف درويش أنه يستطيع أن يكتب، وأن كلماته يمكن أن تكون سلاحه. وأخبرني درويش أن حلم طفولته كان أن يصبح شاعرا، وأضاف أنه كتب قصيدته الأولي عندما كان في الثانية عشر من عمره، وقال عنها : "لم تكن قصيدتي الأولي قصيدة حب....وإنما وصفت فيها رحلتي من فلسطين الي لبنان"
ونشر درويش مجموعته الشعرية الاولي عندما كان في الثامنة عشرة، بعضها قصائد حب والآخر سياسي .
" كنت مولعا بالمتنبي، وتأثرت بأشعار المهجر، والشعراء العرب المحدثين مثل قباني والسياب ". وعندما سألته اذا كان قد تأثر بأي من شعراء الغرب أجابني : "جارسيا لورسا، بابلو نيرودا، وياتس، وديريك والكوت، وكذلك شعراء بولندا مثل سيبورسكا"، (حيث منحته إسرائيل إذنا للعودة من أجل حضور جنازة صديقه الكاتب اميل حبيبي، ومنحته إقامة غير محددة المدة في مناطق الحكم الذاتي بالضفة الغربية، أخبرني درويش أنه شعر وقتها "بأنه طفل صغير". حيث فوجئ بالآلاف في انتظاره، يرحبون به، ويعبرون عن حبهم له، ويطلبون منه البقاء معهم. هنا تأثر بشدة وبكي، وقال إنه لن يتركهم أبدا. لكنه أذن الإقامة في وطنه لم يستمر لأكثر من بضعة أيام .... وتركهم . ومازال درويش يتوق للعودة إلي وطنه رغم أنه يدرك - كما قال لي- " إن المنفي يكون أشد قسوة في وطني".
وعندما كان في اسرائيل، تعرض لمضايقات كثيرة من قبل الحكومة، وتعرض للحبس أكثر مرة، ووضع تحت الإقامة الجبرية ببيته، معاقبة له علي قيامه بإلقاء الشعر ببلدته. وفي عام 1988 ناقش الكنيسيت قصيدته "عابرون في كلام عابر".
حيث ادعي الإسرائيليون وقتها أنه يطلب من اليهود أن يتركوا إسرائيل. هنا أكد درويش أنه كان يقصد أن عليهم أن يتركوا الضفة الغربية وقطاع غزة.
وأصر درويش علي أن الإرهاب لا يمكن أن يكون وسيلة للعدالة. " لا شيء، لا شئ يمكنه أن يكون مبررا للإرهاب" هكذا كتب محمود درويش وهو يهاجم أحداث الحادي عشر من سبتمبر في صحيفة اليوم الفلسطينية اليومية. وعندما سألته عن رأيه في العمليات الانتحارية قال: "لا يمكن تبرير الهجمات الانتحارية.... ويجب علينا أن نفهم ما يدفع هؤلاء الشباب إلي هذه الأعمال . كل ما في الأمر أنهم يريدون تحرير أنفسهم من حياتهم المظلمة. أنه ليس أمرا عقائديا، إنه اليأس!"
وعندما سألته كيف يري مستقبله، قال: "كيف يمكن للإسرائيليين أن يعيدوا إلينا بيوتنا، بينما هم يعيشون في حديقتنا، في حجرة معيشتنا"، قالها بينما ارتفع صوته متأثرا. وسألته عن امكانية قيام دولة فلسطينية، فأجاب: "هناك بالفعل دولة فلسطينية" وأضاف: " يشعر الفلسطينيون بأنهم الآن في الساعات الحاسمة التي تسبق الفجر. وإرادتهم الوطنية أقوي بكثير من التحدي الذي يواجهونه. وليس لديهم خيار آخر غير أن يستمروا في أن يأملوا إنهم في يوم ما سيحظون بحياة طبيعية".
كان يبدو دائما مفرطا في تفائله، ولكنني عندما تحدثت إليه بعد أيام قليلة من إرسال إسرائيل القوات إلي رام الله، وكان وقتها بعمان، بدا صوته ضعيفا، ومبحوحا، وهو يقول لي:" ما حدث هو قمة الوحشية وقمة السخرية" .
لكنه ترك لدي انطباع بإنه لا يزال يشعر بأن هناك ما يمكن أن نذهب إليه، بعد الحدود الأخيرة، بعد السماء الأخيرة.
كاتبة المقال ناتالي حنظل شاعرة وكاتبة أمريكية من أصل فلسطيني، تعيش يالولايات المتحدة ولندن
المقال نشر في مجلة البروجريسيف اليسارية في عدد مايو2004

***************

مرسيل خليفة:
شريكي في التقاسيم

لسنين طويلة ارتبطت موسيقاي بشعر محمود درويش، فتآلفت أعمالنا في ذاكرة الناس، حتي صار اسم أحدنا يستذكر آلياً اسم الآخر، ولا عجب في ذلك، فكل محطات مساري الموسقي، ولثلاثين عاماً، مليئة بالإشارات إلي أعمال درويش بدءاً «بوعود من العاصفة»، ووصولاً إلي «يطير الحمام» فمنذ أولي محاولاتي، وقبل أن يتعرف أحدنا إلي الآخر، كنت أحسن بأن شعر درويش، قد أنزل علي ولي، فطعم خبز أمه كطعم خبز أمي، كذلك عينا «ريتاه» ووجع يوسفه من طعنة إخوته، وجواز سفره الذي يحمل صورتي أنا، وزيتون كرمله، رمله وعصافيره، سلاسله وجلادوه، محطاته، وقطاراته، رعاة بقره وهنوده.. كلها كلها سكناها في أعماقي، فلا عجب إن آلفت موسيقاي أبياته بشكل طبيعي، دونما عناء أو تكلف، يقيني أن شعره كتب لأغنيه، لأعزفه، أصرخه، أصليه، أذرفه.. أحيكه ببساطة علي أوتار عودي، وإذا ما أشركت كل آلات الأوركسترا مع كلماته وصوتي، طلع ذلك الإنشاد الذي يهز ويؤاسي، يحث ويقاوم..
في أسطوانتي الأخيرة «تقاسيم» والتي أردتها بالذات تكريماً، وعربون وفاء من مرسيل خليفة، إلي محمود درويش، فإن أكثر من شخص سيستمع محتاراً متسائلاً إذ لا مكان في أوراقي الموسيقية، لا لصوت خليفة، ولا لشعر درويش، وبالرغم من ذلك، لم يكن يوماً شعره وصوتي أكثر حضوراً مما هما عليه في هذا العمل.
وكما الولدان اللذان مازالا في داخلنا، سيركض الغناء والشعر علي الدروب الخمسة المسطرة في ورقة الموسيقي، وسيفاجئهما المستمع، إذا ما أراد التواطؤ مع عبثهما، ليس في مخبأ النوطة، أو في أرجوحة الكلمة كما عوداه، بل هذا وراء قناع الصمت المربع، وذلك مقلداً العشب والريح، الضحكة والأنة علي حافة نفس أو خلف لحظة قابعة، في سطور قلما ترتادها أقواس الكمنجات وهمس الإيقاعات، أفرحة في الأمر أم مزاجية عبثية؟ لا هذه ولا تلك! بل شيء كزهرة هوة أتطاول إليها بيدي منذ زمن ولا أتجاسر.
وفي هذا العمل أنا مستعد وسأجرؤ، والآن هذه التقاسيم مهداة إلي من تجرأ قبلي، إلي محمود، صديقي وأخي سأوكل للمساحة العريضة، في قرارات العود، والكونترباص تلك المساحات الخفية الهائلة التي لا تلويها الأذن أحياناً مهمة قول التناغم العميق ما بين الشاعر والموسيقي.. نابضة، دافئة تلك الأصول الإيقاعية .. جهورية، سحيقة أوتار عملاقة الكمنجات.. متينة، واضحة أوتار العود رغم انفلاتات عديدة صوب ذري النوي والماهور تقول ألماً يلجمه النبل والخفر عن الصراخ والأنين.
أما النبرات فهي تآلف أصداء أفقي لمجمل أصوات درويش كما سمعتها مراراً تنشد في كل مزارات العالم، في تقاسيم، لن تكون موسيقاي «تصويراً» لشيء ولن تعبر «استناداً» إلي شيء لن تحاول الموافقة بين نظامي تعبير، إنما ستكون، كما في النظام الرقمي مجموعة أصوات «تعادل» ما خلق في شعر درويش.
سأحاول بالموسيقي استعادة ترددات شعره الجمالية والعاطفية والروحانية، والفكرية بواسطة موجات نغمية تقول، بالموسيقي الصرفة، ما لم يستطع صوتي قوله في كل ما غني لدرويش.
سأرمز شعره في نظام أصوات ونبرات وإيقاعات، وسأوكل إلي إحساس المستمع مهمة تحويل الرمز.
عسي التحويل علي مستوي الإحساس يكون دقيقاً، مطابقاً، وفياً لنظام الترميز

***************

جمهور الـ«فيس بوك» مع شاعره حتي النهاية

كتبت :علا الساكت

"الشعراء فراشات، يموتون في الصيف" هي إحدي العبارات التي استخدمها محبو درويش لوداعه، ضمن مئات الكلمات التي ما إن انتشر خبر وفاة الشاعر محمود درويش حتي انهالت التعليقات والعبارات التي تعبر عن أسف أصحابها لفقدان درويش.
فما أن أشيع نبأ الوفاة حتي ازدحمت صفحات المجموعات الأدبية بموقع الـ«فيس بوك»، ترثيه شعرا ودعاءاوأبرزها المجموعات التي خصصت للشاعر الراحل، ويصل عددها إلي حوالي 25 مجموعة، تولي محرروها أمر التعريف به وبنشأته وأهم قصائده، وتبادل فيها محبو درويش أخباره وقصائده وصوره وتسجيلات له وهو يلقي أشعاره.
وسارت هذه المجموعات إلي جوار درويش لحظة بلحظة خلال رحلة المرض بالدعاء، والأمنيات إلي أن انتشر خبر وفاته، فأرسلوا له كلمات الوداع الحارة.
ولم تكن قصائده التي تداولها محبو درويش في أي مجموعة من المجموعات محلا للنقاش، فقد استمتعوا بتبادل أروع قصائده والتعبير عن حبهم لدرويش، ويقول أحد محبي درويش "لم اقابله وجها لوجه، وإنما شعرت دائما أنه يمثلني، وعندما ينطق بكلمة أو يدونها فهي بالنسبة لي تلك الكلمة التي أردت أن أقولها وما استطعت".
وقبل أن يدخل درويش إلي معاناة المرض مجددا كانت هذه المجموعات تتبادل أخبار أمسياته الشعرية ورحلاته وكتبه بنهم، وتسرد أحداثها لمن لم يتسن لهم حضورها، خاصة وأن محبي درويش ينتظرون أخباره في جميع أنحاء الوطن العربي والعالم، وتنشر المجموعات القصائد التي قرأها درويش خلال هذه الأمسيات، ولعل أبرز ما احتفت به هذه المجموعات كان آخر كتب محمود درويش "أثر الفراشة".
فخلال رحلته مع المرض انطلق بعضها يدعو له بالشفاء ودعته " انهض يا محمود من سباتك المؤقت ففي هذه الدنيا ما يستحق الحياة .. والحياة بك أحلي".
ورغم الجدل الذي دار حول أشعاره في الفترة الأخيرة، واتهام البعض لدرويش بالتخلي عن القضية، ذلك أنه اتجه لنوع جديد من الكتابة في أشعاره وتناول القضايا الإنسانية، فإن هذه المجموعات لم تحفل بكل ما أثير من غبار حوله، ودعت لمنحه أعلي الأوسمة، فرفعت إحدي المجموعات شعار "محمود درويش : الأسطورة التي لم ترو بعد" وبررت المجموعة شعارها بـ "في هذا الزمن القاسي، شاعر مثل محمود درويش لا يأخذ حقه كما يجب، ولو كان في غير جنسية وغير أمة، لكان كالشمس، يجب أن نراها كل يوم، وإن غابت سألنا عنها"
وقد استخدمت بعض هذه المجموعات أشعاره السياسية مدخلا للنقاش حول الأوضاع الفلسطينية، فيروي أحد محبي درويش: "في العام 2006 قال رئيس وزراء الاحتلال آرييل شارون " أنا أشعر بالغيرة والحسد حين أقرأ أشعار محمود درويش وأري كم يتمسك بأرضه وثقافته"

***************

أحمد الشّهاوي:

فلنقرأ قلبك الباقي

مِت غريبًا في سريرٍ لَيسَ لَكَ.
فمن إذن سينامَ في «سرير الغريبةُ» غيرك
أَنْتَ الغريبُ في بلادٍ غريبةٍ، ذهبت إليها بوساطةٍ، كي تستقبلك «مريضًا» لا شاعرًا.
كان يمكن أن تَظَلَّ في باريس صحبة صديقنا المشترك صبحي حديدي، كاتم أسرارك، وناقدك، والأقربُ إليك روحًا وفكرًا.
ربَّما كُنْت ستبقي ولو لأيام أو أسابيع تُرتِّب فيها أعمالك التي حدثتني عنها ذات يومٍ في الإسكندرية، هذه الأعمال الشعرية المنجزة التي لم تنشرها في حياتك، أذكر أنك قلت لي إنها ثلاثة أعمال، أردتَ أن تشذ بها وتهذبها وتحذف منها وتصفّيها من «الأثقال» والشَّوائب.
أين هي الآن، أهي في عمَّان أم رام الله. أيمتلك صبحي حديدي نسخةً منها أم أنَّك كُنْتَ حريصًا كعادتك ألاَّ تُطْلع أحدًا عليها.
الآن زادت خساراتي في الحياة. كُنْتُ كلَّما تأزمت روحي عُدْتُ إليكَ.
لن تستطيع «البروة» أن تأوي جَسَدَك لأنها كما تعلم زالت من علي خريطة فلسطينك لكنَّك ستكون في مكانٍ قريبٍ منها.
أمك «92 سنة» تنتظرك، وأخوك أحمد، والأقرباء والأصدقاء، وحتي الأعداء من الأهل الذين حسدوك غيرةً من شعرك، وكدَّروا حياتك في السنوات الأخيرة. كُنْتَ تضمرُ غيظك وحزنك وانفعالك وتصمت. لكنْ عندما فاض كيل الحسد أو قل السباب بدأت تعلن دون أن تُسمِّي أحدهم، كُنتَ أحيانا تشير أو ترمز حتَّي لا تكشفهم وهم يواصلون دون خجل. ماذا سيقولون اليوم، سأقول لك يومًا ماذا سيقولون ويكتبون.
لست حِصَانًا وحيدًا متروكًا في الصحراء العربية، لكنَّكَ حاملُ السُّؤال «لماذا؟» وغيره من الأسئلة، التي ستكبر كنجمة تحمل اسمك ليبقي في سماء الشعر إلي جوار جدك الذي أحببت المتنبي.
إذْ سيبقي شعرك عابرًا للأمكنة والأزمنة باقيا، وشاهدًا علي روحك، ومهارتك كصائغٍ عظيم لكونك الشعري.
سنملأ «فراغك» بشعرك، فقد تركت ما يشغلنا، نستعيده، ونعيد تأويله، لأنه منذ «تلك صورتها وهذا انتحارُ العاشق» حَمَّال أوجه.
تركت في كُلّ منفي ذكري، تركتَ قصيدةً. أعرفَ أنَّك أنجزت ديوانًا عن مدنك - منافيك، أين هو، أريده لنا جميعًا، لنعثر عليه قبل أن يضيعَ في الزحام.
أعرف أن الموتَ لم يكن ليخيفكَ، لكنك كنتَ تريد «قليلاً» من الوقت لترتب بيتك الشعري. لكنه لا يستأذن يا صديقي، يباغتُ ويصرعُ.
الآن ستذهب إلي من جلست جالستهم يومًا في باريس: المتنبي، رينيه شار، المعرّي.
محمود، أنْتَ غيرت إيقاعك، فاستحققت أن نقرأ قلبك الباقي ونحمله كطوق حمامةٍ

***************

عزمي عبد الوهاب:

جمعنا في لحظات نادرة من أعمارنا

كانت قصائده أيام الجامعة والنضال المزعوم هي الطريق الاول لكي تكون مناضلا، وكنا نحفظ أشعاره وتجمعنا في لحظات نادرة من أعمارنا، ننشد (سجل أنا عربي) ونتباري في ترديدها وأدمتنا صرخته (كم كنت وحدك يا ابن أمي)، كان يمثل حالة قبل أن يكون شاعرا لذا أوجعنا رحيله، هذا هو الموت يختطف أجملنا ويقدم لنا إنذارا، بات جسدا تاركا سنواتنا الاولي دون أن تتعهدها يداه بالرعاية، صرنا أكثر انسانية عندما قرأناه في صبانا المبكر وعندما كنا نلهث وراء أشرطة الكاسيت التي سجلها أصدقاء لنا في أمسية بحزب التجمع أو نقابة الصحفيين أو معرض الكتاب، وعندما كنا نبحث عن مكان آمن كنا نلجأ إلي صوته، وعندما كنا نبحث عن إنسانيتنا المهدرة في القاهرة كنا نقرأ (سرحان بشارة لا يقرأ القهوة في الكافيتريا)، كنا نلهث وراء محطاته التي يتركها وكان قطاره سريعاً علي أي حال، كنا نبحث عن صورنا في شعره من (سجل أنا عربي) حتي (تلك صورتها وهذا انتحار العاشق)، كنا شهوداً علي صرخته (يا مصر أعطنا الأمان).. مات درويش ولم يمت إلا الشعر الحقيقي، الآن سترثيه الأمة العربية.. وهو الذي انزعج برثائه لأصدقائه حين قال اتركوني سنة واحدة فقط أعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينة والآن المراثي كلها له، فهل يجد قبرا لجسده النحيل في قرية البروة التي غادرها مكرها ولم يعد إليها حتي وفاته؟

***************

فاطمة ناعوت:

مضي قبل أن يطلعَنا علي أسرار الأرض

حتي وإن طلبَ إلي الجماهير أن تقرأه كشاعر وليس كـ"قضية"، حتي وإن رأي نفسَه أكبر من القضية، وهو حقًّا أكبرُ من القضية، كلُّ شاعرٍ حقيقي هو أكبرُ من كلِّ قضية، ذاك أن الشعرَ يحملُ القضايا في أروقته، والشاعرَ الحقَّ يحملُ في قلبه القضايا، فينصهرُ بها وتنصهرُ به، حتي وإن تنصّلَ درويش في الأخير من شعره السياسي العروبي القديم، وانتصر لشعره الجديد الأكثر كونيةً وحياةً وطفولةً وحبًّا ونجوي، رغم كلِّ هذا، وربما بسبب كل هذا، يظلُّ درويش الشاعرَ الاستثنائي الذي كانت كلماته وقصائده أشرسَ علي الكنيست والكيان الصهيوني وأعتي من طلقات المدفع ورصاص المناضلين. نعم، فللكلمة طاقةٌ. وحتي إن خفتت طاقةُ الكلمة الآن في ظل مجتمعاتنا العربية الهشّة الآخذة بدأبٍ في الانحدار الثقافي والمدّ السلفي التغييبي المظلم، تظلُّ للكلمة طاقةٌ. فماذا عن طاقةِ كلمةٍ تنطلق من مداد فارس عزَّ نظيرُه بحجم محمود درويش؟ مَن يقدر مثله علي حفر بطاقات مواطَنةٍ علي قلب كلّ عربي حين قال: "سجّلْ أنا عربي/ ورقمُ بطاقتي خمسونَ ألفْ/ وأطفالي ثمانيةٌ/ وتاسعهُم/ سيأتي بعدَ صيفْ! /فهلْ تغضبْ؟ /سجِّلْ! /أنا عربي /.../ أنا اسم بلا لقب / صبورٌ في بلادٍ كلُّ ما فيها/ يعيشُ بفورةِ الغضب/ جذوري/ قبلَ ميلادِ الزمانِ رستْ/ وقبلَ تفتّحِ الحقبِ/ وقبلَ السّروِ والزيتونِ/ وقبلَ ترعرعِ العشبِ / أبي/ من أسرةِ المحراثِ/ لا من سادةٍ نجبِ/ وجدّي كانَ فلاحاً/ بلا حسبٍ ولا نسبِ/ يعلّمني شموخَ الشمسِ قبلَ قراءةِ الكتبِ/ ... /سجِّل/ أنا عربي/ سلبتَ كرومَ أجدادي/ وأرضاً كنتُ أفلحُها/ أنا وجميعُ أولادي/../ إذن/ سجِّل/ برأسِ الصفحةِ الأولي/ أنا لا أكرهُ الناسَ/ ولا أسطو علي أحدٍ/ ولكنّي/ إذا ما جعتُ/ آكلُ لحمَ مغتصبي /حذارِ حذارِ من جوعي /ومن غضبي."
نعم قصائده الجديدة انتصرتْ للحياة، لكن الرمزَ لم يخفت بها أبدا. رمزُ الوطنِ والعودةِ والاستلاب. فلسطينُ حاضرةٌ في كلِّ كلمةٍ من قصائده، وإن أنكر هو هذا. لأن فلسطينَ بالنسبة لدرويش ليست موضوعةً شعرية تحضرُ وتغيب. إن هي إلا قطعةٌ من ذاته وخيطٌ من نسيجه. لا قِبل له بالتحرّر منها ولو شاء.
فهل حقًّا مات الذي قال: "ولنا ما ليس فيكم/ وطنٌ ينزفُ شعبًا ينزفُ وطنًا يصلحُ للنسيان أو للذاكرة"؟ كيف للرجلِ أن يلملمَ أوراقَه ويرحلَ هكذا سريعا قبل أن يري العابرين بين الكلمات العابرة يحملون أسماءهم وينصرفون كما أمرهم أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا؟
وهذه الأرضُ قد أطلعته علي أسرارِها. "قالتْ لنا الأرضُ أسرارَها الدمويةَ/ في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقية خمسُ بنات/ وقفن علي باب مدرسة ابتدائية/ واشتعلن مع الورد والزعتر البلدي/ افتتحن نشيدَ التراب/ دخلن العناق النهائي/ آذارُ يأتي إلي الأرض/ من باطنِ الأرض يأتي/ ومن رقصة الفتيات/ البنفسجُ مال قليلاً ليعبرَ صوتُ البنات/ العصافيرُ مدّت مناقيرَها في اتّجاه النشيد وقلبي/ أنا الأرض/ والأرض أنا/ خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل" .
فكيف يموتُ دون أن يطلعنا علي أسرار الأرض؟

***************

محمود درويش يكتب عن القهوة في ذاكرة النسيان

أريد رائحة القهوة.. لا أريد غير رائحة القهوة.. ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة. رائحة القهوة لأتماسك، لأقف علي قدمي، لأتحول من زاحف إلي كائن، لأوقف حصتي من هذا الفجر علي قدميها، لنمضي معا، أنا وهذا النهار، إلي الشارع بحثا عن مكان آخر..
كيف أذيع رائحة القهوة من خلاياي، وقذائف البحر تنقض علي واجهة المطبخ المطل علي البحر لتنشر رائحة البارود ومذاق العدم؟ صرت أقيس المسافة الزمنية بين قذيفتين. ثانية واحدة.. ثانية واحدة أقصر من المسافة بين الزفير والشهيق، أقصر من المسافة بين دفتي قلب.. ثانية واحدة لا تكفي لأن أقف أمام البوتاجاز الملاصق لواجهة الزجاج المطلة علي البحر. ثانية واحدة لا تكفي لأن أفتح زجاجة الماء. ثانية واحدة لا تكفي لأن أصب الماء في الغلاية. ثانية واحدة لا تكفي لإشعال عود الثقاب. ولكن ثانية واحدة تكفي لأن أحترق.
أقفلت مفتاح الراديو. لم أتساءل إن كان جدار الممر الضيق يقيني فعلا مطر الصواريخ. ما يعنيني هو أن ثمة جدار يحجب الهواء المنصهر إلي معدن يصيب اللحم البشري، بشكل مباشر، أو يتشظي أو يخنق. وفي وسع ستارة داكنة - في مثل هذه الحالات - أن توفر غطاء الأمان الوهمي. فالموت هو أن تري الموت.
أريد رائحة القهوة. أريد خمس دقائق. أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة. لم يعد لي من طلب شخصي غير إعداد فنجان القهوة. بهذا الهوس حددت مهمتي وهدفي. توثبت حواسي كلها في نداء واحد واشرأبت عطشي نحو غاية واحدة: القهوة.
والقهوة، لمن أدمنها مثلي، هي مفتاح النهار.
والقهوة، لمن يعرفها مثلي، هي أن تصنعها بيديك، لا أن تأتيك علي طبق، لأن حامل الطبق هو حامل الكلام، والقهوة الأولي يفسدها الكلام الأول، لأنها عذراء الصباح الصامت. الفجر أعني فجري، نقيض الكلام ورائحة القهوة تتشرّب الأصوات، ولو كانت تحية رقيقة مثل «صباح الخير». وتفسد..
لذا، فإن القهوة هي هذا الصمت الصباحي، الباكر، المتأني، والوحيد الذي تقف فيه، وحدك مع ماء تختاره بكسل وعزلة، في سلام مبتكر مع النفس والأشياء، وتسكبه علي مهل، وعلي مهل في إناء نحاسي صغير داكن وسري اللمعان، أصفر مائل إلي البني، ثم تضعه علي نار خفيفة.. آه لو كانت نار الحطب..
ابتعد قليلا عن النار الخفيفة، لتطل علي شارع ينهض للبحث عن خبزه منذ تورط القرد بالنزول عن الشجرة وبالسير علي قدمين، شارع محمول علي عربات الخضار والفواكه، وأصوات الباعة المتميزة بركاكة المدائح، وتحويل السلعة إلي نعت للسعر، واستنشق هواء قادما من برودة الليل، ثم عُدْ إلي النار الخفيفة - آه لو كانت نار الحطب - وراقب بمودة وتؤدة علاقة العنصرين: النار التي تتلون بالأخضر والأزرق، والماء الذي يتجعد ويتنفس حبيبات صغيرة بيضاء تتحول إلي جلد ناعم، ثم تكبر.. تكبر علي مهل لتنتفخ فقاعات تتسع وتتسع بوتيرة أسرع وتنكسر، تنتفخ وتنكسر عطشي، لالتهام ملعقتين من السكر الخشن، الذي ما إن يداخلها حتي تهدأ بعد فحيح شحيح، لتعود بعد هنيهة إلي صراخ الدوائر المشرئبة إلي مادة أخري هي البن الصارخ، ديكا من الرائحة والذكورة الشرقية.
أبعد الإناء عن النار الخفيفة، لتجري حوار اليد الطاهر من رائحة التبغ والحبر مع أولي إبداعاتها، مع إبداع أول سيحدد لك، منذ هذه الهنيهة، مذاق نهارك وقوس حظك. سيحدد لك إن كان عليك أن تعمل، أم تتجنب العلاقة مع أحد طيلة هذا اليوم. فإن ما سينتج عن هذه الحركة الأولي وعن إيقاعها وعما يحركها من عالم النوم الناهض من اليوم السابق. وعما يكشف من غموض نفسك، سيكون هوية يومك الجديد.
لأن القهوة، فنجان القهوة الأول، هي مرآة اليد. واليد التي تصنع القهوة تشيع نوعية النفس التي تحركها. وهكذا، فالقهوة هي القراءة العلنية لكتاب النفس المفتوح.. والساحرة الكاشفة لما يحمله النهار من أسرار

***************

المصور محمد حجازي:

لم يكن يحب الكامير أو يشعر بأنه مراقب


التقيت به في أمسية شعرية أقامتها له مكتبة الإسكندرية عام 2003 ، وخلال هذا اللقاء بين درويش وعروس البحر الإسكندرية اكتشفت أنه شخص رقيق وبسيط، وتصادقنا سريعا، فقال لي إنه ينزعج من الكاميرا، ويشعر أنه مراقب، فاتفقت معه أن أرافقه في جولته بالإسكندرية علي ألا أشعره بالكاميرا طوال الرحلة.
وزرنا متحف وبيت الشاعر اليوناني كفافيس وكان معنا أحمد الشهاوي وسيد محمود وصبحي حديدي ويوسف زيدان، وجلسنا علي البحر نتحدث فاكتشفت فيه شخصا ناعما جميلا ومتأملا ميالا للتفكير بعمق في الأشياء

***************

أيام حزينة

الروائي إبراهيم أصلان:

محمود درويش أكثر سطوعاً من أن يتحدث الواحد عنه ليؤكد قيمته الكبيرة، كأهم شاعر عربي معاصر. إحنا آخر مرة التقينا فيها كانت في فرانكفورت أثناء المشاركة العربية بالمعرض، وقد قضينا أسبوعاً برفقة الأبنودي الذي تربطه به علاقة قوية، وأيضا برفقة حنان الشيخ.
أعرف محمود منذ أتي إلي مصر أول مرة في السبعينيات، وكنت دائم الاتصال به في رام الله، لصعوبة اتصاله بي من هناك، وأنا في حل من ترديد ما كنا نتبادله من كلمات.
أنا كنت عارف إنه غالباً لن يكمل هذه العملية الجراحية، وهو نفسه لم يكن مستبشراً بها خيراً، لأنه عاني من العمليات الجراحية السابقة، ثم فوجئت بأصدقاء مشتركين يتصلون بي من بيروت مساء أول أمس ليخبروني بوفاته، إنه يوم حزين ويبدو أن الأيام الحزينة لن تنتهي قريباً

***************

أزمة أن تعيش الفجيعة

الناقدة والكاتبة عبلة الرويني:

لقد ضاعف من فجيعة خبر موت محمود درويش، تلك الفجيعة التي نعيشها علي المستوي الإنساني والاجتماعي، ففي أيام قليلة ومتقاربة غرق 1034 مصرياً في البحر الأحمر، ورحل عنا عدد من كبار الكتاب والفنانين: الدكتور عبدالوهاب المسيري، الدكتور رءوف عباس، وسعد أردش، يوسف شاهين.
كيف نحتمل الفجيعة، فهو ليس شاعراً فقط، ليس رمز القضية فقط، وليس قيمة جمالية وتجريبية شعرية فقط، ولم يكن بالنسبة لي مجرد مصدر صحفي تعاملت معه وكتبت عنه، إنه مرجعية ثقافية وإنسانية.
آخر لقاء بيننا كان في سوريا، وأول لقاء حينما أتي إلي مصر، كنت وقتها مازلت طالبة بالجامعة، ولم تكن لي بعد علاقة بالحياة الثقافية، لكن كان لي علاقة به، كنت أقرأ شعره، وعندما جاء إلي مصر حرصت علي أن التقيه في مكتبه بجريدة «الأهرام».
بعد ذلك اشتغلت في الصحافة الثقافية، وكان درويش واحداً من المصادر التي اعتنيت بها لاسيما أنه كان دائماً في حالة إنتاج وإضافة جمالية، فقد تعددت اللقاءات بيننا، إلي أن أصبحنا أصدقاء، خاصة أن دوائر علاقاته وأصدقائه متداخلة مع دوائر أصدقائي وعلاقاتي <

***************

اسودت القري

«بموت محمود درويش، انتهي جيل الشعراء المحترمين، المحترمين، بالمعني الكلاسيكي.
بموت محمود درويش، تكفنت القضية الفلسطينية، تكفن الشارع العربي المناضل ضد الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، بموت محمود درويش أغلقت حدائق العشاق في الوطن العربي، وارتدت كل جميلاته الحداد، بموت محمود درويش أغلقت كل المطارات، واسودت القري الفقيرة.
هو مرآة لتطور القصيدة العربية من أفقها الوطني المناضل إلي أفقها الإنساني المتفردة

***************

نقطة الذروة

الشاعر البهاء الحسين

«أعتقد أنه بانطواء صفحة محمود درويش حياتيا، انطوت صفحة مهمة في كتاب الشعر العربي
محمود درويش وقصيدته كانا نقلة مهمة في هذا الشعر، لقد وصل درويش بقصيدة التفعيلة إلي ذروة غير مسبوقة والذين حسبوا نجاح قصيدته وحملوه علي القضية الفلسطينية لم يكونوا منصفين. محمود موهبة ضخمة لن تتكرر بسهولة ، وعزائي أنه مات في عز مجده، ظل حتي آخر لحظة قلقاً ومتجدداً شأن الشعراء الكبار في كل العصور»

***************

وداعا محمود درويش

11/08/2008

لماذا تركت الحصشان وحيدا
إلي أين تأخذني يا أبي؟
إلي جهة الريح يا ولدي …
… وهما يخرجان من السهل ، حيث
أقام جنود بونابرت تلاً لرصد
الظلال علي سور عكا القديم -
يقول أبٌ لابنه: لا تخف. لا تخفْ من أزيز الرصاص ! التصقْ
بالتراب لتنجو! سننجو ونعلو علي
جبل في الشمال ، ونرجع حينَ
يعود الجنود إلي أهلهم في البعيدِ
- ومن يسكن البيت من بعدنا
يا أبي ؟
- سيبقي علي حاله مثلما كان
يا ولدي !
تحسس مفتاحه مثلما يتحسس
أعضاءه ، واطمئن. وقال لهُ
وهما يعبران سياجاً من الشوك :
يا ابني تذكّرْ! هنا صلب الإنجليزُ
أباك علي شوك صبارة ليلتين،
ولم يعترف أبداً. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يرثون بنادقهم
سيرة الدم فوق الحديدِ …
- لماذا تركت الحصان وحيداً؟
- لكي يؤنس البيت ، يا ولدي ،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها …
تفتح الأبدية أبوابها من بعيدٍ ،
لسيارة الليل. تعوي ذئاب البراري علي قمر خائف. ويقول
أب لابنه: كن قوياً كجدّك!
واصعد معي تلة السنديان الأخيرة
يا ابني، تذكّر: هنا وقع الانكشاري
عن بغلة الحرب ، فاصمد معي
لنعودَ
- متي يا أبي ؟
- غداً. ربما بعد يومين يا ابني!
وكان غدٌ طائشٌ يمضغ الريح
خلفهما في ليالي الشتاء الطويلة
وكان جنود يهوشع بن نون يبنون
قلعتهم من حجارة بيتهما. وهما
يلهثان علي درب (قانا): هنا
مر سيدنا ذات يوم. هنا
جعل الماء خمراً. وقال كلاماً
كثيراً عن الحب، يا ابني تذكّر
غداً. وتذكر قلاعاً صليبية
قضمتها حشائش نيسان بعد
رحيل الجنود …

***************

قال لي «لن أدعهم يعبثون بجسدي»

عبد الرحمن الأبنودى

محمود درويش هو أهم شاعر عربي معاصر، وهو الشاعر الذي حمل على كتفيه حملا وطنيا وقوميا ثقيلا، ولم يتراجع عنه لحظة، إذ رفض كل عروض السلطة والمناصب التي حاولت استدراجه ليتبوأ موقعا في السلطة الفلسطينية لأنه يعرف أن قيمة الشاعر أعلي بكثير من قيمة السياسي.
بدأت علاقتنا قبل أن يخرج درويش من فلسطين إلي مصر، وليس سوى مصر، فمصر عبد الناصر في الستينيات- كانت بستان وطنية، ذلك أنه حين سافر إلي الاتحاد السوفيتي، سأل درويش مراسل الأهرام هناك وقتها أ/عبد الملك خليل إذا كان يعرف عبد الرحمن الأبنودي، فرد درويش: "إذا نزلت إلي مصر، أحب أن أنزل إلي بيت الأبنودي قبل أن أزور أيا من المثقفين المصريين".
وبالفعل حين جاء إلي مصر كانت أول رحلة له بصحبة الكاتبة صافي ناز كاظم وأنا ، ومنذها لم يكف درويش عن زيارتي في منزلي وكان يعتبره مكانا يملكه، كثيرا ما كان يدعو أصدقاءه إلي هذا البيت.
وعلاقته ببناتي آية ونور ونهال كمال علاقة حميمة جدا، وحين مرضت وسافرت إلي باريس، كان دائم الاتصال بي .
وقبل أن يسافر هو في رحتله الأخيرة إلي هيوستن هاتفني في بيتي الريفي بالاسماعيلية - حيث أقيم- وحكي لي أنهم يريدون منه إجراء عملية وكان قد أجري من قبل عمليتين في القلب، وقال هذه المرة : "لن أدعهم يعبثوا بجسدي، خاصة أنهم يريدون 25 سم شرايين، ولم يعد بإمكان جسدي التحمل أكثر من ذلك، وسوف أتركهم يكشفون على جسدي ولن أدعهم يجرون العملية".
وكانت هذه المكالمة خلال الأسبوعين الماضيين، وكانت الأخيرة، ومن عجيب الأمر أن قصيدته الأخيرة "لاعب النرد" قصصتها بيدي من جريدة الدستور وعلقتها على الجدار أمامي، وهو أمر لم يحدث لي من قبل مع أي شاعر، ولم أكن أعرف أنها اخر قصيدة لدرويش الشاعر الفذ الذي لم يعرف من متع الحياة سوي القصيدة، فهو لم يفلح في زواج أو حب، الشئ الوحيد الذي لم يخطئ بخصوصه كان القصيدة.
درويش هو أكثر الشعراء عطاء، ولا يقل نثره عن شعره عظمة وإبداعا، وهو صاحب رؤية حقيقية وعالية لقضايا بلاده والأمة العربية. وقد استطاع حين غمرت موجة الحداثة الشعر العربي أن يختطف هذه اللعبة وأن يوظفها لأدائه الخاص مما أكسب شعره عمقا أبعد، ووضوحا لم يملكه شعراء الحداثة. وحين ذهبت إلي تونس العام الماضي فوجئت بأنهم يقصون حكايات حول رد درويش حين سئل عن الشعراء الذين يحبهم وكان على رأس القائمة عبد الرحمن الأبنودي، ووجدت لذلك أثرا عميقا في الضمير التونسي.
لا يعوض غياب محمود درويش في حركة الشعر الحاضرة أحد، وإن كنا نتمني أن تهبنا الأمة نموذجا فريدا وشاعرا عظيما مثل محمود درويش

*******

حوار القمر وأشجار البرتقال والمدن الراحلة
في «يوميات الحزن العادي» لمحمود درويش

عبد جبير

كنت في الثالثة والعشرين من عمري .
وكان بلال الحسن هو من ورطني لأعمل بالصحافة، أولا، في مجلة البلاغ البيروتية، وحين انتقل للعمل مع طلال سلمان ليؤسس معه السفير (وكان هناك من الكتاب المصريين اللاجئين لبيروت من عسف نظام السادات: إبراهيم عامر، ومصطفي الحسيني ، ومحمود رمزي، وسعد الفيشاوي، وعبد السلام رضوان والعشرات ) أخذني معه، وفي لقاء فريق العمل الأول رأيت " الشقة"التي صدرت عنها السفير وهي لا تزال خالية تماما إلا من غرفة اجتماعات بها طاولة كبيرة وعدد من الكراسي توسطها طلال سلمان وشرح لنا فكرة السفير، وما هي إلا أيام حتي بدأ العمل، وما هي إلا أسابيع حتي صدر العدد الأول من السفير في السادس والعشرين من مارس عام 1974 . حملنا - نحن كتيبة المحررين الشباب - هذا العدد الأول، ونزلنا لشوارع بيروت لنوزعه بأيدينا مجانا، كنوع من التواصل المباشر بين المحررين والقراء، وكان من حظي أن حمل العدد الأول من السفير هذه المقالة عن كتاب محمود درويش النثري " يوميات الحزن العادي "، وفي الفترة المسائية من نفس اليوم، فوجئت باتصال هاتفي:

- أنت عبده جبير ؟
- نعم
- أنا محمود ؟
- محمود من ؟
- محمود درويش ؟
- شخصيا ؟
- أيوه، متي تنتهي من الشغل ؟
- انتهيت .
- تعال .

وأعطاني العنوان، وما هي إلا دقائق حتي كنت في حضرته، وما هي إلا دقائق حتي جاء ناجي العلي وتبعه رهط من الكتاب والمثقفين، من هنا وهناك، وما هي إلا دقائق حتي رحت أسرد عليه حكاية الوصف الذي أطلقه عليه أمل دنقل حين حل درويش علي القاهرة وأسماه " الشاعر المحتل" وكان أمل يقصد أكثر من معني بهذا الوصف، فانفجر درويش في الضحك، وكانت ليلة من أجمل ليالي العمر، انتهت بحضن دافئ من درويش وهو يودعني علي الباب، كان أكثر تعبيرا من أي كلام عن هذه القطعة الأدبية التي للأسف فقدت نصها المنشور لكن لحسن الحظ بقي أصلها بين أوراقي كل هذا الزمن الطويل، وها هي تظهر مرة أخري للعلن بعد أربعة وثلاثين عاما:

******

" أول ما يلفت النظر في القطع الأدبية التي يضمها كتاب محمود درويش الأخير " يوميات الحزن العادي " هو الخيط الذي يربطها بشعره، فهي أشبه ما تكون بحواشي الشعر ومقدماته، لكنها مقدمات الألم الذي يعانيه الشاعر طوال ساعات اليوم العادي، فماذا يقول لنا محمود درويش في قصائده النثرية الجديدة ؟
إنه يرسم حالة الانتظار التي يعانيها الوطن، من خلال ذلك" الغريب " الذي لا وطن له : يقف في المطارات، علي أرصفة المواني، وفي غرفة المحقق الذي يسأله : من أنت ؟
وربما يكون هذا السؤال بالنسبة لأي من البشر، ما عدا الفلسطيني، يعني السؤال عن الكنية أو اللقب، لكنه بالنسبة لغريب العصر الجديد، سؤال عن " الهوية " .
ويقف ذلك الغريب في حالة بين التردد والإيثار، مجيبا، لكنه لا يجيب عن السؤال فقط، بل يشرح القضية، وهنا، تشتم رائحة نفس لا يمكن إلا أن يكون لمحمود درويش، نفس يحمل روح تجربته السابقة في فلسطين المحتلة، تحت العلم الإسرائيلي، يعاني من حالة انفصام مفروضة عليه، كما هو مفروض علي كل العرب المقيمين في إسرائيل " هؤلاء الذين لا تشبه حالتهم حالة أخري في العالم " .
لكن محمود درويش يتسلح بانسجامه مع نفسه، وهو يستمد من ذلك قوة تدفعه إلي تجاوز الزمان والمكان إلي حدود التحليق مع الحلم والرجوع إلي الأرض القديمة، ويجيب عن أسئلة الصحفي حول خروجه من إسرائيل قائلا : " ببساطة شديدة، صرت مليئا بالإحساس بأنني عاجز عن الاستمرار في الحياة، في قفص العدو الذي يسمح لي بممارسة التعبير عن ثورتي، ووطنيتي، وكأنني تحولت إلي حيوان قادر علي الصراخ، ولكنه عاجز عن الحركة والتأثير "، إنه يرفض الاستمرار في هذه اللعبة، لكنه يخوض الصراع بأشد ما يكون عنفا، ولا ينسي أن " بقع التشويه علي جسد الوطن " .
وإذ ينقل الإحساس المرير باغتصاب عذاري أرض العودة في ليالي الزفاف علي أيدي كلاب إسرائيل، وإذ ينقل مشهد المسرحية الدموية في كفر قاسم، تلك التي راح ضحيتها خمسون عاملا دفعة واحدة كانوا عائدين إلي بيوتهم، وحصدهم الفاشيست عند مدخل القرية، إنه كما أنشد هذه الأغنية في قصيدة سابقة، يعيد لنا الذكري ويمضي ليقول في لغة تشبه لغة الكتاب المقدس : " هذا أول الرحيل، وهذا هو آخر الأرض، لكل شيء أوانه إلا موتك، يأتي مباغتا ومكررا وبلا مناسبة كالمطر الاستوائي، فمن أين تلتقط برهة للياقة الاحتفال بذكري الموت الأول ؟ وها أنت تعبر بين الصوت والصدي مسيحا جديدا بلا طقوس، في الجملة العربية متسع لقارة من الخيام، أسكن إحداها وأحلم بصيف قليل الحر، فالوطن ليس صخرة قديمة حتي لو كان لها حرارة الجسد " .
ويتوقف الشاعر عند الأصوات الأكثر"اعتدالا " في إسرائيل، فيسمع أحدهم يقول: "عندما تقولون إننا سلبنا وادي الحوارث، فإنكم تريدون أن تشرحوا لماذا نسلب غزة اليوم، وعندما تريدون ألا نسلب غزة اليوم، فإنكم تدعون أننا لم نسلب وادي الحوارث، وأنا أقول : نعم سلبنا وادي الحوارث، ومع ذلك يجب ألا نسلب غزة، لأنني أريد أن أضع حدا لمسألة السلب".
ثم يحلل محمود درويش هذا الكلام لينتهي إلي تقرير الحقيقة التالية، التي هي فقرة من نص دستور " هوشمير": "بالدم والنار سقطت يهودا، وبالدم والنار تقوم يهودا " .
ويتوقف عند الجملة العربية تحت شعار " الخامس من آيار، ويسأل : التصفية ؟ لماذا ينبغي استخدام هذا المصطلح ؟ لكنه يؤكد أن المطلوب ليس تحرير الأرض العربية المحتلة من الغزاة الإسرائيليين فقط، ولكن أيضا : تحرير الأرض العربية من الذين يشكلون خللا في معادلة الأمن الرسمي في منطقة الشرق الأوسط، ليس شخصا وليس جناحا من سلطة، ولكن ذلك " المناخ العربي الرسمي " الذي في ظله يصبح القمع الداخلي أمرا مشروعا ينطوي تحت لواء المحافظة علي السيادة الوطنية، والذي في ظله أيضا يصبح كل اعتداء علي الوجود الثوري - لا الفلسطيني فقط، اعتداء علي كيان القضية، وإنه ليلخص هذه الحالة ويسميها " حالة السلم غير المكتوب في الممارسة العربية، وحالة الحرب المعلنة من الجملة العربية " .
إن محمود درويش في هذا الكتاب يحلل وضع الإنسان الفلسطيني داخل إسرائيل، ووضعه في البلدان العربية، كما يرسم صورة هذا الغريب في مواني وطرق ومطارات العالم، ليحدد لنا وضع الفلسطيني في العالم، كما يحدد موقف الفلسطيني من كل تلك الأماكن عبر الأزمنة المتغيرة، منذ أن سلبت أرضه، من يوم أن تلاشي الزمن وأصبح غبارا علي أطراف القارات، كما انه يشدك إليه كثيرا حينما يسمعك حواره مع ذاته المعذبة، والتي ربما شعرت بالهزيمة، لكن دون أن تستسلم لها، ليصبح الغريب ثائرا، وتفعل القيثارة ما تفعله البندقية .
ولو أن هذه القطع الأدبية، التي أدار فيها درويش الحوار مع القمر، وأشجار البرتقال، والمدن الراحلة جاءت خالية من بعض المبالغات اللفظية لأمكننا أن نؤكد أنه أضيف إلي مكتبتنا العربية كتاب جديد فريد من نوعه <

***********

صديقي محمود درويش

أحمد بهاء الدين شعبان

أعتبر الرمز النضالي والشعري الفلسطيني الكبير محمود درويش واحداً من أخلص أصدقائي علي الرغم من أنني لم ألتق به مباشرة «إلا مرة» واحدة، نحو منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولم تتكرر.
لكن مفهوم الصداقة هنا أكثر اتساعاً وإحاطة من مجرد المعرفة الشخصية «الفيزيائية»، واللقاء المستمر مع الطرف الآخر، خاصة «في أوقات الأزمات» فـ «الصديق وقت الضيق» كما يقول المثل، وإن كان محمود درويش حتي في هذا السياق، لم يخذلني أبداً، إذ كثيراً ما كنت ألجأ إليه في لحظات الأسي، والحصار، طلباً للعون والسند، ولم يحدث في أي مرة أن امتنع عن مد يد العون، ليس لي وحسب، وإنما لنا جميعاً، أبناء هذه الأمة المنكوبة، والأوطان المسلوبة، والشعوب المنهوبة.
عرفت محمود درويش الشاعر حينما تبني ظاهرة «شعراء المقاومة» المثقف المصري الكبير الراحل، رجاء النقاش، فكتب عنه وعن رفاقه من ابناء الأرض المحتلة الذين فاجأنا بحسهم الرفيع ونضاليتهم المتميزة، وشاعريتهم المتوهجة، وقدرتهم الفذة علي الصمود في مواجهة القمع والاستئصال، رغم أنهم يحيون تحت وطأة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، وفي قلب فلسطين المحتلة ذاتها.
وكان أعظم ما في هذه الظاهرة، وأنبل ملامحها أنها تفجرت في أعقاب هزيمة الأنظمة العربية عام 1967، التي تركت في القلوب والنفوس جراحات غائرة لم تندمل حتي الآن، رغم مرور أكثر من أربعة عقود علي وقائعها، فكانت بحيويتها وبما تمثله من قوة رمزية ومن حضور، وما طرحته من قيم ومعان، علي رأسها تمجيد روح المقاومة، والتمسك بالأرض، والاعتزاز بالوطن، والانتماء للعروبة، والثقة في القدرة علي هزيمة المحتل وانتزاع الانتصار الخ، أكبر عون لنا، نحن شباب الأجيال الجديدة من أبناء مصر، الذين ولدوا مع الثورة وعاشوا زهوة أحلامها، ثم تجرعوا مرارة كأس الهزيمة، وانكسار الأمل، وخيبة الرجاء، حتي كادت رياح السموم أن تطيح بهم إلي أسفل سافلين!
وهكذا، فلقد ساعدتنا أشعار محمود درويش وسميح القاسم، وتوفيق زياد، وراشد حسين، وغيرهم من «شعراء الأرض المحتلة»، علي القيامة من كبوتنا، والنهوض من عثرتنا، وساندتنا في ساعاتنا العصيبة علي التقدم، وكانت لنا العون ورفيق الدرب والنضال، حتي استوي منا العود، واستقام ظهرنا.
وفي قاعات الدرس، ووسط هدير مظاهرات الشوارع، وفي زنازين السجون، وعلي صفحات «صحف الحائط»، وفي اجتماعات الجماهير الحاشدة، بمداد القلب، وبنبضات الوجدان، وعلي ألسنة الطلاب والفلاحين والعمال، في تجمعاتنا العلنية والسرية، غنينا أناشيد البطولة القادمة من هناك، من خلف الستر والحدود والجدران العازلة، من فلسطين السليبة المقاتلة، وهتفنا بالكلمات/ الطلقات، التي انحازت للحق والعدل والإنسان واليسار <

*********************

رؤية بمناسبة الرحيل

محمد بدوى

في آخر مرّة رأيت فيها محمود درويش عقب فوزه بجائزة الشعر في القاهرة منذ ما يقرب من عامين ، سألني عما دار في جلسات التحكيم الثلاث. أخبرته بأن تسعة أصوات من عشرة كانت من نصيبه، ثم أضفت ضاحكاً «ليس هذا إجماعا علي شاعريتك. إنه أيضا تصويت لصالح فلسطين. وقرد ضاحكاً أن هذا يثبت ما فكر فيه ، ثم استخدم كلمة عامية يصعب نشرها وهي عموما تشير إلي "التواطؤ" ».
منذ بداية رحلته كان محمود درويش حسن الحظ. فعلي عكس كثيرين من معلميه ومجايليه من شعراء التفعيلة والشعر الحر الكبار، وجد نفسه بمصادفات سعيدة في موضوع الاهتمام والرعاية. وكان ذكيا فوضع كل عناصر حظه الحسن في خدمة شعره وشعبه، حتي أنتج ظاهرة محمود درويش، أحد شعراء الحداثة الكبار، بل لعله كان ومعه سعدي يوسف، آخر شعراء التفعيلة، القادر علي أن يكتب شعراً، حتي لو اختلفت مع مفاهيمه ومنظوراته وطرائفه، إلا أنك لا تستطيع أن تنكره . كل ما تستطيع أن تقوله حين تكون واقفا في موضع مختلف، إن هذا شعر من منظور ما، لا تكتب مثله، لكنك تقدر علي لمس ما فيه من جدة وأصالة.
وهنا يمكن للقارئ أن يلحظ أن محمود درويش الذي تدرّب شعريا علي أيدي شعراء الشعر الحر، استطاع أن يطور إمكاناته، ليجيء شعره عن فلسطين مختلفاً عن شعر شعراء التفعيلة الذين مثلت لهم فلسطين التزاماً قومياً أو أخلاقيا لكنهم لم يطأوا أرضها ولم يدخلوا مع الإسرائيليين في تجربة واقعية ، تنزع عنهم أوهام الأيديولوجيا. وضعية الوجود في بقعة محددة وفي بيئة صراعية يومية ، جعلته يري ما لم يره شعراء كبار، مثل السياب وعبد الصبور وحجازي من الذين انحازوا إلي قضية فلسطين كل لسبب يخصه.
لا أعني طبعا أن درويش خرج علي تخوم شعر التفعيله فهو في النهاية ابن هذه الحركة الواسعة، تلقي تدريبه الشعري علي أيدي روادها، وأنبتت أثار من شعرهم في نسيج شعره، آثار لا تخطئها العين، لكنها مدرجة في سياق مختلف، وتعمل لصالح شعرية أخري، في هذه الشعرية الشاعر مغني الجماعة، عليه أن يحول ما رضعه منها إلي وقود يومي يشغل ماكينة الشعر. لقد تحدر منها، واختزل جوهرها، ومنحته شرف الحديث باسمها، وتحويل رؤاها للعالم وثقافتها إلي عمل من أعمال الجمال والسحر. بل لعل الجماعة تري في مبدعها، علي هذا النحو دليل فرادتها وتمايزها وحكمتها.
الشاعر يغني. إذن هو صوت يحدو ما يغنيه، ما يرفعه من معان إلي مستوي المطلق، وقد وجد درويش نفسه في القلب من جماعته المهددة المبعدة عن أرضها ، المدافعة عن الحق في الوجود ضد ما ينفيها ويسعي إلي اقتلاعها، ومن المفهوم في مثل هذا السياق أن يتحول الشعر إلي سلاح، أي أداة للمقاومة، والمصادفة أن درويش الماركسي اللينيني عضو الحزب الشيوعي ما إن طرق باب الشعر حتي بدت في الأفق إرهاصات المقاومة.
مع هذا كان شعر درويش برغم اختلافه الناتج عن شروطة وإمكاناته ابن شعر التفعيلة الثوري الإنشادي بمعجمه وبحور عروضه منتظمة الإيقاع، وابنه من حيث المفاهيم التي تجعله في النهاية حادي الجماعة ومغنيها، المبشر بغدها الإنساني، الراثي لشهدائها، ذلك بالغ الوضوح في اللغة الصلبة الحادة، قريبة المأتي حتي لو كانت مجازية، بل حتي حين تصل إلي الشعار، مثلما نري في صراخه الشعري «سجل أنا عربي» .
لكنه منح الشاعر فرصة تطوير رؤيته، ليحدق في فلسطين من خارجها وترفد تجربته بعناصر إغناء لاشك فيه، بدأت في القاهرة، حيث الوسط الأدبي وفيه رجال من أمثال لويس عوض وصلاح عبد الصبور ويوسف إدريس وعبد القادر القط.. إلخ، وانتقلت إلي بيروت، حيث اصطدم شعرياً بآثار وسلالة مجلة شعر. كان درويش في مصر ضيف سلطتها القوية، ولاشك أنه تمتع بمباهج وضعيته، لكن ذلك لم يصبه بالعمي الشعري عن «الجنود الغائبون وراقصات البطن والسياح» فضلاً عن أرقام النخيل وأسماء الأزقة والشوارع سابقاً أو لاحقاً، وجميع من ماتوا بداء الحب والبلهارسيا والبندقية. وكان في بيروت الفتي الذهبي لمنظمة التحرير، لكنه كان قادرا علي الإنصاف لمن يختلفون معه في أيديولوجيا الشعر.
«في محاولة رقم 7» طور درويش من مفاهيمه، أصبح يحذر الشعا، ويخشي ارتفاع الصوت، ويبحث عن كيمياء جديدة لا تتخلي عن «الغناء» الثوري الرومانسي التبشيري، الذي يغني النبل الإنساني علي نحو تقليدي، لكنها تزاوج بينه وبين السرد المكثف المحمي بالإيقاع، أقول تزاوج لأن الشعر برغم ما يخفيه مازال مزدوج الصوت، المقاطع الغنائية تنبثق من المقاطع المدورة طويلة الجمل ومن ثم خافتة «الإيقاع» لكنها بعد قليل تملك وجودها الخاص الازدواج نفسه تجده لدي شاعر آخر كبير هو أمل دنقل، ازدواج الخطاب الشعري، وازدواج الصوت المتكلم في القصيدة الذي يمكن لمسه حين نتأمل الصوت «العاشق» و«الصوت السياسي» صوت الأنا وصوت الجماعة.
علي أي حال لم يعد درويش ابن قيم قصيدة التفعيلة لدي الرواد، بل تجلت آثار القاهرة وبيروت وصنعت إنجازات «الغموض» وقصيدة الموقف الدرامي في خدمة شعر الهوية، التي تراجعت فيه أصداء الرواد، لتبرز فيه أخوة شعرية تصله بشعراء مثل لوركا وبابلونيودا.
في هذا الشعر معجم لغوي أنيق، ومجاز يمزج العناصر، ويحسن اللعب بالرمز والقناع، وتكثر الضمائر برغم وضوح حدود الجمل، وتتبدي فلسطين فيه أرضا وامرأة معشوقة، إنه شعر هوية تجالد النفي والاقتلاع ومن ثم تتبدي كأنها مصقولة مزينة، حتي لو زينها الشاعر بما تخلت عنه هوية الآخر التي خانت إرثها، ومارست ضد هذه الهوية كل الممارسات التي مارسها أعداؤها لم تعد فلسطين ضحية بل الضحية- أيضا- هو جلادها الصهيوني الذي يحاكي فعل جلاديه.
لكن هذه الهوية ليست مهددة فقط من خارجها، بل من داخلها أيضا ومن هؤلاء الذين يرفعون شعاراتها ويتنادون بتحريرها وكان علي درويش أن يكتبها ويغنيها ويرفعها إلي مستوي الرمز لكن كان عليه أن يمارس ضدها ما يحميها من نفسها ومن أحبائها لم يصل الأمر به إلي حد نقص هذه الهوية، وتفكيكها وإنما وقف لدي توسيع المنظور، الذي يري به الأشياء وخصوصاً أن الشاعر كلما نما وعيه بمشروعه الشعري امتحنت هوية شعبه، تبدلت المواثيق بين نخبها وجماعاتها حتي وصلت إلي الاقتتال وفي هذه اللحظة حضر في الشعر ما كان جنيذياً من قبل، بل ما كان الشاعر المغني قليل الاحتفاء به أعني تفاصيل المادي والجسدي والشخصي بمطب الجسد ومأزق الكائن البشري بين قوسي الميلاد والموت وهو ما يتضح جليا في «الجوارية» وفي حضور تقاليد الشعرية العربية، وبخاصة شعر ما قبل الإسلام ومعلقاته، وشعر المتنبي الذي ربما تمزق بين سلطة الشعر وسلطة السياسة. كان درويش يسعي إلي «توسيع عالمه» إلي ما يشترك فيه الناس، ولذلك حضر العالم والإنسان، وزاحماً الوطن وأبناء الجلدة والثقافة وتراجع الرومانسي الثوري يبرر الشاعر صاحب مشروع شعري الذي يهضم كل شيء ويجتازه، ويخرجه ممهوراً باسمه وأسلوبه ولغته، ورؤيته للعالم. لم يعد درويش صوت قضية التحرر الوطني بمفاهيمها التي قد تخجل شعرياً من بروز الجسد وعطبه والموت ومخاوفه لكنه أصبح صوت القضية وقد صفيت من شوائبها

******************************

عابرون
في كلام عابر
أيها المارون في الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا، وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا
أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء

أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف - ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار- ومنا لحمنا
منكم دبابة أخري- ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز - ومنا المطر
وعلينا ما عليكم من سماء وهواء
فخذوا حصتكم من دمنا وانصرفوا
وادخلوا حفل عشاء راقص.. وانصرفوا
وعلينا، نحن، أن نحرس ورد الشهداء
وعلينا، نحن، أن نحيا كما نحن نشاء

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كالغبار المر مروا أينما شئتم ولكن
لا تمروا بيننا كالحشرات الطائرة
خلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا قمح نربيه ونسقيه ندي أجسادنا
ولنا ما ليس يرضيكم هنا
حجر.. أو خجل
فخذوا الماضي، إذا شئتم إلي سوق التحف
وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم
علي صحن خزف
لناما ليس يرضيكم ،لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل

أيها المارون بين الكلمات العابرة
كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا
وأعيدوا عقرب الوقت إلي شرعية العجل المقدس
أو إلي توقيت موسيقي مسدس
فلنا ما ليس يرضيكم هنا، فانصرفوا
ولنا ما ليس فيكم: وطن ينزف وشعب ينزف
وطن يصلح للنسيان أو للذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا مانعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا.. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا.. من بحرنا
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا
من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة!.

*********************

اللحظات الأخيرة في حياته كما يرويها صديق عمره نبيل درويش

تناول العشاء في مطعم فاخر قبل جراحة باريس بساعات.. و دخن بشراهة داخل غرفة العناية المركزة

حوار: سيد محمود

ربما لا يعرف الكثيرون ان الاعلامي نبيل درويش مدير مكتب اذاعة مونت كارلو في القاهرة كان الصديق الاقرب إلي الشاعر الراحل اذ بدأت صداقتهما في العام 1968 وامتدت حتي الساعات الاخيرة من رحيل شاعر الجدارية

«البديل» التقت مع نبيل درويش، بعد ساعات من رحيل شاعر فلسطين وسجلت معه هذه الشهادة :

يقول نبيل درويش : " بدأت صداقتنا في العام 1968 حيث التقينا لأول مرة في مهرجان الشباب التاسع في صوفيا ببلغاريا ، وقتها كان درويش ضمن وفد الحزب الشيوعي الاسرائيلي بينما كنت اعيش في فرنسا وكان اللقاء الأول سريعا وعابرا لكن درويش في السبعينيات، بدأ التردد علي فرنسا بصحبة الشاعر الرحل معين بسيسو وهنا بدأت روابط الصداقة تنمو بيننا، وهي صداقة استمرت وساعد عليها أمران ، الأول عملي الإعلامي في بيروت خلال فترة الحرب الأهلية وهي الفترة التي استقر فيها درويش بييروت، وكنت دائما ما التقي به لظروف اعلامية ثم تطورت لتصبح ظروف انسانية وشخصية تماما والأمر الثاني قرار درويش فيما بعد بالاستقرار في باريس "
ويتذكر نبيل درويش أنه نصح شاعر فلسطين حين أجبر علي مغادرة بيروت بعد الحصار الاسرائيلي بالمجيء إلي باريس وقد حدث ذلك بالفعل وبدأ درويش العيش هناك والعمل في الصحافة
ومن المحطات المهمة التي يتذكرها الإعلامي العربي الكبير نبيل درويش في سياق صداقته بالشاعر الراحل مرحلة ارتباط درويش بمنظمة التحرير الفلسطينية وهي مرحلة مهمة جعلته يكلف بكتابة الخطابات المهمة التي القاها الرئيس الفلسطيني الراحل أبو عمار في المؤسسات الدولية ويؤكد نبيل درويش أن محمود درويش هو من كتب الخطاب الشهير الذي القاه عرفات في الامم المتحدة عام 1974وقال فيه عباراته لشهيرة " لاتسقطوا غصن الزيتون من يدي " وهي خطبة لفتت انظار العالم بمحتواها الإنساني والبلاغي لاسيما وانها كانت اول إطلالة من عرفات علي هذه المؤسسة الدولية ، أما ثاني الخطابات المؤثرة التي كتبها لعرفات فهو خطاب اعلان الدولة الفلسطينية في العام 1988 "
ويتذكر نبيل درويش كيف أن ابو عمار طلب من محمود درويش مرارا ان يتولي حقيبة وزارية الا أنه كان دائم الهرب من الفكرة التي قبلها بتردد لفترة قصيرة، ثم اختار بعدها ان يكون حرا من المسؤلية الوزارية، لاسيما وان عبد الله حوراني كان يعتقد انه أولي بحقيبة وزارة الثقافة ويري نبيل درويش ان محمود درويش بقبول المنصب الوزاري انما رضخ لاسباب تتعلق بمحبته الشخصية لابي عمار، وهي المحبة التي تجلت في نص رثائه، ولكن هذا القبول لم يعكس أبدا قناعة بخيارات مؤسسة الرئاسة الفلسطينية لذلك كان من الطبيعي ان يختلف محمود درويش مع عرفات والمنظمة، بعد توقيع اتفاقية أوسلو، واتخذ قرارا نهائيا بالبعد عن السياسة بالمعني التنفيذي
ويمضي نبيل درويش في سرد محطات أخري من صداقته مع محمود درويش، متوقفا أمام لحظات الالم التي عايشها معه ويقول : في العام 1984 كنا معا في النمسا، ثم أصيب درويش بأزمة صحية طارئة وفي المستشفي قالوا له لا يوجد شيء بإمكانك المغادرة لكنه سقط علي الباب وامضي هناك فترة للعلاج حيث اكتشفوا أن شرايينه مغلقة، وتوقف قلبه عن النبض لعدة ساعات والغريب انه كان يدخن في غرفة الإنعاش وامام عشرات العرب الذين توافدوا لرؤيته، ولكن هذه الازمة مرت بسلام "شأنها في ذلك شأن أزمة أخري عاشها في باريس سنة 1999 وكتب عنها نصه الخالد "جدارية " حيث خضع لجراحة لعلاج مشكلة في "الشريان الاورطي" وخلال تلك الفترة، كان نبيل درويش كما يقول "قناة اتصاله مع العالم هو والناقد السوري الاقرب إلي قلب درويش صبحي حديدي والسفيرة الفلسطينية ليلي شهيد زوجة الناقد محمد برادة "
يتذكر نبيل درويش انه شاهد صديقه مسجي امامه في المستشفي لثلاثة أيام في حالة غريبة، لكن جسده ايامها كان اقدر علي مواجهة المرض، والتمسك بالحياة وهي قدرة لم تتوافر له في أزمة موته حتي ان الاطباء ابدو دهشة كبيرة من تلك القدرة التي مكنته من التمرد علي الموت لدرجة انهم كانوا يوثقون قدميه حتي لا يهرب "
ومن المفارقات المؤلمة والمضحكة في آن واحد أن محمود درويش خلال تلك الازمة وقبل العملية الجراحية مباشرة طلب من اصدقائه ان يخرجوا به لتناول العشاء في طعم فرنسي هاديء وقد فعل ذلك بجرأة من لا يخاف الموت
وعن التجربة الاخيرة والتي انتهت بمحمود درويش إلي الموت يقول نبيل درويش : " في اتصالاتي الاخيرة معه قال لي ان طبيبه الفرنسي قال له : انت تحمل قنبلة موقوتة داخل جسدك، ويمكنها ان تنفجر في أي وقت " وحين طلب محمود درويش من طبيبه الفرنسي ان ينصحه قال له " ليس لدي غير الادوية التي تتناولها منذ سنين " لكن درويش اخبره برغبته في السفر إلي أمريكا للمرور علي الطبيب العراقي الشهير صافي لكن طبيبه الفرنسي قال له " لا انصحك بشيء إنه خيارك لكن طبيبك سيطلب منك ان تجري جراحة لانه جراح ويريد ان يعمل " وهنا ضحك درويش لكن نبيل درويش ادرك ان صديقه يمضي إلي الموت على الرغم من ان محمود درويش نفسه طمأنه واكد له انه سيشارك في حفل لتكريم ادوارد سعيد في امريكا في 25 سبتمبر القادم " يؤكد درويش ان طبيب الشاعر الراحل اخبره ان خطر الموت بعد الجراحة لا تتجاوز نسبته 10 بالمائة بينما خطر الاصابة بالشلل كان بنسبة 10 بالمائة وقد اختار درويش الموت بدلا من ان يعيش وهو عبء على محبيه لان كبرياءه كان يمنعه من ذلك "
ويضيف نبيل درويش : " كان شاعر فلسطين يتمنى الموت السريع وهو نائم في فراش هاديء ودون ضجيج، حتي انه التقي بأبنة صديقته الصحفية بالاهرام ويكلي مني أنيس في هيوستون ووجه لها دعوة للعشاء دون ان يعرج في حديثهما علي الموت "
وعن الحياة الشخصية التي عاشها محمود درويش يؤكد نبيل درويش أن صديقه الشاعر الراحل تزوج مرتين، الاولي من السيدة رنا قباني ابنه صباح قباني وعاشا معا حياة سعيدة لكن زواجهما لم يستمر لاكثر من عام وعلي الرغم من ذلك لم يحدث ان تحدث درويش لمرة واحدة عن زوجته بعبارات السوء بل انه التقاها قبل عام وتناول معها العشاء كأي صديقين قديمين لانه كان يجيد طي الصفحات، اما الزواج الثاني في حياة محمود درويش فقد كان من السيدة حياة الحيني، كريمة عصام الحيني الذي كان يتولي منصب وكيل وزارة الثقافة المصرية وتعرف عليها في باريس خلال عملها في اليونسكو وعلي الرغم من حب جارف جمعها معها الا ان الزواج انتهي بطلاق أبدي جعله يخشي الزواج من جديد كما انه كان يرفض الإنجاب لاسباب فلسفية خوفا من العجز عن تربية ابنائه "
وردا على سؤال بشأن المذكرات التي يتردد أن محمود درويش قد كتبها يؤكد نبيل درويش ان الشاعر الراحل لم يكتب مذكرات، لأن ما كان يكتبه كان ينشره في صورة نصوص نثرية رائعة، تتضمن وقائع وتفاصيل في حياته "
وعلي المستوى الشخصي، يري نبيل درويش ان الراحل كان، كريما لدرجة لا يمكن وصفها ويرفض ان يتهم بانه يعيش حياة مرفهة لانه كان يخجل من المظاهر ويرى أنها تسيء إلي صورته"
وعلى مستوى العادات اليومية، كان محمود درويش يحب الطعام الشهي ومن ألوانه المفضلة الأزرق الفاتح والرماديات ويذهب إلي النوم مبكرا في حدود 11 مساء ويستيقظ مبكرا ليكتب لأنه كان قارئا نهما.
وعن حضور مصر في حياته قال نبيل درويش، إن مصر كانت ملاذا كبيرا بالنسبة له، فقد كان دائم الحديث عن دور أحمد بهاء الدين وأسرته في حياته وعن إصرار وجيه أباظة محافظ القاهرة علي رعايته وتدبير منزل لسكنه، وقت أن قرر الاقامة في القاهرة، هذا بالإضافة إلي إصراره الدائم على اللقاء مع جمال الغيطاني والأبنودي وجابر عصفور ومحمد حسنين هيكل في كل زيارة لأنهم كانوا الاقرب إلي قلبه <

*******************************

الهدهد

خيري شلبي

وأنت بعد قراءتك لمحمود درويش لابد أن تختلف عنك قبل قراءته اختلافاً كبيراً. بعد قراءته ستشعر بالعزة والسموق، ستشعر بمعني الكرامة، بروح الإباء بالسؤدد بالارتفاع فوق صغائر الأمور، ستشعر بأنك تستطيل وأن قامتك تتصاعد مع الشعر إلي ما يشبه الإسراء والمعراج، حيث ستري ما لم تكن تحلم بالسفر إليه، وتشعر بما لم تكن تظن أنك قادر علي الشعور به. في شعر محمود درويش تنفك عنك كل القيود إذ هو لا يحمل البعيد إليك بل يحملك إلي البعيد البعيد. ثم إنه لن يعيدك إلي سابق حالتك، لأنه يترك فيك لقاح روحه ليشحنك بطاقة تؤهلك للانطلاق إلي آفاق مترامية، حيث تشعر ربما لأول مرة في حياتك بمعني الوطن.
الشعر هو وطن محمود درويش الحقيقي، ذلك أن الوطن قد بات شعره منذ نعومة أظافره كما يقول التعبير العربي القديم.
بشعر محمود درويش ترتفع قيمة الوطن، الدليل علي ذلك هو شعر محمود درويش فيه يبقي الوطن حياً إلي ما لا نهاية.
تلده القصائد كل يوم، قديماً جديداً معاً، تلده كاملاً غير منقوص تلده كبيراً متطوراً مطهراً.
وشعر محمود درويش هو التطور الأمثل للشعر العربي القديم تجد فيه الملك الضليل والنابغة، وجرير، والفرزدق وابن أبي ربيعة، وبشار ابن برد وأبا نواس، والمتنبي، والمعري، والبحتري، وابن الملوح، وابن الرومي، والحمداني، وابن زيدون، وشوقي، والرصافي، والجواهري، وعلي محمود طه، ومحمود حسن إسماعيل، تجد كل هؤلاء وغيرهم، ولكن في صورة جديدة متطورة مزودة بالثقافة الحديثة منصهرين جميعاً في بوتقة تغلي بنار المحنة اسمها محمود درويش.
هو شاعر واضح الأصول والأنساب، في شعره هويته العربية الأصيلة، تتعرف فيه علي آبائه وأجداده وأعمامه وأخواله.
ربما كان علي رأس هذه القلة القليلة من فرسان الشعر العربي الحديث الذين نجوا من الرطانات الأجنبية، فرغم استفادته من الشعر العالمي - والفرنسي خاصة - يظل شعره نفساً عربياً خالصاً. إن عروبية شعره لا تقبل جسماً غريباً.
شعره ملكه وحده، نابع من ضميره هو، من عالمه الخاص، بل الشديد الخصوصية.. حتي المفردات العربية التي يستخدمها غيره من الشعراء العرب تبدو لفرط امتلائها بشحنات جديدة وألوان طازجة كأنها من اختراعه فكأنه جمع هذه المفردات وهي بعد مجرد بيض، ثم حضنها وبعث فيها حرارته حتي فقست مفردات ككائنات حية تسعي في فناء داره كالكتاكيت، ثم راح يطعمها ويسقيها حتي نمت أفراخاً تملأ الدار لوحات تشكيلية مرئية تمتع البصر والفؤاد وتضج بالموسيقي.
يقول في بعض حواراته : ''الشعر ليس فقط وسيلة الشاعر واللغة قبل ذلك لأن علاقة الشاعر باللغة ليست من أجل إيصال شحنة أو فكرة أو غموض أو وضوح، علي شذوذ اللغة أن توصل وأن توضح ما هو غامض في وجودنا، الداخلي ولكن أيضاً علي اللغة أن تكون غرضاً في حد ذاتها في العملية الشعرية، الكلمات ليست فقط أدوات اتصال، ليست أرقاماً وإلا كنا نستغني عن الشعر بالتعبير المباشر عما نريد من مطالبنا أو من شهواتنا أو من رسالتنا، ولكن في العملية الشعرية، اللغة الشعرية هي أيضاً مادة عمل وأيضاً غرض العمل''.
ولكن كيف نبعت قصيدة محمود درويش من المحنة الفلسطينية لتتجاوز المحنة وتصبح خطاباً إنسانياً عاماً يخاطب الإنسانية في كل مكان وكل زمان، وتصبح القضية الفلسطينية هماً إنسانياً معاصراً بقدر ما هي زاد جمالي تستضيء بنوره الإنسانية.
يجيب هو قائلاً: إنني نتاج تلك الأرض عناصرها وطبيعتها نتاج حركة التاريخ فيها ونتاج لقاء الحضارات والثقافات فيها فأنا استوعب كل تلك الثقافات علي أساس أنها عنصر مكون لثقافتي، هذا النتاج كله ملكي فأنا تعبير عن كل هذا الاختلاف ومن كل هذا الاختلاف ومن كل هذه الأبعاد في الزمن وفي التاريخ ولكن هذا لا يكفي لكي يكون النص الشعري ملكية جمالية إنسانية فلو كان تعبيري محصوراً في وصف أطراف الصراع، والصراع وحده، لسقط النص أتوماتيكياً بعد سقوط الصراع، أنا لست أحادياً ولست مراسلاً حربياً للقضية الفلسطينية، وأنا أتكلم عن إنسانية هذه الأرض وإنسانها وعن نزوعه الإنساني نحو تحقيق قيم من حقه أن يتمتع بها وهي الحرية والاستقلال، وإبداع حياته ومصيره كما يشاء، أي الجانب الإنساني في القضية الفلسطينية وهو جانب عملي الشعري وليس الجانب الوصفي لوثائق تطورات هذه القضية ولجانبها العسكري أيضاً. فمجال عمل هذا النص هو القدرة علي كشف جماليات الحياة في تلك الأرض بحيث تتحول هذه الجماليات إلي ملكية إنسانية عامة ولا نستطيع حينذاك أن نقول إن هذا الشاعر فلسطيني، وهذا الشاعر سوري وهذا الشاعر تونسي، يصبح النص الجمالي يخاطب ما فينا من هشاشة الإنسانية وقوتها أيضاً ونزوع الحرية والإبداع.
تعرفت علي شعر درويش والقاسم وتوفيق زياد ومعين بسيسو بينما كنت في المدرسة الثانوية في الخليل، كنت مشاركاً فعالاً في المظاهرات ضد الاحتلال، وذات مرة قدم لي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الإبراهيمية بعض الدواوين لشعراء فلسطينيين، وقد أحببتهم، والتصقت بهم وحفظت الكثير من قصائدهم، لأني كنت أحس أنهم يرفعون يدي عالياً وهي تحمل راية فلسطين، ويشدون من قبضتي علي الحجر. أضف إلي ذلك أننا كفلسطينيين ليس لدينا تاريخ طويل من الشعراء والأدباء وكلهم جاؤوا أو ولدوا خلال الانتداب وبعده، فكنا حريصين علي التقاط أي اسم فلسطيني يأخذنا إلي الأدب والشعر، ويشكل هوية ثقافية للشعب الفلسطيني.
كنت أحب تلك القصائد التي تفوح منها رائحة فلسطين، وبينما كنت أتعرض لضرب الجنود الإسرائيليين وأستنشق غازهم وضرب هراواتهم، كانت تلك القصائد الوطنية - ومنها قصائد إبراهيم طوقان وعبدالرحيم محمود - تشكل لي حرزاً داخلياً كبيراً وواقياً من الخوف ودافعاً لمواجهة كل هذه الآلة العسكرية الجبارة ببيت شعر أو لحن مقاوم.
وكنا نردد: سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألف لمحمود، أو منتصب القامة أمشي لسميح، أو أناديكم، أشد علي أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم وأقول أفديكم لزياد وحتي الثلاثية الحمراء لطوقان وغيرها الكثير.
من هنا تعرفت علي درويش، أما كيف أقرؤه الآن، فلم أكن أحب الاقتراب كثيراً من شعره، حتي مرحلة الجدارية، كما كتبت له مرة في قصيدة (كلما أحببتك أكثر ابتعدت عنك، لم تترك الحصان ربما آثر الهروب .....الخ)، لأنني كنت حريصاً ألا أقع تحت تأثيره أو أن يتسرب لما أكتب دون معرفة، وبذلك حميت نفسي منه لأني أحبه ولا أحب أن يتملكني لا هو ولا غيره. كان ذلك حتي عام ألفين تقريباً، بعدها لم أعد أخشي من قراءته حيث بدأت أشعر أنني صرت قادراً علي عدم الوقوع في أسره.
والحق يقال، إن أهمية درويش وفرادته، تأتي من كونه يمتلك قدرة علي الابتعاد عن نفسه وشعره دائماً، ولا يتشبث بمكان إقامة محدد، وأعترف أنني في كل مرة كنت أتخلص فيها من بعض القناعات وأطلع إلي شرفة جديدة، كنت أجده قد ابتعد عن موقفه السابق ونمطيته واتخذ مجلساً متقدماً هناك، والغريب أنه يرافقنا دائماً إلي التطور والنضج، وهذه ميزة تحسب له كما قال مرة إنه سعيد لأن قارئه يتطور مثله، وإن كان بالنسبة لي العكس، فأنا أري أنه يحل باستمرار في تلك الشرفة التي أصل إليها في الابتعاد عما رسخ وقال في الحياة وفي الشعر، هو وغيره، وعدم البقاء في المربع الأول والنفور من التقليد والتكرار، واجتراح المستقبل والغد.
هذه ميزة تحسب له، وقد ارتقي بشعره تماماً كما يقول ويري، ولذا وجدت سلاسة في مجموعاته الأخيرة، منذ (سرير الغريبة، ولماذا تركت الحصان وحيداً، والجدارية ولا تعتذر عما فعلت وعمله الأخير كزهر اللوز أو أبعد) وابتعاداً عما كنت لا أحب في مجاميعه السابقة، والتي صارت تقليدية بالنسبة له أيضاً، هكذا أنا منحاز لجديده دائماً، وتجربته تتعمق كلما كبر، وهو يطبق بذلك نظريته: إن الشعراء نوعان الأول يولد مرة واحدة ويموت بسرعة والثاني يولد علي مهل ويكبر علي مهل، ولعله من النوع الثاني إن شاء الله.
لا يفاجئني محمود في الكثير من آرائه في الحياة وفي الشعر وأكاد أعرف ما سيقول، وذلك يعجبني أكثر لكي أصقل ذاتي مجدداً، وأجد هناك تطابقاً حتي في النظرة للعدو والحياة ولكنْ هناك اختلاف كبير أيضاً، فليس كل ما يقوله إنجيل مقدس، ومما آخذه عليه، أنه يتجاوز في تصريحاته وكلامه، بقية الشعراء الفلسطينيين وحتي العرب، ومن بينهم تجارب رائعة وكبيرة، ويعتبر نفسه ممثل الشعر الفلسطيني، والعربي، ولا يكاد يعترف بأحد سواه، هذه نرجسية تقترب من الديكتاتورية السياسية، وليس من فضاء الشاعر الذي يهمه أن تتنوع المعرفة والحياة وتتجدد كريات الدم في جسد القصيدة، وإن قال إنه يريد التخلص من القصيدة الوطنية وكتابة قصيدة حب، لكن ذلك لا يتجسد في قناعاته تماماً، فهو في العمق يحرص علي بقائه نجم الشعر الفلسطيني وممثل فلسطين الشعري الأوحد، ويجد في الساحة العربية من يعمل لهذا الإقصاء للآخرين، ليس حباً بدرويش فقط ولكن اختصاراً للمشهد الشعري الفلسطيني، وربما العربي، وحين يتحدث درويش عن تطور الشعر الفلسطيني يريد لهذا الشعر ان يشذب حسب رغبته هو لا حسب نضوج القصيدة الفلسطينية والظرف الفلسطيني نفسه، لهذا أجده أنضج أفكاره ورؤيته قبل أن يتبلور شكل ما لحرية الفلسطيني، وهو لم يحسم أمره تماماً من أنه ليس شاعراً إقليمياً أو قطرياً، فبينما يلتفت ليرضي مداره الشعري ومسار الكون نفسه، والكثير من المنابر العالمية، مازال يخشي خسران شعبيته التي نالها وما زال من الباب الوطني، إنه يمسك العصا من المنتصف لا يريد أن يخسر تمثيله لفلسطين كقضية وشعب ولا يريد أن يخسر وهج الشعر وتطور قصيدته وإنضاجها، لكنه قطع مسافة في إقناع الطرفين، ولا أعرف إن كان للنجومية التي يتمتع بها دور في هذا الإقناع، ولا أدري إن كان في هذه النجومية الأقرب للفنية منها للثقافية، خطر علي شعره مستقبلاً وشعر غيره حاضراً، وإن كانت تدفعه دائماً لاستلاب الآخرين حقهم ووهجهم.
وهذا مما يؤخذ عليه، كما أنه يمتدح قصيدة النثر كثيراً ويقترب منها لكنه ما زال تقليدياً في التفعيلة، ولم يكرس آراءه عمليا، فيبدو توفيقياً في مغازلة شعراء النثر وكتابة شعر مفعل، لم تشفع تلك الاقتباسة من أبي حيان التوحيدي، في مجموعته الأخيرة، وإن كان النثر يتدفق علي شفتيه بشكل أجمل من الشعر أحياناً، لكنه لم ولا يريد أن يحسم رأيه في هذه المسألة، كما لم يحسمها في القول بوجود ميليشيات لقصيدة النثر يتفاداهم، أو مثل تلك التصريحات التي أدلي بها في تونس حول الشعر العربي، لكنه عموماً يتكلم في الحياة والسياسة والصراع العربي الإسرائيلي أجمل مما يتحدث في التنظير لشعره وللشعر عموماً.
وعلي كل يظل محمود شاعراً كبيراً نحبه ونختلف معه ونحترم تجربته لكن دون تقديس أو تأليه ودون تكريس للوحدانية، فهناك شعراء كبار لم تتح لهم فرص مثالية كما أتيحت لمحمود، الذي ما زال أمامه الوقت لتصحيح الماضي والعودة إلي الشعر الذي لايبرزه نجماً جماهيرياً، بل شاعراً قريباً من العشب الندي أكثر <

***********************

صافي ناز كاظم تحكي عن صداقة عمر وخلاف
غسان كنفاني هو من اكتشفه وأحمد بهاء الدين من احتضنه وليس رجاء النقاش

كتبت: مي أبوزيد

ارتبطت الكاتبة الكبيرة صافي ناز كاظم بصداقة مع درويش تروي تفاصيلها قائلة:
أحب أذكر أن البيانات التي نشرتها الصحف المصرية عنه أمس كانت خاطئة في معظمها، فمحمود درويش ولد في 13 مارس عام 1942 بفلسطين، وكان دائما «بيهزر» ويقول إنه سعيد بأنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب.
كما أن الصحف ذكرت أنه جاء من موسكو إلي مصر عام 1972 وقد قام عبد الناصر باستقباله وهذه معلومات مغلوطة لأن عبد الناصر كان قد مات قبل هذا العام.
كان هناك اتفاق وقت حكم عبد الناصر علي استقدام محمود درويش إلي القاهرة وكان غسان كنفاني جزءا من هذا الاتفاق بل إنه كان من هيج الرأي العام ودله علي شعراء الأرض المحتلة لكن كنفاني استشهد في يوليو 1970 لكننا فوجئنا بعد وفاة عبد الناصر بمن يقول إن محمود درويش قد جاء إلي مصر وذلك عام 1971 ، وأشيع أن المخابرات والمباحث المصرية هي التي أشرفت علي وصوله، وهي من اسكنته بفندق «شبرد» لمدة طويلة .
وتضيف: أذكر وقتها أن شعراء مثل نجيب سرور وأمل دنقل ، كانا يجلسان علي المقهي ويقولان « ما إحنا كمان شعراء أرض محتلة».
والكاتب أحمد بهاء الدين، كان هو الذي احتضن محمود درويش وكان يقول إنه فلذة كبدنا أي أن غسان كنفاني هو من اكتشفه واكتشف شعراء الأرض المحتلة وأحمد بهاء الدين هو من احتضنه وهذا يبثت كذب إدعاء الكاتب الراحل رجاء النقاش في أحد كتبه التي ذكر فيها أنه هو من اكتشف محمود درويش، والذي يدعو للانزعاج أن درويش نفسه قد أكد هذه المعلومة الخاطئة حينما بعث بورقة تأبين لرجاء حينما توفي في فبراير الماضي.
وتتابع: أنا أعرف محمود درويش قبل نكسة 1967 من خلال اللقاءات الثقافية التي كان يجريها غسان كنفاني في لبنان، وحينما جاء درويش إلي مصر كنت أعمل في «جريدة المصور» التي كان أحمد بهاء الدين يرأس تحريرها، وقتها أخبرت درويش برغبتي في أن أصطحبه ليري القاهرة الحقيقية بدلا من القاهرة التي يراها من خلال جلوسه في «شبرد» وكان ذلك في مطلع عام 1971، وأذكر وقتها أنه قال إن القاهرة هي أول بلد عربي تطأها قدمه، وفي الجولة اصطحبته وعبد الرحمن الأبنودي لرؤية شارع الغورية وقد أخذنا صورة فوتوغرافية هناك كما أخذ درويش صورة فوتوغرافية مع مدبولي حينما كان صاحب فرشة كتب وصحف بميدان طلعت حرب، وكان حينها يتصفح أحد دواوينه، وكان صغيرا في السن وغير متأنق، كما كان ضئيلا في الحجم وبعد ذلك كتبت عنه مقالة في «المصور» جاءت بعنوان مقطع من قصيدة ترجع لبدايات كتاباته في الشعر وهو «قال للناس حوله كل شيء سوي الندم».
وتشير بذاكرته اليقظة إلي أن أصدقاءه قد أجروا له شقة في الزمالك بـ 80 جنيها، وكان ذلك مبلغا ضخما في هذا الوقت، لكن بعد ثورة التصحيح في 15 مايو 1971، وبعدما ترك أحمد بهاء الدين دار الهلال كان لازم درويش يمشي لأنه لم يعد مرتاحا فالمقال الذي كان يكتبه لـ «المصور» أسبوعيا توقف بمغادرة أحمد بهاء الدين للهلال، لقد كنا أصدقاء في بداية حياته في مصر لكننا لم نعد كذلك بعد هذه الفترة لأنه مكانش ينفع تبقي صداقة دائمة لوجود اختلافات كثيرة بيننا في الأخلاق والسلوكيات والعادات، وكمان لأنه ترك مصر، فانقطعت الصلة به، خاصة أنه مكنش فيه الخيط الذي يجعلنا متصلين.
وعن مصير الخلاف معه تقول: مرة أتي إلي مصر منذ عشر سنوات، ليقيم أمسية شعرية بالجامعة الأمريكية، وقتها ذهبت رغم اعتراضي علي هذه الأطر، وطربت لطريقة إلقائه الشعر، لكنني لم أتحمس له، لأنني لا أحب هذا الشعر الجديد الذي ابتدعه ، أشعر أنه لم يكن قويا فيه، مثلما كان قويا في شعر الإيقاع الذي يحتوي علي التحدي المباشر، وهو نفسه اعترف بهذا عندما قال «أنا أريد أن يتم تقييمي علي أنني شاعر وليس مقاوما، وأعتقد أن الناس اللي بتهلل له في كل مكان مش فاهمة حاجة.
عندما رأيته في هذه الأمسية الشعرية، كانت المرة الأولي منذ عام 1971، أي أكثر من 20 سنة، وقد قام بزيارتي بعد الأمسية مع صديقته مني أنيس ، رحبت به وأخبرني أنه قد أجهد من عملية جراحية في القلب، كان قد أجراها منذ فترة، كما ذكرني بالأغنية العراقية » شيمالي ولي» التي اعتدت أن أغنيها حينما كان بمصر، أي عام 1971 وتبادلنا في الزيارة كلام طيب خامل، لأننا لم نكن علي استعداد لأن يستفز أحدنا الآخر.
لقد كان هذا آخر لقاء هادئ وطيب بيني وبينه، فلم نحرص علي أن نري بعضنا بعده وحتي أنا لم أكن أهتم كثيرا بمعرفة أخباره من مني أنيس <

*******

غسان كنفاني
أول مقال نشر عن الشاعر الراحل
محمود درويش شاعر المقاومة الفلسطينية

هذا مقال نادر كتبه الروائي الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني في مجلة «المصور» التي تصدرها دار الهلال عن الشاعر الراحل محمود درويش ، وهو أول مقال نشر عن الشاعر في الصحافة المصرية علي الإطلاق إذ نشر في عدد 2/5/1967، وأتصور أن نشر هذا المقال من شأنه أن يعيد النظر في بعض المسلمات الشائعة في حياتنا النقدية التي تؤكد كلها أن الناقد الراحل الكبير رجاء النقاش كان أول من قدم درويش في مصر ، لكن الصحيح غير ذلك لأن كنفاني هو أول من قدمه لكن النقاش أول من كرس كتاباً كاملاً عن الشاعر الذي كان شاباً «آنذاك» ، وهو كتاب وضع الشاعر في سياق لاحقه بقية حياته حين ركز فيه علي سياق شعراء المقاومة في الأرض المحتلة، ولأن النقاش كان ذا رؤية ثاقبة فقد أدرك قبل الجميع المستقبل الذي كان ينتظر الشاب الذي قدمه في كتاب يمثل بحد ذاته علامة فارقة في مسيرة النقد العربي ومسيرة الشاعر الراحل.

بقلم: غسان كنفاني
يقدم شاعر المقاومة العربية في فلسطين المحتلة بطاقة هويته الشخصية لقرائه في قصيدة اسمها «بطاقة هوية»
سجِّل! أنا عربي
ورقمُ بطاقتي خمسونَ
وأطفالي ثمانيةٌ
وتاسعهُم.. سيأتي بعدَ صيف
فهلْ تغضبْ؟

إنها هوية كاملة، شديدة الوضوح والحسم، تضع أمام عين العدو والصديق كل شيء: ما فوق الجلد وما تحته، وقبل ذلك تضع أمام الشاعر نفسه التزامه الذاتي بالقضية الأولي، ويؤدي هذا كله إلي شيء نادر في تاريخ الشعر العربي: إن شاعر المقاومة محمود سليم درويش التزم «هويته» هذه التزاما صارما في كل ما كتب خلال السنوات العشر الصعبة التي مضت، ولم يضع هذا الالتزام قضية الشاعر العربي في مكانها الصحيح فقط، ولكنه أيضا برهن بصورة لم يستطعها إلا قلة من الشعراء العرب أن بين الالتزام بالنضال الوطني وبين الديماجوجية والخطابية الجوفاء مساحة شاسعة يستطيع الفنان الأصيل أن يحمل فيها لواء الريادة دون أن يختبئ وراء الالتزام علي حساب الفن ودون أن يتجر بالفن علي حساب الالتزام.
إن شاعر المقاومة في هويته يعطينا عصارة موقف مشدود إلي بعضه بصورة عضوية لا فكاك منها:
إنه عربي قلبا وقالبا، ثمرا و جذورا.
إن محمود درويش ينتسب حقا إلي هويته المعلنة، فهو عربي، جذرا وجذعا وثمارا، ولكن هذا الموقف، في ذاته، ليس كل شيء، وكي يصبح موقفا مناضلا وإيجابيا ينبغي أن يستولد نتائجه ويصعدها ويضعها أمامه ميدانا وسلاحا في وقت واحد.
وفي الواقع أن قدرة هذا الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين بعد، والذي عاش حوالي عشرين سنة تحت قمع الاغتصاب الصهيوني ووسط حصاره العسكري والسياسي والثقافي - هي في أنه استطاع أن يواجه شجاعة معني تمسكه المتكبر بعروبته، وأن ينقل موقفه من «الصمود» إلي الهجوم.
فكي تضحي عروبة المرء في ظل الاغتصاب الصهيوني، سلاحا فإن المحتوي الايجابي لها ينبغي أن يعلن ويمارس، وهكذا انتهي الشاعر
البطل إلي السجن لكن..
« لكن صوتي صاح يوما:

لا أهاب!
فلتجلدوه إذا استطعتم
واركضوا خلف الصدي
مادام يهتف: لا أهاب!»
ذلك أن الشاعر زرع بذرة الثورة.

ومن داخل السجن كتب أجوده شعره وأكثره عنفًا وتحديا :

ولأنه زرع البذرة فإنه أيضا أول
من:
يخيل لي أن بحر الرماد
سينبت بعدي
نببذا وقمحا»
فورا قفز الشاعر المقاوم من الحقيقة المحايدة إلي الالتزام بها.. من بديهية عروبته إلي نتائجها ومهماتها والتزاماتها، ذلك أن العروبة المغلوبة علي أمرها مثل البندقية المغلوبة علي أمرها: حشوها وحده، واليد التي تحملها وحدها هما فقط ما يعطيها معناها وانتسابها.
واختار الشاعر، ببساطة، باروده ومتراسه في وجه الهجوم الوحشي الذي تشنه الصهيونية علي الواقع و المستقبل والقيم العربية:
فهو عربي بمعني الأمة، وليس بمعني الاقليم.
وهو عربي بمعني الجماهير..
فاختار اليسار.
وهو عربي بمعني صاحب الرسالة، فاختار الكلمة المقدسة وعرف قيمتها وجعل منها سلاحا.
وهو عربي بمعني المقاتل فاختار الانتساب للمعركة وليس الاختباء وراء ستار الصخر».
وجعل ذلك كله، من محمود سليم درويش، الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين، مقاتلا حقيقيا في صف الثورة.. وقد دفع لذلك ثمنا غاليا برفض الاتجار به، فهو يعرف وراء أسوار الزنزانة التي كتب فيها أجود شعره أن الذاهبين إلي السجن هم:
«أسري محبتكم في الموكب الساري.. في اليوم، أكبر عاما في هوي وطني فعانقوني عناق الريح للنار»..
وهو يدرك قيمة هذه الشهادة الفريدة، ويعرف موطئ قدمه في تيار الجماهير الذي يندفع بصمت نحو الانتصار، ولذلك يقول لنا:
«ما كنت أول حامل الإكليل شوك لأقول للسمراء: ابكي!»
فثمة ما هو أكثر إنسانية من هذا:
الاستجداء الرخيص للشفقة:
«فعسي صليبي صهوة
والشوك فوق جبيني المنقوش
بالدم والندي
أكليل غار!»
لم ينبض الإنسان الحقيقي،
الحزين بقدر ما هو المفعم بالكبرياء:
«.. وعساي آخر من يقول:
أنا تشهيت الردي!»
إن هذا الالتزام الواعي يؤدي إلي شيء أساسي علي صعيد العمل الفني، يتوهج لأول مرة تقريبا في العمل الفني العربي الملتزم: إننا نادراً ما نحصل علي قصيدة «وطنية» لا تبدأ بشتم الشعر والكلام في مزايدة قميئة لعرض التزام غير أصيل،
ما قيل عن «الحبر الذي أهدر في الكلام والشعر» صرف من الحبر أكثر مما صرف الكلام والشعر، وذلك كله، من حيث لا يدري رافعو لوائه، ليس إلا إعلانا عن الإفلاس والمزايدة غير المسئولة.
إن الشاعر الدرويش، بسبب من التزامه الواعي والمسئول، يعرف قيمة الكلمة كسلاح، وهي ألا يتخلي عنه بأي ثمن في مهرجان للمزايدة ينتهي به، عمليا، إلي السقوط،
إنه يدرك عمق سلاحه ويحسن استعماله ويقدسه ويدفع ثمنه بكبرياء:
«المغني علي صليب الألم
جرحه ساطع كنجم
قال للناس حوله:
كل شيء سوي الندم!
هكذا مت واقفا
واقفا مت: كالشجر!»
لأنه:
وما يريده، وسط هذا العذاب الدامي المتصاعد نحو قمم لا نهاية لها هو فقط أن نضرم أواره أكثر فأكثر، وأن نعانقه «عناق الريح للنار» فهو يقسم:
«اطعمت للريح ابياتي وزخرفها
إن لم تكن كسيوف النار قافيتي
آمنت بالحرف: إما ميتا عدما
أو ناصبا لعدوي حبل مشنقة»
وهو لا يستطيع (ولا يريد) أن يفر
من الحقيقة.
غضبت يدي
«غضب فمي
ودماء أعصابي عصير من غضب
يا قارئي! لا ترج مني الهمس
لا ترج الطرب..
.. حسبي بأني غاضب
والنار أولها الغضب»
وفي النتيجة:
«لا غرفة التوقيف باقية
ولا زرد السلاسل!
نيرون مات، ولم تمت روما
بعينيها تقاتل!
وحبوب سنبلة تجف
ستملأ الوادي سنابل»
فهو عميق الإيمان بمواقعه:
«نعم! عرب
ولا نخجل
ونعرف كيف نمسك
قبضة المنجل
وكيف يقاوم الأعزل..
... ونكتب أجمل الأشعار!»
وما يريده:
«دعوني أكمل الإنشاد!
فإن هدية الأجداد للأحفاد
«زرعنا. فاحصدوا!»
والصوت يأتينا سمادا»
يغرق الصحراء بالمطر
ويعقد عاقر الشجر!»
إن هذا التقديس للكلمة، موازاتها
بقبضة المنجل وزندي الأعزل والأرض والمطر والشجر تنبع من التزام بمعركة
جبهات طولا وعرضا و عمقا، وهو تقديس لا يستطيع الوصول إليه إلا فنان أصيل حقيقي، فنان لا يجد فرقا بين الكلمة والطلقة:
ولأن محمود درويش فنان حقيقي فهو لا يحتال علي رسالته، إنه ينبذ اسطورة العبث حين يحس صليل السلاسل في لحم أمته، ولا يهرب إلي منافي الضجر والهزيمة فرارا من المواجهة الصعبة، وهكذا استطاع الدرويش أن يتجنب السقوط في فخ الثقافة الغربية المزيفة وصادراتها المخدرة، ويتجه إلي أولئلك الذين تطبق علي حناجرهم أسنان الفخ الثقافي الذي زرعه الغرب في مياديننا.
وهو يدرك عمق حزنه، وينتسب له ولكنه لا يجعل منه «مثلما فعل شعراء العرب في المنفي، سببا للتخلي وسببا للخطابية العالية والفارغة:
إنه التزام يسلحه الوعي الكامل لثمنه الباهظ:
«لا ترشي من مناديلك عطرا»
لست أصحو، لست اصحو
ودعي قلبي يبكي!
شوكة في القلب مازالت تغز
قطرات، قطرات.. لم يزل جرحي يئن
أين زر الورد؟
هل في الدم ورد؟
خبئي عن أذني هذي الخرافات الرتيبة
أنا أدري منك بالإنسان
بالأرض الخصيبة
لم أبع مهري
ولا رايات مأساتي الخضيبة
ولأني أحمل الصخر
وداء الحب، والشمس الغريبة
أنا أبكي!»
ويضعه هذا الموقف الطليعي في صلب الحقيقة، فهو يرفض كل أنواع التخلي لأنها هروب وجبن، إنه يرفض الاحتيال والأفيون مقابل المواجهة والعذاب وربما الموت:
«عبث» تخدر جرحك العربي
عربدة القناني..
عبثا تطوع يا كنار الليل
جامحة الأماني!
الريح في شفتيك
تهدم ما بنيت من الأغاني!
فعلام لا نغضب؟
مادام صوتك يا كنار الليل لا يطرب!»
ولا يستطيع أن يفهم - علي الاطلاق - ذلك التخلي الصفيق الذي يستبدل بالغضب الاستسلام:
«وحلفت لي: أني سعيد يا رفيق!
وقرأت فلسفة ابتسامات الرقيق:
الخمر والخضراء والسد الرشيق!
فإذا رأيت دمي بخمرك
كيف تشرب يا رفيق؟»
ويصل إلي قرار: «لمن أريد الموت مادامت علي الأرض قصائد، عيون لا تنام!»
لقد ولد الدرويش في الريف، ولذلك فإن انتسابه للجماهير المسحوقة أعطي شعره نكهة الثوري الحقيقي، إنه يمزج مزجا فذا بين الأرض والمرأة، وحين وجد أن عليه محاربة العدو لم يستطع، كمسئول، إلا أن يتجه للجماهير: إن رجال شعره فلاحون وأطفال يحملون البؤس والانسحاق بمقدار ما يحملون بندقية التحرير والثورة:
«تعالوا يا رفاق القيد والأحزان
كي نمشي
لأجمل ضفة نمشي
فلن نقهر
ولن نخسر
سوي النعش!»
وهو يخاطب الفلاحين:
«مازال في صحونكم بقية من العسل ردوا الذباب عن صحونكم
لتحفظوا العسل
.. مازال في موقدكم حطب وقهوة.. وحزمة من اللهب!»
إنه يعرف أنه لا قيمة للإنسان «إن نام كل ليلة جوعان» ويعرف:
«إنّا نحب الورد
لكنا نحب القمح أكثر
ونحب عطر الورد
لكن السنابل منه «أطهر»
ويصرخ، تلك الحقيقة الرائعة:
«هاتوا السياج من الصدور
من الصدور!
فكيف يكسر؟
اقبض علي عنق السنابل
مثلما عانقت خنجر..
ويؤدي هذا الموقف، مندمجا جميعه، إلي صيغة ثورية واحدة رأينا نموذجا منها في «هويته الشخصية» ويمتد إلي وعي أعمق بذلك الاتساق السيمفوني الذي انجز، أول ما انجز، الانسجام مع نفسه ومواقعه:
«لم أسر في هافانا من عرق الفقراء
لم أمس قلمي في جرح البؤساء
المحرومين
لم اقرأ أدب الشعراء الكوبيين
لكن، عندي عن كوبا أشياء وأشياء
فكلام الثورة نور يقرأ في كل لغات الناس
.. والراية في كوبا
يرفعها نفس الثائر في أوراس
وجذور الثورة مهما مدت أغصانا
تنبت من نفس المتراس
واللهب الأزرق والأحمر والأخضر
يبدأ من غضب واحد
فتدفأ!
واصنع لهباً آخر
يا شعبا يشعر بالبرد
وترمد! واختر أقرب لحد
يا من يبتاع الثورة بالورد!».
>>
يبدو أن محمود سليم درويش ولد في 1940 تقريبا، في قرية «البروة» في فلسطين المحتلة وهي واحدة من القري التي تعرضت لأقسي حملات القمع الصهيوني الدامية.
وحين حانت كارثة 1948 تمزقت عائلة الدرويش بين المنفي و«الاسر» في فلسطين المحتلة، وكان شاعرنا - آنذاك - في مطلع فتوته فتعرض مع عرب الأرض المحتلة إلي حصار ثقافي لا يوجد ما يماثله في التاريخ المعاصر.
لم يكن التعليم وحده نادرا فقط بل كان، حتي في حالة توفره، يخضع لخبث المؤامرة الصهيونية التي كانت ولاتزال تلح علي «تهويد العرب» بأي ثمن: لقد كانت المدارس القليلة تدرس عربية مشوهة، لغة وتاريخا وثقافة، وكانت المدن المحيطة بالقري قد انقلبت إلي مدن يهودية معادية لا يمكن أن تلعب الدور الذي تلعبه المدينة العربية، كنافذة ثقافية وحضارية للقري المتخلفة، وبالإضافة إلي ذلك كانت كل عناصر وجسور الاتصال مع الحركة الثقافية العربية في المتحدة ولبنان والأردن وسوريا وبقية البلدان العربية منسوفة تماما.
وسط هذه العزلة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وبالإضافة لحملات صهيونية يومية لغسل الدماغ العربي نشأ الشاعر الدرويشي مع مجموعة من الشعراء العرب في الأرض المحتلة، جلهم من الشباب، ليحملوا معا مشعل المقاومة المشرف.
إن الدرويش ورفاقه هم نموذج علني يدل علي فشل المؤامرة الصهيونية وأصالة الشعب العربي وانتساباته العميقة، فبالإضافة إلي أن شعر هذه المجموعة من الشعراء الشباب كان إرهاصا لحركة تحرير لابد أن تولد، ورفضا قاطعا للقيم الصهيونية، وفضحا يوميا للمؤامرة، وحربا شعواء علي الاغتصاب فإنه - أيضا - جاء في مستوي فني مدهش لا يقل تسارع خطواته الصاعدة عن تسارع خطوات الشعر العربي المعاصر، وليس متخلفا أبدا من ناحية فنية - إن لم نقل إنه متفوق - عن هذا الشعر.
إن محمود درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو حورب فيها برزقه أولا ثم أبعد عن قريته ثم وضع في السجن ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفا وتحديا <

************

في حوار وثيقة مع «نيويورك تايمز»: الشعر أكبر فضيحة في حياتي

ترجمة: علا الساكت

«قصة عشق بين شاعر وأرضه تحت هذا العنوان في ديسمبر 2001.. حاورت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية الشاعر الراحل محمود درويش، بمناسبة حصوله علي جائزة "مؤسسة لانان" الأمريكية لنفس العام.. الجائزة التي أسست في 1999 لتكريم المدافعين عن حقوق الإنسان في العالم والمناضلين من أجل حرية الفكر والتعبير. في هذا الحوار حكي درويش عن حياته ورؤيته للعالم، وتحدث عن قضيته وأشعاره فإلي نص الحوار.
بدأ محاوره بسؤاله عن العودة إلي باريس، وأثر ذلك علي نفسه فأجاب: "تعطيني علي مستوي الشعر كثيرا، حيث تمنحني مساحة بيني وبين نفسي وبين كتاباتي وتسمح لي بأن أضع أسئلة أشعاري المحورية.
أيضا فقد كتبت الكثير من الشعر هنا في باريس، وتحررت من الكتابة السياسية المباشرة، كما أتممت معظم كتبي هناً.
> دعنا نتحدث عن جائزة مؤسسة لانان للحرية الفكرية ما كان رد فعلك صوبها؟
- تفاجأت كثيرا، وكنت في عمان، فاتصل بي السيد باتريك لانان رئيس المؤسسة، ليخبرني أني فزت بجائزة مؤسسة لم أسمع بها من قبل.
كان علي أن أعرف أكثر عن المؤسسة، وحينما اكتشفت أنها بريئة ونظيفة، سررت للغاية، ورأيت أن للجائزة قيماً أخري، فهي قادمة من الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم تترجم كتبي جيدا هناك، بالتالي لست معروفا للقارئ الأمريكي، وقد يسمح ذلك بتعريف الناس بما أمثله وأسعي لتوصيله.
> وأين تعيش الآن.. في رام الله أم عمان؟
- أعيش في رام الله، لكن عمان هي بوابتي إلي العالم، حيث إننا نعيش في حصار ولا يمكن أن أسافر عبر مطار تل أبيب. والموقف درامي حقا هناك، فكأننا نعيش في سجن كبير، لذلك من الوقت للوقت أذهب لعمان لكي أتنفس، وفي كل مرة أذهب فيها لعمان أحتاج لإذن إسرائيلي.
وفي رام الله نحن محاطون بحدود قاسية لا تتمتع بأي مرونة، والصعوبة الأكبر أننا لا نري ضوءا في آخر النفق المظلم الذي صرنا نعيش فيه. أصبحت قلة الأمل هي الأزمة، والموقف الاقتصادي من سيئ إلي أسوأ. ولا نري أي نهاية لدائرة الدم التي نعيش فيها.
> كنت في بيروت حين تم الاجتياح الاسرائيلي في 1982، وهو المشهد الذي تكرر أمامك مرتين تحت لواء آرييل شارون. فكيف تشعر حيال ذلك؟
- نعم، لكن السؤال ليس شخصياً بيني وبين شارون، ففي النهاية يستكمل بناء المستوطنات، ولا يستجاب لدعوات المجتمع الدولي بالانسحاب، ولا يعاد لنا حقنا، ثم يعودون في النهاية يطلبون منا السلام.
> قلت إنه من الصعب عليك أن تكتب شعرا في المواقف المتأزمة، كيف تبدو لك كتابة الشعر في رام الله؟
- أسأل نفسي هذا السؤال كل يوم. كتابة الشعر تحتاج إلي وقت للتفكير، حتي يتسني لك أن تري ما بعد الحاضر.
وأنا أحاول أن أكمل مشروعي الأدبي، وكأني لم أكن هناك. لكن الموقف في رام الله لا يعطيني مثل هذه الرفاهية. فدائما هناك توتر بين رغبتي في البحث عن جمالياتي وضميري كمواطن. لا أدري ما قد تكون النتيجة، رغم أني أعتقد أن الشعر وليد التوتر.
وهنا لا يعني التوتر الاحتلال فقط، بل أنا أتحدث عن توتر آخر، فأن تكون تحت النار كل يوم، وأن تري نفس جرائم القتل كل يوم، كل هذه الأشياء ليست مصدراً جيداً لاستلهام الشعر.
بالإضافة إلي أني لا أستطيع أن أختار واقعي، وهذا هو سؤال الأدب الفلسطيني كله، فنحن لا يمكننا تحرير أنفسنا من اللحظة التاريخية.
> كيف تري المفارقة بين كونك أبرز رموز شعر المقاومة ثم بعد ذلك اتجاهك إلي كتابة أقل مباشرة حول القضية الفلسطينية؟
- العلاقة بيني وبين القراء علاقة شيقة، فقرائي دائما يشكون أن عملي الجديد أقل وضوحاً وغير مفهوم. وعندما أقترب أكثر لما يمكن أن يسمي شعرا خالصا، يريدون مني أن أعود كما كنت. لكني تعلمت أنه يمكنني أن آخذ قارئي معي إذا وثق في.
لذلك فأنا أشعر بأني محظوظ لأن لدي مثل هذه الثقة، التي أستطيع أن أصنع من خلالها حداثتي، وأمارس ألعابي الخاصة علي القارئ، إذا ما كنت صادقا. ولأني صادق مع قرائي فهم يتبعونني. ثم من هو القارئ؟ أري أنك كل يوم تفقد قارئاً قديما وتكتسب قارئاً جديداً.
> حول وصفك طوال الوقت بـ«شاعر القضية الفلسطينية»، هل تشعر أن ذلك عبء؟
- نعم هو عبء، حين يعجز الشاعر عن تطوير معانيه وموضوعاته الإنسانية. وفي هذا المجال لا يوجد سوي موضوعين أدبيين هما: الإنسان والحرية.
وإذا كنت تعلم كيف تقتحم اللحظة الحاضرة، وتذيب الواقع مع الخيال، يمكنك أن تمنع شعرك من الوقوع في فخ الحقيقة المجردة. لأن أصعب ما في الأمر أن تنجو من فخ الحاضر، فالحاضر سريع للغاية. وبمجرد أن تقول الحاضر يصبح ماضيا.
> لديك استعارات متميزة حتي إن القراء، خصوصا الفلسطينيين منهم يرددونها باستمرار، وعلي سبيل المثال ما كتبته عن أمك التي تخبز لك وتعد لك القهوة في السجن، هل كانت أمك حقا؟
- أعاني طوال الوقت من هذه التفسيرات، فأحيانا أشعر أني أقرأ قبل أن أكتب، بالتالي يتوقع مني قارئي شيئا معيناً، لكني أكتب كشاعر، وفي شعري المرأة هي المرأة، والأم أم والبحر بحر.
لكن العديد من القراء ربطوا الأشياء بأمور أخري، وكأن كل ما أكتبه رموز. لذلك عندما أكتب شعرا عن الحب، يعتقدون أن هذا عن فلسطين. من ناحية هذا لطيف لكنه في النهاية يحبس كتاباتي في جانب واحد.
> شعرك يعج بالموسيقية فهل تسمع موسيقي حين تكتب؟
- نعم أسمع الموسيقي الكلاسيكية، وعزف البيانو أو الجيتار. فأنا أحب أن أضع كلماتي علي موسيقي، وهذا يساعدني في رفع أو خفض حرارتي، لأني حين أكتب شعراً يجب ألا أكون ساخنا جدا أو بارداً جدا للغاية.
لا يسعني أن أمتدح أشعاري، لكني لست خجلا من أن أقول "أنا واحد من أهم الشعراء الموسيقيين في العالم العربي، وأنا فخور بهذا الجانب من أعمالي". ولست من مشجعي الشعر النثري، وهو موجة شائعة بين الشعراء الشباب العرب اليوم.
> كتبت في "ذاكرة للنسيان" أن الشعر هو فضيحة حياتي، وحياتي هي فضيحة الشعر". ماذا قصدت؟
- قصدت أن الشعر لا يخفي شخصيتي الداخلية، ويعرض علي الناس قربا شديدا مني، واعترافاً كاملاً لذلك فإذا كان عندي أسرار ستفضح كلها.
أما لماذا أصبحت حياتي فضيحة الشعر فذلك لأني حين أكتب الأشعار علي أن أذهب وفق ما كتبته قبل ذلك طوال الوقت.
> دعنا نتحدث عن حياتك، ولدت قبل هزيمة 1948 بعامين، فهل تذكر شيئا؟
- نعم كانت قريتي صغيرة، وكان فيها سهل في المقدمة وكانت هناك سهول مفتوحة مليئة بشجر الزيتون، كان مكان هادئاً وجميلاً للغاية.
> وهل تذكر رحلتك مع عائلتك للبنان؟
- كنا نائمين وأيقظني والدي، وكانوا فزعين للغاية، وهربنا عبر أشجار الزيتون. لم أكن أفهم أي شيء وقتها، لكني لن أنسي أبدا القمر في هذه الليلة، كان قمرا كاملا، ويظهر لي بين الجبال والوديان.
تركنا كل شيء في بيتنا لأننا توقعنا أن نعود قريبا، وقيل لنا بعدها إن الوادي غرق في بحر الجنود الإسرائيليين، ثم دمر الوادي كاملا. وحين عدنا في العام التالي وجدنا أرضنا استبدلت بمستوطنتين، واحدة ليهودي يمني والثانية ليهودي أوروبي.
> كيف أثرت فيك النشأة في مخيم للاجئين؟
- كانت صدمتي الأولي حين أصبح الأولاد في لبنان ينادونني باللاجئ، ويسخرون مني، فبدأت أستوعب معناها. وبالمثل كان الأولاد في الجليلي، وكنا نُعرف ونُرفض لأننا لاجئون. وهذا أشعرني بلذاعة الوضع، ولا أدري إذا ما كنت قد تحررت منه حتي الآن أم لا.
صدمتي الثانية كانت عندما استوعبت أني أيضا غريب في بلدي، فحين عدنا، عشنا تحت لواء حكومة عسكرية تحكم بقوانين طوارئ، ولم يتوقف ذلك إلا في 1965، ولم نكن قادرين علي السفر من قريتنا دون إذن عسكري، وكأننا في سجن. لذلك فقد أدركت أننا لم نكن مواطنين حقيقيين، كنا مجرد سكان، نعم هناك ديمقراطية في إسرائيل لكنها لليهود فقط.
> سجنت عدة مرات ، بم اتهمت؟
- لم يقولوا لي أبدا لماذا سجنت، فكان لهم حق سجني دون إعطاء أسباب. ولم أحظ بسبب إلا لمرة واحدة، حيث كنت مدعواًً للحديث في الجامعة العبرية في القدس، وقد طلبت إذنا بذلك، ولم أتلق أي رد. فافترضت أني علي الذهاب، وذهبت وفي اليوم التالي، اعتقلت في حيفا، وسجنت شهرين.
> التحقت بالحزب الشيوعي في عمر صغير. ما الذي جذبك فيه؟
- لم يكن خيارا أيديولوجياً. لكن الحزب يدافع عن حقوق العرب ويدعو إلي التعايش بين العرب واليهود.
> كانت تربطك معرفة شخصية بإيميل حبيبي فما الذي افتقدته في غيابه؟
- بالطبع أعرفه، وبفضله أمكنني زيارة "جليلي" بعد خمس سنوات من المرة الأولي التي غادرت فيها إسرائيل.
وأذكر أن لي قصة أود أن أحكيها، كان هناك منتج أفلام إسرائيلي يعد لفيلم، وأراد أن يناقش نقاط الاتفاق والاختلاف بيني وبين حبيبي، واتفقنا أن تكون المناقشة في حيفا. وقبل الموعد بثلاثة أيام استخرجت الإذن اللازم، لكني حين أخبرت أن حبيبي مات في الليلة السابقة. وقد سألتني العائلة أن أقول قصيدة فيه. وبصعوبة شديدة تماسكت من الانهيار، لكن عينَّي دمعتا كثيرا، وذهبت إلي الجنازة وقلت "ربما التاريخ حديدي، وربما لم يكن المكان يسعنا نحن الاثنين، وقلت إن غيابه أعطاني القدرة علي أن أتواجد، لكني لا أدري من فينا الذي غاب الآن أنا أم هو. إيميل حبيبي كان ساخرا كبيرا، غادر المسرح دون أن يلق بنكته الأخيرة

************

درويش في رؤية إسرائيلي ناقد للصهيونية
تأسيس الذاكرة الجمعية الفلسطينية

كتب: أحمد زكي عثمان

في عام 2003 شارك إيلان بابيه - الأكاديمي الإسرائيلي الشهير - في تقديم إسهام نظري حول الاستراتيجيات المختلفة لكل من الفلسطينيين والإسرائيليين في بناء ذاكرة جمعية صلبة يمكن أن تساهم في بناء شرعية بقاء هذا الطرف أو ذاك علي حساب الآخر.
في هذا الوقت كان بابيه يحاول (المحاولة الأخيرة)، لرأب الصدع بين النقيضين (الفلسطيني والإسرائيلي)، قبل أن يدرك أن سجالاته هذه لم ولن تكون واقعا ملموسا في ظل عملية النفي والإقصاء الإسرائيلي للوجود الفلسطيني.
في إسهامه النظري هذا، الذي نشر كبحث طويل نسبيا في مجلة أكاديمية بريطانية هي (النظرية والثقافة والمجتمع)، أشار بابيه إلي الدور المركزي الذي لعبه الشاعر الراحل محمود درويش في تشكيل الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
فحسب بابيه فإن درويش قد أدرك أن وجود إسرائيل ذاته محكوم بشكل أساسي بتدمير الذاكرة الجمعية الفلسطينية، وأن عملية التدمير هذه بمثابة العامل الأساسي في بناء إسرائيل "كدولة".
وبناء علي هذا الإدراك صاغ درويش مشروعاً وطنياً مناوئا لـ "الذاكرة الجمعية الإسرائيلية"، تلعب فيه "المقاومة"، دورا حتميا، ومن أجل إنجاح شكل هذه المقاومة حاول الشاعر الفلسطيني الراحل التعامل مع سياسات العنف الإسرائيلية سواء العنف المباشر (القتل، التشريد، الاعتقالات، التهجير، الاستيطان)، أو العنف الرمزي (رفرفة العلم الإسرائيلي علي أرض فلسطين).
أشكال العنف هذه هي التي تعطي المعني للمقاومة، فعند درويش "هم يسرقون الآن جلدك/فاحذر ملامحهم ….. وغمدك/واضرب عدوك .. لا مفر "(مديح الظل العالي 1983). والسرقة هنا تحيل إلي أن تشكيل الهوية الجمعية لإسرائيل جاء من خلال تدمير الهوية الفلسطينية بالاحتلال، والقمع، وكذلك قطع روابط الفلسطينيين عن المكان العربي والتاريخ.
هناك عند درويش مقوم آخر للذاكرة الجمعية الفلسطينية، وهو مقوم جدلي بالفعل، فحسب الأكاديمي الإسرائيلي (المرتد عن صهيونيته) فإنه (أي درويش)، كان من فئة الكتاب والأدباء الفلسطينيين الذين انحازوا إلي خيار إمكانية استغلال المحرقة النازية ليهود القارة الأوروبية كمدخل لتأسيس الذاكرة الجمعية الفلسطينية.
درويش حسب بابيه لم يدخل في أي صدام حول مدي حقيقة المحارق النازية لليهود، فلم ينكرها، ولم يجادل حولها، إلا أنه استغل حقيقة أن الهولوكوست شر إنساني مطلق (كما فعل عزمي بشارة)،وشهد التاريخ الحديث تصميم محرقتين في أقل من عقد من الزمان، كانت الأولي في أوائل الأربعينيات حتي منتصفه ضد اليهود، والثانية بدأت في أواخر الأربعينيات، ولم تنته حتي الآن وهي نكبة الشعب الفلسطيني.
كان درويش يماهي بين المعاناة الفلسطينية منذ النكبة ومعاناة اليهود في محارق الحرب العالمية الثانية، وكان يسأل نفس أسئلة الشاعر، والكاتب الفلسطيني "المتوكل طه"، تقريبا التي وجهها إلي اليهودي الناجي من المحرقة الذي فضل الذهاب إلي فلسطين مستعمرا. أسئلة المتوكل التي كتبها في أواخر الثمانينيات تمثلت في أن سنوات مضت كان فيها والد مستوطن ما من اليهود يذبح في جيتوهات وارسو،وكان هذا المستوطن يعاني المرارة جراء اغتصاب اختك في معتقل أوشفيتز، ومن هذه المقدمات يصل المتوكل إلي السؤال الأهم إذا كانت هذه هي قصتك (أي اليهودي)، فكيف يمكن لك أن تبني "أوشفيتز جديد" بحرق الأطفال وطرد السكان الفلسطينيين؟ يحيل بابيه إلي مقال كتبه درويش ونشر بالعبرية في عام 1987 بعنوان "هوية مكان" ليؤكد نظرة درويش للهوية والوجود والذاكرة الفلسطينية. الفلسطيني لا يمكن أن يعرف هكذا في المطلق، يحتاج تعريفه إلي رصد علاقته بقضية الأرض والاحتلال، تأكيد رفضه لأن يكون المحتل الإسرائيلي هو صاحب اليد الطولي ومقرر مصير الضحايا.
النقطة اللافتة التي يشير إليها بابيه في حديثه عن الذاكرة الجمعية "الإسرائيلية ونقيضتها الفلسطينية" تكمن في أنه وخلافا لموقف درويش المعترف بالمحرقة النازية، إلا أن قيادات وأنصار الحركة الصهيونية حاولوا بكل جهد السيطرة بالقوة والقهر علي كل مفردات الذاكرة التي أضحت لاحقا الذاكرة الإسرائيلية، سواء من خلال القوانين أو مناهج التعليم التي تنكر "المحرقة الثانية" وتنفي أي مسئولية لإسرائيل عن معاناة الفلسطينيين <

************

محمود درويش.. الشعر الذي لن يموت

ياسين عدنان

المؤكد أن الكثيرين كانوا بانتظار محمود درويش في مسرح محمد الخامس بالرباط يوم 24 أكتوبر القادم، حيث كان من المفترض أن تجري وقائع حفل تسليم درع الأركانة للشاعر الكبير، وحيث كان من المتوقع أيضاً أن يعانق صاحب (سرير الغريبة) جمهوراً صديقاً جمعته به ألفة خاصة.
فمسرح محمد الخامس كان أحد الفضاءات الأثيرة لدي الشاعر الفلسطيني الراحل. هناك اعتاد أن يقرأ شعره كلما زار المغرب. أي منذ (غضبٌ فمي)، و(لابدَّ أن أرفض الموت) وغيرهما من (وعود العاصفة)، حتي قصائد دواوينه الأخيرة التي صار فيها درويش أكثر إصغاءً إلي الحياة وانشغالاً بالبحث في أشكال الكتابة. في مسرح محمد الخامس قرأ درويش لشباب اليسار الجديد الذي لم يكن يرضي عن الثورة الوطنية الديمقراطية بديلاً. ثم قرأ أمام أبنائهم وقد كبروا وصاروا طلبة في معاهد المسرح والسينما والتشكيل وكليات الطب والصيدلة، وأمام الآباء أيضاً وقد صاروا يجلسون أمامه مباشرة في الصفوف الأولي بربطات عنق وبذل تليق بمسئولياتهم الجديدة. الصداقة ضاربة في العمق إذن وكل طرف ظل يراقب تحوُّلات الآخر. ومسرح العاصمة العريق كان يتحفز لاستعادة عنفوانه بضمِّه نفس الوجوه القديمة إلي أخري جديدة ما دام الضيف المنتظر هو درويش.
في بداية التسعينيات، وبعد يوم نضالي ساخن، أوقفنا معركتنا داخل كلية العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط، ثم خرجنا فيما يشبه المظاهرة مشياً علي الأقدام باتجاه المسرح. كان درويش سيقرأ تلك الليلة. واعتبرنا حضور أمسيته ومُقاطعَته من حين لآخر بالشعارات تتويجاً مستحقاً ليومنا النضالي الحافل. لكننا وجدنا الباب شبه مغلق. أخبرَنا الحراس أن الدخول بالدعوات ثم إن قاعة مسرح محمد الخامس مكتظة عن آخرها. أُسقط في يد الرفاق. الشرطة تطوّق المكان. ونحن منهكون بسبب معركة كلية العلوم وقطع كل هذه المسافة سيراً علي الأقدام. الرفاق حائرون. بدأنا نقلب الأمر علي جميع أوجُهه. في تلك اللحظة ظهر درويش. كان قادماً للتوّ من فندق حسان القريب محفوفاً بشخصيات ثقافية وسياسية بارزة. حينها صرخ في وجهه أحد الرفاق: "نحن ممنوعون من الدخول يا درويش، لكننا سنحضر أمسيتك غصباً عن الجميع." فغمغم الشاعر الراحل مرتبكاً: "من حقكم الدخول. لكن باللين وبدون فوضي." أجابه رفيقنا الغاضب: "بل غصْباً وفوضي ورغم أنف الجميع. ألستَ القائل: حريتي فوضاي؟" هنا نظر إليه درويش بارتباكٍ داراهُ بابتسامة متضامنة وانسلَّ إلي الداخل. بدأ بعض الرفاق يرددون الشعارات في الخلف. ثم اشتدت حرارة المشهد. رجال الشرطة يتأهبون. نحن نسينا الشعر وانخرطنا في ترديد الشعارات مفكرين في مواجهة البوليس. في تلك اللحظة، جاء موظف ثخين يركض نحونا. صرخ في وجه الحراس: "افتحوا الأبواب فوراً ليدخل الجميع." فدخلنا وطبعاً أغْنَينا الأمسية بما جادت به القريحة من شعارات غاضبة. غضبٌ يدي. غضبٌ فمي. ودماء أوردتي عصيرٌ من غضب.
عزيزي محمود درويش، كنتُ سأحضر أمسية 24 أكتوبر. كنت سأصغي إلي قصيدتك الجديدة كالعادة بحبّ وتعلم وتقدير. كنت سأحتمي بشعرك من شعاراتٍ كثيراً ما خذلتنا وهي تبدِّل جلدها في منتصف الطريق. لكنك لن تأتي إلي الرباط. لن تقرأ قصيدتك. ولهذا السبب بالضبط، كل شجر الأركان في المغرب يبدو حزيناً. أهو الحدادُ إذن؟ أيها الشاعر الكبير، الأركانة علي الأقل استحقتك. وتستحق أن نهنئها بك. فقد نجحتْ فيما فشلت فيه نوبل. ثم إنك أيها الشاعر كنت علي الدوام أكبر من كلّ الجوائز، أعلي هامة وأكثر سموقاً.

بروكسل 9 أغسطس 2008

البديل - 13 اغسطس 2008

****

رؤية بمناسبة الرحيل

محمد بدوى
(مصر)

في آخر مرّة رأيت فيها محمود درويش عقب فوزه بجائزة الشعر في القاهرة منذ ما يقرب من عامين ، سألني عما دار في جلسات التحكيم الثلاث. أخبرته بأن تسعة أصوات من عشرة كانت من نصيبه، ثم أضفت ضاحكاً «ليس هذا إجماعا علي شاعريتك. إنه أيضا تصويت لصالح فلسطين. وقرد ضاحكاً أن هذا يثبت ما فكر فيه ، ثم استخدم كلمة عامية يصعب نشرها وهي عموما تشير إلي "التواطؤ" ».

منذ بداية رحلته كان محمود درويش حسن الحظ. فعلي عكس كثيرين من معلميه ومجايليه من شعراء التفعيلة والشعر الحر الكبار، وجد نفسه بمصادفات سعيدة في موضوع الاهتمام والرعاية. وكان ذكيا فوضع كل عناصر حظه الحسن في خدمة شعره وشعبه، حتي أنتج ظاهرة محمود درويش، أحد شعراء الحداثة الكبار، بل لعله كان ومعه سعدي يوسف، آخر شعراء التفعيلة، القادر علي أن يكتب شعراً، حتي لو اختلفت مع مفاهيمه ومنظوراته وطرائفه، إلا أنك لا تستطيع أن تنكره . كل ما تستطيع أن تقوله حين تكون واقفا في موضع مختلف، إن هذا شعر من منظور ما، لا تكتب مثله، لكنك تقدر علي لمس ما فيه من جدة وأصالة.

وهنا يمكن للقارئ أن يلحظ أن محمود درويش الذي تدرّب شعريا علي أيدي شعراء الشعر الحر، استطاع أن يطور إمكاناته، ليجيء شعره عن فلسطين مختلفاً عن شعر شعراء التفعيلة الذين مثلت لهم فلسطين التزاماً قومياً أو أخلاقيا لكنهم لم يطأوا أرضها ولم يدخلوا مع الإسرائيليين في تجربة واقعية ، تنزع عنهم أوهام الأيديولوجيا. وضعية الوجود في بقعة محددة وفي بيئة صراعية يومية ، جعلته يري ما لم يره شعراء كبار، مثل السياب وعبد الصبور وحجازي من الذين انحازوا إلي قضية فلسطين كل لسبب يخصه.

لا أعني طبعا أن درويش خرج علي تخوم شعر التفعيله فهو في النهاية ابن هذه الحركة الواسعة، تلقي تدريبه الشعري علي أيدي روادها، وأنبتت أثار من شعرهم في نسيج شعره، آثار لا تخطئها العين، لكنها مدرجة في سياق مختلف، وتعمل لصالح شعرية أخري، في هذه الشعرية الشاعر مغني الجماعة، عليه أن يحول ما رضعه منها إلي وقود يومي يشغل ماكينة الشعر. لقد تحدر منها، واختزل جوهرها، ومنحته شرف الحديث باسمها، وتحويل رؤاها للعالم وثقا! فتها إلي عمل من أعمال الجمال والسحر. بل لعل الجماعة تري في مبدعها، علي هذا النحو دليل فرادتها وتمايزها وحكمتها.

الشاعر يغني. إذن هو صوت يحدو ما يغنيه، ما يرفعه من معان إلي مستوي المطلق، وقد وجد درويش نفسه في القلب من جماعته المهددة المبعدة عن أرضها ، المدافعة عن الحق في الوجود ضد ما ينفيها ويسعي إلي اقتلاعها، ومن المفهوم في مثل هذا السياق أن يتحول الشعر إلي سلاح، أي أداة للمقاومة، والمصادفة أن درويش الماركسي اللينيني عضو الحزب الشيوعي ما إن طرق باب الشعر حتي بدت في الأفق إرهاصات المقاومة.

مع هذا كان شعر درويش برغم اختلافه الناتج عن شروطة وإمكاناته ابن شعر التفعيلة الثوري الإنشادي بمعجمه وبحور عروضه منتظمة الإيقاع، وابنه من حيث المفاهيم التي تجعله في النهاية حادي الجماعة ومغنيها، المبشر بغدها الإنساني، الراثي لشهدائها، ذلك بالغ الوضوح في اللغة الصلبة الحادة، قريبة المأتي حتي لو كانت مجازية، بل حتي حين تصل إلي الشعار، مثلما نري في صراخه الشعري «سجل أنا عربي» .

لكنه منح الشاعر فرصة تطوير رؤيته، ليحدق في فلسطين من خارجها وترفد تجربته بعناصر إغناء لاشك فيه، بدأت في القاهرة، حيث الوسط الأدبي وفيه رجال من أمثال لويس عوض وصلاح عبد الصبور ويوسف إدريس وعبد القادر القط.. إلخ، وانتقلت إلي بيروت، حيث اصطدم شعرياً بآثار وسلالة مجلة شعر. كان درويش في مصر ضيف سلطتها القوية، ولاشك أنه تمتع بمباهج وضعيته، لكن ذلك لم يصبه بالعمي الشعري عن «الجنود الغائبون وراقصات البطن والسياح» فضلاً عن أرقام النخيل وأسماء الأزقة والشوارع سابقاً أو لاحقاً، وجميع من ماتوا بداء الحب والبلهارسيا والبندقية. وكان في بيروت الفتي الذهبي لمنظمة التحرير، لكنه كان قادرا علي الإنصاف لمن يختلفون معه في أيديولوجيا الشعر.

«في محاولة رقم 7» طور درويش من مفاهيمه، أصبح يحذر الشعا، ويخشي ارتفاع الصوت، ويبحث عن كيمياء جديدة لا تتخلي عن «الغناء» الثوري الرومانسي التبشيري، الذي يغني النبل الإنساني علي نحو تقليدي، لكنها تزاوج بينه وبين السرد المكثف المحمي بالإيقاع، أقول تزاوج لأن الشعر برغم ما يخفيه مازال مزدوج الصوت، المقاطع الغنائية تنبثق من المقاطع المدورة طويلة الجمل ومن ثم خافتة «الإيقاع» لكنها بعد قليل تملك وجودها الخاص الازدواج نفسه تجده لدي شاعر آخر كبير هو أمل دنقل، ازدواج الخطاب الشعري، وازدواج الصوت المتكلم في القصيدة الذي يمكن لمسه حين نتأمل الص! وت «العا شق» و«الصوت السياسي» صوت الأنا وصوت الجماعة.

علي أي حال لم يعد درويش ابن قيم قصيدة التفعيلة لدي الرواد، بل تجلت آثار القاهرة وبيروت وصنعت إنجازات «الغموض» وقصيدة الموقف الدرامي في خدمة شعر الهوية، التي تراجعت فيه أصداء الرواد، لتبرز فيه أخوة شعرية تصله بشعراء مثل لوركا وبابلونيودا.

في هذا الشعر معجم لغوي أنيق، ومجاز يمزج العناصر، ويحسن اللعب بالرمز والقناع، وتكثر الضمائر برغم وضوح حدود الجمل، وتتبدي فلسطين فيه أرضا وامرأة معشوقة، إنه شعر هوية تجالد النفي والاقتلاع ومن ثم تتبدي كأنها مصقولة مزينة، حتي لو زينها الشاعر بما تخلت عنه هوية الآخر التي خانت إرثها، ومارست ضد هذه الهوية كل الممارسات التي مارسها أعداؤها لم تعد فلسطين ضحية بل الضحية- أيضا- هو جلادها الصهيوني الذي يحاكي فعل جلاديه.

لكن هذه الهوية ليست مهددة فقط من خارجها، بل من داخلها أيضا ومن هؤلاء الذين يرفعون شعاراتها ويتنادون بتحريرها وكان علي درويش أن يكتبها ويغنيها ويرفعها إلي مستوي الرمز لكن كان عليه أن يمارس ضدها ما يحميها من نفسها ومن أحبائها لم يصل الأمر به إلي حد نقص هذه الهوية، وتفكيكها وإنما وقف لدي توسيع المنظور، الذي يري به الأشياء وخصوصاً أن الشاعر كلما نما وعيه بمشروعه الشعري امتحنت هوية شعبه، تبدلت المواثيق بين نخبها وجماعاتها حتي وصلت إلي الاقتتال وفي هذه اللحظة حضر في الشعر ما كان جنيذياً من قبل، بل ما كان الشاعر المغني قليل الاحتفاء به أعني تفاصيل المادي والجسدي والشخصي بمطب الجسد ومأزق الكائن البشري بين قوسي الميلاد والموت وهو ما يتضح جليا في «الجوارية» وفي حضور تقاليد الشعرية العربية، وبخاصة شعر ما قبل الإسلام ومعلقاته، وشعر المتنبي الذي ربما تمزق بين سلطة الشعر وسلطة السياسة. كان درويش يسعي إلي «توسيع عالمه» إلي ما يشترك فيه الناس، ولذلك حضر العالم والإنسان، وزاحماً الوطن وأبناء الجلدة والثقافة وتراجع الرومانسي الثوري يبرر الشاعر صاحب مشروع شعري الذي يهضم كل شيء ويجتازه، ويخرجه ممهوراً باسمه وأسلوبه ولغته، ورؤيته للعالم. لم يعد درويش صوت قضية التحرر الوطني بمفاهيمها التي قد تخجل شعرياً من بروز الجسد وعطبه والموت ومخاوفه لكنه أصبح صوت القضية وقد صفيت من شوائبها

البديل - 20 اغسطس 2008