الفلسطينيون يودعون محمود درويشرام الله، عمان
في أجواء مشحونة بالكثير من الحزن والدموع، ودع الفلسطينيون الشاعر الكبير محمود درويش في رام الله حيث أُعدت له مراسم رسمية سبقت دفنه في تلة مطلة على القدس. وكان جثمان درويش نقل الى الاراضي الفلسطينية على متن طائرة عسكرية اردنية بعد مراسم وداع مؤثرة.
وفي رام الله، تجمع آلاف الفلسطينيين منذ ساعات الصباح بانتظار وصول نعش درويش. وجاءت والدته حورية (95 عاما) من قريتها الجديْدة في الجليل على كرسي متحرك لوداعه. وكان في استقبال النعش مسؤولون فلسطينيون على رأسهم الرئيس محمود عباس الذي قال، في كلمة امام جثمان درويش الذي سجي وسط قاعة في مقر الرئاسة قبل اداء صلاة الجنازة عليه: «جميعنا اليوم يودع نجماً احببناه الى درجة العشق».
ونقل الجثمان على عربة عسكرية الى قصر الثقافة الذي أُطلق عليه اسم قصر محمود درويش، قبل ان يدفن على تلة مشرفة على القصر. ورفع بعض المشيعين صور الشاعر الكبير واعلاما فلسطينية، فيما ارتدى بعضهم الآخر قمصانا عليها صور لدرويش وكلمات من قصائده.
وتلقى الرئيس عباس برقيات تعزية من عدد من زعماء العالم وشعرائه، وارسلت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس برقية تعزية جاء فيها: «كلي امل في ان يحل السلام، وان تقام الدولة الفلسطينية الزاهرة كما كان درويش تواقا لها».
فلسطين ودّعت شاعرها للمرة الأخيرة ... محمود درويش شاعر البصيرة النافذة

رفعت سلام
الحياة
4/08/2008

الراحل محمود درويش محمولاً على الأكف في الأردن (أ ف ب)

ترجل الشاعر عن القصيدة، على حين بغتة، ومضى في طريق الصمت، قبل أن يكمل الشوط. ما أدارت له ظهرها، مثلما تفعل أحياناً، ولا أشاح عنها؛ لكنه ترجل وارتجل النهاية، أو ارتجلته.
ذلك ما جرى.
وثمة قوس لم ينغلق، وقصيدة لم تكتمل، وصوت لم يكن استسلم بعد للصمت والسكون. وفيما ننتظر اكتمال القوس والقصيدة، جاء - بلا انتظار - الموت، ليضع نقطة أخيرةً ما، بعد رحلة شعرية امتدت لأكثر من أربعين عاماً متواصلة، بلا انقطاع.
رحلة تبدأ من «أوراق الزيتون» (1964) الذي يحمل طابع البدايات التقليدية، بما ينطوي عليه من أصداء شعراء سابقين، بلا خصوصية ذات بال. هو إشهار للشعر والشاعر معاً، لا أكثر. لكنها رحلة ليست مستقيمة، خطية، أفقية؛ بل تنطوي على التحولات الداخلية الجوهرية، في التوجه الشعري، بلا سكونية أو استنامة لمنجز تلك المرحلة أو تلك، كانعكاس للقلق الشعري، وتغير الأسئلة التي تطرحها الذات على القصيدة.
ومن «أوراق الزيتون» - أيضاً - تبدأ المرحلة الأولى في شعرية درويش، التي تمتد إلى دواوينه الآتية: «عاشق من فلسطين» (1966)، و «آخر الليل» (1967)، و «العصافير تموت في الجليل» (1969)، و «حبيبتي تنهض من نومها» (1970).
هي قصائد «المقاومة» بمعناها المباشر، الذي لا يستر تحريضيته (كانت البندقية مشرعةً في ذلك الحين - من جميع الفصائل - في اتجاه واحد، العدو، الذي كان محدداً بوضوح قاطع، بلا لبس أو مراوغة. وكان الهدف - أيضاً - محدداً، ويجمع عليه - على اختلاف التوجهات السياسية - الجميع: التحرير). فهي قصائد التوحد مع الفعل التحريري، أو هي الترجمة الشعرية للفعل، لتصبح بدورها فاعليةً إضافية تصب في الاتجاه نفسه.
هكذا، تصبح الأرض الحبيبة التي يغني لها الشاعر، قصيدةً وراء أخرى، الحبيبة الحلم، عصية المنال، التي تمتزج في ملامحها ملامح الأم والأب والأجداد، وجدران البيوت، والشوارع، والتلال، وأشجار الزيتون والتين والسنديان. امرأة تختصر التواريخ والأساطير والحيوات وأرواح الشهداء السابقين واللاحقين، من دون أن تحيط بها القصيدة، فتتوالى القصائد للإمساك بها في اللغة، من دون جدوى. وتصبح القصيدة «السياسية» قصيدة حب لا تنتهي، ولا تستنفد.
لكن العالم - في القصيدة - منقسم على ذاته، بصورة حدية قاطعة: المغتصب والمغتصب، لتتوالى - من ثم - الانقسامات الثنائية المتضادة، المتولدة من الانقسام الأصلي. انقسام ثنائي يتحول إلى ماهية للوجود، وعلة لانهيار الفرح والاكتمال الإنساني. والحدة والمباشرة هما طبيعة هذا الانقسام، الذي يمتد - في القصيدة - من الزمن البابلي إلى الزمن الفلسطيني. والعلاقة الوحيدة الممكنة - في ظل هذا الانقسام - علاقة مركبة، تنطوي - في آن - على القهر والاغتصاب والرفض والمقاومة. علاقة تقوم على العنف والقهر النابعين من فعل الاغتصاب الطاغي، من ناحية، والمقاومة، من ناحية أخرى. وليس من حل لنفي هذه العلاقة سوى نفي جذرها الأوّلي في وضع الاغتصاب ذاته، من خلال نفي المغتصب.
وباعتبارها المرحلة الشعرية الأولى، وطبيعتها «السياسية»، تتسم الأعمال بشفافية اللغة والصورة الشعرية، كتعبير عن وضوح «القضية» ودور القصيدة في تلك الحقبة. بل إن الرموز المستخدمة («أوديسيوس» و «اسكندرون» و «جوليان» و «ثيودراكيس» و «الفيتكونغ» و «بول روبسون» و «روما» و «بورسعيد» و «حبقوق» و «لوركا») تصبح ذات بعد واحد: البعد المقاوم والرافض للقهر والاغتصاب.
في هذه المرحلة أيضاً، يؤسس درويش لآليات التواصل مع المتلقي: انضباط الإيقاع التفعيلي البسيط على طول القصائد، وتواتر القافية (باعتبارها أداة ضبط عملية التلقي، سواء في القراءة أو الاستماع). هي السلاسة المشحونة بروح التحدي العالية، والتحريضية المباشرة، والإيقاع الرنان، في انتظام التفعيلات، وقصر الأبيات، والتزام القافية المتراوحة، والوقفات المتفاوتة، وتناوب صوتيات حرفية ولفظية خاصة، تحول القصيدة إلى اندفاعة صوتية عنيفة ومباشرة، تتجاوب مع حماسية المرحلة، وضرورات الإلقاء التقليدية. فالإيقاع فعالية تحريض وتواصل حماسي، منذ البيت الأول، حتى البيت الأخير، الذي تتصاعد فيه كل الطاقات، دافعةً على الحركة والفعل.
إنها تلك الملامح الشائعة في شعر تلك المرحلة، الذي يفترض «المنبرية» والتواصل مع «الجماهير». مرحلة أولى، قد يختلط فيها أحياناً صوت درويش وصياغاته ورموزه بصوت سميح القاسم وتوفيق زياد، رفيقيه في ما سمّي «شعر المقاومة».
لكن المرحلة الثانية ستشهد انتقالةً نوعيةً كبرى في النص الشعري لدى درويش، في «أحبك أو لا أحبك» (1972)، و «محاولة رقم 7» (1973)، و «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (1975)، و «أعراس» (1977). انتقالة إلى القصيدة كفعل شعري في ذاته، لا كتعبير عن فعل آخر.
هكذا تتجاوز القصيدة الثنائية الخارجية إلى مساءلة الذات والعالم، واستبطانهما في العمق الذي لا يدركه البصر، بل البصيرة. لا يصبح العالم واحداً (وإن كان منقسماً على ذاته)، بل متعدداً، ومتعدد الطبقات والأصوات. وبين الأبيض والأسود (السائدين في المرحلة السابقة)، يتجلى هنا «الرمادي» ليحتل باسمه قصيدةً كاملة، شارةً على التغير الجوهري في رؤية العالم. ومحل اليقين الثابت والنهائي، يأتي الشك ونقض البديهيات السابقة (في السابق: «وطني ليس حقيبة»، 1969؛ في هذه المرحلة: «وطني حقيبة/.../ وطني على كتفي»، (1983) والذات الحالمة تبدأ في التشكك في الحلم، والأرض ليست امرأة معشوقة، بل الأرض التي تواري قوافل الشهداء التي لا تنتهي.
تتبدد الثنائية القديمة في اكتشاف تعدد أبعاد الذات والعالم. ويتكشف العالم الداخلي الذاتي عن اختلاط الحلم واليأس وشهوة الحياة والموت والأسى والفرحة العابرة. وتتكشف الصورة الشعرية عن التناقض والمفارقة واختلاط مكوناتها، ليصبح كل شيء احتمالاً، لا يقيناً، وممكناً لا حتميّاً: «كانت صنوبرة تجعل الله أقرب/ وكانت صنوبرة تجعل الجرح كوكب/ وكانت صنوبرة تنجب الأنبياء»؛ «قالت مريّا: سأهديك غرفة نومي/ فقلت: سأهديك زنزانتي يا مريّا»؛ «في زمن الدّخان يضيء تفّاح المدينة/ تنزل الرّؤيا إلى الجدران»؛ «وأحضر من وراء الشّيء عبر الشّيء أحضر ملء قبلتها على مرأى من النّسيان». تفقد الصورة المباشرة إلى الإيحاء والإيماء والإشارة، وتصبح مهمتها لا بلورة موقف أو التحريض عليه، لكن المساهمة في خلق المناخ الكلي للقصيدة، المتعدد الألوان والظلال. وتتكاثف صوتيات القصيدة، مضيفةً إلى قدراتها تنويعات جديدة من الإيقاع النثري، والتدوير، والوحدات الموسيقية المركبة من تفعيلات مختلفة، في القصيدة الواحدة. تتوحد - في عالم القصيدة – الإيقاعات المرتفعة للأناشيد والتهاليل، والإيقاعات الخفيضة - النثرية أحياناً – للتأمل الداخلي والأحزان المراودة، والإيقاعات المتكسرة للتوتر المرتبك الباحث عن خلاص، والإيقاعات المنسابة الصريحة للصفاء الداخلي الشفيف. ولا تتتالى هذه التنويعات الإيقاعية وفقاً لمخطط محسوب، لكنها تتراكب متقدمةً وفقاً لحركة الشعور الداخلي وشكل اندفاعاته، وفقاً لحركة التداعي التي تحكم التتالي المعين للصور والأبيات والمقاطع، بحيث يصبح هذا التراكب والتتالي بلورةً شعريةً متحققةً للتراكب والتتالي والداخليين عند الشاعر.
لكن الشاعر ينقلب على منجزات هذه المرحلة الشعرية في «مديح الظل العالي»، (1993) الخطابية، الرنانة، التي تعيد تقسيم العالم إلى ثنائية جديدة: الفلسطيني في مقابل الآخرين جميعاً. ويتحول الشاعر - في القصيدة الديوان - إلى شاعر «القبيلة» الفلسطينية، الذي يرفعها بالمديح إلى حدود الأسطورة الخارقة، كقبيلة من أنبياء، ويصب الهجاء اللاذع على الآخرين الأعداء، المتواطئين، إلخ.
ولأنه محمود درويش - ببصيرته الشعرية النافذة - سينقلب على نفسه من جديد، ليصحح مساره الشعري، إلى الأعلى.
هكذا، يبدو «حصار لمدائح البحر» (1984) بوابة المرحلة الأخيرة. إنه تأمل للكارثة، ومساءلة أليمة للذات والوجود، بلا صخب («لا أدري، ولكن... ربّما... هيهات... قد.../ .../ أعرف أنّني لا أعرف السّرّ الدّفين/ وأنّني صفر اليدين وسائر الأعضاء»). ويمكن البيت الشعري أن يمتد إلى عشرة سطور، من دون انشغال بالتلقّي؛ وتخاصم الصورة الوعي المباشر، والفكرة الجاهزة، إلى مخاطبة اللاوعي وكشف الأسئلة الغائبة؛ والقافية تأتي حينما تأتي أو لا تأتي؛ والإيقاع يشبه البوح، لا الخطابة؛ إيقاع شبه سري، خافت، حيث النص ليس موجهاً – هنا - إلى «الجماهير»، بل إلى الذات المكلومة، الناجية بمعجزة من الطوفان.
وابتداءً من «هي أغنية... هي أغنية» (1986) تنفتح المرحلة الأخيرة على مصراعيها حتى قصيدته التي لم تكتمل: «سنخرج؛/ قلنا: سنخرج؛/ قلنا لكم: سوف نخرج منّا قليلاً، سنخرج منّا/ إلى هامشٍ أبيض نتأمّل معنى الدّخول ومعنى الخروج». إنها هي ذلك «الهامش الأبيض» لتأمل المعنى.
في هذه المرحلة، لا إجابات؛ بل أسئلة ومساءلات لا تنتهي. وتأتي الذاكرة - التي تتحرك في كل الاتجاهات - بتفاصيل الوقائع الدالة والأساطير الغابرة والتواريخ الهامشية، لتخضع كلها لإعادة النظر والتمحيص، كأنها تكتشف للمرة الأولى. ليس الوعي، بل اللاوعي. ومن موقع الراهن، تدور عين البصيرة 360 درجة، لتأتي بما لا يأتي، بلا تخطيط أو ترصد.
لكنها حركة الروح المهزومة في الأعماق، لاستعصاء الحلم، أو انكساره («من أنا؟ من أنا؟»). وفي مقابل رموز «المقاومة» في المرحلة الأولى، يستحضر درويش – هنا - أوديب، ويوسف النبي، والعشاء الأخير، والأندلس، والهندي الأحمر، وسوفوكليس، والعنقاء، وامرأ القيس، وسدوم، وجميل بثينة، ومجنون ليلى، والكاماسوترا، وطوق الحمامة. و «القضية» تذوب عضويّاً في الوضع الوجودي المأزوم للذات، فتتلاشى النبرة «السياسية» إلى الأعماق البعيدة، بلا إعلان أو شعار.
كأنها ترانيم خافتة، تهدهد بها الروح روحها، بلا أحد. أو كأن الروح تذكر نفسها بما لا يليق به النسيان، حتى لا يفلت منها الزمان والمكان. ويخفت الإيقاع إلى حدّ السرية؛ لا طنطنة ولا جلجلة. وتنفتح تفاصيل العالم وتواريخه وأساطيره أمام حركة الخيال «الحر» لتنتفي عن الصورة الشعرية طبيعتها السابقة كأداة، متحققة – هنا - في ذاتها كلبنة في بناء القصيدة، المستقلة عن اللحظة التاريخية العابرة.
لكن مرحلة واحدة لا تلغي ما سبقها. إنه الكل الذي أسسه وابتناه محمود درويش على مدى قرابة نصف القرن من الشعر. كلّ مترابط، متداخل، شكل أحد الوجوه المضيئة وبالغة الحيوية للشعرية العربية منذ نصف القرن الماضي.

*كاتب مصري

***

قصائد تفوح بروائح الأرض وعذاباتها

يوسف عبدالعزيز
الحياة
14/08/2008

أخيراً هدأ قلب الشاعر المريض بحب فلسطين والشعر، سكتت الكمنجات التي هبت على العالم بعواصف عظيمة متواصلة من الأغاني على مدار نصف قرن من عمر البشرية، أخيراً تركنا الشاعر الأجمل في منتصف الكارثة تماماً وغاب، وهو الذي كان قد حدد من قبل مواصفات قبره، قبر عادي كسائر القبور، بمترين من التراب: متر و75 سنتيمتراً لجسده، والبقية لزهر فوضوي اللون كما جاء في قصيدته المدهشة «جدارية».
شاعراً أعلى من زمانه كان، أكبر من مرحلته، وقد خانه كل شيء. حاول بكل ما أوتي من جسارة أن يعلي حائط الأمل، ويفتح عيوننا الضريرة على أفق الحرية العظيم، ولهذا راح يفخخ جسد الأرض بتلك القصائد العذبة الساحرة، ويرج كتفي العالم بقوة. يا لها من مهمة شاقة وعسيرة كانت ملقاة أمام الشاعر، فالصخرة السوداء الكبيرة كانت تتدحرج من أقصى العالم إلى أقصاه وتدمي جسده بمزيد من الحروب والحرائق، وكانت تطحن في طريقها الأخضر واليابس. ثمة نهايات مرة، وغروب كاسح كان يلوح في الأفق، أما العالم العربي فقد ارتمى مثل جثة هائلة مطروحة بجانب المتوسط، فقد انقصفت الثورات فيه، وانفتحت أبوابه لرياح الغزو مرةً ثانية، وأصبح يعيش من جديد تجليات عصر ملوك الطوائف! أما فلسطين الحبيبة التي نذر لها الشاعر عمره وشعره وأحلامه، وحملها معه في سفره الطويل المتواصل من بلد إلى بلد فقد شحبت شمسها، وتناوبتها السكاكين مجزرةً وراء مجزرة وسلاماً متسخاً وراء سلام متسخ آخر حتى وصلت حائط البؤس. يوماً وراء يوم راح الصهاينة يقضمون قلبها ويزرعون جسدها بالمستعمرات، أما الشعب الفلسطيني فقد دخل في هذه الأثناء في طقس غريب من الصراع دار بين قطبين: الثورة والثورة المضادة. كان هناك سدنة السلام الذين أصبحوا يتوسلون الفتات من عدوهم على موائد المفاوضات، وكان هناك المقهورون المتمردون على كل طروحات السلام الجوفاء. بين الطرفين اندلعت المواجهة إلى ما يشبه الحرب الأهلية! بهذا الشكل انمسخت القضية وتقزّمت، وانتقلت من قضية كبرى إلى فتات قضية تثير الشفقة لدى العالم الذي أصبح يقترح حلولاً لها على رأسها فتح معابر قطاع غزة وإدخال المحروقات!

يلقون التحية عند مغادرة الطوافة التي أقلت الجثمان الى رام الله (أ ف ب)
أهذا هو الوطن! أهذه هي فلسطين آخر الأمر! وما هو جدوى الشعر في مثل هذه الحالة! أسئلة غزيرة أصبحت تؤرق الشاعر محمود درويش الذي استقر أخيراً في (الوطن)، وتهرس بقوة قلبه الصغير. في رام الله حيث أقام درويش في السنوات الأخيرة، كان يشاهد الأعاجيب تحدث أمام عينيه، حيث يرى الصهاينة وهم لا يتورعون في دخول المدينة متى يشاءون من أجل قتل أو اعتقال من يريدون! الخروج من الوطن أو الدخول إليه كان لا يتم إلا من خلال الحواجز والانتظار الطويل! الذهاب إلى فلسطين المحتلة عام 1948، من أجل الزيارة أو قراءة الشعر كان لا يتم هو الآخر إلا بتصريح الحاكم العسكري، وهو نسخة مكررة عن التصريح القديم الذي كان يأخذه الشاعر في الستينات!
في مثل هذا الوقت العصيب الذي كان يشهد تشرذم القضية الفلسطينية وغروبها المتتابع كان درويش يمسك بدفة الشعر بكل ما أوتي من قوة، ويسير به في تلك الشعاب النائية الخطرة، مقترحاً جماليات جديدة، وهاجماً بضراوة ذلك الخواء الذي أخذ يضرب عصب الشعر. لقد تنازل عن اللقب الذي توج به من قبل قرائه ونقاده على حد سواء حين سموه بشاعر المقاومة، لقد وضع المدائح جانباً، وصوب نظره على شيء مختلف تماماً. كان هذا الشيء يتصل بمفهوم الشعر كمعنى ورؤيا، ليس باعتباره أي الشعر شعاراً أو ملحقاً صغيراً في كتاب السياسي، بل باعتباره ركناً أساسياً في الحياة، وإضافة حضارية من إضافات الشعب الفلسطيني والأمة العربية. في أحد الحوارات المجراة معه يسأله المحاور وكأنما ليقع على جواب مدو: لماذا تكتب الشعر؟ فيرد عليه درويش بأعصاب هادئة قائلاً: أكتب الشعر من أجل أن أكتب الشعر.
هنا يمكننا أن نسقط على ملمحين أساسيين من ملامح القصيدة الدرويشية: الملمح الأول ويتصل ببنية هذه القصيدة التي زاوج من خلالها درويش بين روح الشعر العربي وروح الحداثة الشعرية في العالم. الملمح الثاني ويتصل بشعر درويش الصعب الممزوج بالسحر، وبتلك الروائح التي تسكر القارئ، والذي استطاع درويش أن يقدم من خلاله فلسطين إلى العالم. على صعيد الملمح الأول نجد أن درويش قد استطاع أن يلخص الثيمات الأساسية والجماليات التي تتميز بها الشعرية العربية منذ عصورها الأولى حتى اليوم، وأن يخرج علينا بقصيدة ذات أنفاس عربية عابقة بالغنائية والطقوسية والإنشاد، وكما أخذ من الشعر الجاهلي عبارته الشرسة المتورطة بأسئلة الوجود، أخذ من المتصوفة اغتباطهم بالعالم في ذروة تجلي الذات الشاعرة. عند المتنبي توقف درويش طويلاً، وأخذ عنه روحه العلوية، فروسيته، وقلقه الأقصى الذي كان يتلبسه في كتابة الشعر. لقد وجد أن هناك من الشبه الشيء الكثير بينه وبين المتنبي، مع افتراقات في الأهداف المنشودة. بالمقابل كان لاطلاع درويش على الشعر في العالم دور كبير في تطعيم قصيدته بمناخات وأساليب جديدة في الكتابة، كان مفتوناً بلوركا ونيرودا على وجه الخصوص، الأول أخذ عنه حذقه الهائل في بناء الصورة الشعرية، والثاني أخذ عنه أمميته وشعره الصادح بأكثر من حنجرة.
على صعيد الملمح الثاني نجد أن درويش كان مهجوساً طوال الوقت بالمزج بين فن القصيدة العالي وبين الرغبة في الوصول إلى القارئ. وذلك على عكس ما كان شائعاً عند الشعراء جميعاً والذين تلخص همهم إما بكتابة شعر مباشر هو في حقيقة الأمر صدى لمشاغل السياسي وإما بتطليق العلاقة مع الجمهور في شكل نهائي والكتابة من موقع الشاعر الرائي الذي يستشرف المستقبل. بالنسبة الى درويش فقد وعى هذا الجانب بعمق، في الأمسيات التي كان يحييها أمام جمهوره العظيم كثيراً ما كان يسمح لنفسه في البداية بقراءة بعض القصائد التي يطلبها الناس، كان يقول لهم بعد ذلك الآن جاء دوري لأقرأ عليكم ما أريد أنا، حيث يفاجئ الحضور بقصائده الجديدة الصعبة التي تطرح جماليتها المختلفة. مسألة أخرى تتعلق بطبيعة شعره الذي يدور باستمرار في فلك الحلم الفلسطيني، والتنويعات الكثيرة التي كان الشاعر يتناول بها هذا الحلم. بما يشبه الأسطورة ظل شعره يصب في قلب فلسطين من دون أن يفقد عنصر الجمال والمغامرة. من هنا استطاع درويش أن يصنع له دون سائر الشعراء ذلك الجمهور العريض المتعدد، القادم من شرائح سياسية واجتماعية متعددة.
مات الشاعر الكبير ولم تمت أسطورته، مات وهو في أوج توهجه، مات وترك مكانه فارغاً. بدمع غزير اسمح لنا أن نبكيك يا حبيبنا اليوم وفي قادم السنوات، أن نبكي شعرك العظيم الطالع كشمس الأبدية على هذه الكهوف والقيعان، وأن نبكي قلبك الصغير الذي مات من شدة الحب.

* شاعر فلسطيني

***

الذات في مرآة الوجود

ماجد السامرائي
الحياة
14/08/2008

هل كان كل ذلك الاقتراب من الذات ووضعها أمام مرآة الوجود، أو رؤية الوجود في مرآتها، في أعمال محمود درويش الأخيرة، تعبيراً عن حالة اقتراب من الموت أحسها الشاعر واستشعرها، موقناً أن الإنسان حين يواجه الموت إنما يواجهه وحيداً، أعزل إلاّ من ذاته وكلماته؟
وهل كان محمود درويش في ما قال وكتب عن حالات اقتراب كبير من الذات إنما كان يعبر عن روح المواجهة عنده لما كان يجده يتقدم نحوه، وإن بخطى بطيئة، ولكن واثقة، فيراه حاملاً له الكفن الأبيض، فيلتف به على نفسه ليحلم أكثر وأوسع من تلك المساحة المفتوحة له في هذا الزمان الضيق، ويشد يديه أكثر على حلمه، مخاطباً الحياة التي وجدها، في لحظة المواجهة هذه، تحتاج من الكلمات ما هو أكثر مما قال، ومن الرؤى ما هو أوسع وأكبر لتطويقها وحراستها من هذا القادم الغريب الذي يترصد لحظة الفتك به؟
وهل كان محمود درويش في ما كتب في السنوات العشر الأخيرة، على وجه التحديد - سنوات المواجهة مع هذا القادم الغريب الذي اخترق عالمه في غفلة منه - طارقاً أبواب الرؤيا، ومدركاً أن ما انفتحت أمام رؤياه من أبواب الذات على الذات والوجود كانت كافية (أو تصورها كذلك) لأن يرى الحياة على سعتها في الداخل/ من الداخل بعد كثرت رؤيته لها وتعددت في الخارج/ ومن الخارج، يوم كان منشغلاً بهذا الخارج في مدى ما عاش من سنين سبقت هذه المواجهة؟
وهل كان محمود درويش وهو يتأمل نفسه «في حضرة الغياب»، ومن خلال تأملاته في أبعاد الغياب ومعانيه ودلالاته، إنما كان يكتب ذاته و «يوثّق» هذه الذات في لحظة وقوفها على الحد الفاصل، كنصل السيف، بين «قوة الذات» و «هشاشة الواقع» الذي وجده، في لحظة المواجهة، يتفتت أمامه على نحو غير متوقع، فحاول، أمام هذا، أن يتماسك ذاتاً، وأن يكتب هذه الذات وهو يقف في حضرة الغياب: بحثاً عن الأعلى في الوجود، وتعبيراً باللغة الأعلى حضوراً، بما تمنحه هذه «الذات» موقعاً له؟ هل كانت هذه كلها هي دواعي انسحابه، في أعماله الأخيرة، الى نفسه للوقوف معها - بمعنى القدرة الذاتية على الاستمرار، ومواجهة ما ندعوه «محو التاريخ للأثر»، وتأكيد القدرة، قدرته هو، على أن يكون في زمن لم يعد له فيه الكثير ليكون هو، بذاته ومن ذاته، الشيء الكثير والكبير، ولكن لنفسه في هذه المرة؟ وقد أدرك الفرق بين أن تعرف الأشياء وتدركها وجوداً وحركة، وبين أن «تعرّفها»... ففي الحالة الأولى أنت تكتشف، وتعبّر عما تكتشفه، فتجد للكلام لذة.
وعلى مثل هذا المسار الذي اتخذ وجد نفسه، شعرياً، يحتمي بشيئين: الذات واللغة... وباللغة أقام الكثير من صور الذات يوم صارت تتراجع الى ذاتها، يوم أصبح القول عنده هو ما تقوله هذه الذات في لحظة إحساسها بالوجود الذي لم يكن يرسم أمامه من الصور إلاّ صورة الغياب، ليغرق في هذه «العلاقة الجديدة» التي قادت خطاه الى... الموت - وكان يدرك ذلك. وها نحن نفقد بغيابه آخر الشعراء الكبار في شعر اليوم... اليوم الذي ندرك فيه أن الفراغ الذي أحدثه غيابه فراغ فسيح لا يغطيه كل ما تبقى لدينا من شعر.

* كاتب عراقي

***

المترحل الذي استقر أخيراً

فوزية أبو خالد
الحياة
14/08/2008

بحبر دموعي الحرى وبالنحت في دمي المتجمد على صمامات قلبي، دعني أقول ليس دقيقاً القول «رحل محمود درويش». فالأقرب أن محمود درويش المبتلى بعضال الأمل المفتون برفيف الأجنحة المتمرس في شراسة الترحال، قد عاش طوال حياته القصيرة مرتحلاً. وربما قرر أخيراً الاستقرار على رغم أنف الاحتلال. عله كعادة شعره يخلق بإبداعه ما يخل بالمستتب والمستبد من خلل الجمال واختلال العدل. ليضع بقصيدة موته الأخيرة حداً لاقتتال الأخوة. وليكتب بخلوده حياة جديدة لريتا ولفلسطين معاً.
أما نحن عشاق جنيات شعره وأصدقاء أطيافه المتثنية السامقة, من الولهى بكمنجات الغجر التي لن يكف عن إطلاق نوافيرها على أحلامنا، فلنا أن نشاركه قهوة حورية ولا نكتفي بالحنين إلى عصافير الجليل، علنا نجترح القيافة في «أثر الفراشة».
صديق سادس أو سابع يغدر بنا ويغادرنا على حين غرة. لم تشف جروحي بعد ولم أسترد أنفاسي من ذهاب عبدالعزيز المشري وممدوح عدوان وأمل جراح وإدوارد سعيد وفاطمة موسى وهشام الشرابي وفدوى طوقان. فكيف طاوع محمود درويش قلبه كيف قبل حسه المرهف أن يرمينا في هذه اللحظة الفادحة من الخسارات بهذا الزلزال ويذهب. لا أكاد أصدق كأنه يلعب معنا أو كأنه يعود بعد قليل بقصيدة جديدة. وليس لي إلى تلك اللحظة إلا أن لا أقول وداعاً لشاعر لا يموت وأن أخذته غفوة.

* شاعرة سعودية.

***

طعنة الكلمات الأخيرة

علي الدميني
الحياة
14/08/2008

نحّى الغياب صورة أحد أعظم شعراء العربية عن ظهر الحصان
وتركنا من دونه «وحيدين». أخذ الغياب ظلاله الحية وغادر في لحظة مباغتة تشبه طعنة الكلمات الأخيرة.
لكن محمود درويش ما زال حياً بيننا و «في مكان ما» كما يقول، ودائماً.
في التجربة الأكثر فرادة في زمن القصيدة المعاصرة، التي كان كل نص فيها يدفع قوس التجديد والتجاوز الشعري إلى فضاءات غير مأهولة من قبل... وفي العشق الأنيق للمعنى البعيد والبسيط... والغامض والمدهش... الغنائي حتى الجذور والمتأمل حتى حدود الفيض والحكمة واللفتة الشفيفة. نحّى الغياب شاعر العربية الأضخم في كل العصور، الشاعر الأكثر احتفاءً وولعاً بالكلمة، الكلمة المرتبطة بشيء غامض لا يفصح عنه إلا ما تخبرنا عنه القصيدة فهو معنى وجودي في ثياب زفاف عدة وملونة...
يشبه ما يفصح عنه وجود الفرد على وحشة الأرض، أو وجود الوطن على فراغ الخريطة، أو ضرورة وجود الإنسان على مساحة من حوار الكون مع» آخره «حتى وإن كان عدواً... من أجل بيت أقل بشاعة وقهراً في هذا العراء الكوني الفسيح، من أجل أزمنة أقل دمامة ومكارثية. ولذا غنّى منذ زمن مبكر «سجّل أنا عربي» كما غنى في زمن آخر «بين عيني وريتا بندقية»!
نحّى الغياب جسد القصيدة عن خشبة المسرح إلى ما وراء ظلال الجدار، ولكن إيقاع القصيدة، ولفتاتها الفاتنة، وما تحمله من أيقونات ورموز لليقين تبقى محفورة في مفردات مكوناتنا الجمالية صافية ورقراقة، هادية إلى طريق رهافة الشعر وصدقه، وظلاله المنغرسة بشراسة، في طفولة الروح التي ستظل منصتة لذلك الكون الجمالي الذي خلّده المتن «الدرويش»، أو ما يمكن أن نستعير له قول أحد الأجداد «معجز محمود درويش».

* شاعر سعودي

***

محمود درويش على شاشة التلفزيون المغربي... صوت هادئ ونظرة نحو أعالي الجبال الشعرية

الدار البيضاء
نور الدين محقق

أعلنت القناة التلفزيونية الثانية يوم 9/8/2008، نبأ وفاة الشاعر محمود درويش في نشرة أخبارها، ثم قدمت مقتطفاً صغيراً من حوار سابق أجري معه قناة الثانية نفسها، بدا فيه الشاعر الكبير وهو يتحدث عن شعره بكثير من الألق والبعد الجمالي الذي عرف به ليس في هذا الحوار فحسب، بل في معظم حواراته التلفزيونية التي أجريت معه في مختلف التلفزيونات العربية الأخرى. والشاعر محمود درويش كان يزور المغرب، كلما وجهت إليه الدعوة، وكان يقدم قراءاته الشعرية وسط جمهور مغربي غفير يسعى لمشاهدته ومتابعة هذه القراءات الشعرية الباذخة، المملوءة بكثير من الوهج الشعري العميق. كما كان يتم في الغالب، بالمناسبة، إجراء حوارات تلفزيونية معه تبث بعد ذلك، في التلفزيون المغربي، وتحظى بالمشاهدة المتميزة، شأن كل الحوارات التلفزيونية التي يقدمها محمود درويش، باعتباره شاعراً عربياً كبيراً، وباعتبار أن أشعاره يعرفها الجمهور المغربي والعربي، بل يكاد يحفظها عن ظهر قلب، خصوصاً تلك التي تمت عملية غنائها من لدن الفنان مارسيل خليفة، مثل «أحن إلى خبز أمي» و «ريتا» وسواهما من القصائد الذائعة الصيت.
ومن بين أهم الحوارات التلفزيونية التي أجريت معه في المغرب، الحوار التلفزيوني المهم الذي أجراه معه الكاتب والإعلامي المغربي عبدالصمد بن الشريف للقناة التلفزيونية المغربية الثانية، بمناسبة عقد المؤتمر السادس عشر لاتحاد كتاب عام 2005، حيث قدم الشاعر محمود درويش أمسية شعرية ناجحة في مسرح محمد الخامس في مدينة الرباط، حضرها جمهور غفير من المثقفين المغاربة ومن عشاق شعره الرائع، الذي يحسن عملية قراءته في شكل مدهش، بحيث يتحول هذا الشعر وهو يقرأه إلى شعر أسطوري موغل في الجمالية التي لا تضاهى. وقد أعلن الشاعر الكبير في هذا الحوار الذي تم تقديمه للمرة الأولى في التلفزيون المغربي/ القناة الثانية، يوم 5/3/2005، في برنامج «ضيف خاص»، وأعيد تقديمه لمناسبة رحيله الأحد الفائت، أن له علاقة خاصة مع جمهور الشعر في المغرب، وأنه يرتاح كثيراً وهو يقرأ لهذا الجمهور، لا سيما في مسرح محمد الخامس بالذات. وفي سؤال حول علاقة الجمالي والإنساني في شعره، أجاب محمود درويش: «من حسن حظي أنني عودت قارئي أنني لا أكرر ما قرأت سابقاً، ولا أكرر النفس الشعري القديم الحماسي أو المباشر أو غيره من الوصفات التي لم تعد تتفق مع جمالية الشعر. ومن حسن حظي أكثر أنني كسبت ثقة القارئ، فأصبح راضياً عما أقدمه له من جديد. بل بالعكس، إنه يتوقع مني أن أقدم له جديداً، لا أن أكرر القراءات القديمة أو الأشعار التي كان يحبها. هذه الثقة التي أعطاني إياها القارئ سمحت لي بتطوير أدواتي الشعرية وبالبحث عن تطوير جماليات القصيدة، وبالتالي أصبح القارئ أحد نقادي الذين ساعدوني على التطور. وأنا، كذلك، ساعدت القارئ كي يتحرر من ذائقة شعرية ما نحو ذائقة شعرية أرقى، تكون فيها العلاقة بين الجمالي والإنساني علاقة أكثر انسجاماً من الشعر المباشر أو الشعر السياسي الخطابي».
وفي سؤال آخر حول علاقة الشاعر محمود درويش بالوقت وبعمره تحديداً، أجاب الشاعر وكأنه يتنبأ بما سيأتي قائلاً: «عمري، الآن، يدعوني لأن أنتبه للوقت، ويذكّرني بأنني ضيعت الكثير من الوقت في زمن الشباب. لذلك، أنا حريص كثيراً على ألا أضيّع وقتاً آخر. انا عندما لا أعمل أشعر بإحباط شديد، وأشعر بأنني أضفت إلى خسائري خسارة جديدة، فهذا العمر يعلّمني أن أقسّم الوقت بدقة وأن أنتج وأعمل أكثر، لأن المستقبل لم يبق أمامي طويلاً، بقيت لي بعض سنوات...».
لقد امتد الحوار منذ البداية حتى النهاية، شاملاً أموراً متعددة تربط بين ما هو شعري فني وما هو حياتي وواقعي، وقد كانت إجابات محمود درويش تقدم بطريقة بارعة، على مستوى الأفكار وعلى مستوى الصورة التلفزيونية، التي أحسن الشاعر بهدوئه وبابتساماته الواثقة، وثقته بنفسه وبشاعريته الكبيرة أن يوصلها إلى المشاهد الذي تابع حواره التلفزيوني البديع هذا، وهي مسألة فنية عرف بها الشاعر محمود درويش في كل حواراته التي أجراها في التلفزيونات العربية. ذلك أنه كان من ضمن أهم الشعراء العرب الكبار الذين أحسنوا التعامل مع الصورة التلفزيونية، واستطاعوا أن يحافظوا على صورتهم الرمزية بل أن يضيفوا إليها ألقاً مضاعفاً وهم يخوضون غمارها ويلجون إلى سحرها، بل إن حتى حديثه عن التلفزيون في آخر هذا الحوار الشيق والممتع، بين أهمية هذا الجهاز السحري وضرورة توظيفه في خدمة الثقافة المتنورة .
وهكذا كما استطاع الشاعر الكبير محمود درويش أن يخلف مجموعة من الأعمال الشعرية الكبيرة التي جعلت منه أحد أهم شعراء العالم في هذا العصر، استطاع كذلك أن يخلف وراءه مجموعة من الحوارات التلفزيونية التي خلدت صورته الشعرية الكبيرة وهو يجيب عن أسئلة محاوريه شرقاً وغرباً، ببساطته العميقة وبطريقته الذكية التي تجعل من السؤال المطروح عليه فرصة لتقديم إجابة غاية في الدقة وبعد النظر ليس عن هذا السؤال فحسب، وإنما حول الشعر ذاته باعتباره حديقته الفنية الأولى وحول الحياة أيضاً.

الحياة
12/08/2008