عمّان ـ موسى برهومة
كان لمحمود درويش ما أراد، وتحقق له ما اشتهى عندما أوصى قبل ستة وعشرين عاما بأن تكون جنازته "حسنة التنظيم، يضعون فيها الجثمان السليم، لا المشوه، في تابوت خشبي ملفوف بعلم واضح الألوان الأربعة".
الطائرة الإماراتية التي حملت جثمانه أمس وحطت في مطار عمّان المدني ظلت وفية لإرث الشاعر. والكلمات التي ألقيت كانت بلسان مذيع "قليل الثرثرة، قليل البحة، وقادر على ادعاء حزن مقنع"، كما راح يخط في كتابه "ذاكرة للنسيان" الصادر في بيروت 1982، تحت عنوان" وصية الشاعر المبكرة.. لمن يهمه الأمر".
قال درويش "أريد أكاليل من الورد الأحمر والورد الأصفر. لا أريد اللون الوردي الرخيص ولا أريد البنفسج لأنه يذيع رائحة الموت. أريد جنازة هادئة، واضحة، وكبيرة ليكون الوداع جميلا وعكس اللقاء. فما أجمل حظ الموتى الجدد، في اليوم الأول من الوداع، حين يتبارى المودعون في مدائحهم. فرسان ليوم واحد، محبوبون ليوم واحد، أبرياء ليوم واحد.. لا نميمة ولا شتيمة ولا حسد. حسنا".
واستمر درويش في الوصية يخاتل الموت ويهزأ به كما ظل يفعل في أشعاره اللاحقة جميعها: "أريد جنازة وتابوتا أنيق الصنع أطلُّ منه، كما يريد توفيق الحكيم أن يطل، على المشيعين".
وما انفك محمود درويش في كتاباته يراود الأبدية البيضاء ويرصد اللحظات القليلة من بقايا الحياة ويعد سيناريوات لموته مطعما التفاصيل بمذاق مخيلة جامحة ومفتوحة على التهلكة.
في "أثر الفراشة" يتساءل:
"إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت؟
¬ أنظر في ساعة اليد
أشرب كأس عصير
وأقضم تفاحة
وأطيل التأمل في نملة وجدت رزقها..
ثم أنظر في ساعة اليد:
ما زال ثمة وقت لأحلق ذقني
وأغطس في الماء/ أهجس:
"لا بد من زينة للكتابة
فليكن الثوب أزرق"....
اجلس حتى الظهيرة، حيا، إلى مكتبي
لا أرى أثر اللون في الكلمات
بياض، بياض، بياض...
أعد غذائي الأخير
أصبّ النبيذ بكأسين: لي
ولمن سوف يأتي بلا موعد
ثم آخذ قيلولة بين حلمين
لكنّ صوت شخيري سيوقظني...
ثم أنظر في ساعة اليد:
ما زال ثمة وقت لأقرأ
أقرأ فصلا لدانتي ونصف معلقة
وأرى كيف تذهب مني حياتي
إلى الآخرين، ولا أتساءل عمن
سيملأ نقصانها
¬ هكذا؟
¬ هكذا،
ثم ماذا؟
¬ أمشط شعري
وأرمي القصيدة: هذي القصيدة
في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا
وأشيّع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا
ثم أمشي
إلى المقبرة!".
أمس، أطل صاحب "ورد أقل" على الدنيا عبر شاشات التلفزة التي نقلت وقائع الجنازة التي ضاهت في حجمها واتساعها وكثافة المشاركين فيها جنازة الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
محمولا بطائرة عسكرية أردنية ارتحل الشاعر من عمّان التي أقام فيها إلى وطنه بعدما شيعه أصدقاؤه المثقفون الأردنيون واللبنانيون والعرب. واستمع درويش إلى حشرجة صوت مارسيل وهو يغني "يطير الحمام، يحط الحمام" والتي يكملها درويش:" أعدّي لي الأرض كي أستريح، فإني أحبّك حتى التعب".
فها هو الشاعر المضمخ بالدمع والورود يستريح في تابوت لف بعلم بلاده التي لطالما دعا المحتلين أن يخرجوا من مائها وملحها وهوائها.
واستقبلته رام الله بكل ما فيها من ألم وشغف وراحت تهدد روحه وتلهو بخصلات شعره المنسدل على جبينه:
"فنم يا حبيبي ليصعد صوت البحار إلى ركبتيّ
ونم يا حبيبي لأهبط فيك وأنقذ حلمك من شوكةٍ حاسدة
ونم يا حبيبي عليك ضفائر شعري، عليك السلام
يطير الحمام
يحطّ الحمام"
وينهض درويش من غفوته ويرد على حبيبته الأرض:
"لأني أحبّك يجرحني الظلّ تحت المصابيح،
يجرحني طائرٌ في السماء البعيدة،
عطر البنفسج يجرحني أوّل البحر يجرحني
آخر البحر يجرحني".
وكان التابوت المرصع بالشجن خاليا من البنفسج "لأنه زهر المحبطين، يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه".
درويش بدا فرحا في عمّان وهو يصغي إلى أنين محبيه الذين رووا روحه بالمحبة والأمل، وأيقظوا النائم من غفوته ودعوه أن ينهض كما راح يخاطبه صديقه عضو الكنيست الإسرائيلي أحمد الطيبي بعينين فيّاضتين بالدموع:
إنهض.. إنهض..
فلسطين كلها والعرب
تحمل قلوبها إليك.. لتنهض..
حاصر حصارك.. إقهر مرضك
وانهض..
قم من نومك المؤقت..
انتفض..وانهض
لا تغادرنا قبل أن ترتوي
بقهوة أمك.. وقبل أن
تعود أبداً لحيفا..
الجبل ينتظر.. والزيتون
الوديان تصبو.. والسنديان
"وعندما أغلقوا باب قلبي عليّ
وأقاموا الحواجز فيّ
ومنع التجول.. صار قلبي حارة
وضلوعي حجارة..
واطل القرنفل.. واطل القرنفل"
إذ جاءك الموت قل له:
ليس موعدنا اليوم.. فلتبتعد
وتعال غداً أو بعد غدٍ..
يا لاعب النرد تسألنا: من أنا ؟
أنت نحن.. كلنا
أنت سرمدية الأسطورة
وجمال فلسطين وعبق العروبة
أنت اللانهاية..أنت نور النفق
يا لاعب النرد...
تسألني طفلتي الصغيرة:
من سيلقي عليّ الوردة الحمراء
بعد اليوم ؟
إنهض.. إنهض محمود
فالحاكورة وشجراتها... زيتونها
وسنديانها تسأل..
أين رفيق الدرب..؟
قلت: ما أقساها الحروب.
يموت الجنود ولا يعرفون من انتصر!
فمن سيكتب قصيدة النصر غيرك؟
ما أقساك أيها المرض.
تغفو ولا تعرف حجم الدموع
تغيب فجأة ولا تعرف كم هو الحب لك!
أو أنك تعرف..
وكأنك قد مُتُّ قبل الآن....
تعرف هذه الرؤيا، وتعرف أنك
تمضي إلى ما لست تعرف، ربما
ما زلت حيّا في مكان ما، وتعرف
ما تريد...
ستصير يوما ما تريد".
انهض واصرخ في وجهنا:
غبت قليلاً كي أعود.. وأعيش
ولتحيا فلسطين..
فألقي عليكم وردتي الحمراء".
وفي رام الله التي طبعت أكثر من خمسة آلاف علم عليها صورة محمود درويش، أصغى صاحب "مديح الظل العالي" إلى صديق دربه وأخيه الذي لم تلده أمه سميح القاسم وهو يجهش بالألم والسخط من الاحتلال الإسرائيلي الذي حال دون أن يوارى جثمان الشاعر في بلدته البروة، وبالتحديد بجوار شجرة الخروب الواقعة بين الرامة وحيفا التي كان درويش يختبيء في جذعها العملاق المجوف من المطر والأهل.
القاسم كان أهدى رفيق عمره قصيدة استذكر فيها الحاجة حورية والدة محمود درويش "تعانقني أمنا أم أحمد. في جزع مرهق بعذاب السنين، وعبء الحنين، وتفتح كفين واهنتين موبختين. وتسأل صارخة، دون صوت. وتسأل اين أخوك؟ اجب لا تخبىء علي. أجب أين محمود؟ أين أخوك؟ تزلزلني أمنا بالسؤال؟؟ فماذا أقول لها؟".
وفي رام الله استقبل جثمان درويش الخالي من أزهار البنفسج في مقر الرئاسة بالمقاطعة، حيث صلي عليه وخرج بعدها محمولا على عربة مدفع إلى قصر الثقافة في جنازة مهيبة أطلقت خلالها إحدى وعشرون طلقة تحية لجثمان الشاعر الذي أنشد للحرية والحب والمقاومة والحياة.
أمس في عمّان ورام الله وسائر جهات الأرض "نام القمر على خاتم ينكسر وطار الحمام".
نام محمود درويش فوق تلة شاهقة تطل على القدس
"وحطّ على الجسر والعاشقين الظلام".
عباس: مهما نحاول استجداء اللغة تفر المفردات مذعورة كالعصافير مع روحه المسافرة
مراسم مهيبة لوداع محمود درويش من عمّان الى رام الله
رام الله، عمان ـ أحمد رمضان ووكالات
من عمان الى رام الله كان وداع مهيب لشاعر فلسطين وقضيتها، فـ"مهما نحاول استجداء اللغة تفر المفردات مذعورة كالعصافير مع روحه المسافرة"، وفق الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي رثاه بكلمة مؤثرة.
كان وصل جثمان الشاعر الفلسطيني محمود درويش امس من الولايات المتحدة الى الاردن حيث نظمت مراسم وداع قبل ان ينقل لتشييعه في رام الله في الضفة الغربية.
ونقلت طائرة ارسلها رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان جثمان درويش الى مطار ماركا العسكري شرق عمان، حيث نظمت مراسم وداع قصيرة لشاعر المقاومة الفلسطينية.
واصطف 26 من حرس الشرف لتحية الجثمان بينما اخرج 12 من ضباط جيش التحرير الفلسطيني النعش الذي لف بعلم فلسطين.
وحضر المراسم الامير علي بن نايف احد ابناء عموم عاهل الاردن الملك عبد الله الثاني ووزيرة الثقافة الاردنية نانسي باكير، "انها من اصعب اللحظات في حياتي ان امثل الاردن في جنازة محمود درويش احد اهم رموز النضال الفلسطيني".
وحضر المراسم عمان رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض ورئيس المجلس الوطني الفلسطيني سليم الزعنون والنائب العربي الاسرائيلي احمد الطيبي وامين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه.
وقال فياض: "هناك زاوية لمحمود درويش في قلب كل فلسطيني وعربي".
واكد عبد ربه ان محمود درويش "سيبقى دائما في القلب".
وغنى مارسيل خليفة الموسيقي اللبناني الذي يتمتع بشعبية كبيرة واختارته منظمة الامم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) سفيرا للسلام في 2005، اغنية "امي" التي كتبها درويش فيما كان الحضور يبكون.
وبعد ذلك قبل مشاركون نعش درويش قبل حمله الى مروحية عسكرية اردنية تنقله الى رام الله حيث سيدفن على تلة جنوب رام الله تطل على مدينة القدس وتبعد عنها بضعة كيلومترات، الى جانب قصر الثقافة الذي اقام فيه آخر امسياته الشعرية.
ونقلت مروحية أردنية خاصة جثمان درويش من عمان إلى رام الله حيث رافق الجثمان على متن الطائرة فياض وعبدربه والطيبي ورئيس ديوان الرئاسة الفلسطيني رفيق الحسيني.
وكانت وصلت مدينة رام الله منذ ساعات الصباح مئات الحافلات القادمة من كافة محافظات الضفة الغربية لتقل مشيعي الشاعر الكبير.
وشارك الرئيس الفلسطيني محمود عباس وكبار المسؤولين الفلسطينيين في مراسم التشييع.
محمود عباس
وفي كلمته التأبينية المؤثرة قال رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس: "إن درويش ترك وراءه عطاء لا ينضب وكان قائدنا رائدا ومعلما وحصنا منيعا عاليا بجبهة الثقافة والإبداع التي تمثل هذه الجبهة سيرة في حياة شعبنا المناضل مضيفا أن درويش كان أحد رموز الصمود الفلسطيني بكلماته وأشعاره".
واضاف "إنها أسطورةُ الشعب المجبولةُ بأسطورة محمود. بتبادليةٍ جدلية، هي الأكمل والأجمل يَنقُش بمهارةِ المبدعِ الخلاقِ، ليس فقط ملامح هويتنا بل جدارُ وعينا، ليكون فينا ومنا ولنا، ويكونَ لكلٍ منا فيه حصة أو نصيب كما هي مع شعبه وقضيته مع أمته وإنسانيته ليصبح ذلك الخيط الحريري المميز في قوس نصرنا ومنارة عزنا في صُلب نسيجنا الاجتماعي ووحدتنا الوطنية وفي صلب صورتنا الإنسانية النضالية، يعلن جدارتنا وحقنا بالحرية والاستقلال".
وتابع: "ومهما نحاول استجداءَ اللغة تَفِّرُّ المفردات مذعورة كالعصافير، مع روحه المسافرة إلى بارئها وتتلاشى عند حدود الشفاه ويجفُ مِدادُ القلم فما أصعبَ الرِثاء، فكيف إذا كان لعزيز كمحمود، وكبير كمثله، بقامته وظله، يورفُ على فلسطين من أقصى الحدود إلى غاية الحدود".
واضاف عباس: "إذا كان سيدُ الكلمة والحكمة بذاك الرمز المعبر عن حسّنا الوطني، دستورِنا الإنساني،إعلان استقلالنا، فمن يوفيه جزءاً من حقه علينا بالرِثاء؟ ومن يملك القدرة فرداً أن يفعل؟
إنها أنشودةُ المناجاةِ والفجيعةِ، صامتةُ أبلغُ من القول، ولكنها أيضاً مسؤوليةُ جميعنا وجموعنا، تهب موحَّدة في تشييعه، والتفجعِ على رحيله، ولكنها بإرادة العزم والأمل الذي غرسه فيها ينمو ويكبر ويزهر.
وهي إذ تعبر عن حبها وشكرها واعترافها بمكانة محمود، ودور محمود، إنما تجدد لروحه الطاهرة، لتراثه المجيد ومسيرته المباركة، مسيرتَها وتضحياتِها ومعاناتِها، مسيرةَ كفاحها المستمر والمتواصل إلى ذروة النصر.
ومع جلال الحزن فان جمال الوفاء أقوى وأحق بهمة الرجال وعمق المسؤولية تجاه محمود وريثِ الأمجاد وحاملِ لواء الأجداد المجدد المبدع المعبر الموحد شعراً ثقافة وشعبا وهوية".
وأكد الرئيس الفلسطيني "أن رحيل درويش مثل فاجعة وألما وحسرة لأنه كان عزيزا وكبيرا فلا يمكننا رثائه كونه غرس في نفوسنا بذرة الأمل، وبهذه الفاجعة الأليمة نجدد العهد لروح درويش ولكل شهدائنا وأسرانا وجرحانا أن تبقى الراية التي رفعها درويش بشعره وقامته خفاقة لتعلو كمآذن القدس وكنائسها التي ستبقى عاصمة دولتنا الفلسطينية الآتية قطعا، مشيرا إلى أنه حلم درويش التي نقسم على تحقيقه ليكون مثواه ومثوى شيخ شهدائنا وقائدنا ياسر عرفات".
وشدد عباس على ضرورة "أن يكون رحيل درويش مدخلا لتجديد طاقات المبدعين على كل المستويات الأهلية والرسمية لسد الفراغ الكبير من خلال الارتكاز لتراثه ومدرسته وإبداعه العظيم"، داعيا "الجهات الحكومية والرسمية المعنية بجبهة الثقافة والتي نعتبرها الحصن الأقوى لصمود شعبنا أن تولي هذه الجبهة ما تستحق من تركيز واهتمام وتوفير الإمكانيات والموارد الازمة لتمضي قدما لتعزيز دورها والعبور لعهد جديد من الأصالة والتجديد فجهة المبدعين والثقافة هم ضمير الأمة وأملنا وعزائنا وكلنا ثقة بأنهم أهل لهذه المسؤولية والمكانة".
وأكد الرئيس الفلسطيني في ختام كلمة أن "درويش سيبقى في كل إنسان وطفل فلسطيني كونه زرع في أنفسنا القيم ووحد فينا الفرح والأمل ورفض دخول بيت أبي سفيان وعادى مسيلمة على هذه الأرض يستحق الحياة".
سميح القاسم
والقى الشاعر سميح القاسم كلمة قال فيها: "إنه كان لجثمان درويش أن يطلب الراحة الأبدية في مقبرة البروة الجليلة، لكن المستوطنين يصرون على تحويل مقبرة أجداده إلى حظيرة لمواشيهم. إنهم ينتقمون لأسلحتهم عن مواجهة قصيدتك، لكل البشر لكل الشعوب تحت رايات الحرية والسلام والإبداع".
وأضاف: "ولأنك مسكون بالحنين إلى خبز أمك وقهوة أمك، فإنهم مسكونون بهاجس العبثية والزوال، ولأنك مفعم بحب شجرة الخروب التي على الطريق بين البروة وعكا، فإنهم ملغمون بالكراهية وشهوة التدمير والتدمير الذاتي، لأنهم لا يحبون الحياة والسلام بقدر ما تحب أشجار الخروب والسنديان في وطنك.. إن البروة ورام الله والقدس ونابلس إنما تشكل أطرافا متكاملة في معادلة الوطن الواحد، أما بشأن الدولة فالأيام دول، والدول دول، ولا يبقى إلا وجه ربك. لنا أن نعتز بالانتماء إلى شعب لا يتقاسم أرغفة الحصار فحسب، بل يتقاسم قبور الشهداء والشعراء، دليلا على أنه شعب حضارة، لم يكن في حضارته وقصيدته ومقاومته شعب إرهاب كما يدعي شهود الزور والإرهاب من هواة العنصرية والعدوان".
وخاطب روح رفيق دربه الراحل درويش قائلا: "يا أخ لم تلده أمي لك أن تتجاذب أطراف الحديث مع رائد مسيرة الحرية الشهيد ياسر عرفات وتتبادل وجهات النظر مع رفاق درب أبو عمار، لكن صديقا ورفيقا طيبا كان يتمنى اختراق الحالة السريالية الراهنة، لمشاطرتك الحلم والأمل المشترك، إنه شهيد غربة وابن غزة معين بسيسو، يا شهيد غربة وابن البروة محمود درويش. لا يستطيع معين، بسبب ما هو قائم هناك، عبور خط النار العبثية إلى رام الله، مثلنا لا تستطيع انت عبور خط النار العبثية إلى غزة، القدس قريبة بعيدة، وغزة".
وتابع القاسم: "وإذا كانت غزة بفعل هؤلاء غير قادرة على الحلول في رام الله، ورام الله غير قادرة على التجسد في غزة، فمن أين لنا يا محمود أن تتجلى فلسطيني في فلسطين؟. ليس على الشعب الواحد أن يعيش بفكر واحد وأن يموت بنهج واحد، إن لم نكن شعبا واحدا، هل عدنا إلى الجاهلية؟ هل مسخنا قبائل تتخلى عن قيمها؟، سامحنا على ضعفنا. سوف تتشبث حتى الموت باليقين بأن شعبنا العربي قدم المنسوب الأعلى من دماء الشهداء، وهذا الشعب الصغير الكبير المدهش بقوة حياته وحيويته، يتقن فن إدارة المفاوضات، ويتقن فن إدارة الانتفاضات أيضا".
شقيق الراحل
أما أحمد درويش شقيق الشاعر الراحل، فقال: "ها قد عاد إلى ثراكم، عاد أخوكم وصديقكم وزميلكم ورفيق دربكم إلى هذا المكان الرمز، عاد إليكم لغة وفكرا ونهجا وترابا، ومن أحق منكم وفاءً لهذه الأمانة، ومن أحق من هذا المكان القريب من القدس، وجار مثوى القائد الرمز المرحوم ياسر عرفات".
أضاف: "تحياتي إلى القيادات، ممثلي الحركات السياسية والفكرية والثقافية، للعمال للفلاحين للطلبة، للمعلم الأول الجماهير الفلسطينية والعربية، التي عبرت عن حزنها وحبها لمحمود، فخرجت بكل أطيافها وشرائحها وانتماءاتها بمبادرات عفوية من مسيرات وإضاءة الشموع ورفع الأعلام الفلسطينية والسوداء وصور الفقيد والمهرجانات، إضافة إلى طوفان الوافدين يوميا لتقديم العزاء".
وقال: "آن لهذه الجماهير أن تحقق أمنياتها بإقامة الدولة وعاصمتها القدس، وأن ترتاح من التضحيات التي لا تتوقف، لكي تبني السلام، والمستقبل بأمان، أصافحكم واحدا واحدا، واحدة واحدة، فلكم طول العمر ولمحمود الرحمة".
وداع رام الله
وبدأت مراسم التأبين، التي تولى عرافتها الكاتب يحيى يخلف، أقيمت الصلاة على روح الفقيد، قبل أن يلقي الحضور نظرة الوداع الأخيرة على نعش الراحل المسجى في ساحة المقاطعة.
وعقب ذلك وضع الجثمان على سيارة عسكرية سارت به فى شوارع رام الله فى طريقها إلى قصر الثقافة حيث جرى خلال اليومين الماضيين تجهيز مقبرة بجواره. وبعد وصول الجثمان إلى المقبرة حمل الجثمان ثلة من قوات حرس الرئاسة وساروا بها إلى المقبرة وسط عزف موسيقى حزين الى أن ووري الجثمان في الثرى.
وكان ووصل جثمان الشاعر الفلسطيني الى رام الله حيث كان في استقباله آلاف المشيعين بعد ان نقلته طائرة هليكوبتر من الاردن قادما من الولايات المتحدة.
واستقبل نعش درويش المغطى بالورود والعلم الفلسطيني الرئيس الفلسطيني وعشرات من المسؤولين وكبار الشخصيات لدى وصوله الى المقر الرئاسي في رام الله.
وحمل ثمانية أفراد النعش من الطائرة الهليكوبتر عبر الساحة بينما عزفت الموسيقى العسكرية.
وقالت حنان عشراوي النائبة الفلسطينية ان هذه خسارة للصوت الفلسطيني والرؤية الفلسطينية وان الفلسطينيين كانوا يشعرون انه مادام هناك "محمود درويش" سيبقى الخير والامل وامكانية الخلاص.
وحملت عربة نعش درويش أمام الالاف من المشيعين متجهة الى ضريحه على بعد أربعة كيلومترات. وتجمع الفلسطينيون في الساحة الرئيسية لرام الله لتوديع الشاعر الفلسطيني الكبير.
وبدأت بلدية رام الله منذ يوم الإثنين في اعداد الموقع الذي أقيم فيه ضريح درويش ويدفن فيه الشاعر الفلسطيني الكبير على ربوة بجوار قصر ثقافة رام الله.
وأقيمت لدرويش جنازة شبيهة بالمراسم الرسمية والتكريم الذي صاحب الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات الى مثواه الاخير.
وقررت السلطة الفلسطينية الحداد ثلاثة ايام على الشاعر الفلسطيني الكبير الذي علقت صوره في شوارع رام الله الى جانب مقولته الشهيرة: "على هذه الارض ما يستحق الحياة".
وكان درويش قد جعل من رام الله دارا له منذ عودته في التسعينيات الى الضفة بعد بقائه في المنفى سنوات طويلة.
المستقبل - الخميس 14 آب 2008 - العدد 3047 - ثقافة و فنون - صفحة 20
***
الشعراء والفنانون والمثقفون اللبنانيون والعرب يُودّعون محمود درويش
مات الملك عاش الملك!
مكتب بيروت: جهاد الترك وكوليت مرشليان
مكتب عمان: موسى برهومة
الجديدة (عكا): حسن مواسي
كان لرحيل الشاعر محمود درويش وقع الدويّ، على الناس والشعراء في العالم العربي والعالم. فبين من صدمه النبأ المشؤوم، ومن استقبله بدمعة، أو بصرخة، أو بشعور بالخسارة، يبرز حجم الخريطة الإنسانية التي تحرك عليها. وحضوره شعّ، كالشمس، في كل بيت، ووجه، وبقعة في فلسطين ودنيا العرب. هذا الحضور الذي بناه مدماكاً مدماكاً، طالعاً من المأساة الفلسطينية ومن الأمل، ومن الهزائم، والحلم بالانتظار، من المنافي والعودات.
هذا الحادث الجلل، يقاربه شعراء وكتّاب من لبنان، والعالم العربي، بشهادات، ننشرها بحسب ورودها إلينا.
مدرسة شعرية
مع رحيل محمود درويش فقدنا شاعراً بقيمة مدرسة شعرية، وشخصياً التقيت به مرات عدة وأحببت شعره كما أحبه الجميع خاصة ما فعله مع مارسيل خليفة من أغنيات هزّت مشاعرنا كلنا. وأتمنى أن يكون الشعراء الجدد مثله من ناحية أنه لم يقلد أحداً. أحببت صوره الشعرية وأول دواوينه وآخرها أيضاً لأنه حافظ على جمالية صوره الشعرية حتى آخر قصيدة ومن أجمل ما تحدّاه محمود درويش الشاعر ليس فقط في السياسة وفي حب بلاده بل أيضاً في جرأته على تخطي قوانين الشعر.
ريمون جبارة
(مخرج مسرحي لبناني)
شٍعرك والقضية لا يموتان
على هذه الأرض ما يستحق الحياة، قال لنا ذلك. ولفرط ما يحبها ويحترمها ويعشقها نبضت في قصائده، ناجاها وعاشها في أشعاره وكلماته ضجراً من الموت ورغبة في عيش ما يستحق الحياة الكريمة.
وعلى هذه الأرض نستحق فلسطين ونستحق أن يكون لنا محمود درويش، ونستحق شعره وقلبه الذين وهب دقاته للشعر ثم أخطأ اصابته هذه المرة وتوقف.
ما الذي فعلته يا محمود؟ رحلت وأنت في عز نضارتك. كنت أريد منك ديواناً جديداً يسعدني ويهبني هدية الجمال، الهدية الوحيدة التي تكسر العزلة والألم والإحساس بالإحباط. هدية الكلمة والقصيدة التي تقول لنا إن الدنيا ما زالت بخير ما دام هناك شاعر يهبنا الحياة في الكلمة والقصيدة. لماذا فعلت بنا ذلك؟ ما هذا النقصان الكبير للحياة في غيابك، ونقصان الشعر أيضاً؟ وما قصدك أيها الشاعر الكبير الفارس النبيل الجميل الأنيق المرهف الجواهرجي والإنساني، الإنساني العميق، في شعرك وشخصيتك.
ما قصدك؟
هل تريد أن تقول لفتح وحماس أنتم مُتّم فخذوا هذا موتي أيضاً؟ ولكن أنت تعرف أن شعرك لن يموت كما القضية لا تموت. أنت حيّ يرزق علّهم، إن أحسنوا القراءة، يصيرون أحياء يرزقون. ولكن للأسف هل من تنادي بموتك يسمعون.
علوية صبح
(روائية لبنانية)
يمثّل لي الوطن
حزنت كثيراً على رحيل محمود درويش ولكن أنا سعيدة لأنني عشت في عصره ولكن للأسف لم يتم اللقاء معه ولا مرة ولكنني كنتُ كلّني أمل أن أراه يوماً ما وأقول له كم هو يمثل لي الوطن وكم جسّد في أشعاره وطناً ليس موجوداً في الواقع. يبكيني الكلام عنه وتأثرت فوق طاقة أن أتحدث عنه، وكم كنت أحزن حين كان يقول في مقابلاته أنه يرغب فقط في أن يكون له وطن ويعيش فيه يوميات طبيعية مثل كل الناس.
رولا حمادة
(ممثلة فلسطينية تقيم في لبنان)
دولة الشعر المستقلة
محمود درويش، هو الشاعر الربيعي الذي مات في عزّ صيف.
هو الذي ارتمى في نهر الأردن سابحاً ولاعباً، وأنقذ قصيدته من وحل الثورة..
محمود درويش من الشعراء الكبار الذين أخلصوا لموهبتهم... رعاية وعناية وسهراً وشغفاً وارتقاء...
كان فريد قصيدته، منشداً خارج الكورال الجماعي من الرثائيين، والندابين والمحمسين والطبالين!
رغم جماهيريته، لم يسقط في الشعبوية، أنقذته القصيدة، أنقذه حبه للنرجس...
محمود درويش هو أجمل حلم في منام فلسطين... هو الذي أنشأ لها دولة شعرية حرّة ومستقلّة!
يحيى جابر
(شاعر لبناني)
محمود درويش:
حياة بأكملها لأجل الحياة
غداً حين يتفتّح زهر اللوز، في السنة المقبلة، في سفوح الجليل وهضاب الجنوب، لن يكون محمود درويش هنا. لكن قصيدته ستكون كزهر اللوز أو أبعد. وفي دفاتر العاشقين سيك لها أثر فراشة وأعمق. سوف يعبر العابرون والمحتلون في الكلام العابر ويظل محمود درويش ويظل شعره وتظل "فلسطينه" التي "تضيق في الخريطة وتتسع في صوت المغني ووصايا الشهداء".
لم أحب شاعراً كما أحببت محمود درويش.
أحببته قبل أن ألتقيه بسنوات وحروب واحتلال وشهداء وقصائد كثيرة.
في ليالي الجنوب الحميمة، كانت قصائده تصلنا مشوبة برائحة زهر الليمون والبرتقال، تحملها إلينا دواوينه وأشرطة مرسيل خليفة، كنا نستعين به على حبيباتنا وخيباتنا وأوجاعنا الكثيرة. وكنا نزداد معرفة بفلسطين بواسطة شعره الذي كان دليلنا الى ما هو أبعد من الشعر. وفي شعره كانت فلسطين أكثر بهاء ونضارة، مثلما صارت القضية (خصوصاً في أعماله الأخيرة) أكثر شفافية وعذوبة حتى بات بالإمكان القول أن محمود درويش استطاع وببراعة أن "يؤنسن" النضال الفلسطيني ويعيده من "الأسطورة" الى طبيعته البشرية وإلى كونه فعلاً إنسانياً نبيلاً يصنعه بشر من لحم ودم، والأهم من مشاعر وأحاسيس وأفئدة تحب وتعشق وتفرح وتحزن، وتستحق أن ترى الأحمر في الوردة أيضاً، لا فقط في لون الدم.
لمّا التقيت محمود درويش بعد سنوات من الحروب والمحن، ومن الشعر والحب، أحببت فيه أنه لا يُشبه الصورة النمطية للشعراء (ربما لأنه شاعر حقيقي)، مثلما أحببت الشبه الكبير بينه وبين شعره. وجدت أنه لا يكتب قصيدته باللغة وحسب، بل بالسلوك والتصرّف وبأسلوب التعامل مع الوجود والكائنات. وحين رحت أبحث عن وجه الشبه بين الشاعر وقصيدته، وجدت أنها تلك الغنائية الشفيفة المشوبة، أحياناً بشيء من الانكسار الإنساني أمام عاتيات الأيام، وتلك الروح المشعّة التي تنتقل بالعدوى الجميلة الى كل من يقترب منها، وذاك الدفاع الرائع والانحياز الجميل الى معنى الحياة.
في قصيدتي له التي حملت عنوان "تليق بك الحياة" خاطبته قائلاً: "ليس الحزن ما يجعلك استثنائياً ولا الموت المتربص بك عند ناصية الأيام... بل دفاعك الرائع عن معنى الحياة". فإلى جانب صفاته الكثيرة تظل الصفة الأهم، برأيي، أنه مدافع شرس عن معنى الحياة، ليس فقط في مواجهة العدو الإسرائيلي مغتصب الأرض ومنتهك الحرية، بل في مواجهة أعداء الإنسانية وقاتلي الحياة في كل مكان وزمان.
في قصيدته المهداة الى إدوارد سعيد (كتاب كزهر اللوز أو أبعد) يخاطبه بقوله: "واصرخ لتسمع نفسك، واصرخ لتعلم أنك ما زلت حياً وحياً، وأن الحياة على هذه الأرض ممكنة. فاخترع أملاً للكلام، ابتكر جهة أو سراباً يطيل الرجاء، وغنّ، فإن الجمالي حرية/ أقول: الحياة التي لا تُعرّف إلا بضدّ، الموت... ليس حياة".
الحياة بكل حلاواتها ومراراتها، بكل خضرتها ويباسها، بكل ما لها وعليها، وهي السمة الأساس في شعر عاشق فلسطين الذي ساهم بإسماع العالم، كل العالم، حق شعبه ووطنه في الحياة، وجعل قصيدته متراساً في مواجهة أعتى أعداء الحياة: المحتل الإسرائيلي، ولم ينسَ، حتى في أشد اللحظات حلكة وقتامة أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وأن فلسطين بالذات تستحق الحياة الحرة الكريمة، وهذا ما ناضل لأجله محمود درويش دائماً: الحياة الحرة. فهل نقول ان قلبه الذي شاكسه طويلاً اختار أن يتوقف في اللحظة التي رأى فيها فلسطين تقتتل، بدل أن تقاتل... ودائماً لأجل الحياة.
زاهي وهبي
(شاعر لبناني)
شعره غابة استوائية
بالنسبة إليّ فإن غياب محمود درويش نهاية مرحلة في الشعر الفلسطيني، تشبه الى حد بعيد خربطة القضية الفلسطينية كما تشبه "نهايتها". شكل درويش قامة كبيرة أو شجرة باسقة حجبت كل الشجيرات والأزهار الشعرية الأخرى في التجربة الفلسطينية. وقد اختصر وكأنما في شعره كل شيء، عن قصد ربما أو من دون قصد. كان لا بد ربما أن يتوقف بعض الشيء مفسحاً في المجال لآخرين. والمحزن أن هذا سيحصل في غيابه. كان لهذا الشاعر طاقة شعرية كبيرة وغزارة رهيبة، لربما كانت بحاجة لبعض الهدوء لبعض التشذيب، فشعره أشبه بغابة استوائية تتوجب بعض الفسحات أحياناً فيها لأجل العبور أو التنفس.
غير أن كل هذا لا يعني أنه لم يكن شاعراً كبيراً، وأن موهبته كانت أكبر وأفضل من شعره. وربما ينتمي الى ما يسمّى عند العرب بشاعر الشعراء وهو نوع أو صنف على طريق الانقراض. إلا أن الإيجابي في حالات شعرية وحضور من هذا النوع أنه يعلن الشعر ويفرضه بحضوره الجسدي والإعلامي، في حين أن التجربة الشعرية أو الشعر عموماً يعاني من الانكفاء في العالم العربي خصوصاً، وفي العالم برمته عموماً.
شارل شهوان
(شاعر لبناني)
مات الملك عاش الملك
في غفلة عنّا، نحن المفتونين به، يلعب الشاعر الكبير محمود درويش مع الموت لعبة استغماية طويلة. لكنه، ولأن الوهم حظ الشاعر، ظنّ فعلاً أن الموت لعبة طويلة، وأن القلب المريض مجرد اختبار جديد للشعر. ومن حظنا، وهمُه ذاك، لكي نقرأ جديداً نحبه أكثر.
لكنه سقط أخيراً مضرجاً بمنفاه الآخر وداخلاً غيبوبة حزنه الأزلية، وتركنا مضرجين بقصيدته الأخيرة "لاعب النرد"، نحن الذين استعرنا نرده مرات كثيرة لكنه يشبه الملك.
مات الملك عاش الملك.
رشا عمران
(شاعرة سورية)
بخس كرنفالي!
ربما يكون من أسوأ ما يحدث لمحمود درويش بعد رحيله هو ما فعله ويفعله الإعلام العربي في حصر شاعريته بوصفه "شاعر قضية سياسية"، مهما كان شأن هذه القضية ومكانتها. ففي تجربة هذا الشاعر تم إنصاف الشخص على حساب شعره من خلال تحويله رمزاً. وعلى الدوام كانت القضية هي الطريق الإجباري لامتداح الشعرية فيه. وأصدقاؤه يعرفون كم كان هذا الأمر يثير حزنه، وأذكر أن تعليقه الأول على عدد مجلة "نقد" الثالث، والخاص تجربته، كان سعادته بمحاولة العدد قراءة شعره بلا شوائب الإيديولوجيا والقضايا الكبرى، أي قراءة درويش المصفّى والنقي. وكما كتبت آنذاك، كان ثمة بخس كرنفالي للفن في سبيل الإيديولوجيا، مع أن درويش لم تنطل عليه هذه "الخدعة" الموقتة، والدليل هو أنه ختم حياته الشعرية بقصيدة نثر.
ماهر شرف الدين
(شاعر سوري مقيم في لبنان)
تحية إليه..
كنت التقيت محمود درويش للمرة الأولى في معرض بيروت الدولي للكتاب حينما كان يوقع كتابه "كزهر اللوز أو أبعد". وكنت برفقة ناشرة كتابي، لينا كريدية. يومذاك، قدمتني كريدية لدرويش بصفتي صاحب كتاب "أنا شاعر كبير"، وقدمت نسخة من هذا الكتاب الى درويش وقرأ الغلاف الخلفي الذي كان يتناول درويش بشكل أو بآخر.
أهديته نسخة من كتابي مع إهداء، فبادلني بإهدائي كتابه المذكور، وكان في الإهداء ما يفرحني لأنه تضمن نوعاً من الاعتراف بشاعرية ما. كان مجرد انتزاعي هذا الاعتراف من درويش مبعثاً للسرور.
عندما سمعت خبر وفاته، كان هناك مزيج غير مفهوم من المشاعر التي التبست بين تصديق الخبر وتكذيبه. وما لبث أن ورد خبر آخر على الشاشات يقول بأن درويش لم يمت بعد وأنه في حال حرجة. إلا أنني لم أجرؤ على الرهان بأنه سينجو لأنني دائماً كنت على يقين بأن الموت ينتصر على الشعر، وبأن المعركة المفترضة عبثية ولا جدوى منها، لأن الموت يفوز دائماً، ولأن الشعراء يلهون بموتهم منذ الكلمة الأولى. هذا ليس رثاء لأن درويش كان يطلب أن نحمي الموتى من هواة الرثاء. إنها فقط تحية الى محمود درويش ومنه الى رفاقه الشعراء الذين يلتقيهم في هذه الأثناء.
رامي الأمين
(شاعر لبناني)
المصادفة الخبيثة
عن 67 عاماً رحل الشاعر الشاب محمود درويش. مصادفة كانت ستشغل باله لو عرف بها. 67 رقم النكسة العربية. 67 رمز كل نكسة وانكسار ورحيل. وإذ أقول "الشاعر الشاب" فلدي سبب وجيه لقول ذلك. فعلى عكس الشعراء الآخرين الذين يبدأون شباباً في أشعارهم الأولى ثم سرعان ما يهرمون من خلال تكرار أنفسهم واجترار لغتهم وصورهم واستعاراتهم، كان لمحمود درويش مسار تصاعدي. والمتابع لأحوال النقد العربي لا بد له من ملاحظة أن النقاد كانوا يترقّبون صدور كل عمل جديد له، كما يترقبون صدور عمل شاعر شاب يعدهم بتقديم كل جديد.
اليوم مع توقف قلب درويش يخسر الشعر العربي شاعراً شاباً واعداً في ستينياته، أو في 67، كما شاءت المصادفة الخبيثة؟.
زينب عساف
(شاعرة لبنانية)
خسارة شخصية
لا أعلم عن أي محمود درويش يمكنني أن أتحدث أو أكتب. عن الشاعر العاشق من فلسطين الذي لم يستطع الشعر أن يحجبه عن قبضة الموت، أم عن الشخصية الإنسانية الرهيفة الراقية التي نطقت باسم الثورة الفلسطينية بوصفها مأساة إنسانية عالمية. مات محمود درويش كخبر عاجل على التلفزيون. لا أعلم لماذا شعرت بخسارة شخصية كأن الخبر متصل بأحد أفراد أسرتي. لم يكن درويش صديقاً، التقيته مرات قليلة وأجريت معه حواراً تلفزيونياً واحداً، فلماذا رجفت يداي وأصابعي وقلبي حين عرفت النبأ. هل الشعر رابطة دم وقرابة. أظنني راهنت على الشعر. كنت أعرف أن محمود في حالة حرجة لكن لم يتبادر لذهني لحظة أنه قد يموت. الأرجح أنني ظننت الشعر تعويذة ضد الموت وحجاباً في وجه ملاك القبض على الأرواح. قلت في نفسي أن يموت درويش يعني أننا جميعاً سنموت وقد سبقنا فقط. ترك لنا شعر الوطن والبندقية والحب والحرب والحصار والأمل والفرح والرقص فوق جثة الألم والمصاب.
موت الشاعر، يا لها من لعبة مملّة ومضجرة، يا لها من تسخيف للحياة.
غسان جواد
(شاعر لبناني)
قبلة حبّ لا وداع
فليعذرني الشاعر الراحل ومحبوه. لم أعد ميالاً الى الرثاء. الرثاء وجه من ثقافة الذكورة، يقابله، أو يكمله في المنظومة الأبوية، الهجاء والمديح والافتخار، وما إليها من موضوعات الشعر العربي.
أحسست بالغثيان بعدما قرأت اليوم (أمس) عدداً من الكلمات في الشاعر الراحل. لا ريب في موقع درويش الأدبي الكبير، وإطلاقه مغامرة شعرية تجرأ خلالها مراراً على نفسه ومعظم قرائه. وقد التزم قضية دافع عنها كمثقف عضوي. إلا أني أود، ولو في عجالة لمناسبة غيابه، أن أطرح أسئلة مثل:
لماذا تتراجع القضية وتغرق في دماء حرب أهلية، عدا الاحتلال، وما دور الثقافة الفلسطينية والعربية، ومن ضمنها الشعر، في ذلك؟.
ما هي مسؤولية المثقف الفلسطيني في نقد المنظمات الفلسطينية وأدوارها وخياراتها وشعاراتها منذ ستينات القرن الماضي، مروراً بالأردن وحرب لبنان، في تراجع الوعي السياسي وتدهور أوضاع الشعب الفلسطيني المعيشية والاجتماعية؟.
لعل محمود درويش حاول شيئاً من النقد (موقفه من أوسلو، مثلاً، اعتذاره المتأخر وغير الواضح من اللبنانيين عن المشاركة الفلسطينية في الحرب الأهلية...). كما شكل التحول في شعره، موضوعات وأساليب تعبير، وموقفه الإيجابي وإن الملتبس من قصيدة النثر، جانباً من قدرته على إعادة النظر في "ثوابت" سياسية وأدبية.
ولعلّ خير التحية للراحل الكبير تكمن في الانطلاق من تلك البؤر المضيئة في أدبه أو موقفه السياسي، والبناء عليها للنهوض بثقافة تكون أرضية للتغيير السياسي.
فما لم تتغير ثقافتنا لم نسترجع شبراً وسنخسر مساحات أخرى التي نظننا نعيش عليها الى الأبد.
قبلة على قصيدة محمود درويش. قبلة حب لا وداع.
جوزيف عيساوي
(شاعر لبناني)
محمود درويش يلقي إجابته الأخيرة
عن سؤال الموت
رحيله المفاجئ وقع تماما في اللحظة الفلسطينية الشائكة: لم يره الفلسطينيون والعرب في صورة الشاعر وحسب، بل هم صعدوا بتلك الصورة إلى علياء رمزيتها فتحولت إلى ما يشبه "زرقاء اليمامة" مرّة، وناي الراحلين الذي ينفث حمم صدورهم بعد كل هزيمة جديدة، ويطلق في غياب الضحايا بحّة الأمل العاثر وشقوته وضياعه في زمن عربي يتلعثم طويلا طويلا رغم ثرثرته الدائمة عن بلاغة مفقودة وغائبة.
هو محمود درويش إبن "البروة"، القرية التي مسحتها الجرافات الاستيطانية، ونثرت على أنقاضها لغة غريبة لرجال ونساء غرباء، فيما هو وأهله يبتعدون وراء الأسلاك الشائكة بعد أن صاروا لاجئين في مخيمات لبنان وسوريا، أو لاجئين في الناصرة وحيفا وغيرها من مدن فلسطين.
في نسيج قصيدته الوطنية كان الموت حاضرا دوما. الموت بمعانيه كلها: الفلسفي والواقعي، وذلك الذي اقترب من أصابع يديه ومن ذاكرته.
هو موت صديق الطفولة والصبا، ذلك الذي "مضى وعاد في كفن"، تماما مثلما هو سياج حياة أولئك الذين "يرقصون بين شهيدين" وهم الذين "يحبّون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا". موت يعرّش على الأرواح، وعلى ورد الحدائق، ويراه من نافذة رام الله كل صباح يقتلع حياة أشجار الزيتون ويحيلها حطبا يابسا.
محمود درويش في الوعي الفلسطيني والعربي لحظة الأمل الطويلة التي انتصرت على الموت والتغييب، كيف لا وهو القادم من جليل فلسطين العصي على المصادرة، في لحظة الهزيمة الكبرى حين الحياة ذاتها تحتاج من يسند خطواتها في العتمة الشاملة.
حياته كما تجربته الشعرية تراجيديا إغريقية جمعت الواقعية الواضحة إلى افتراضية حلمية عرفت كيف تجعل فانتازيا الفرح ممكنة وقابلة للتأمل في الشوارع الجانبية كلها من حيفا والناصرة وشفا عمرو إلى القاهرة فبيروت ودمشق وتونس ورام الله.
محمود درويش كان خلال ذلك كله الحائر بين موهبته الاستثنائية ومأساته الاستثنائية أيضا. يرغب في العيش البسيط فترميه الحياة بآلام وأحزان تأخذ قصيدته إلى تخومها، هو المسكون رغم ذلك بالتجريب والمولع برسم خطوط قلبه وتعرجاته على صفحات الفن العميق.
ورث المتنبي وامرئ القيس وأبي تمام، تماما كما ورث لوركا والسياب وإبراهيم طوقان.
يذهب اليوم ولا يذهب.
هو الذي أتعب قلبه، وهو الذي أتعبه قلبه حتى تعاهدا مرتين أن ينتصرا معا على الموت ونجحا قبل أن يوافقا معا على التحالف مع موت مفاجئ يأخذهما بعيدا عن الشعر والحياة وحلكة الصورة الفلسطينية الراهنة.
أسئلة شعره تفارق الغرق المألوف في تفاصيل الحداثة والتقليدية.. الالتزام أو الذاتية لأنه ظل هناك في المساحات كلها "يرى ما يريد"، ويجد خارطة فلسطين واضحة ومألوفة في كف الحبيبة وفي طرقات المنافي وإيقاع الشعر. ربما لذلك كله أجّل دوما أسئلة شعره كي يتفرغ لكتابته.
في سنواته الأخيرة كان كمن روّض تراجيديا فلسطين وأقنعها بالذهاب معه إلى الأماكن التي كان يراها نقاد كثر بعيدة ولا يجوز أن يغامر بالذهاب اليها.
في مجموعاته الشعرية الأخيرة أطلق لروحه العنان، هو الحصان الذي ظل وحيدا، كي تقول روايتها البسيطة والعميقة في آن، عن الروح وجدلها الذي لا ينطفئ مع الحياة والموت.
هكذا خبّأ سر غيابه الأخير.
وهكذا أطلق لجناحيه العنان كي يفرّ نحو تلاله القديمة: وهدة في الجليل تعانق صور أبي سلمى وغسان كنفاني واميل حبيبي وتوفيق زياد وإبراهيم طوقان وتكمل حديثا مع معين بسيسو في غزة الضائعة بين الموت والموت.
هو كتاب الحزن.
وهو تعويذة الفرح.
يليق به الشعر مثلما يليق بشعبه الفرح الغائب.
محمود درويش المجد لك وللبروة وللأم التي لا تشيخ.
راسم المدهون
(كاتب فلسطيني يقيم في سوريا)
مرة أخرى يهزمنا الموت
كيف يمكن أن نرتجل كلاما في مثل هذا الموت؟ وأمام هذا الموت الذي يهزمنا مرة أخرى، بإصابة مباشرة وفي القلب تماما. كما لو أننا نعاني من قلة الأعداء، وقلة القتلة؟!
رحيل محمود درويش، فصل كبير من فصول هذه التراجيديا الفلسطينية أو (الملهاة)، التي لا يصل فيها الحبيب إلى الحبيب، كما قال ذات يوم، إلا شريدا أو شهيدا.
رحيله، كما رحيل أي فنان أو كاتب كبير، يترك مساحة هائلة من الروح الفلسطينية والعربية عارية، فكل قصيدة هي سماء ملجأ لهذه الروح؛ ولذا، نحن اليوم نرزح تحت ثقل خسارة كبرى بهذا الرحيل القاسي، خسارة افتقادنا لمبدع كبير سنفتقد قصائده الجديدة التي هي رفيقة الطريق ورفيقة الحلم لشعب يستحق أن يحيا حياته حرا فوق الأرض لا تحت التراب.
مرة أخرى يهزمنا الموت بكل هذه القسوة، لأنه الأكثر معرفة بأننا كنا دائما عشاق حياة.
إبراهيم نصرالله
(شاعر فلسطيني)
قضى عمره يعلّمنا الكتابة
من له أن يدعي الكتابة عن كاتب قضى عمره، وأعمارنا يعلمنا الكتابة! قد يكون في ما نكتب عنه كل شيء، ما عد ما لم نتعلم منه.. الكتابة. هذا درس الموت الأول..ماذا كان بين الشاعر وموته الذي كل ما اقترب منه ابتعد عنه؟ هل من مسافة غير الكتابة؟ عندما رأى درويش كيف تذهب حياته منه إلى الآخرين، لم يتساءل "عما سيملأ نقصانها"..كان قد "قرأ فصلا لدانتي ونصف معلقة".. السؤال إذا سؤال كتابة لا نراه فكرا، حينئذ، في ما ملأ أناس به حياتهم، خارج عذاب النص ولذته.. ولأنه يجب الحذر من الذاكرة العربية فان الطمأنينة لا تكون، على المدى البعيد، إلا إذا بقي محمود درويش كاتبا، قبل كل شيء آخر.
الطاهر لبيب
(عالم اجتماع تونسي مقيم في بيروت)
شاعر يصعب أن يعوّض
منذ زمن، كان واضحا أن محمود درويش هو الصوت الشعريّ الأكثر حركة وتعبيرا في الثقافة الفلسطينية المعاصرة، وفي الثقافة العربية، وكجزء من ثقافة العالم أيضا، بكل ما حمله من صدق، تجاه وطنه، وتجاه الإنسان بشكل عام، وهو لا يقصر في التعبير عن حبه له، حتى لحظاته الأخيرة.
ورغم كلّ العمق الذي تملكه الثقافة الفلسطينية، بسبب القضية الكبرى التي تعيش فيها، ولها، سيكون غياب محمود درويش حدثا غير عابر، لأنه شاعر يصعب أن يعوض. وستشعر الثقافة الفلسطينية بقسوة هذا الغياب، وحجم الفراغ الذي تركه، ربما لزمن طويل، حتى يجود الزمان بصوت مثل صوته، ينبع من الأرض ذاتها، ثم يحمل صورتها إلى العالم، بشاعرية إنسانية تخترق الحواجز، وتتوجّه مباشرة نحو الوجدان.
وليد أبو بكر
(كاتب فلسطيني)
الحرف الذهبي الفلسطيني
مؤلم جدا رحيل الشاعر محمود درويش على قلب وروح كل فلسطيني، فهو الذي علمنا أبجديات الوعي الفلسطيني المقاوم منذ نصف قرن مضى، تقريبا، على حروف قصائده التي علمتنا النطق بحب الوطن، مَن من الشعراء والكتاب والمبدعين الفلسطينيين، لم يقرأ أشعاره المتتالية، ولم تبدأ تشكيل وعيه الخاص، ولم يبدأ فعله الثقافي، بدرويش؟
وهل خرج من عباءة أي مبدع آخر مثل ما خرج من عباءته من شعراء فلسطينيين؟ وكأنه "جوجول" فلسطين الذي تتلمذت على وقع أشعار.
رجب أبو سرية
(روائي فلسطيني)
فقدت اللغة نبضها الحيوي
أصبح الشعر بعد رحيل درويش يتيما وفقدت اللغة العربية نبضها الحيوي. فدرويش هو أحد أهم شاعرين في التاريخ العربي هو والمتنبي، ولقد عرف العالم فلسطين من خلال درويش وياسر عرفات، واليوم فلسطين من دون أسماء كبيرة ومن دون رموز، فدرويش لم يمت لأن أشعاره باقية ولكن ما خسرناه هو محمود لأنه لن يفاجئنا بقصائد جديدة، ففلسطين ناقصة اليوم كثيرا.
درويش لم يمت موتا طبيعيا، بل قتلته الخيبة التي وصلت إليها القضية الفلسطينية وحالة الاقتتال الداخلي، فقلب درويش لم يستحمل هذا السقوط المريع فحشد صدره به ومات.. درويش واحد من أهم الذين رمموا صورتنا أمام العالم وقصيدة واحدة من قصائده خدمت القضية الفلسطينية أكثر من عشرين عملية عسكرية، إن خسارتنا اليوم هائلة وكبيرة وحزننا عظيم.
المتوكل طه
(شاعر فلسطيني)
الشعراء يقهرون الموت بحروفهم
درويش شاعر لا يتكرر من جديد، لا نرى في الساحة غير الساحة، هو معلم ملأ فراغا ولم يأت احد من بعده على صهوة الحصان، لقد كان مفتونا بالمتنبي متواضعا كأبي العلاء المعري.
درويش ظاهرة لا تتكرر. كشاعر وإنسان جعل القضية ضرورة على كل الحروب ومحفوظة في كل الصدور، وفي لحظاته الأخيرة بات شاعرا كونيا.. وفي هذه الكونية نثر القضية أيضا، وبالتالي كان يحمل نبوءة القضية وحتمية صيرورتها إلى دول على كل فلسطين، لم يكن يقتنع بجزء من وطن وفي نفسه كل فلسطين وليس جزءا منها.
درويش لم يمت وإنما متماوت لان الشعراء مثله يقهرون الموت بحروفهم.
حافظ البرغوثي
(صحافي فلسطيني)
إنتصر على الموت بالصمت
بعد لقائي الأخير مع درويش وكان ذلك في أمسيته البديعة في مدينة "الآر" وهي المدينة التي اشتهرت بكبار الفنانين الفرنسيين، حيث تألق درويش كعادته حينما تفاعل مع جمهوره الضخم الذي كان يقارب الالف شخص من محبي شعره من العرب والفرنسيين.. كنت انتظر بعد حديث قبل الأمسية حيث ابلغني انه سيسافر بعده إلى أميركا لإجراء جراحه أخرى، أن تسفر هذه الجراحة الجديدة عن جدارية أخرى يقارع بها جداريته الأولى التي جاءت بعد الجراحة السابقة التي انتصر فيها على الموت كما يقول درويش.
كنت انتظر هذه القصيدة الجديدة، وبخاصة بعدما بلغ شعر درويش في الآخر "لعب نرد" غير مسبوقة في الشعر العربي، بل قارع فيها ما وصل إليه الشعر الأوروبي من خلال تناص هذه القصيدة البارعة مع رائعة "رمية نرد" خاصة.
وسط هذا كله جاء خبر انتصاره المغاير على الموت كفاجعة، فانتصار درويش على الموت جاء هذه المرة بالصمت، وانتصر على الشاعر، لان الشاعر إذا كان كبيرا بقامة درويش وبإنجازه فانه ينتصر دائما للشعر على الموت.
صبري حافظ
(ناقد مصري)
نحن يتامى بعدك يا محمود
حزينة عمان هذا المساء، حزينة رام الله والبروة والجديدة وحيفا، لكن فلسطين هي الأكثر حزنا لأنها ستنام لأول مرة بدون عريسها الفتي والوسيم وبدون شاعرها الأجمل والأحلى.
حزينة عمان لأنها ستنام أيضا بلا رائحة درويش، وقد اختارها سكنا ومنزلا وحمل جواز سفرها مؤكدا ما كان يقوله دائما أن الأردن وفلسطين رئة واحدة أو شقان لذات الرئة وقلب واحد وشعب واحد وقد صدقت نبوءته فنحن الأكثر حزنا وبكاء عليه وخسارة له.
نحن يتامى اليوم بعد رحيلك يا محمود، فقد كنت الجدار الذي نستند عليه والأخ الاكبر الذي نطاول به عنان السماء، والأب الذي نشاغبه، والمعلم الذي مهد لنا طريق السحر والشعر وحب بلاد كنعان وعشقها.
لك الخلود أيها الشاعر، فالشعر بعدك حزين يلبس ثياب الحداد، ويقيم في دمعة العمر الطازجة، ويستقر في قلب المراثي.
لكم كنا عاجزين عن حبك كما يليق بالنجوم، لكم نحن ضعفاء أمام خسارتك الكبرى، خسارة سماء سقطت في قلب الحقيقة القاسية.
لكم نحن عاجزون عن قول الحقيقة، لكم قهرنا الموت برحيلك، لكم حطم فينا الكثير، لكننا مؤمنون أنك لم تمت، بل رحلت من بيت الدنيا إلى بيت الخلود.
نحن عشاقك يا محمود
نحبك حياً وخالداً
نحبك كما أحببناك صغارا واطفالا وشبابا ونحبك حتى نموت ونحن نردد قصائدك ونسمع صوتك الجميل، ونمشي بقامتك الباسقة والشامخة، ونبكي بعينيك الحزينتين.
موسى حوامدة
(شاعر أردني)
علّمني معنى القصيدة المقاومة
الراحل الجميل محمود درويش من اكثر الشعراء العرب المعاصرين الذين ساهموا في انضاج التجربة الشعرية ، فدرويش منذ منتصف الستينات وهو يساهم في نقل التجربة الشعرية العربية من حالة رد الفعل الى حالة الفعل ـ فهو من تجربته في عاشق من فلسطين التي اعتبرتها التجربة التي عرفتنا على الشعر المقاوم و نحن نتابع درويش. وشخصيا فرحت كثيرا بعد خروجه من الارض المحتلة ليتواصل مع المتقدم في تجربة الشعر العربي ، فرحت بقصيدته ( سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا ) التي اعتبرها من القصائد القادرة على اختراق الزمان و المكان.
محمود درويش كتابته صلاة والعديد من المرات التي شعرت فيها ضرورة ان تغني فيروز قصائد درويش ، لانهما يطيران في موسيقى الحلم . درويش سيبقى الشاعر الذي غيّر في الروح الشعرية العربية ، لذلك لن يغادر الذاكرة . محمود هو الذي علمني شخصيا معنى القصيدة المقاومة . محمود هو الذي كتبته تجربتي الشعرية الاولى و انا اتمثل تجربته في عاشق من فلسطين.
علي الشرقاوي
(شاعر بحريني)
السروة انكسرت
ما غاب، كلا. ولن يغيب. هو الآن فقط يراود الأبدية البيضاء كما كان يفعل دائما، ويناجي قبّرة في أعالي الضياء. هو الآن يغمض عينيه اللوزيتين على وسعهما كي يرى ما فات مخيلته من صور وأغان وبازيلاء.
لم يرتحل محمود درويش. لقد مضى في قيلولة ليصنع قهوته الأثيرة على ناره الهادئة، ثم ليهمس في أذن الحياة: "سيري ببطءٍ ، يا حياة، لكي أراك_ بكامل النقصان حولي. كم نسيتك في خضمّك باحثاً عنّي وعنك. وكلّما أدركت سرّاً منك قلت بقسوةٍ: ما أجهلكْ! ـ قلْ للغياب: نقصتني وأنا حضرت ... لأكملكْ!".
فكيف يغيب شاعر نذر روحه كي يكمل الغياب، وهو الذي هتف في وجه الموت هازئا: "هزمتكَ ياموتُ الفنونُ جميعها، هزمتك ياموت الأغاني في بلاد الرافدين، مسلة المصري، مقبرة الفراعنة، النقوش على حجارة معبدٍ، هزمتْكَ وأفلتَ من كمائنك الخلودُ. فاصنع بنا واصنع بنفسك ما تريدُ".
وأضيفُ: هزمتك يا موتُ قصائد محمود درويش، ومديح الظل العالي وذاكرة النسيان والورد الأقل. هزمك أحد عشر كوكبا. هزمتك الجدارية، والحصان الذي لم يعد وحيدا. ولم تستطع ياموت، رغم صولجانك المعدني، أن تنام على سرير الغريبة.
بهذه الكثافات المغمورة بغلالات من الحب، نسج محمود درويش أسطورته، وراح يدرب الوجدان الجمعي على الحب والحرية، فاتحا في فضاء المخيلة العربية دربا لم يستطع سواه أن يرصعه بالنجوم والكواكب كما فعل، وكما كان يعد التاريخ أن يفعل لو أن قلبه لم يخذله.
كان درويش شاعرا عظيما وإنسانا عظيما، وأذكر قبل سفره إلى أميركا لإجراء العملية الجراحية حوارا هاتفيا دار بيني وبينه، وكان عائدا للتو من رام الله. سألني: ما الذي ذكّرك بي؟ قلت "حالة حصار" ورحت أتلو على مسامعه: "هنا، عند مرتفعات الدخان، على درج البيت، لا وقت للوقت، نفعل ما يفعل الصاعدون إلى الله: ننسى الألم".
لكنني الآن لا أستطيع أن أنسى الألم. إنه يحفر في أعماقي وينتزع قلبي بكل ما في الغياب الصاعق من قسوة ورعونة، خصوصا وهو يبلغني أن أسلم على الشاعر بول شاؤول. وأوصاني: قل لبول أن يسلم على بيروت.
ولأول مرة أحس بالتعب يتسرب من صوت درويش الذي كان يستشعر أمرا غامضا في ذهابه الاضطراري إلى أميركا، خصوصا وهو يبلغني أن العملية هذه المرة حساسة للغاية.
هل كان يحدس بالموت. هل كان يهجس بالسروة التي انكسرت كمئذنة، "ونامت في الطريق على تقشف ظلها"؟
سروة الشعر انكسرت. وسروة الحب انكسرت. وسروة فلسطين انكسرت. وسروة الذائقة العربية باتت يتيمة بعدما رحل الجنائني الذي قلم أظافر المعنى وزرع الدهشة فوق الضفاف وأزهر بنداه ربيعُ القصيدة العربية. رحل الذي أضاء بشموس رؤاه أشد المناطق عتمة في الروح، وحرض الوجدان على الخصوبة والمقاومة، مقاومة البطش والمحتلين والأشرار وتجار الكلام والسماسرة، وانتصر للحب والحياة.
وظل حنينه يذرف الشغف إلى بلدته البروة، وبالتحديد إلى شجرة الخروب الواقعة بين الرامة وحيفا. وفي رسالة أرسلها من باريس إلى الشاعر سميح القاسم بتاريخ 3/6/1986 أوصى بأن يدفن بجوار شجرة الخروب تلك التي قال إنها "غلاف هويتي وهي أيضا جلد روحي"، مستذكرا كيف اختبأ في جذعها العملاق المجوف من المطر والأهل، عندما كان يلعب مع السحالي والزيز والزواحف ويشرب الماء بالطاسات.
وأوصى درويش في جداريته بألا يوضع على قبره البنفسج ، "لأنه زهر المحبطين، يذكر الموتى بموت الحب قبل أوانه".
..وقبل أوانه ارتحل الشاعر، لكن الموت لم ينتصر، وانتصرت القصيدة والنشيد، وذهب الشهداء الى النوم، وظل الشاعر صاحيا يحرسهم من هواة الرِّثاء، ويقول لهم: "تُصبحون على وطن".
محمود درويش: أكمل غفوتك وتمتع بهواء الأبدية البيضاء وترفق بحبيباتك جارات الألق، وبأحبائك الطيبين في جهات الأرض وهم يمسدون على جبينك العالي هامسين: "ألا تسمع صوت الماء الآن. إنها تمطر".
موسى برهومة
(كاتب وصحافي أردني)
المستقبل
الاثنين- 11/8/2008
يتبع