الخليج- الاحد 17-8-2008
عاد عوليس إلى إيثاكة..
عاد محمود درويش إلى فلسطين، وهو من كان يقول “الطريق الى البيت أجمل من البيت” لأن الطريق هي المسافة المؤدية أخيراً إلى البيت، وخلالها، خلال هذه الطريق ستكون صورة البيت هي امتلاء العائد إلى مكانه الأخير.
عاد محمود درويش الى تلة صغيرة مطلة على القدس، بعد رحلة عوليسية طويلة لم يكن البحر فقط هو مسارها نحو البيت، بل كان أيضاً مساراً من الصحراء واليابسة والهجرات والمنافي والمدن.. المدن التي خرج منها درويش مع رفاقه الفلسطينيين إما عنوة أو طرداً أو نزوحاً أو تهجيراً في شاحنات تتدلى منها مفاتيح البيوت، أو في بواخر مرشوشة بالزهر وربما الدم، أو في طائرات كثيراً ما كان ركابها ينتظرون طويلاً في صالات الترانزيت لكي يتم التدقيق في خلايا أجسادهم وكريات دمهم لئلا يكونوا قد هرّبوا في أجسادهم بعض الجمرات الخبيثة أو جينات الإرهاب.
هكذا، يختلف عوليس إثاكة عن عوليس الفلسطيني الذي كانت طريقه أطول وما زالت أطول، وكانت حروبه أسطورية أحياناً وكانت تراجيديته تستعير شيئاً من الملهاة والكوميديا السوداء والبيضاء أيضاً.
يرقد محمود درويش أخيراً في مقام الورد والعشب والتراب، سيكون على ضريحه الكثير من الياسمين والنرجس وزهر اللوز وشقائق النعمان، فكل وردة لها رمزيتها في “التراجيكوميديا” الفلسطينية.. سيحنو عليه الزيتون ويفوح من تراب ضريحه أريج الزعتر والبرتقال، وهي العائلة الفلسطينية الأخرى الطالعة من إحدى ضلوع كنعان القديم.
يرقد هذه المرة، وفي طمأنينة كاملة، من دون حاجة إلى أمر من أحد ليفتح له “معبراً” أو “شقاً” في رخام القبر، ليتاح له السفر أو العلاج أو النزهة.
يرقد هذه المرة، في سلام أخير مع ذاته القلقة والمركّبة من مزاجية شاعر كانت زيارته قصيرة حتى لو عاش 67 عاماً أمضاها في تحليل دم الشعر وطرد الكريات الفاسدة من هذا الدم لتكون القصيدة خفيفة وأنيقة ونظيفة مثل قطرة الندى.
يرقد عوليس الفلسطيني الذي تعرّف إليه شعبه كله منذ وصوله الى “إيثاكاه”، ولذلك، انخرط هذا الشعب كله في البكاء وهو يلتف حول جنازة الميت فيها أكثر من واحد.. محمود الشاعر، محمود المثقف، محمود الحيوي والحياتي أبعد من حدّ، محمود السياسي، محمود الجمالي، محمود السخرية، محمود الحدّة والنزق والمزاج، محمود الصديق، محمود الأنيق، محمود الوحيد، محمود الغريب، محمود المهاجر، محمود النازح، محمود المنفي، محمود العائد نصف العودة، محمود العائد كل العودة.
وصل عوليس الفلسطيني الى وطن لا هو وطن بالكامل، ولا هو دولة بالكامل، ولا هو سلطة بالكامل، ولا هو ثورة بالكامل، ولا هو ثروة بالكامل.. وصل في توقيت فلسطيني مزدوج ومضطرب، فقد كانت الساعة الواحدة ظهراً في رام الله تشير الى الثانية ظهراً في غزة، وكان العلم الفلسطيني لحظة وصوله لا يرفرف كجناح العصفور على عادته، ذلك أن الرياح التي كانت تهبّ من رام الله تأخذ قماش العلم إلى جهة، وكانت الرياح التي تهبّ من غزة تأخذ العلم الى جهة أخرى، فأخذ درويش يبتسم وهو نائم، لأن مفارقة الرياح على هذا النحو هي موضوع شعري بامتياز، ولكن، يا للأسف كان الشاعر قد تناول حبة اسبرين وتخلص من صداعه، ونام، والنائمون لا يكتبون الشعر.
بكلمة.. ارتاح عوليس درويش..
ارتاح من قدرة الحبل المطاطي على هذا الذكاء في التمدد والابتعاد بين مدينتين كان يريد أن يعصرهما في قصيدة واحدة يشربها ويستريح.
ارتاح محمود درويش من مهارة البوليس على الحدود وفي المطارات من التحديق كثيراً في صورته وملامحه.. لكي يسمح له بتنفس الهواء في مكان آخر أو زمان آخر..
ارتاح محمود درويش من النميمة، ومن أولئك الذين كانوا يستعجلون موته لكي يركبوا في قارب الشعر وحدهم.. القارب الهيمان الذي له والذي لا يغرق.. من دون أن يعرف هؤلاء أن السفن والمراكب وحتى الدواب عندما تزيد حمولتها عن اللازم إما أن تغرق أو تغرز في الطين.
ارتاح درويش من الوجه “الإسرائيلي” المتكرر في بوز الطائرة وفي بوز البندقية.. ارتاح من الوجه الأمريكي المواظب على الإطلالة العاجلة في خبر عاجل في تلفزيون عاجل..
ارتاح درويش.. قبل أن يصحو ذات يوم من نومه في الضّحى، ليجد قطرة دم في كأس مائه وفنجان قهوته، وعندما يذهب هناك ليقرأ الجريدة فيما إذا كانت هناك حرب أخرى.. يتأكد أن هناك حرباً أخرى، وحصاراً آخر، واحتلالاً آخر، ومصطلحاً آخر، ودولة أخرى تنضم الى هيئة الأمم تندد هي الأخرى بهذا الفلسطيني المقيم في بلاد بالقرب من البحر الأبيض المتوسط وتتسبب في إشعال النار في المنطقة.
ارتاح محمود درويش من بلاغة المحلل السياسي الكاذبة، ومن أدوات الناقد الأدبي الصدئة، ومن قصيدة الشعر العرجاء، ومن الموسيقا المحقونة بالكيروسين، ومن الغناء المعكوس إلى سأم وغثيان، ومن السياسة التي تُنظِّر إلى قواعدها الراقصة الشرقية، ومن الاقتصاد المغسول بالديتول، ومن الأكاديمي الذي يعتبر حرف “الدال” أهم من اسم جدّه.. ومن الباحث الذي يُكثر من التثاؤب، ومن التربوي الذي يضع الكرباج دائماً في جيبه ويخطئ في الإعراب.
ارتاح درويش من “الثوري” الذي صار سمساراً، ومن الفدائي الذي يتذمر من الشهداء لأنهم يفسدون السلام في المنطقة ويعكّرون صفو المفاوضات “الفائضة” عن الحاجة.
نتحدث في غياب درويش أو في حضرة غيابه على هذا النحو “القاسي” لأن اللحظة التاريخية التي انسحب فيها درويش من حضوره إلى غيابه تستأهل هذه “القسوة”.. القسوة اليومية الجبروتية الماكرة والمدمرة والمؤذية في جوانب من صورتنا العربية الراهنة، وكان هو الذي يجفل من هذه الصورة ويسخر منها ويتجنب الغرق في تحليلها “السياسي” كما يفعل بعض الصحافيين العرب خصوصاً من كتّاب الأعمدة..
كان درويش يعاين “الحالة الفلسطينية” في شعره تحديداً، لأن شعره هو سلاحه الوحيد الأول والأخير.. وكان يسمي الحالة الفلسطينية “حالة الاحتضار الطويلة”، وإننا هنا، لا نبتعد عن الصواب إذا قلنا، كما كان يقول درويش، إن البلاء إذا دبّ أولاً في الجسد الفلسطيني، فمن الطبيعي، أن نجد أعراضه في الجسد العربي.
بالشعر والنثر.. حقق درويش مكانته ومكانه وكينونته وشخصيته ذات الأبعاد العالمية.. أي أنه كان شاعراً مستقلاً بكل معنى الكلمة فلم يغرق في منصب ولا في أي نوع من القيادة، كما ولم يغرق في أي نوع من البيروقراطية المؤسساتية.. تجنب الاقتراب مما يمكن أن يأخذه من شعره، لأنه كان يعرف أن أي غرق في مثل هذا الماء الآسن، إنما، سيجعله جزءاً من “حالة الاحتضار الفلسطينية” التي نبّه إليها منذ أكثر من عشرين عاماً.. وهي للأسف تتوضح الآن في فلسطين.. ولأنه شاعر بالغ الحذر وذكي التوقع كان محسوداً على هذه الاستقلالية، وهذا النأي بنفسه عن انقسامات السياسة.. الأمر الذي وقع فيه العديد من المثقفين الفلسطينيين وبعض العرب أيضاً.
في ضوء ذلك.. وعلى السطح، تبدو حياة درويش.. باذخة، أرستقراطية، أنيقة، وجانحة الى عزلة شخصية “استمتاعية”.. هذا على السطح، ولكن، رغم كل ذلك في حياة درويش إذا كان صحيحاً ودقيقاً.. فإن الرجل، كان يخبئ في قلبه حزناً يغطي العالم كله. كان بذخه قشرة تغلف قلقه، وكانت أرستقراطيته خدعة من السراب ويكمن وراءها كائن ملتهب في روح وجودية معلّقة دوماً بما هو تأملي لما بعد الأشياء والكائنات والظواهر والحالات الإنسانية والفكرية والثقافية الماثلة في محيطه العربي، وفي العالم.
كان نزقاً، وأحياناً لا يسيطر على توتره وانفعاله ورغبته في الغياب عن كل شيء.. وأعتقد أن هذه الطبيعة البشرية التي كان درويش مطبوعاً عليها بالكامل.. هي ليست طبيعة أولئك الأرستقراطيين والباذخين وهانئي البال.
كانت قصيدته تعذّبه.
وكانت بلاده تعذّبه.. لأنها في قبضة الاحتلال.. كانت الثقافة تعذبه والسياسة تعذبه، والكذب يعذبه، والنفاق يعذبه والنميمة تعذبه.. وهي وغيرها كلها كانت كفيلة أن تفسد عليه ما يسمى بذخه أو أرستقراطيته أو أناقته التي هذه الأخيرة أيضاً لم تسلم من الجَلْد بالسياط، وكأن شاعراً في وسامته ووسامة جملته الشعرية من الممنوع عليه أن يرتدي ربطة عنق.
هكذا.. إذن.
كان محمود درويش مريضاً.. طيلة الفترة الماضية، وهو يكزّ على أسنانه ولم يصرّح بذلك على نحو إعلامي.. بل كان يسخر ويضحك.. كان يقول: “عقلي يؤلف الشعر وجسدي يؤلف الكوليسترول”..
كان المريض الأنيق الممازح الصامت والخجول أيضاً.. وعندما ذهب الى مستشفى في هيوستن اتصل بأحد أصدقائه في عمان وأخبره أنه ذاهب لإجراء فحص روتيني.. وهو عائد بعد أيام.. ولكن اتضح في ما بعد أن درويش كان يعرف أن من سيعود ليس محمود درويش الذي يعرفه في ذاته منذ 67 عاماً.. ذهب رابط الجأش قوياً، وحيداً، وعاد في كفن، من دون أن يعتذر عما فعل، ولذلك، شكّل رحيله مثل هذه المفاجأة البالغة للشعب الفلسطيني الذي بكى في جنازته وأبكى معه العالم.
الآن..
لتصخب البحار كما تشاء، لتذهب الرياح في أية جهة تشاء.. لتبدأ الحرب أو تنتهي الحرب، ليبدأ السلام أو ينتهي السلام.. فالشاعر نائم في حضرة البرتقال والزعتر، ومن حقه أن ينام بهدوء، فالذي عليه تجاه شعبه ووطنه كان قد أدّاه بكل أمانة ودقة.
كتب شعراً هو وريثه، كما هو كان وريث الشعر، وتركه مفتوحاً بلا نهاية ليكمل الشعراء بعده القصيدة في مثل هذه البطولة.
********
أسَّس قصيدة صعبة ممتنعة وغاب مغطىً بأوراق الزيتون
محمود درويش في الذاكرة الثقافية العربية
كل كلام على محمود درويش في غيابه المفاجئ المرير.. وفي هذه اللحظة بالذات التي لم يجف بعد الماء على تراب قبره، كما لم تجف بعد دموع الشعب الفلسطيني والعربي والعالمي على صاحب “لماذا تركت الحصان وحيداً” و”سرير الغريبة” وغيرهما من إبداعات استثنائية في تاريخ الشعر العربي المعاصر.. كل كلام في هذه اللحظة إنما يشرق بملوحة الدمع.. غيابه كان مباغتاً، تماماً مثل قصيدته المباغتة.. القصيدة التي كانت تطير من عاصمة الى عاصمة، ومن صحيفة الى صحيفة ومن جلسة ثقافية هنا الى جلسة ثقافية هناك، هذه القصيدة الحدث.. والرجّة، والهزّة أو الرنين
الجمالي الأخّاذ كانت هي حياته.. نصّ حياته.. دافع عنها باستقلالية لا تخلو من كبرياء.. ذلك أن الشعر في بعض معانيه هو الكبرياء، الشعر، أيضاً، هو بطولة، وعلى هذا المعيار كان محمود درويش بطل زمانه، وكوكب زمانه، وإن كان بعيداً عن ذلك يلوذ في ذاته بذلك الخجل الذي كان يأخذه الى نوع من عزلة خصوصية جداً.. كأنما هي ذاتها العزلة التي تحتاجها القصيدة قبل أن يحتاجها درويش.
هنا، شعراء عرب توافدت شهاداتهم واستعاداتهم و”دموعهم” على الملحق الثقافي في “الخليج” الذي كان طيلة سنوات نجومية درويش منبراً سريع التفاعل مع نتاج هذا الشاعر الخالد.
من فلسطين قال رئيس بيت الشعر الفلسطيني، مراد السوداني، ل (الخليج)، ان وفاة الشاعر الكبير محمود دوريش تعتبر رحيلا للاسم الحركي للشعرية الفلسطينية واحد الاسماء الشعرية العربية التي حملت الالم والوجع الفلسطيني الى الكون واستطاعوا ان يشكلوا نقطة فارقة في الثقافة العربية والانسانية لينضم الى مجموعة الاصوات الحرة التي تنادي بالحرية والحق والعدالة وقيم الجمال”.
واكد الاديب الفلسطيني علي الخليلي، ان رحيل دوريش يعتبر خسارة ثقافية كبيرة على المستوى الفلسطيني والعربي والانساني خاصة وان رحيل شاعر بوزن محمود درويش تعتبر خسارة كبيرة جدا لأنه نشأ من خلال قضية مهمة مثل القضية الفلسطينية.
وقال “ان رحيله يعتبر خسارة كبيرة للفلسطينيين على مستوى البعد الثقافي والانساني والحضاري والانساني”.
كما قال عزام أبو السعود الروائي والمسرحي المقدسي “للخليج” رحيل الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش بأنه خسارة فادحة للشعب الفلسطيني وللقضية الفلسطينية وللقدس الشريف، فنحن عرفنا درويش بشهامته وبمواقفه التي تشهد له القضية الفلسطينية فيها وهو من سطر بأصابعه إعلان استقلال فلسطين وهو أيضا من رفض اتفاقية أوسلو، فدرويش قبل أن يكون شاعراً هو صاحب موقف سياسي وقضية، فكانت له رؤيا صحيحة، فهو الذي عاش قيام دولة “إسرائيل” وتعلم لغتها وعاش في سجونها.
الشاعر العراقي الفريد سمعان نائب الأمين العام لاتحاد الأدباء والكتاب في العراق قال: إن محمود درويش اسم كبير وشاعر لعب دورا جيدا في الثقافة العربية عموما وكان الصوت الهادر المعبر عن الثورة الفلسطينية وعن توجهاتها وعن شعاراتها ومطالبتها بحقوق الشعب الفلسطيني الذي حرم طيلة سنوات الاحتلال “الإسرائيلي” من حقوقه المشروعة. إن محمود درويش كان يحمل الراية الفلسطينية ويسير كحادٍ للقافلة.
إن رحيل درويش يشكل خسارة كبيرة للثقافة العربية، لأنه كان إنسانا وديعا وطيبا وشاعرا يحبه الجميع لأنه مخلص لكل ما كان يؤمن به ولاسيما حقيقة انتمائه إلى الشعب الفلسطيني.
وربما سيكون في المستقبل القريب هناك شعراء ينهجون نهج محمود درويش، لأن فيه من السلاسة والطراوة ومن التوجه الفكري الشيء الكثير الذي يساعد ويشجع الشباب من الشعراء على تبني وجهة نظره أو الاستفادة من طبائعه وأصالته في هذا الميدان.
وقال الشاعر والناقد علي الفواز: “درويش من الشعراء العرب القليلين الذين انفتحوا على القراءات التاريخية وعلى قراءة التراث العربي وكذلك التراث المناطقي وكل السلالات التي شكلت ملامح التاريخ. فقدرة درويش في التعرف والتوغل في هذه الكواليس هي أحيانا تمنح القصيدة طاقة استثنائية. لذلك فهو من الشعراء الذين يفكرون دائما وهو شاعر يجيد الحرفة بامتياز. إن ما يميز درويش عن غيره هو هذه الرشاقة، هذه البنية اللغوية المتماسكة، وأضاف أن محمود درويش منذ أن بدأ في عام 1964 كظاهرة شعرية تشكلت داخل فضاء الثورة الفلسطينية بدأ يهرب من هذا الفضاء إلى الفضاء العربي والفضاء الجمالي. أعتقد أن درويش منذ ذلك العام وحتى 2003 مثّل ظاهرة متوهجة لأنه لم يغفُ لحظة ولم يتوقف وبقي مشتعلاً، وربما قدمت قصائده الأخيرة رثاء ليس له وحده وإنما رثاء لزمن ثقافي، لكنه أيضا كان يشترح أملاً آخر بأن ثمة جيلاً آخر هو الذي سيصنع الحياة، هو الذي سيصنع الأمل. هذا العالم الذي بدأ يحارب ذاته وبدأ يدخل في لعبة المرايا المتطاحنة هو بحاجة إلى شعراء مثل محمود درويش. لذلك أنا أرى أن محمود درويش، كان منقذا كان صانعا لحلم كبير.
وقال الشاعر جبار سهم السوداني: “إنه من حسن الصدف أنني التقيت الشاعر الراحل في مهرجان الاتحادات الأدبية العربية الذي أقيم في القاهرة حيث كنت ممثلا لاتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، في حين كان هو ممثلا لاتحاد الأدباء والكتاب الفلسطيني. وقد التقينا في دار الأوبرا بحضور حشد كبير جدا من الشعراء العرب. وعندما قدمني له وزير الثقافة المصري وقال له: “إن هذا هو ممثل اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين”. التقيت درويش وكان شاحبا ونحيفا ومثخنا بالألم”. وقال: “يكفي العرب فخرا أن العراق هو الذي أبدع في موسيقا الشعر العربي علم العروض على يد العلامة البصري الكبير الخليل بن احمد الفراهيدي” بعد ذلك بدأت مساجلات شعرية في حين كان درويش يعاني من شحوب وذبول وكنت أتوقع أن هذا الرجل يمكن أن يأكل من شاطئ عمره، وذكّرني حاله بحال الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، أما محمود درويش فقد كان مصابا بنفس فاجعة السياب ولكن بنوع آخر”.
وقال الشاعر إبراهيم الخياط: “نحن لا نختلف في أن المقاومة الفلسطينية بكل ما تحمل من بريق لم تستطع أن تنجب مثل الشاعر محمود درويش لأنه كان شاعراً وثائراً في آن واحد، وهذا لا يخرج عن تأثيرات المؤسسة السياسية اليسارية داخل فلسطين حتى بعد تهجير عائلته وتهجيره للمرة الثانية من بيروت”. لقد كان درويش صاحب حضور شعري لا يستطيع أي شاعر عربي من جيل السبعينات أن يجاريه وأن يحفظ نفسه من تأثيرات محمود درويش المتأتية من سطوته في الصوت واللغة والشعر.. إن درويش طوّر شكل الشعر العربي، كما طور وكتب القصائد ذات النفس السيمفوني الطويل”.
من الأردن قالت الشاعرة رئيسة مجلة “اقلام واعدة” د.لينا عوض على إنه “رحل آخر الشعراء العرب.. وكأن جداريته كانت نبوءة مبكرة بالنهاية التي سار إليها: الموت، فقد مات بالطريقة نفسها التي اقترحها في جداريته”..
وقال الشاعر موسى حوامدة: “حزينة عمان هذا المساء، حزينة رام الله والبروة والجديدة وحيفا، وفلسطين هي الأكثر حزنا لانها ستنام لأول مرة بدون عريسها الفتي والوسيم وبدون شاعرها الاجمل.
وقال المتوكل طه: اعتقد ان فلسطين الآن يتيمة، لأنها لم تعد بدون المساء ورموز، لقد كان العالم يعرف فلسطين من خلال اسمين كبيرين هما ياسر عرفات ومحمود درويش والآن لم يعد لفلسطين اسم يعرفها العالم به واعتقد ان الشعر صار يتيما وان اللغة العربية فقدت الكثير من نبضها الحيوي، واعتقد كذلك ان ادوارد سعيد ومحمود درويش هما اللذان كانا سر جمال صورتنا امام العالم والان وقد رحل الاثنان فإن صورتنا تزداد سواء خصوصا مع الاحداث الاخيرة المؤسفة والجارحة، واعتقد ان الشعراء الفلسطينيين كانوا جميعهم يكتبون الدراما والحدث الوطني والسياسي والمقاوم لكن محمود درويش وحده الذي كتب دراما الروح الجماعية.
وقال الشاعر خالد ابو خالد: في تقديري ان غياب درويش هو المعادل لخلود شعره، ودرويش لم يكن في فلسطين فقط وانما كان في العالم وبالتالي هو يترك فراغا كبيرا، فهو واحد من الذين شكلوا القصيدة الفلسطينية، واذا قلنا ان فلسطين بتضحياتها الجليلة والعظيمة قد حملها درويش فهي ايضا حملته الى آفاق العالم باعتبارها قضية كونية.
وقال الشاعر زهير ابو شايب: محمود درويش قامة كبيرة من الصعب ان تتكرر كثيرا سنحتاج الى الف سنة اخرى لنجد قامة شعرية وثقافية لا تمثل او تقدم القصيدة فحسب بل تقدم الوجدان العربي بأكمله، محمود شاعر كبير ولا يتكرر وقصائدنا الشخصية فيه خسارة كبيرة فهو شاعر وصديق ممثلا للشعر العربي في العالم، نحن نأمل ان القصيدة الفلسطينية والعربية ان تستمر في التطور لتمثيل الوجدان العربي الرافض لليأس والمتشبث باحلام هذه الامة وحقوقها وهويتها.
كنت من آخر الاصدقاء الذي التقوا بدرويش قبل سفره وقد تحدثت معه انا وصديقي الشاعر طاهر رياض قبل دخوله لغرفة العمليات كان شخصا يضحك ويمزح ولم تكن هنالك اية اشارة للموت وسبب الموت هو فشل العملية ولم يمت قبل موته بثانية وبقي متوقد بكامل حيويته في آخر لحظة بالرغم من تعبه وارهاقة لم يكن مطفأ، الخسارة الشخصية في محمود درويش خسارة كبيرة فهو استاذي وصديقي واخي الكبير والمي لا استطيع ان اكتبه لأني لم استوعب صدمة.
ومن اليمن وصف الشاعر حسن عبد الوارث ورئيس تحرير صحيفة “الوحدة” الأسبوعية العامة محمود درويش بأنه “رسول القصيدة القضية،وشاعر النار المقدسة، والوردة المقدسة، والقضية المقدسة”، وقال: “كان محمود درويش وسيظل واحداً من أكثر شعراء الضاد عملقة وجبروتاً..وستظل قصيدته أيقونة القضية العربية الكبرى في حدائق الحب،أو في محراب التوجُد.. لمن يبحث عن القرنفلة في الكلمة،أو لمن يبحث عن الرصاصة النبيلة”.
ويقول رئيس فرع اتحاد الأدباء والكُتاب اليمنيين في العاصمة صنعاء،الشاعر محمد القعود إن محمود درويش “لم يمت مساء أمس الأول، ولكنه ذهب في نزهة مع الموت ليكتب حضوره المتجدد في ذاكرة الإبداع الإنساني”.
وتابع: “هذا الشاعر الكبير كتب قبل رحيله قصيدة جديدة، رأى فيها موته يصافحه في يوم السبت” صدقت أني مت يوم السبت “القصيدة منشورة في الصفحة الأخيرة من هذا الملحق، وصادف أن يكون رحيله يوم السبت”.
واعتبر الشاعر أحمد السلامي، رئيس تحرير “عناوين ثقافية”، أن الراحل “شاعر النخبة والجمهور وصاحب تجربة مفصلية في الشعر العربي”، وقال: “برحيل درويش تطوى مرحلة هامة من مراحل الشعر العربي المعاصر استطاع خلالها درويش أن يظل الشاعر الأقرب إلى الجماهير والنخب في آن واحد،وارتقى بجمهور الشعر معه في انتقالاته ومحطاته الشعرية المختلفة، التي انحازت للشعر وجعلت قصيدة درويش تكتسب ملمحاً إنسانياً وكونياً”.
وفي سوريا قال الروائي خيري الذهبي: ربما لم يعرف التاريخ الأدبي العربي شخصية أدبية اختلط فيها الأدب بالسياسة كما حصل منذ أيام المتنبي إلا مع محمود درويش، فهذا الرجل الذي حملته القضية وحملها، اختلطا لزمن طويل حتى صار لدى الكثيرين الممثل الشعري والثقافي للقضية الفلسطينية. رحمه الله وعوضنا عنه أحسن منه فنحن نستحق أكثر من محمود درويش واحد.
وقال الكاتب وليد إخلاصي: أي كلام لا يمكن أن يفي بحق هذا الرجل الكبير محمود درويش، لم يكن شاعر المقاومة فحسب هو شاعر الهم العربي والحلم العربي، كيف نستطيع أن نفي حق هذا الرجل الذي لم يستكمل مشروعه بعد ومع ذلك كان ابرز الذين عبروا عن هذا الحلم والوجع، كان اقرب إلى صديق وأنا أكن له مشاعر كبيرة إلى جانب احترامي وتقديري لأهميته في صناعة الشعر ليس بهذا الزمن ولكن للزمن القادم أيضاً. لذا لا استطيع أن اعترف بأنني لم استطع أن أذرف دمعة على رحيله لأنه كان اقرب إلى قلبي من أخ وولد وابن. أن تقول انك حزين لأنك فقدت محمود درويش تقر بأنك رجل عادي، إن رحيل محمود درويش يحتاج إلى حزن الكبار وسيذكرونه مع مرور الأيام بأنه قد تفوق أحياناً على المتنبي، لذلك فإن فجيعتنا كبيرة برحيله.
إن محمود درويش لكبر من مؤسسة وأكبر من دولة وإذا أردنا أن نتكلم بنوع من الصدق والشفافية لقلنا بنوع من المبالغة أن محمود درويش عوّض أحياناً عن مأساة فلسطين نفسها.
فهل يا ترى نحن بحاجة إلى مآس مثل فلسطين أخرى لكي يظهر لنا محمود درويش آخر.
وقال المخرج المسرحي د. تامر العربيد: محمود درويش كان يمثل صوت الشارع العربي في أحاسيسه وفي تبنيه لقضية بعيداً عن السذاجة والمباشرة بشكل إنساني وشاعري، كان أفضل سفير للقضية الفلسطينية، كان صوت فلسطين في العالم، وإن رحيل محمود درويش ليس خسارة لفلسطين فحسب بل هو خسارة للشعر والقضية والإنسانية، وإنه تجاوز بعطائه وبرسالته النبيلة التي وصلت للناس الحدود ليصبح رسولاً للإنسانية وكأنه سفير الكلمة الصادقة والمقاومة.
وقال الكاتب حسن حميد: رحيل محمود درويش هو فاجعة ومأساة واسى يضاف إلى الحال التي نحن عليها، ذلك لأن محمود درويش من خلال تجربته الشعرية يشكل حداً معرفياً بين ما كتبه العرب من شعر قبل مولده وما كتبه هو فجعله مدونة شعرية لا شبيه لها ولا مثال، فهو ثالث ثلاثة شعراء في العالم عاشوا المقاومة والثورة في بلدانهم قصدت بالاثنين: بابلو نيرودا وناظم حكمت، ولكن ما يميز محمود درويش منهما أن قصيدته كانت متفلتة من سطوة إلحاح الثورة والمقاومة كي تكون أكثر وضوحاً ومباشرة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، استجابتها لكل جماليات الحداثة والإبداع وبذلك فإن محمود درويش لم يكتب إلا في موضوع واحد هو مقاومة شعبه وثورته.
وفي موريتانيا قال الكاتب سيد محمد ولد يونس “قد يبدو رحيل الشاعر الفلسطيني محمود درويش في ظاهره أمرا عاديا لرجل عاش 67 عاما، عانى خلال عقديْه الأخيرين من مرض القلب الذي تطلب عمليات أجريت آخرها قبل يومين.
لكن الأمر؛ في جوهره، لم يكن كذلك.. فمحمود درويش، ظل طوال حياته ركنا منيعا، وسندا قويا للثورة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني.. حمل القضية الفلسطينية برمتها في أحشاء قلبه ليوصلها، أينما حل وارتحل، إلى قلوب الملايين عبر العالم، فكان شعره الراقي، وأدبه المتميز، خير سفير لدولة لها من مظاهر الوجود شعب مقاوم، وسفراء متجولون.. ليظل محمود سفيرا فوق العادة، وكامل السلطة.. بيد أن سلطته لم تكن محكومة بإملاءات “السلام”، كما لم تكن محصورة في مربع ضيق،بل إنها امتدت لتشمل الأراضي المحتلة، وفلسطين المغتصبة، ومخيمات الشتات، والمدن والأرياف العربية.. بل والعالم بأسره.
أما الشاعر محمد ناجي ولد أحمد فقال “كان نخلة سامقة، وصوتا هادرا يشكل جزء لا يمكن تجاهله في الأصوات المتناغمة في إطار ملحمة الكينونة العربية.
من الخطأ أن نعد غياب درويش خسارة للقضية الفلسطينية فقط، ولا مصيبة أصابت الأدب العربي المقاوم في الصميم، لكنه جرح أصاب حنايا كل عربي وكل إنسان.
من ينسى بطاقة التعريف التي كتبها “سجل أنا عربي”، منذ أن كنا صغارا دلف إلى طبلات آذاننا اسم رجل يختزن قبيلة من الرجال.. هو درويش.. كان اسمه يعني عندنا فلسطين كل فلسطين، فلسطين المنافي والشتات، فلسطين الداخل والمقاومة..
الكلمات تترجل دون أن توفي رجلا مثله حقه، فلنعز فلسطين والشعر والأمة، ولنعزف لدرويش لحن الأبدية.
وبعث الشاعر كابر هاشم، رئيس رابطة الأدباء الموريتانيين ل “الخليج” بالبرقية التالية: “لقد أصيب البيت الشعري العالمي بعاصفة هوجاء.. رحل محمد درويش.. وازدادت قتامة الجو العربي الذي غاب منه هذا النجم.. هذا الشاعر العملاق الخالد.. أي صدمة وأي حزن، وأي بكائيات، وأي انتكاسة تلك التي ضربت جبهة الأدب العربي، الفيلق الفكري المقاوم الذي رفع راية الكرامة وأبقاها عالية..
لا يمكن للكلمات التي تتعثر على اللسان أن تفي هذا الشاعر حقه.. تجاوزنا الشاعر درويش أمة ولغة وشعرا بمئات ملايين السنين الضوئية راسما للغة العربية أسلوبا شعريا جديدا.. كل مفردة فيه مملكة شعرية متحدة ومتكاملة... لقد كان وحده أمة شعرية.
درويش لاعب كوني بالنرد.. لاعب بالكواكب والنجوم والمجرات الشعرية العبقة..
ما أحزن الهدهد اليوم.. ما أحزن يوسف.. وأشقى أشقائه.. كم عين شعرية مبيضة اليوم من الحزن.. أي ريح تعيد البصر... أي حلم في السجن الكبير.. أي خزينة شعرية نلجأ إليها..
علمتنا أن نكون نحن، وأن نقاوم بعيدا عن “الشرف التجاري”.. علمتنا أن نكتب بعزة وشموخ، ونؤذن بالفصحى عاليا من فوق القمم الشماء..
الشاعر ناجي محمد الإمام الملقب “متنبي موريتانيا” يقول عن درويش “كان صوتا متميزا وكان حالة متفردة، عبر عن الوجدان العربي ومثل القضية، احتفت به موريتانيا باعتبارها المعبر الأصيل عن هذا الوجدان.. مدحته كما يمدح الأمراء ولكنها امتدحته امتداح الأمراء الثوار.. لن تموت القضية ولن يموت شعر القضية عند محمود درويش وغيره، وتبقى جذوة النضال من أجل فلسطين والوحدة العربية الميسم الوحيد لمعرفة المناضل من العاطل.. لقد فقدت صديقا عزيزا وشاعرا أفتخر به على العالم.. ناضلت معه للم شمل اتحاد الكتاب والصحفيين الفلسطينيين في الجزائر سنة 1987 أيام كانت الفرقة تهدد وحدة الصف الفلسطيني، وكانت مساعينا برعاية الشهيد أبو عمار وكلل مؤتمر الجزائر آنها بالوحدة، وكان درويش إنسانا طيبا وأكثر من صادق في شعره وعمله النضالي... فإليه في مثوى الخلود التحية وإلى أبي شاور ويحي يخلف التحية والعمر المديد.. ولتبق القضية إلى أبد الآبدين..”.
وقال الكاتب والباحث الكاديمي عبد السلام ولد حرمة “إن مقولة الالتزام لم تتحقق في أي مرحلة من مراحل الأدب العربي الحديث في أية فترة من الفترات مثلما تحققت عند الراحل محمود درويش وهو يخوض مقاومة شعبه سواء وراء قضبان السجون أو في متاهات المنفى واللجوء.
إذ لا يمكن الحديث عن شعر المعاناة الجميل في الأدب العربي دون الحديث عن شعراء الأرض المحتلة الذين ابتدعوا تاريخ قهرهم ونضالهم على مداه الطويل فيضا شعوريا أقاموا به الاتصال بين من هم في داخل الأرض المحتلة مع من هم داخل سجونها.
فعبر جدران الزنزانة والحراس بدأ درويش شعره النابض بالقوة والعذوبة والكبرياء النادرة فتحولت الأصفاد القيود إلى أساور ذهبية تنبعث منها شحنات الصمود والاطمئنان وتتيح لحاملها العيش في زمن كفاحي بقياساته الخاصة كما هو حال قصيدة الراحل في “برقية السجن”.
إن تاريخ الشعر العربي المعاصر يشهد للراحل الكبير أنه أسس لمدرسة فنية التزامية أصحابها رضوا بأن يكونوا من الذين يقولون كلمتهم لتعانق هموم مجتمعهم ولذلك كانت ذاكرة التاريخ الفني تحتضنهم وتنبت قصص الكفاح رواية خالدة عن كل واحد منهم يأتي في مقدمتهم محمود درويش الذي أراد للنرد ولعبة المجهول أن يؤثثا لرؤيته الفنية في آخر صياغة إبداعية عذبة يخطها في وجدان المتلقي العربي الذي حمل من الهموم ما يدخله في رحلة “التيه” التي عنون بها الروائي عبد الرحمن منيف جزءا من خماسيته “مدن الملح” فتداخل العملان تداخل تجربة الراحلين ونشابهها”.
**********
تخفف من عبء فرادته ومضى
درويش صنع الرمز وتخطاه بالموت
ي أوج مشهد الانقسام الفلسطيني، شاء قلب محمود درويش أن يتوقف عن متابعة المأساة، مأساة قضية تحولت إلى رمز لقوى التحرر في أرجاء العالم كافة.
ومع ذلك فإنها شهدت خاصة في الأعوام الأخيرة، واقعياً جملة من التناقضات طالت من رمزيتها، فالعلاقة بين الواقع والرمز علاقة جدلية، وجاء موت الشاعر الذي أسهم خلال مسيرة امتدت إلى ما يقارب 40 عاماً في صنع الرمز الفلسطيني عبر اللغة، حيث تحولت اللغة مع درويش
الى طاقة كبيرة تمنح فلسطين عدا عن رمزيتها التاريخية والحضارية والدينية رمزية معاصرة، عبر انتاج قصيدة/ملحمة، متطورة، حية ومتجددة عن الكائن الفلسطيني، كائن صنعته مخيلة درويش التي راكمت وعياً إنسانياً كونياً، لا تتنكر للواقع لكنه لا يختزلها ولا يأسرها، ولا تتنكر للتراث ولكنها تجذره عبر حساسيات جديدة، ولا تتوقف عند المعاني والدلالات التقليدية للمفاهيم التي تشكل بيئة الانسان، بل تعيد انتاجها من خلال طرح الأسئلة الصعبة والموجعة في آن.
لأن الموت ككل نهاية هو بداية جديدة، فإن موت درويش، إن كانت رائحته ما زالت طازجة، إلا أنها تمنحنا فرصة نحتاجها، للسؤال حول معنى الرمز، الرمز حين يتحول إلى اطار محدد لقضية ما، لمسألة ما تاريخية وانسانية وحضارية، وكم هي الحاجة ملحة أحياناً للخروج من الاطار إلى المشهد، المشهد الواقعي الذي يفتح آفاق الخيال على الأسئلة الضرورية للمشهد الواقعي نفسه، وهذا ربما ما سعى إليه درويش في قصائده الأخيرة “لاعب النرد” و”سيناريو جاهز” حيث يخرج في لغته عن السياق الرمزي الذي اتصفت به أعماله في العقد الأخير مثل “لماذا تركت الحصان وحيداً” و”في حضرة الغياب” و”كزهر اللوز أو أبعد” ليكتب في “لاعب النرد” سيرة ذاتية محملة بأسئلة الواقع الفلسطيني المباشرة، حيث يبدأ الشاعر نزع القناع الذي اتخذته شخصيته، وذلك لحاجة في اقامة حوار مباشر بين “أنا” الشاعر وبين الآخر/الشعب والقضية، حاجة تفرض كسر أي رمزية لكليهما حيث يبدأ درويش قصيدته قائلاً:
“من أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟
وأنا لم أكن حجراً صقلته المياه
فأصبح وجهاً
ولا قصباً ثقبته الرياح
فأصبح ناياً..”
يتخلى إن جاز التعبير عن موقعه كأهم شاعر فلسطيني معاصر، ليعود فرداً تجتاحه رغبة في سرد الوجع الشخصي، الذي يتضمن وجع الآخر/الجماعي كأن به يسأل إلى أين أمضي بعد، وإلى أين تمضي قضية فلسطين؟
سؤال فيه الكثير من المرارة في لحظة الانقسام، والخوف من سقوط الرمز، فالرمز دوماً هو ابن الوحدة والاجماع فكراً وقولاً وعملاً، وهذا ما يفتقده المشهد الواقعي الفلسطيني على الارض، فالبندقية التي كانت رمزاً لإجماع الفلسطينيين على التحرير تحولت إلى رمز فرقتهم، وأداة لتثبيت خلافاتهم.
وفي مقطع سردي آخر يقول: “أمشي/أهرول/أركض/أنزل/ أنبحُ/ أعوي/أنادي/أولول/أسرع/أبطئ/أخفُّ/أجفُّ../ أسقط/أنهض/.. أضلُّ/أقلُّ/ وأكثرُ/ أسقط/ أعلو/وأهبط/أدمي/ويغمى عليّ”.
يحاول درويش باستباق حدسي للموت الذي سيدهمه أن يتخفف من أعباء تحوله إلى رمز، أن يعود كائناً حراً قدر المستطاع، كائناً لا تقيده الصفات أو تسجنه الألقاب. وهو في هذه المحاولة كان يفتح ولادة جديدة لقصيدته، وهو الذي عرف بخروجه الماهر من رحلة شعرية إلى أخرى، وهو الذي كان يخشى دوماً أن تصدم قصائده الجديدة عشاق شعره.
في “لاعب النرد” محاولة للتطهر من القدسية التي يمنحها الرمز للشخص/الفرد فيقول: “كان يمكن أن لا يحالفني الحظ
والوحي حظ الوحيدين
إن القصيدة رميةُ نردٍ
على رقعة من ظلام
تشعُّ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلام
كريش على الرمل”
يضع درويش مسافة بينه وبين فرادته كشاعر، كي يتسنى له أن يعيد صياغة الذاكرة من دون أوهام كبيرة، وأن يرى قضية فلسطين أيضاً بعين واقعية، عين ناقدة، ترى الأشياء كما هي، فهو يعرف تماماً كم كانت المسيرة الحياتية والشعرية له ثرية في معناها، إلا أنها كانت دائماً تعاني من نزيف في خاصرتها، من ألم اسمه فلسطين، يجعل من شعوره بالتحول إلى رمز شعري عربي وعالمي غير مكتمل:
“شمألت، شرّقت، غرّبت
أما الجنوب فكان قصياً عصياً عليّ
لأن الجنوب بلادي
فصرت مجاز سنونوة لأحلق فوق حطامي”.
******
في أعماقه موسيقا خفية يخشى عليها من العزف المنفرد
“أثر الفراشة” لدرويش نص نثري يتقاطع فيه الشعر والفلسفة
محمد اسماعيل زاهر
يذكرنا كتاب “أثر الفراشة” لمحمود درويش برأي ت. س. إليوت حول التفاعل الخلاق بين الشعر والنثر. فدرويش في تلك النصوص والتي أعطاها عنواناً فرعياً “صفحات مختارة من يوميات كتبت بين صيف 2006 وصيف 2007” يقوم بمغامرة إبداعية جديدة على مستوى البناء اللغوي والشكل الفني. فالقارئ لتلك اليوميات يقف حائراً بين نصوص شعرية تنطبق عليها السمات الفنية لمفهوم الشعر وأخرى نثرية وثالثة تمزج بين الشكلين فالعديد من نصوص الكتاب النثرية مكتوبة بلغة أثيرية تكتسب بلاغتها من أسئلة درويش ورموزه حول الموت والحياة، الحلم والواقع، الأنا والآخر والذات والظل وبتصاعد التفاعل مع الكتاب تستكمل عبر الذاكرة بقية رأي ت. س. إليوت حينما قال “وبشيء من الغلو يستطيع الانسان القول ان الشاعر أقدم من بقية أفراد الجنس البشري”.
لذلك تغري أية قراءة نقدية لأثر الفراشة وهو آخر كتاب لدرويش بالخروج بنتيجة سريعة تؤكد انفتاحه على آفاق أخرى للتجريب تذكرنا بتلك الاعمال الاخيرة للعديد من الشعراء والروائيين والتي ذهبوا فيها الى محاولة التمرد على الأشكال الأدبية المعروفة والمستقرة والأمثلة على ذلك كثيرة ومتوفرة ايضا في “أثر الفراشة” وقراءة أخرى لا تقل سرعة تؤكد بدورها أن “نثر” درويش- إن جاز إطلاق تلك الصفة على نصوص أثر الفراشة لا يقل جمالية أو فنية عن إبداعاته الشعرية وقراءة ثالثة بإمكانها أن ترصد بسهولة امتزاج الهم الوطني بالإنساني في ذلك الكتاب.
ولكننا هنا ننطلق من جملة وردت في نص معنون “بموهبة الأمل” في أثر الفراشة يقول فيه درويش: “كلما فكر بالأمل اتسعت المسافة بين جسد لم يعد خفيفاً وقلب أصيب بالحكمة، ولم يكرر السؤال: من أنا؟ من فرط ما هو مجاف لرائحة الزنبق وموسيقا الجيران العالية” يتقاطع درويش في سؤال “من أنا؟” والذي يتكرر مضمراً في كافة نصوص الكتاب مع منظومة معرفية موزعة بين الفلسفة والتصوف وأحياناً شيء آخر يتسم بألق الحكمة البسيطة والتلقائية. “فالأنا” وفق درويش في عبارته السابقة تؤكد رأي أرسطو في أن الشعر هو أكثر انواع الكتابة فلسفة وهي ايضاً تلك المفردة البديهية والتي لا تحتاج لسؤال حيث هي مشبعة برائحة الزنبق وموسيقا الجيران العالية.
“أنا” درويش وأي “أنا” اخرى تحتاج لآخر وفق المتلازمة الفلسفية الممتدة من كوميتو ديكارت ومتى بول ريكور والذي أكسب مفهوم الآخر مفردات ودلالات جديدة، يقول ريكور في كتاب “الذات عينها كآخر” تحتوي الذات ضمناً الغيرية الى درجة حميمية، حتى إنه لا يعود من الممكن التفكير في الواحدة دون الأخرى، أو لنقل في لغة هيفل إن الواحدة تدخل في الاخرى ولقد أردنا أن نشير بالكاف في عنوان الكتاب إلى التأكيد على الدلالة الأقوى: “الذات عينها، بما هي.. آخر” ويقول درويش في نص لافت بعنوان “أنت منذ الآن، أنت” يتقاطع فيه مع مفهوم ريكور “هي المسافة: تمرين البصر على أعمال البصيرة، وصقل الحديد بناي بعيد” بين البصر والبصيرة ينفتح المشهد على الآخر بتجلياته اللانهائية، الميتافيزيقية والانسانية وحتى الطبيعية الحجر، المطر، البيت.. الخ، بين البصر والبصيرة يتحول الشعر/النثر الى فلسفة وتصوف ونغوص مع درويش المبدع الى عوالم الحلاج وابن الفارض وابن عربي والسهروردي وغيرهم.
بين البصر والبصيرة ننتقل الى مذاق آخر من الإبداع ونقف على عتبات الحضور والغياب وقد نتذكر لعبة الأقنعة المسرحية الكاشفة لأعماق الذات الانسانية. أحيانا يرتديها صوت درويش وفي مرات أخرى يُلبس الأشياء تلك الأقنعة لنتجول معه في عالم رحب يسع الحديث عن سيرة شجرة يقول في نص “ليت الفتى شجرة”: الشجرة أخت الشجرة، أو جارتها الطيبة. الكبيرة تحنو على الصغيرة، وتمدها بما ينقصها من ظل. والطويلة تحنو على القصيرة، وترسل اليها طائراً يؤنسها في الليل. ويطارد في نص آخر بعوضة تفشل كل محاولاته في التخلص منها.
إن سؤال التعرف إلى “الأنا” طوال نصوص الكتاب يُفضي إلى اجابات بمذاق الألم حيث أنا “الغريب”، أنا “السؤال”، أنا “المتأخر”، أنا “الظل”، أنا “الشجرة”، أنا “الحجر”، أنا “الحلم”، أنا “الحياة”. ولكن أنى ذلك الآخر الذي يُكسب الذات وجودها في العالم ويفتح لها معاني للتعاطي مع الواقع؟ الذات والآخر في هذا النص غريبان.
الآخر في نصوص “أثر الفراشة” لا يمكن إدراكه إلا عبر “أنا” درويش وهو بهذا المعنى يتقاطع مع طرح “ديكور” وربما يكمله ويضيف اليه عبر موروث صوني فرضته ثقافة درويش. ولا يبقى في النهاية إلا التأكيد أننا امام نص يحتاج إلى مزيد من الجهد للاشتغال عليه حيث يمتلئ بالرموز والدلالات والمعاني الكامنة ولا نملك إلا أن نردد قول درويش “في أعماقي موسيقا خفية، أخشى عليها من العزف المنفرد”.
******
المرحلة الباريسية
النص الذي يغير مفهوم الشعر
باريس - بشير البكر:
تعد فترة إقامة محمود درويش في باريس، من أغنى وأهم مراحل حياته على الصعيدين الإنساني والإبداعي. عدا عن أنها تعتبر الأطول من الناحية الزمنية، منذ خروجه من فلسطين سنة ،1972 حيث امتدت إلى نحو 15 سنة،أمضاها وهو يتمتع بحيوية متجددة ودينامية عالية، انعكستا في صورة واضحة، من خلال غزارة وتنوع وعمق إنتاجه، وعبر عنها في النقلة النوعية التي أحدثها في قصيدته.
إن السبب المباشر الذي يقف وراء خصوصية وفرادة مشروع درويش الإبداعي خلال هذه المرحلة، هو إقباله الشديد على الحياة الباريسية، على اثر نجاح عمليته الجراحية الأولى في القلب سنة ،1984 التي خرج منها بصعوبة، ولذا ظلت تشكل بالنسبة إليه أول مبارزة مع الخصم، الذي نال منه في نهاية المطاف،وهو نادرا ما كان يأتي على تفاصيل هذه المواجهة غير المتكافئة،ولكنه حين كان يضطر إلى ذلك، يلخص الأمر بزيارة الموت له،في زي ابيض كالثلج.
بعيدا عن انهماك الشاعر بالكتابة، فقد أحب باريس إلى حد الألفة، وصارت خلال سنوات قصيرة مدينته القريبة إلى عالمه الخاص، له فيها عاداته الشخصية وأمزجته ونزواته، ولديه أماكنه المعتادة من مقاه ومطاعم،وصداقاته الحميمة، وهو أضحى وسط ذلك أحد نجوم الحياة الثقافية ومحركيها،سواء بكتاباته النثرية أو عبر الأماسي الشعرية، التي أحياها في “اليونسكو” و”معهد العالم العربي”، والتي كان لها الفضل في كسر الصورة النمطية السائدة، حول عدم وجود جمهور للشعر، فقد كان حضور أماسيه بالآلاف، وهو مانبه محمود منذ ذلك الحين إلى شروط ومواصفات القارئ والمستمع المتابع له، دون غيره من الشعراء الآخرين، وقد اشتغل على هذا الجانب حتى بات له جمهوره الخاص في فرنسا، وهذا ما يفسر جانبا أساسيا من رواج ترجماته بالفرنسية أكثر من بقية اللغات الأجنبية، ومن المظاهر المعبرة عن شعبيته العارمة هي الأمسية الأخيرة، التي أحياها قبل شهر في ملعب لكرة القدم في جنوب فرنسا ( مدينة آرل)، وكأنها كانت أمسية الوداع لجمهور نوعي، واكبه إبداعيا بمحبة وشغف، وكان ينتظره عند كل نقلة جديدة في تجربته.
طيلة سنواته الباريسية كان درويش شخصا يتمتع بجاذبية عالية،قل ان وصلها كاتب او مثقف عربي آخر،وقد كانوا كثرا حين استقر هو في العاصمة الفرنسية سنة ،1982 ومنهم من سبقه إليها بزمن طويل ، وهو يتقن لغة أهلها، لكن لم يكتب لأحد حتى اليوم المكانة التي حصل عليها الشاعر، الذي أثار اهتمام وإعجاب كل من التقاه،ليس ككاتب فحسب، بل كإنسان ايضا،وغالبا ما تحدث عنه نساء ورجال بانبهار شديد، ذوق عال وأناقة في اللباس، اعتداد بالنفس وارستقراطية وفروسية في السلوك،ولباقة وذكاء حاد وسرعة بديهة، ومعرفة وثقافة عميقتين. كان جيرانه في السكن يتحدثون عنه بتقدير شديد، ويصفونه ب “صاحب الروح الجميلة”، وهو من دون شك أدرك مكانته هذه لذلك غادر العاصمة الفرنسية، وفي نفسه ألم لا يزول وسر لم يبح به إلا لبعض الأصدقاء، وهو انه لو كان يمتلك ثمن “استديو” في باريس لاستمر في الحياة هناك، وكان أحد الأسباب التي دفعته لترك شقته الصغيرة المطلة على “ساحة الولايات المتحدة”، والذهاب للعيش في عمان، هو عدم قدرته على تحمل مصاريف الإقامة الفرنسية الباهظة.
أما على الصعيد الإبداعي، فإن المرحلة الباريسية مختلفة كليا عن إنتاج درويش قبلها وما بعدها. ويمكن الجزم من دون حرج بأنه أكثر الشعراء العرب استفادة من إقامته في مدينة الأنوار،فهي فتحت آفاقه على تأثيرات شعرية كثيرة، وقادت كتابته نحو أسلوبية مختلفة كليا، ففي هذه الفترة كتب أهم أعماله “حصار لمدائح البحر، هي أغنية، ورد أقل،مأساة النرجس، ملهاة الفضة، أرى ما أريد، أحد عشر كوكبا،لماذا تركت الحصان وحيدا؟”. هذا بالإضافة إلى عدة كتب نثرية ذاكرة للنسيان، في وصف حالتنا، عابرون في كلام عابر، الرسائل (بالاشتراك مع سميح القاسم)، وهي حصيلة مراسلات جرت بين الشاعرين الصديقين، على صفحات مجلة “اليوم السابع”، والتي اعتبرها النقاد عملا أعاد التعتبار إلى فن كتابة الرسائل.
كان الجو العام في باريس في الفترة التي وصل إليها درويش غير ما هو عليه اليوم، ففرنسا كانت تعد بالانتقال إلى مرحلة سياسية مختلفة، جسدها وصول جيل جديد من السياسيين الاشتراكيين الحالمين إلى الحكم ، بقيادة مثقف كبير هو الرئيس فرانسوا ميتيران، الذي أولى الثقافة عناية خاصة، وكان يحتفظ بصداقات شخصية قوية مع كبار كتاب العالم، من أمثال غابرييل غارسيا ماركيز وإيميه سيزير، وول سونيكا، وقد سادت النظرة الثقافية طيلة ولايتي ميتيران، وترسخ البعد الكوني في الثقافة الفرنسية، أكثر مما كان عليه في السابق.
أما على صعيد جو باريس العربي،فقد كانت هناك مجموعة من الصحف الأسبوعية المتميزة، التي تصدر من هناك: المستقبل، اليوم السابع، كل العرب، الوطن العربي،الطليعة. وقد جمعت هذه الصحف من حولها نخبة إعلامية وثقافية عربية من المشرق والمغرب، ووسط ذلك كله برز نجم محمود درويش كشاعر فلسطيني مهموم بقضيته، لكنه في نفس الوقت ينحو في اتجاه الكونية، كما برز ككاتب مقالة سياسية وثقافية ذات نفس خاص ومختلف. وكان مقاله الشهري في “اليوم السابع” بمثابة هدية المجلة إلى قرائها، الأمر الذي أعطى للمجلة دفعة كبيرة،بعد الاجتياح الاسرائيلي لبيروت وخروج المقاومة الفلسطينية من لبنان. ورغم انشغالاته السياسية والإبداعية الكثيرة، واظب درويش على الكتابة في “اليوم السابع” لعدة سنوات، لكنه استنكف عن الكتابة فيها قبل أن تتوقف عن الصدور بكثير، وأسر لنا مدير التحرير آنذاك المرحوم جوزيف سماحة وأنا، انه مضطر للتوقف لأن الكتابة النثرية هي بالضرورة على حساب الشعر، لاسيما وان الشعر يمتلك غيرة استثنائية ولا يقبل أي مشاركة. وحين غاب مقال درويش الشهري عن القراء تراجعت مبيعات المجلة فورا.
يدرك كل من عرف درويش عن كثب خلال المرحلة الباريسية، انه لم يكن يشعر بأي من الاضطراب على صعيد تحديد خياراته الإبداعية، رغم تعدد مهامه ومشاغله السياسية، بل كان حادا وصارما حين يتعلق الأمر بالكتابة، التي كانت عبارة عن دوام رسمي بالنسبة إليه،يصحو كل صباح فيجلس إلى مكتبه المطل على الشارع العام، ويأخذ في الكتابة حتى الظهيرة، كانت العملية تتكرر كل يوم، وعادة ما شعر بعدم الرضا عن النفس، حين كان يخل بهذه القاعدة. والثابت في حياته هو ان الرخاء الباريسي لم يفلح في أخذه بعيدا عن الكتابة،وقد تحدثنا مطولا في لقاءات مقهى “الكوك” القريب من بيته عن الكتابة التي تحتاج برأيه إلى تأمل وضجر وكسل وقلق،وعن هواجسه في البحث عن نص شعري يغير مفهوم الشعر،ليس بالتمرد على سياقه الخاص، وانما كتابة نص لم يكتب. وكان يردد بأن طموح الشاعر هو أن يكون اكبر من قدرته “علي ان اكتب نصا لم يكتبه أحد، علي ان أحلم بذلك وإلا فقدت مبرر الكتابة”.
لهذا لم تكن مرحلة باريس مكرسة للضجر أو الكسل والاسترخاء، بل لنتاج شعري متواصل، وكانت نتيجة هذه المرحلة ان الشاعر ارتقى بتصاعد مدروس بقصيدته، التي بقيت مفتوحة على احتمالات النص الذي لم يكتبه أحد. أعطى في هذه الفترة للشعر العربي ما لم يعطه شاعر عربي آخر، وفي حين كان أنداده يسترخون، كان في أوج توتره الإبداعي، ولدى صدور كل عمل جديد كان يحدث مفاجأة غير متوقعه. فاجأ درويش الشعراء والنقاد في مرحلته الباريسية اكثر من مرة، ليس فقط لأنه أصدر عملا شعريا بمعدل كل سنة ونصف، بل لأن هذه الأعمال جاءت متراتبة في سياق جمالي وفني مدروس، يعبر عن قدرة عالية على الإمساك بنبض القصيدة، وهو ما لم يتكرر في شعرنا العربي منذ المتنبي.
**********
أول عاصمة عربية تطؤها قدماه
سنوات محمود درويش في القاهرة
القاهرة - عزمي عبد الوهاب:
“رأيت الوداع الأخير.. سأودع قافية من خشب
سأُرفع فوق أكف الرجال، سأُرفع فوق عيون النساء
سأُرزم في علم، ثم يُحفظ صوتي في علب الأشرطة
ستُغفر كل خطاياي في ساعة.. ثم يشتمني الشعراء
سيذكر أكثر من قارئ أنني كنت أسهر في بيته كل ليلة
ستأتي فتاة وتزعم أني تزوجتها منذ عشرين عاما.. وأكثر
ستروى أساطير عني وعن صدف كنت أجمعه من بحار بعيدة
ستبحث صاحبتي عن عشيق جديد تخبئه في ثياب الحداد
سأبصر خط الجنازة، والمارة المتعبين من الانتظار
ولكنني لا أرى القبر بعد.. ألا قبر لي بعد هذا التعب؟!”
هكذا تكلم الشاعر الكبير محمود درويش، بعد أن رأى ما رأى، هو صاحب “أرى ما أريد” المحمل بكل هذا الإرث الطويل من الوجع التاريخي، والسخرية الحادة، التي تخلف في النفس مرارة، يشف معها الجسد، فيرى ما يحدث بعد موته، ويسأل عن مكافأته بعد هذا التعب فلا يجد ما يريد، مجرد قبر كان ما يريد.
محمود درويش الذي وصف نفسه بأنه “مندوب جرح لا يساوم” يجلس الآن هادئا على “تلة” ترى القدس من بعيد، يتأمل سنوات عمره ببصيرة الشعراء الكبار، لعله يتوقف الآن أمام سنواته الأولى في القاهرة حين كان شابًا، وكانت العاصمة العربية الأولى آنذاك أول من بشر به.
كان درويش قد قضى عامًا في موسكو، من خلال منحة دراسية، أمنها له “حزب راكاح” الذي كان عضوًا فيه، وكان قد أنهى دراسته الثانوية في حيفا، وبعد عام قضاه في العاصمة السوفييتية، قرر الشاعر الشاب محمود درويش وكان عمره آنذاك 30 عاما (ولد في مارس/آذار 1941) أن يذهب إلى القاهرة، مفضلا إياها عن العودة إلى أوامر الإقامة الجبرية، التي كان يحاصره بها الحاكم العسكري الصهيوني، حيث حولته دولة الكيان إلى لاجئ في بلاده.
وفي أول ظهور علني له بالقاهرة في فبراير/شباط 1971 عقد درويش مؤتمرًا صحافيًا في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري أو العربي، كما كان يسمى آنذاك، وألقى بيانًا صحافيًا، أوضح فيه ملابسات اتخاذه قرارًا باختيار مصر مكانًا لإقامته الجديدة، وكانت تسمى آنذاك “الجمهورية العربية المتحدة” ودافع درويش عن قراره، باعتباره قرارًا شخصيًا لا يتحمل تبعاته أحد، وحيا خلال بيانه رفاقه في الحزب الذي انتمى إليه، مؤكدًا على مواصلته النضال ضد الاحتلال الصهيوني.
كان الكاتب الكبير رجاء النقاش قد قدم شعر درويش إلى الجمهور المصري قبل قدومه إلى القاهرة بسنوات، ففي العام 1969 أصدر النقاش كتابه المهم “محمود درويش شاعر الأرض المحتلة” وقبلها أعادت مجلة “الهلال” في عدد مايو/أيار 1968 نشر ديوانه “آخر الليل” كاملاً وكان يترأس تحريرها آنذاك كامل زهيري، ونوه في تقديمه للديوان أنه “النص الكامل لأحدث ديوان أصدره الشاعر محمود درويش في فلسطين المحتلة بعد 5 يونيو/حزيران وصادرته السلطات “الإسرائيلية” بعد صدوره”.
واستقبله الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي بمقالة ترحيبية نشرت في مجلة “روزاليوسف” بتاريخ 22/2/،1971 على عكس ما حدث على صفحات “الحوادث” اللبنانية، حين كتب “ربيع مطر” يرجح أنه اسم مستعار “ليته يعود إلى “إسرائيل””، لكن حجازي كتب في مقاله: “أنت تعلم يا صديقي أن كل العيون الآن مفتوحة عليك، عيون شعبك العربي في كل أقطاره وعيون رفاقك في الأرض المحتلة، وعيون أعدائك أيضاً.
وأنت تعلم أيضا أن الناس الذين طعنوا بما فيه الكفاية، وخدعوا بما فيه الكفاية، يحق لهم أن يشفقوا عليك وعلى أنفسهم من المصير الذي ينتهي إليه في العادة نضال اللاجئين السياسيين، وهو أن يقبعوا في ركن مقهى، بل لقد وجهت إليك أسئلة وملاحظات توحي بهذه الشفقة، وربما قرأت في بعض صحف عواصم عربية أخرى تعليقات تصرح بها”.
ويدافع حجازي في مقاله عن درويش (الشاب) إذ اتهمه البعض آنذاك هو ورفاقه بأنهم “ظاهرة “إسرائيلية”” خصوصًا حين شارك هو وسميح القاسم في مهرجان الشبيبة في صوفيا (بلغاريا) ويؤكد حجازي أن الوقائع تكذب هؤلاء، ف “الإسرائيليون” لم يتيحوا لدرويش ورفاقه إلا الاضطهاد والقهر، إلى أن يقول: “لقد قدمت القاهرة ببالغ الإعزاز نصيبها في الحرص عليك حين هيأت لك مكانك في “صوت العرب” وبقي أن تواصل أنت تقديم نصيبك”.
هكذا يمكن أن نقف على بداية عمل درويش في القاهرة، وتحديدا في إذاعة “صوت العرب” لأن هناك روايات تشير إلى مجلة “المصور” زمن أحمد بهاء الدين، ومجلة “الطليعة” التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام، وكلها في الأغلب الأعم روايات صحيحة، لكن حجازي في مقاله، الذي أشرنا إليه، يقترح على درويش عدة مقترحات، أو يقدم له نصائحه: “أقترح عليك في البداية أن ينصب نشاطك في صوت العرب في مجال أساسي هو البرنامج العبري الذي تستطيع أن تساهم في التخطيط له وفي تحريره، وهذا تخصص نحن في أشد الحاجة إليه، فأنت لا تتكلم العبرية، كما يتكلمها سكان “إسرائيل” فحسب، بل أنت أيضا تفهم روح هؤلاء القوم، وتعرف ماذا يؤثر فيهم ويثير انتباههم ويخاطب عقولهم”.
ويواصل حجازي اقتراحاته “أقترح عليك أيضا أن تبدأ مشروعا لترجمة الأدب “الإسرائيلي” الحديث إلى لغتنا العربية، إن أعداءنا يعرفوننا عن طريق كاتب مثل نجيب محفوظ أضعاف أضعاف ما يعرفوننا عن طريق أجهزة أمنهم وجواسيسهم”.
ويقترح حجازي على درويش ترجمة شعراء معينين، تحديدا أولئك الذين بدأوا حياتهم الشعرية بالروسية ثم تحولوا إلى الكتابة بالعبرية، وذلك لمعرفة كيف يستطيع الشاعر أن يغير لغته في عشرين عاما ومع ذلك يظل يكتب الشعر.
ويختتم مقاله قائلا: “لقد قلت لي في حديث سابق إن الصراع سيكون طويلا، لأنه صراع تاريخي معقد، لن يحسم قبل أن ينضج، فلندخله مسلحين، والوقت أمامنا ومن يدري يا محمود ألا يكون مقامك في القاهرة بداية لأن تشعل نشاطا وتثير روح العمل من أجل ما نطالبك بأن تقوم به وحدك”.
وصدق حدس درويش، فالصراع طال أكثر مما يجب ولم ير هو ذاته نهايته، التي ربما تقترب، لكن رهان حجازي أخفق، فقد صرخ درويش فيما بعد: “كم كنت وحدك يا ابن أمي، يا ابن أكثر من أب” لكنه ينعاه الآن بعد 37 عاما من كتابة مقاله هذا.
يقول حجازي: “رحيل درويش خسارة كبيرة للشعر العربي الحديث وللثقافة العربية بشكل عام، فقد استطاع الصمود في وجه القهر الصهيوني لبلاده بأشعاره التي كانت تؤكد معنى الصمود والمجابهة، مجابهة المحتل والصمود أمام غطرسته، لذا فإن الشعب الفلسطيني خسر شاعرًا كبيرًا لا يزال في أمس الحاجة إليه وإلى أشعاره”.
وهناك من يؤكد أن الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين هو من احتضن الشاعر محمود درويش في بداية مجيئه إلى القاهرة وأن غسان كنفاني هو أول من اكتشفه واكتشف شعراء الأرض المحتلة.
وكانت مجلة “المصور” في عددها الصادر بتاريخ 2/5/1967 قد نشرت مقالا لغسان كنفاني عنوانه “محمود سليم درويش شاعر المقاومة الفلسطينية” بدأه بتناول قصيدة درويش “بطاقة هوية” التي باتت معروفة أكثر بأول سطر فيها “سجل أنا عربي” وأنهاه بقوله: “إن محمود درويش يمثل علامة طليعية بين رفاقه الشعراء العرب في الأرض المحتلة، وقد وضعه شعره الحاد في حرب مع العدو، حورب فيها برزقه أولا، ثم أبعد عن قريته، ثم وضع في السجن، ومن داخل ذلك السجن كتب أجود شعره وأكثره عنفًا وتحدياً”.
وكانت القاهرة أول مدينة عربية تطأها قدما محمود درويش وقد اصطحبه عبدالرحمن الابنودي لرؤية شارع الغورية (أحد أحياء القاهرة الفاطمية) وقد أخذ درويش صورة فوتوغرافية مع مدبولي (الناشر) حينما كان صاحب فرشة كتب وصحف في ميدان طلعت حرب”.
بدأت علاقة درويش بالأبنودي قبل أن يخرج من فلسطين، ففي موسكو التقى الشاعر الراحل بمراسل الأهرام هناك “عبدالملك خليل” وسأله عن الأبنودي هل يعرفه؟ وقال له أيضا: “إذا نزلت إلى مصر أحب أن أنزل في بيت الأبنودي قبل أن أزور أيا من المثقفين”.
يقول الأبنودي: “درويش هو أهم شاعر معاصر، وقد حمل على كتفيه حملا وطنيا وقوميا ثقيلا، لم يتراجع عنه لحظة، درويش حالة إنسانية وشعرية لن تتكرر، لأن زواجه وأولاده ووظيفته كانت القصيدة، وعلى الرغم مما عرض عليه من مناصب، يسيل لها لعاب أي مثقف، إلا أنه رفض توليها ليصبح شاعرًا فقط، فالشعر كان حياته، وقد كتب أشعارًا تصلح طعامًا وهواء يتنفسه المقهورون، وكل من يطلع على شعر درويش يدرك أنه قيمة كبرى لن تتكرر”.
وعودة إلى عمله في مجلة “المصور” فإنه في العدد الصادر بتاريخ 24 مايو/أيار 1968 كان صلاح عبدالصبور قد نشر مقالا عن درويش عنوانه “القديس المقاتل” وفي العدد الصادر في يوليو/تموز 1968 نشر رجاء النقاش مقالا بعنوان “مع الطبيعة في شعر محمود درويش” شكل أحد فصول كتابه الصادر عنه فيما بعد.
وعندما استقر درويش في القاهرة كتب في المصور بتاريخ 19 أبريل/نيسان 1971 مقالا عنوانه “هل تسمحون لي بالزواج؟” قال فيه: “لست بطلا كما يظن البعض، لست أكثر من فرد واحد في شعب يقاوم الذبح، الأبطال الحقيقيون هم الذين يموتون لا الذين يكتبون عن الموت”، وطلب فيه أن يتعامل النقاد معه كشاعر لا صاحب قضية.
وتصدر عدد المصور المشار إليه تنويه يقول: “الشاعر الفلسطيني محمود درويش والذي عاش في الأراضي المحتلة قبل أن يأتي إلى القاهرة منذ أسابيع قليلة انضم إلى أسرة المصور ليساهم بقلمه وكلمته في معركة النضال الدائب لتحرير الأرض واسترداد الوطن”.
هذا بينما يؤكد الناقد السينمائي سمير فريد على أن درويش تجاوز الحدود الفلسطينية والعربية منذ عقود، وصار من شعراء الدنيا الكبار، وقد أتيح له أن يعرف درويش أولا، من خلال كتاب رجاء النقاش عنه الذي صدرت طبعته الأولى عن دار الهلال في يوليو/تموز 1969.
يقول فريد: عرفت محمود درويش الإنسان في مكتب لطفي الخولي في أول أيامه بالقاهرة عام ،1971 وكانت أول زيارة في حياته لمدينة عربية، وأيامها قال “فرحتي غامرة بوجودي في مدينة عربية عظيمة كل اللافتات فيها باللغة العربية”.
يقول سمير فريد: “اقتربت من محمود درويش عندما عملنا معًا في مكتب واحد في مجلة “الطليعة” بالأهرام لإصدار “ملحق الأدب والفن” الذي صدر عدده الأول في يناير ،1972 وفي “الترويسة” كان مجلس التحرير مكونًا من لطيفة الزيات، غالي شكري، محمود درويش، سمير فريد، صبري حافظ، وكانت أول قصيدة اختارها درويش للنشر هي “اشتهاء الملكة” للشاعر الشاب آنذاك “محمد عفيفي مطر”.
يذكر هنا أن مجلة “الطليعة” كانت قد نشرت نص مقال درويش “أنقذونا من هذا الحب القاسي” قبل أن يغادر الأرض المحتلة إلى موسكو، ومن ثم إلى القاهرة، وهو المقال العلامة في مسيرة درويش حيث طالب النقاد بأن يتعاملوا مع الشعر الفلسطيني في سياق الشعر العربي، لا أن يربتوا على كتفي قائله لمجرد أنه فلسطيني.
وكانت القاهرة قد استقبلت درويش قبل أن يأتي إليها مقيمًا كما ذكرنا بمقال للشاعر صلاح عبدالصبور، وكأنه يرد على مقولة درويش “أنقذونا من هذا الحب القاسي” بشكل غير مباشر، فقد كتب عبدالصبور مقاله عن ديوان “آخر الليل” الذي نشرته مجلة “الهلال” كاملا، إذ رأى الشاعر المصري الكبير أن هذا الديوان “يتحدث للمرة الأولى بلهجة المشارك، لا بلهجة المشاهد، وينسخ بذلك كل ما سبق أن قيل، ويضع علامات الطريق لمن يريد أن يقول بعده”.
كان الديوان يجيب عن أسئلة كثيرة شغلت عبدالصبور، مثل “كيف نعبر عن القضية (الفلسطينية) وبأي كلمات نستطيع أن نخاطب بالمأساة قلب الإنسان وأن نخلق للجرح فمًا ولسانًا فصيحًا، وكانت تثقلنا في بعض الأحيان بأغلال عنتريتنا الجوفاء، فنصرخ ونتوعد ونكذب حتى على أنفسنا”.
ويقول عبدالصبور في المقال ذاته “كان شعر فلسطين في معظمه ضائعًا بين العنترية الجوفاء والبكاء الذابل، حتى كتب محمود درويش ورفاقه، لقد تكلموا فحسب كلمة صادقة حزينة حزن الرجال، فأثبتوا أن الشعر هو صوت الإنسان حين يتكلم من قلبه، وبصوته الخاص، لا بأصوات الآخرين، والمجموعة الباذخة التي نشرتها مجلة الهلال في عدد مايو (1968) الأخير من شعر محمود درويش هي في رأيي حدث فني من أحداث حياتنا ولو استطعت أن أتجرد من ظلال قضيتنا المصيرية، وتذرعت بالحس النقدي وحده، لما تغير رأيي قليلا أو كثيرا فهي شعر، وشعر عظيم بشتى المقاييس”.
وفي أحد الحوارات التي أجريت معه تحدث درويش عن علاقته بالقاهرة، والاستشهاد هنا يطول حيث جاء الشاعر الكبير على تفاصيل كثيرة، حيث قال: “بقيت في القاهرة سنتين هما 1971 و،1972 الدخول إلى القاهرة كان من أهم الأحداث في حياتي الشخصية، في القاهرة ترسخ قرار خروجي من فلسطين وعدم عودتي إليها ولم يكن هذا القرار سهلا، كنت أصحو من النوم وكأنني غير متأكد من مكان وجودي، أفتح الشباك عندما أرى النيل أتأكد من أنني في القاهرة”.
وقال أيضا: “خامرتني هواجس ووساوس كثيرة، لكنني فتنت بكوني في مدينة عربية، أسماء شوارعها عربية، والناس فيها يتكلمون العربية، وأكثر من ذلك وجدت نفسي أسكن النصوص الأدبية التي كنت أقرأها وأعجب بها، فأنا أحد أبناء الثقافة المصرية تقريبا والأدب المصري، التقيت بهؤلاء الكتّاب الذين كنت من قرائهم وكنت أعدهم من آبائي الروحيين”.
وقال درويش: “من سوء حظي أنني لم ألتق طه حسين، كان في وسعي أن ألتقي به، ولم يحصل اللقاء، وكذلك أم كلثوم لم ألتق بها، وحسرتي الكبرى أنني لم ألتق هذه المطربة الكبيرة، كنت أقول إنني مادمت في القاهرة فلديّ متسع من الوقت لألتقي مثل هذه الشخصيات، التقيت محمد عبدالوهاب، وعبدالحليم حافظ وسواهما، والتقيت كبار الكتّاب مثل نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم”.
وفي ذلك الحوار المطول الذي أجراه عبده وازن تحدث درويش قائلا: “عينني محمد حسنين هيكل مشكورا في نادي كتّاب الأهرام، وكان مكتبي في الطابق السادس، وهناك مكتب توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وبنت الشاطئ، وكان توفيق الحكيم في مكتب فردي، ونحن البقية في مكتب واحد، وعقدت صداقة عميقة مع محفوظ وإدريس الشخصيتين المتناقضتين، محفوظ شخص دقيق في مواعيده ومنضبط، يأتي في ساعة محددة ويذهب في ساعة محددة، وكنت عندما أسأله: هل تريد فنجان قهوة أستاذ نجيب؟ كان ينظر إلى ساعته قبل أن يجيب، ليعرف إن كان وقت القهوة أم لا، أما يوسف إدريس فكان يعيش حياة فوضوية وبوهيمية وكان رجلاً مشرقًا”. وفي القاهرة قال درويش “صادقت أيضا الشعراء الذين كنت أحبهم: صلاح عبدالصبور وأحمد حجازي وأمل دنقل، كان هؤلاء من الأصدقاء القريبين جدًا وكذلك الأبنودي، كل الشعراء والكتّاب الذين أحببتهم توطدت علاقتي بهم، والقاهرة كانت من أهم المحطات في حياتي”.
كانت مصر حاضرة في شعر درويش باستمرار عبر مراثيه لجمال عبدالناصر وصلاح جاهين وأمل دنقل، وعبر النيل: “للنيل عادات وإني راحل” و”يا مصر أعطني الأمان” و”في مصر لا تتشابه الساعات/ كل دقيقة ذكرى تجددها طيور النيل”، وعبر الحواري الضيقة والأكباد التي أكلتها البلهارسيا، والبنايات الشاهقة، وأضواء الشوارع، والجائزة قبل الأخيرة في حياته والتي منحها له “ملتقى القاهرة للإبداع الشعري” في دورته الأولى العام الماضي، كانت مصر حاضرة في كل هذا وفي كلمته الموجهة إلى الجمهور: “يا مصر خذينا إلى المستقبل”، وفي زواجه من مصرية (له زيجتان) كانت تعمل في منظمة اليونسكو لكنه رحل دون أن يرى هذا المستقبل الذي كان يريده.
الاتصال الأخير
ظلت علاقة الابنودي قائمة بدرويش إلى ما قبل أسبوعين من عمر الشاعر الراحل الكبير، فقبل أن يسافر درويش إلى أمريكا، لإجراء الجراحة الخطيرة، كان هناك اتصال هاتفي بينهما، حيث يقيم الأبنودي في بيت ريفي بالإسماعيلية.
كان صوت درويش عبر الهاتف، تسمع صداه جدران بيت الأبنودي في الإسماعيلية، وكان يقول: “لن أدعهم يعبثون بجسدي، خاصة أنهم يريدون 25سم شرايين، ولم يعد بإمكان جسدي التحمل أكثر من ذلك وسوف أتركهم يكشفون على جسدي ولن أدعهم يجرون العملية”. كان الأبنودي يتلقى إذن آخر اتصال هاتفي مع الشاعر الراحل الكبير، وكان قبلها قد علق قصيدته الأخيرة “لاعب النرد” على جدار أمامه، في بيته، بعد أن قصها من إحدى الصحف، من غير أن يفعل ذلك مع شاعر آخر، ومن غير أن يعرف أنها القصيدة الأخيرة.
**********