ملف جريدة النصر الجزائرية
تحقيق: نوّارة لحرش
مرة أخرى نستيقظ على فاجعة رحيل، هذه المرة الفاجعة مفاجئة جدا وباكرة بشكل حزين وكأن الحزن فجرنا الباكر و الأبدي. يترجل نبض الشاعر عن قلبه ليوقعه في ورطة اللا نبض، اللا حياة، اللا رفرفة، ورطة موت بائس يقتات على دمعة الصوت العطوف والنبرات العالية في شجنها وصدقها و على عصافير من شعر و أحلام و أمنيات. لماذا ترجل النبض الساحر عن القلب المسهد بحكايا القضية المجروحة التفاصيل بهذه الفجائية شديدة البؤس،قلبه مسهد أيضا منذ نعومة الحبّ والسفر بالجمالية العالية بحساسيتها وفنياتها، أليس هو القائل بإصرار: "مشروعي الشعري جمالي". ألم تشفع لهذا القلب المنهك كل هذه التفاصيل والمواويل؟، ألم تشفع له العصافير التي لحقته على أبواب المطارات الكونية،والأحصنة التي كانت ترتعش في/من غربتها و منافيها، و النصوص التي رسمت ملامحه وجراحاته الإنسانية..و دمع أمه الذي يخجل منه لو مات، آه يا دمع أمه الآن و شاعرها الكبير النبيل يعود إليها بلا نبض بلا همسات..آه من ليل هدبها كيف له أن ينثرك وشاحا دون أن يربكه الأنين و شهقة الفقد المديدة،آه من خبزها الطازج في حنجرة المواويل و من قهوتها الشاردة في فناجين المرارة المسهدة،آه من لمستها الحنونة المشتعلة على جبين عاد إليها باردا كما سماء الخريف الطاعنة في زمهرير أيلول.
لكن العزاء الباقي لها و لنا و للإنسانية فيه، شعره الأعلى،الأرقى و جمالياته الفريدة المتفردة عبر نصوصه و عبر نبراته الطازجة بالحنين والحزن والفرح المضيء على رفوف الأمل البعيد. كل هذا عزاء الشعر الكوني النبيل. و الشاعر الكوني النبيل يعود دوما خالدا وحيا وبهيا بمنتهى الشعر والحياة في نصه، في دمعه، وعلى حصانه الإنساني الأصيل، في زهر اللوز أو أعمق و أقرب.فهو ليس العابر في الكلمات العابرة،هو الخالد في الكلمات الخالدة.
هنا زهرات ودمعات أكاليل و فوانيس ونخيل لخلوده الأكيد، وهنا أيضا مديح لظل الحاضر الكبير.
****
سعدية مفرح
شاعرة كويتية ورئيسة القسم الثقافي لجريدة القبس
(يحتفي بالموت، كمن يريد أن يحتفي بالحياة)
بخوضه لتجربة الموت أخيرا سيعرف محمود درويش الحقيقة التي ظل طوال عمره يبحث عنها في ثنايا قصيدته المفعمة بالأسئلة الوجودية قبل أن تكون الهوية الأجمل لشعب احترف الحياة بقدر استهانته بالموت احتفاء بوطن اسمه فلسطين.
الخبر يقول أن الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش أسلم الروح في احد مستشفيات هيوستن في ولايات تكساس الأميركية مساء السبت الماضي إثر عملية جراحية لم يتحمل تبعاتها قلبه الذي مل من العمليات الجراحية ولكنه لم يمل من الشعر والنثر والحب والحياة و...أولا وأخيرا فلسطين. لكن فلسطين التي كانت هويته الشعرية والإنسانية منذ أن ولد في قرية البروة في قضاء عكا عام 1941 أزهرت شيئا فشيئا وقصيدة بعد قصيدة لتصير وطنا أكبر وهوية أوسع من مجرد جغرافيا محتلة يحاول شاعرها أو يكون شاعرها، فلم يعد يستهوي درويش، بعد أن تنامت دهشته الشعرية على حواف العالم كله أن يظل شاعر القضية وحدها، ربما لأن قصيدته اتسعت لتصير وطنا، وربما لأن وطنه/ وطننا اتسع ليصير قصيدة وربما لأن الشعر القادر على هزيمة الموت كما اكتشف درويش، في جداريته الشعرية التي كتبها قبل تسعة أعوام كشاهدة أبدية على الحياة، احتله ككيان وكإنسان قبل أن يحتله كقضية وطنية وسياسية. بدأ درويش إذن شاعرا للقضية الفلسطينية، حاملا هوية شعب بأكمله في وجه المحتل منذ مجموعته الأولى"عصافير بلا أجنحة"، لكن الأجنحة نمت فيما بعد ليطير الشاعر من خلالها محلقا في سماوات الإبداع الأكثر اتساعا من عبارة تقول " سجل أنا عربي" وحسب. ولأن درويش بموهبته الشعرية المتفردة، أدرك متى يخرج من قفص العبارات الجاهزة بجمالياتها الشعبية الصاخبة، فقد صار أهم شاعر عربي في الخمسين عاما الماضية، ليس على صعيد حجم الموهبة وحسب بل أيضا على صعيد ما حقق من انجازات شعرية وإبداعية من خلال هذه الموهبة التي لم تلهه عن قضيته الكبرى حيث السؤال الوجودي الكامن ما بين الموت والحياة..والذي حاول استقصاءه في تلك جداريته الفاتنة.يحتفي محمود درويش في جداريته الطويلة بالموت إذن، كمن يريد أن يحتفي بالحياة، ربما لأنه يلج بوابة الموت عبر المزيد من ممارسة الحياة في حدها الأقصى، في شرطها الأكثر قسوة، في حيلها الكثيرة، في ذهولها المستمر منذ صرخة الميلاد ، في قدرتها الأكمل و الأتم على أن تكون هي الهدف، وهي الطريق إلى الهدف في نفس الوقت.
يقول في هذه القصيدة التي كتبها بعد أن خرج من غرفة العمليات في تجربة شفيفة مع المرض الذي كاد يودي به، قبل عدة سنوات،إلى طرف الذهاب الأخير،(أم تراه الأول ؟!)، مخاطبا موته السادر في غي الانتظار احتيالا، بكبر الكائن البشري تجاه كل ما ومن هو غير بشري، وبكبرياء الشاعر تجاه كل من سواه :
هزمتك يا موت الفنون جميعها
هزمتك يا موت الأغاني في بلاد الرافدين
مسلة المصري، مقبرة الفراعنة،
النقوش على حجارة معبد هزمتك إنتصرت
وأفلت من كمائنك الخلود..
فأصنع بنا، وأصنع بنفسك ما تريد.
ينظر درويش،إذن، تلك النظرة الاستعلائية للموت كمن يرثي محاولاته المستمرة منذ أزل الحياة لإنهاء الحياة عنصرا،عنصرا وفردا فردا، دون نجاح حقيقي، سوى تلك النجاحات الصغيرة المتراكمة عبر اللحظات الآنية دون غيرها، ومع قلة يمتهنون الهزيمة ويرفعون للموت رايات الاستسلام، فينجح ذلك الموت في ممارسة ذاته عبر الحالة الفردية الخاصة، فيضم إلى قافلته أسراه من الكائنات البشرية كائنا تلو الآخر،ولكنه يفشل في تحقيق أي نصر أكيد،أي نصر حقيقي،أي نصر جمعي أخير ونهائي. وتظل تلك النظرة المتباهية تجاه الموت هي موت الموت الحقيقي، وهي النقطة الأخيرة، ولعلها الأولى، في المعنى المتاح للبشرية وفي الإجابة على السؤال الكبير:
وماذا بعد؟
ماذا يفعل الناجون بالأرض العتيقة؟
هل يعيدون الحكاية؟
ما البداية؟ ما النهاية؟
لم يعد أحد ليخبرنا الحقيقة!!"، وقد انتهت يومها المراجعة دون أن ينتهي شغف درويش بإغواء ذلك السؤال المزدوج الذي لم يعد أحد من الموت ليخبرنا حقيقته...وها هو درويش يقرر أخيرا أن يذهب بنفسه ليعرف الحقيقة...
****
إبراهيم نصر الله
/ شاعر وروائي فلسطيني أردني
(رحيله يترك مساحة هائلة من الروح الفلسطينية والعربية عارية)
كيف يمكن أن نرتجل كلاما في مثل هذا الموت؟ و أمام هذا الموت الذي يهزمنا مرة أخرى، بإصابة مباشرة وفي القلب تماما.كما لو أننا نعاني من قلة الأعداء، وقلة القتلة؟! لسبب ما غامض، أصابني إحساس غريب، بأنه سينهض من موته ليقرأ مراثينا له.. ولكنه لم يفعل..
رحيل محمود درويش، فصل كبير من فصول هذه التراجيديا الفلسطينية أو (الملهاة)، التي لا يصل فيها الحبيب إلى الحبيب، كما قال ذات يوم، إلا شريدا أو شهيدا.رحيله، كما رحيل أي فنان أو كاتب كبير، يترك مساحة هائلة من الروح الفلسطينية والعربية عارية، فكل قصيدة هي سماء ملجأ لهذه الروح؛ ولذا، نحن اليوم نرزح تحت ثقل خسارة كبرى بهذا الرحيل القاسي، خسارة افتقادنا لمبدع كبير سنفتقد قصائده الجديدة التي هي رفيقة الطريق ورفيقة الحلم لشعب يستحق أن يحيا حياته حرا فوق الأرض لا تحت التراب.مرة أخرى يهزمنا الموت بكل هذه القسوة، لأنه الأكثر معرفة بأننا كنا دائما عشاق حياة.
****
شربل داغر
/ شاعر لبناني
(صرعه قلبه،ولم يمت أبداً في مقعد الشيخوخة الهزاز)
موت الأصدقاء، موت الكبار، مفاجىء دوماً، حتى وإن كان متوقعاً.فكيف إن كان بحجم غياب محمود درويش.موته قد يناسب صورته شاعراً، إذ مات مثلما عاش في ذروة النشيد: "العاشق" صرعه قلبه، ولم يمت أبداً في مقعد الشيخوخة الهزاز.إلا أن موته لا يناسبه إنساناً، طالما أنه بقي –على الرغم من إحتراساته الطبية الأخيرة – ذواقة بكل معاني الكلمة، ولأنواع المباهج كلها. أيام قليلة تفصل موته عن موت ألكسندر سولجنتسين، من دون أن تفصل بين معاني الحياة والكتابة بينهما، على الرغم من كل التباينات الظاهرة. هو مثل الروسي غادر وطنه لكي يعود إليه. وهو مثله عاد إليه، وإن اختلف طعم العودتين. عاد سولجنتسين لكي يوقف السرعة الجنونية التي دارت بها "العجلة الحمراء" في بلاده، كما لو أنه يريد تصحيح التاريخ بالرواية. فيما عاد درويش في نوع من الوفاء لتاريخه، لكي يكون على مقربة أكثر من العائدين، بل لكي يكون أكثر إنصاتاً لوجيب قلبه الداخلي.من يرثي درويش، اليوم، هو الذي كان يتكفل بمراثي طيور الياسمين وليمون الآهات وعزلة الذهب؟.
في صيف العام 1973،في كبرى ساحات برلين الشرقية،"ألكسندرا بلاس"،بعد الظهر. كنت قد التقيت بمحمود درويش قبل هذا اليوم بثلاثة أسابيع، في سهرة في بيروت.أخبرته، ليلتها، عن تحفزي للسفر، في أول رحلة في حياتي. ما كنت أعلم، حينها، مقدار الصعوبة في بلوغ السفر. ذلك أنه كان علي، مثل أصدقاء كثيرين فوق السفينة، مثل أمين معلوف وطارق متري وأنور الفطايري وغيرهم، أن نعبر المتوسط فوق باخرة روسية إلى ميناء في رومانيا، ومنه عبر القطار وصولاً إلى مقصد الرحلة، للمشاركة في "مهرجان الشباب العالمي".كنت متحرقاً للوصول، أشبه بمن يقف أمام بوابة الوصول على مدى أيام وأيام، من دون أن يصل. وهي الصورة التي تبدو – على ما أتحقق الآن – في خلفية كتابي الشعري الجديد: "ترانزيت".
ما أن وضعت حقيبتي الخفيفة في غرفة الفندق، حتى سارعت إلى الوصول إلى الساحة الموعودة، التي أشار لي صديقي، ورفيق الرحلة، فؤاد حماد، بالذهاب إليها، هو الذي احتاط من مفاجآت السفر بأن تدبر القراءة عنها، قبل القيام بها. كانت الساحة هائلة بحجم حيرتي وتوتري. آلاف من الوجوه بألف لون ولون تعبرها في مسارات يصعب تبينها أو تحديدها. صرت أمشي فيها من دون وجهة، من دون أن أطلب شيئاً منها سوى المشي، سوى أن أكون فيها، مع هذا الجمع المبهم والحيوي. فإذا بي أقع على محمود درويش أمامي، قبالتي، تماماًُ وجهاً لوجه، ما لا أقوى على تجنبه: "أيعقل هذا، يا محمود؟! ألا يحق لي السفر؟! ألا يحق لي أن أقع على مجهولين و مغمورين؟!"، بادرته مصعوقاً بما يجري لي، ويفقدني دهشة الرحلة، التي كانت مكتنزة ومحفوظة مثل عطر في زهره. كان عليه أن يشارك، في عداد الوفد الفلسطيني، في احتفال اعتراف دولة ألمانيا الشرقية بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني...كان قبالتي منذ ذلك اليوم، على تقلب الأيام والمدن والمواقف والخيارات. ذلك أن الجوار معه يوافق بل يتنزل مثل الحوار.
استوقفني شعره منذ قصيدته: "سرحان يشرب القهوة في الكاقيتيريا"، وكنت أُقبل على مجموعاته المتتالية في السنوات المتأخرة، على الرغم من مجانبتي لأسلوبها، فيما كانت تتباعد صلتي بقصائد كان لكتابتي أن تتفاعل معها. وهو ما تمثل في عدد من دراساتي عنه، ولا سيمل دراسة اشتقاق المتكلم لخطابه في قصيدته. وإذا كانت بداياته اقتربت من نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، فإن هذا الشاعر، الذي تبع "جيل الرواد" زمنياً، ما لبث أن استدركهم شعرياً، حتى أنه بدا أكثر من "خلاصة" لهم، قبل أن يتفرد عنهم بقصيدة باتت عنواناً لنفسها، وعلامة دالة على ما تقيمه بعد قيامه. وإذا كان درويش من أشد الشعراء العرب ذكاء (بكل معاني الكلمة)، واحترافاً، فإنه كان خصوصاً – بخلاف عديدين من أقرانه الراكنين إلى موروثهم ونتاجهم – شديد التنبه للمشهد الشعري، لمجرياته، ولا سيما للمجددين منهم، وفي نطاق القصيدة بالنثر تحديداً. وهو ما تمثل في أكثر من وجه في القول الشعري: منها وأولها، من دون شك، مقادير الاستبطان الذي باتت تقوم عليه قصيدته، وهو استبطان بات يسائل الذات فلا يغنيها أو يكتفي بحاصلها. وهو ما اتضح في صورة أظهر في إيقاعاته، التي باتت في "الجدارية"، على سبيل المثال، كما لو أنها من معين النثر فيما لا تفارق "تفعيليتها" أبداً، ما يُظهر تمكنه الشديد من أدواته، ومن قدرته على التطويع والتفنن والتجويد بها. وهذا من دون أن يبتعد عن عبارته المضيئة، ولا عن جمهوره المتعاظم، هنا وهناك وأينما كان. وفي ذلك لم "يصالح" درويش بين جمهورين وأسلوبين، بل سعى إلى إفادة قصيدته من توصلات غيرها، حتى بات شعره الأخير أشبه بذروة اللقاء، وبتجدده. وهو في ذلك كلاسيكي قبل ميعاد امتحان الزمن لشعره.
****
دنى غالي
/ شاعرة و روائية مقيمة في كوبنهاكن
(محمود درويش... في حضرة الغياب)
رسمنا ونحن أطفالا لوحات من وحي أحنّ إلى خبز أمي وقرأت له أشعارا صباح الخميس بصوت خجول مرتجف في باحة المدرسة نغمات عود تنافس قداس موزارت الذي جسد رهبة الموت والفقد والقضاء وأخيرا الخلاص، تنساب نغمات العود لاستحضار حزن رقيق شجي يليق بهذا الشاعر الشفاف. ولكنها لا تعين أبدا في نبش وصدام هذا الانفعال الذي أريد له أن يكون محسوبا فيعود موزارت ليتقدم مع جوقته منتصرا ليحي تحية وداع عظيمة جليلة.
مفاجئة تلك الخسارة الحتمية التي أكثرَ من الإعتراف بها في لقاءاته الأخيرة. عاشها جربها هزمها!.ابتعد عن اللوز والليمون وأمه، وببطء اقتضت القراءة أن تكون بمرور الدواوين مركزّة ولأكثر من مرة بالنسبة لي. صار النص داخليا، خاصا عاما بذات الوقت. هو وصوره الشعرية واحد، هو ووقفته على المنبر واحد، وهو وصوت قراءته لأشعاره واحد، بل هو والمنفى واحد، كما جعل الأم والأرض والحبيبة واحد. بذهني ابتعدت النصوص عن تناوله المباشر أو غير المباشر لفلسطين وأوجاعها وكأنه برع بتوزيعها دفعات، تفنن بدفنها هنا وهناك خوفا عليها، ولكن ماذا لو أن القضية صارت هو بتحولاته كنتيجة بديهية لمسيرة الحياة وتطوراتها. ذلك ما جعل نصه المميز أثيرا وهو يحمل فلسفته الخاصة ويدعو لمجادلتها، ذلك ما جعلني أرصد وليده القادم وأتلهف له.هم إنساني جميل أنيق يتحرك أمامنا، ينتظم أو يتناثر، يتبسط يتعقد كان الجمال يتحرك فنطمئن إلى أن حياتنا مازالت جميلة. خسائرنا لا تحصى وما لي وشعر المقاومة الآن أو قصيدة النثرـ إنها قامة حبلى بمنفى وأرض وغربة وقلق وعشق ولون أخضر تفارقنا بقمة نضجها، بأبهى صورة.
****
عبد الرزاق بوكبة
/شاعر جزائري
(بعدك تستوي جميع الأسماء)
رسالة مضمونة الوصول إلى محمود درويش
بابا محمود...لم يخطرْ ببالي في يوم من الأيام، أن أراسلك، لا لأنني لا أحبك، أو لأنني أتكبر عليك، أو لأنك لا تستحق ذلك، فالشاعر مهما انتفخ به الاسم والنص، يبقى بحاجة إلى رسالة تأتيه، من قارئ إلتقاه في البياض/ البياض جنة الشعراء، أنا لم أفكر في أن أراسلك فقط، لأنني كنت أعتقد ـ لست أدري من أين جاءني ذاك الاعتقاد/ اليقين ـ أنك لا تملك الوقت الكافي لأن تقرأ رسائلي، وأنا أفضل أن تبقى الرسائل التي لا تقرأ في البال، فالبال وجه آخر للبياض، الذي يعطي لحروفها معنى، لكنني ما أن قرأت "الخبر العاجل" لموتك، حتى باتت فكرة مراسلتك أكثر احتمالا في رأسي، ثم راحت تقترب من الحقيقة عندما استكتبني بوفنداسة في الأمر، هل تدرك لماذا يا بابا محمود؟/ دعني أكفكف دمعة بيضاء ثم أخبرك، فأنا عريس هذه الأيام، والعريس يحتاج إلى وقت مستقطع ليبكي، هل أخبرك الآن؟/ قررت أن أراسلك... هيا إحزر السبب يا بابا... لا تتعب أصابعك في العدّ، فهي حديثة عهد بترك القلم، ودعني أنا أقول لك/ قررت أن أراسلك، لأنني بت مقتنعا بأنك ستقرأ رسالتي الآن، فقد بات لديك ما يكفي من الوقت والرغبة لذلك، قبلها كنتَ خائفا مثل كل الشعراء الحقيقيين المدركين لمسؤولية الشعراء الحقيقيين، من أن تضيع لحظة واحدة من حياتك، ـ وأنا هنا لا أستعمل الحياة كنقيض للموت لأن الأسماء في قاموس الشعراء الحقيقيين، لا تأخذ بتلك البساطة ـ، دون أن توظفها في...أكملْ الجملة أنت، لأنني أخجل من أن أحلّ مكانك، في الحديث عما كنت تحب، ومما كنت تخاف، وبما كنت تحلم، هذه وظيفة الشعراء الصغار الذين ينتظرون رحيل أمثالك ليكبروا بالحديث مكانهم، لأنهم يعتقدون أنهم لم يعودوا قادرين على حق الرد، وأنا لست شاعرا كبيرا مثلك، لكنني لست أحمقا يا بابا، لذلك سأترك الحديث لك عما كان يخيفك، وأحدثك عما كان يخيفني... هيا بابا... أحزر مرة أخرى...ما الذي كان يخيفني في رأيك؟... لا تنزعج أرجوك، أدرك أنك بحاجة لأن تستمتع بهذه الجنة من الفراغ الذي حلمت به كثيرا في الدنيا، لكن عليك أن تدرك أنت أيضا أنني بحاجة لأن أتحدث إليك، بعد أن صار ممكنا أن تسمعني جيدا، لذلك لك أن تحزر مما كنت أخاف كشاعر؟..من الموت الشعري؟.لا بابا...فأنا لم أتحمل يوما مسؤولية الشعراء الكبار مثلك، لذلك كنت ولا زلت أتوقع أن يصيبني ذلك الموت، تريد الحقيقة؟...لكن عليك أن تعدني بألا تغترَّ، فأنا أتوقع أن الشعراء الحقيقيين، يصبحون أكثر غرورا بعد موتهم، لأنهم يجدون الوقت الكافي لأن يسمعوا ما يقال عنهم، ليس كافيا أن تشير بإصبعك، حتى أقتنع بأنك وعدتني بألا تغتر، بل أرقص حتى أقتنع، طبعا بابا... تستطيع أن ترقص... هيا افعلها فأنت اليوم عريس الأبدية، ثم إنك حرمت من الرقص طيلة مرورك في الدنيا، و لك اليوم حق التعويض... طيّب... أنا سأغني لك "على دلعونة"، وأنت عليك بالرقص... لا بدّ أن تحظر ريتّا حتى ترقص؟، لكني لا أستطيع أن أتخطى الحواجزَ إليك، وإلا بحت لك عنها، لتشاركك رقصتك، أنت الذي هناك وبإمكانك أن تبحث عنها بابا... هيا ارقص ولا تتدلّلْ أكثر من هذا، لم يكذب من قال إن الشعراء الحقيقيين يصبحون أكثرا دلالا، بعد أن يرحلوا عن الدنيا، لأنهم يدركون أنهم ضمنوا مقعدهم في الخلود...أوه... ما أبهاك راقصا بابا... واصل... واصل.... فقد ينظمّ إليك زوربا ليكتمل البهاء، بالمناسبة: ما هي آخر كلمة قلتها في الدنيا؟، هل تستطيع منظمة التحرير الفلسطينية أن تعرفها؟... لا؟... إذن سيفرح الصهاينة كثيرا بجهلها، ويحزن الحمامُ/ تحزن فيروز... أعلم أنني ثرثرت عليك كثيرا، لذلك سأبادر إلى القول إنني كنت أخاف أن.... أقرأ نصوصَك، حتى أبقى أنا... فأنت الشاعر الوحيد الذي بقي يملك القدرة على ابتلاعي، وبعدك تستوي جميع الأسماء... بابا إنهم يتحدثون عنك في الفضائيات... هل يقولون الحقيقة؟.
****
فاطمة ناعوت
/ شاعرة وناقدة مصرية
(لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي)
لو كان محمود درويش يدركُ كمْ قلبا عربيا، من مثقفين وشعراء وقراء ومناضلين وقوميين، يتعلّق بقلبه الآن، وهو راقد بمستشفاه ميموريال هيرمان في هيوستن بولاية تكساس بالجنوب الأمريكي بين يدي أطبائه، ما مات. لو كان يدري كم روحا تتوجه للسماء تصلي من أجله وتدعوه للعودة فارسا للشعر النبيل، لهزم الموت مثلما هزمه من قبل في أواخر التسعينيات في عملية قلب مفتوح مشابهه لما يمرُّ بها الآن فكتب جداريته العظيمة بعدما أخفق الموتُ في إخماد خفق قلبه فقال: "هزمتُك يا موتُ/ الفنونُ الجميلة جميعُها هزمتك/ سوف أكون ما سأصيرُ في الفلك الأخيرِ/ وكلُّ شيء أبيضُ/ البحرُ المعلَّق فوق سقف ِغمامةٍ بيضاءَ/ واللا شيءُ أبيضُ في سماء المُطلق البيضاء/ كُنتُ/ ولم أكُن/ فأنا وحيدٌ في نواحي هذه الأبديّة البيضاء/ جئتُ قُبيَل ميعادي:/ فلم يظهرْ ملاكٌ واحدٌ ليقولَ لي:/ "ماذا فعلتَ/ هناك/ في الدنيا؟" لكنه يعرف! وماتَ رغم هذا! يعرفُ مكانتَه ومكانَه. يعرف قامتَه في مدونةِ الشِّعر ومُقامَه في قلوب الشعراء. يعرف كيف هزّت كلمتُه أركانَ الكنيست والمجتمع الصهيوني على نحو أشرسَ مما فعلتِ الرصاصاتُ والمدافع. يعرفُ أن قصائدَه شحنتِ المناضلين بالطاقة وغذّت جيوبَهم بالذخيرة. فلماذا مات؟ كيف لم يهزمِ الموتَ هذه المرةَ أيضا؟ كيف سمحَ للموت أن يخطفَه من بيننا فيما ما نزال نحتاج إليه احتياجَنا الشعرَ والهواءَ وجلاءَ المحتّل وعودةَ القدس؟ كيف للرجلِ أن يلملمَ أوراقَه ويرحلَ هكذا سريعا قبل أن يرى العابرين بين الكلمات العابرة يحملون أسماءهم وينصرفون كما أمرهم أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا؟
وهذه الأرضُ قد أطلعته على أسرارِها. "قالتْ لنا الأرضُ أسرارَها الدمويةَ/ في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمسُ بنات/ وقفن على باب مدرسة ابتدائية/ واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ/ افتتحن نشيدَ التراب/ دخلن العناق النهائيّ/ آذارُ يأتي إلى الأرض/ من باطنِ الأرض يأتي/ ومن رقصة الفتيات/ البنفسجُ مال قليلاً ليعبرَ صوتُ البنات/ العصافيرُ مدّت مناقيرَها في اتّجاه النشيد وقلبي/ أنا الأرض/ والأرض أنا/ خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل". فكيف يموتُ دون أن يطلعنا على أسرار الأرض؟. كيف يخونُ وعدا قطعَه على نفسه ألا يموتَ قبل أمِّه كيلا يفجعها فيه؟ كيف سيواجه ثَكلَها ودموعَها تسيلُ حارقةً فوق وجنتيها مع دموع ملايين ممن أحبوه وحفظوه في عقولهم وقلبوهم شعر وإنسانا ومقاتلا أبيضَ اليدين؟ قال إنه يعشق عمره لأنه لو مات سيخجل من دمع أمه؟ "أحنُّ إلى خبزِ أمي/ وقهوة ِأمي/ ولمسةِ أمي/ وتكبرُ فيَّ الطفولةُ/ يوماً على صدرِ يومٍ/ و أعشقُ عمري لأني إذا مِتُ أخجلُ من دمعِ أمي/ خذيني أمي إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهُدبِك/ وغطي عظامي بعشبٍ/ تعمّدَ من طُهْرِ كعبكِ/ وشُدّي وثاقي/ بخصلة ِشعرٍ/ بخيطٍ يلوِّحُ في ذيلِ ثوبكِ/ عساني أصيرُ إلهاً/ إلهاً أصيرْ/ إذا ما لمستُ قرارة قلبكِ/ ضعيني إذا ما رجعتُ/ وقوداً بتنور نارك/ وحبلَ غسيلٍ على سطح دارك...لأني فقدتُ الوقوفَ/ بدون صلاةِ نهارك/ هَرِمتُ فردّي نجومَ الطفولة/ حتى أُشاركَ صغارَ العصافير دربَ الرجوع/ لعُشِّ انتظارِك."
****
أحمد عبد الكريم
/ شاعر و كاتب جزائري
(تجليات درويش الأخيرة..)
هاهو الموت الذي سكنه هاجسا ورافق نصه منذ "جدارية "يباغته في أمريكا، قريبا من رميم صديقه إدوارد سعيد..يجئ موت محمود درويش تجليا ناصعا على شاعريته بحضورها البلاغي وقدرتها على اختراع المجاز اللغوي على طريقة الكبار من قبيل المتنبي وأبي تمام معجونا برؤى راهن درويش ذاتا وكيانا. وليؤكد قوة الحضور والإصغاء لدى متذوقي الشعر، عندما يتعلق الأمر بشاعر بحجم درويش.وليؤكد من جانب آخر أن هذا الشاعر الفلسطيني سيظل محل تنازع بين من يريدونه شاعرا فقط، وبين من يرونه رمزا وطنيا، كان عليه أن ينهض بمهمة المناضل والسياسي، وعلى ضوء هذا فقط يجب تقييمه، وهو ما يفسر الجدل الذي رافق حياته.يقف محمود درويش على قمة تجربته الشعرية التي أسس لها بدأب دون أن يكون قد أحرق أية محطة شعرية، صاعدا على نار هادئة إلى نضجه الشعري الذي صار علامة فارقة في التاريخ.لقد تحول محمود درويش بقوة الإبداع إلى حضور كثيف لا يوازيه أي حضور آخر،ولا يمكن أن يمر دون أن يثير الانتباه،كما تحول إلى مرجعية شعرية أصبح لها مريدوها الكثر في كل امتداد البلاد العربية،وألقت بظلالها على تجارب الكثير من الشعراء الجدد وحالت بينهم وبين خصوصيتهم وتفردهم وصفائهم الشعري الخالي من ترجيع صوت درويش.لا يمكن الحديث عن قطيعة جذرية أحدثها درويش مع التراث الشعري العربي، بمعنى أنه ظل وفيا للبلاغة العربية،التي ذهب عميقا في استكناه مكنوناتها برؤية العاشق المتمرس بخلاف كثير من الشعراء العرب الذين كانوا يقولون بضرورة الانفصال عن التراث.لم يكن من السهل في وقت سابق مقاربة درويش منفصلا عن فلسطينيته، كونه يحيل على القضية الفلسطينية التي ظلت عبئا على شاعريته، لأن التعاطي النقدي مع شعره ظل محكوما بظلال المعاناة الفلسطينية،مع ما يتخلل ذلك من تعاطف نقدي يغض الطرف عن الجماليات المؤسسة لفعل الكتابة، وهو ما جعله يكتب مقاله المعروف "ارحمونا من حبكم ".كصرخة احتجاج في وجوه أولئك النقاد الذين كانوا يضعونه في خانة "الأدب المقاوم" الخالي من كل القيم الأخرى. وهكذا ظل درويش الوجه الشعري الآخر لفلسطين، الجرح العربي النازف في كل وجدان، ولا يمكن أن نلغي مدى إفادة محمود درويش من هذا الجانب في تحقيق انتشار أفقي جماهيري كبير في الوطن العربي منحه ثقة أكبر في التمكين لمشروعه الشعري الذي بدأه فيما بعد بعيدا عن هذا المنظور.و كمثال على ذلك، فإن الاكتشاف الحقيقي لمحمود درويش في الجزائر كان سنة 82. عند إلقائه لقصيدته"مديح الظل العالي" في مؤتمر المجلس الوطني الفلسطيني، التي كان لها تأثير كبير على عدد من الشعراء الجزائريين، أصبحوا يقلدونه حتى في طريقة إلقائه.وفي هذا السياق أرتبط درويش في مخيال جمهور الشعر الواسع، بأدائه الإلقائي المتميز كظاهرة صوتية نادرة، حتى يمكن القول إن الإصغاء والإنصات إلى درويش أجمل بكثير من قراءته لا سيما عند متذوقي الشعر من غير النخبة.ما يفسر النجاح الذي حظيت بها الأمسيات الشعرية التي أقامها هنا وهناك.بدايات درويش مع أوراق الزيتون وعاشق من فلسطين لم تكن مختلفة كثيرا عن غيره من شعراء "الأرض المحتلة" إلا بالقدر اليسير، لكن الآفاق الرحبة والأمكنة التي وصل إليها،أسهمت بشكل كبير في تشكيل رؤيته و إغناء تجربته الشعرية بعناصر جديدة لم تكن لتتاح له لو بقي في الداخل مثل غيره. وتعد بيروت وباريس أخصب محطات تجربته الشعرية وفيها إنتقل إلى كتابة أكثر إيغالا في الحداثة والتصاقا بذاته.كشكل من أشكال التعبير والوجود على حد سواء.كتابة تتأسس على الرؤيا والعبارة في آن واحد، ولا تقارب الحالة الفلسطينية إلا بما هي حالة إنسانية عامة، تحيل على الإنسان أينما كان.. بعيدا عن فلسطين درويش التي تحيل عليه بقدر ما يحيل عليها كما كان يتم النظر إليه سابقا.
بعد مجموعاته "لماذا تركت الحصان وحيدا "و"لا تعتذر عما فعلت" و"سرير الغريبة" و "جدارية "وصولا إلى "حالة حصار" "كزهر اللوز أو أبعد" ونصه الأخير "أثر الفراشة" تجلى لنا درويش جديد منشغل بالشعر والمطلق و بالوجود والتأمل والجماليات والتنقيب عميقا في الإنساني والحميم..درويش مكتنز بالغنائية و ممتلئ بالحنين والمكان والذاكرة أكثر من امتلائه بالقضية والمقاومة والهم السياسي..ها هو درويش يتجلى تجليه الأخير بعيدا عن حبيبته فلسطين،لا منفصلا عن فلسطين تماما ولا متصلا بها تماما."لأنه لم يغب تماما ولم يحضر إلا لماما "على حد تعبيره..
****
موسى حوامدة/ شاعر فلسطيني مقيم في الأردن
(الشعر بعدك حزين يلبس ثياب الحداد، ويقيم في دمعة العمر الطازجة)
حزينة عمان هذا المساء،حزينة رام الله والبروة والجديدة وحيفا وفلسطين هي الأكثر حزنا لأنها ستنام لأول مرة بدون عريسها الفتي والوسيم وبدون شاعرها الأجمل.حزينة عمان لأنها ستنام أيضا بلا رائحة درويش وقد اختارها سكنا ومنزلا وحمل جواز سفرها مؤكدا ما كان يقوله دائما أن الأردن وفلسطين رئة واحدة أو شقان لذات الرئة وقلب واحد وشعب واحد وقد صدقت نبوءته فنحن الأكثر حزنا وبكاء عليه وخسارة له. نحن يتامى اليوم بعد رحيلك يا محمود فقد كنت الجدار الذي نستند عليه والأخ الأكبر الذي نطاول به عنان السماء والمعلم الذي مهد لنا طريق الشعر وحب فلسطين وعشقها. لك الخلود أيها الشاعر فالشعر بعدك حزين يلبس ثياب الحداد، ويقيم في دمعة العمر الطازجة، ويستقر في قلب المراثي.لكم كنا عاجزين عن حبك كما يليق بالنجوم، لكم نحن ضعفاء ومتردين أمام خسارتك الكبرى، خسارة سماء سقطت في قلب الحقيقة القاسية.لكم نحن عاجزون عن قول الحقيقة، لكم قهرنا الموت برحيلك، لكم حطم فينا الكثير، لكننا مؤمنون أنك لم تمت، بل رحلت من بيت الحجر إلى بيت الخلود.
نحن عشاقك يا محمود،نحبك حياً وخالدا، نحبك كما أحببناك صغارا وأطفالا وشبابا ونحبك حتى نموت ونحن نردد قصائدك ونسمع صوتك الجميل...الجميل.
****
دخيل الخليفة /
شاعر كويتي
(لم يمت مجنون التراب)
محمود درويش مات جسدا،لكن روحه هزمت الموت مبكرا،هزمت الموت لأنها روح فلسطينية أولا،تؤمن بأن الموت حياة أبدية،ولأنها روح شاعرة ثانيا.درويش لم يمت،أليس هو القائل:"هزمتك يا موت الفنون جميعها؟". أنا حزين جدا، حزين لأن قامة الشعر هوت، لكن "مجنون التراب" حي في ضمير الشعر،في حجارة كل فلسطيني كان يرى درويش صوته الذي يصدح في أرجاء العالم.درويش موهبة استثنائية،بقي شعره يحتاج إلى رؤى نقدية جديدة لإعادة تقييمه فنيا،إنه رجل حول القصيدة إلى راقصة باليه تسحر من يضع عينيه على جسدها قصيدة درويش قاومت المحتل في ما تحمله من تراث إنساني استمده من أرض كنعان، ومن لغة فاتنة لا تخص أحدا سواه، لغة أصبحت نهرا ينهل منه الشعراء في زمان ومكان امتلكهما درويش وأنتج قصيدة عن الوجود/الجرح الفلسطيني.قصيدة درويش هوية إنسانية بامتياز، يتجسد فيها المقدس الفلسطيني، إنه شاعر يختزن التاريخ في مفردات اللغة التي ينحتها بإزميل فنان مدهش، وفق نوستاليجيا من نوع خاص تواكب حركة الحياة المتغيرة.إن خسارة الشعر العربي كبيرة برحيل أحد أهم أعمدته على الإطلاق، فمنذ ديوانه أغصان الزيتون الصادر عام 1964 كان محمود درويش مشروعا شعريا يتطور،ومنذ خروجه من فلسطين إلى لبنان مرورا بمصر تحول وعيه الثوري إلى وعي إنساني عام، شاعر تمحور عالمه حول الأرض والمرأة وكلتاهما رمز للحياة التي تحتوي الإنسان في تحولاته كافة.يرى درويش في الرسائل التي تبادلها مع سميح القاسم "أن سؤال الحياة والموت المهمين على الذات العربية هو سؤال الوجود الذي يصوغ شكله المادي و الألوهي واعتبره أهم من السؤال الأخلاقي عن دور الشعر والشاعر في زمن يسود فيه الموت".. ودرويش يؤمن بالحالة الفلسطينية العامة التي تولدت على مدى 60 عاما من النضال وهي أن الموت حياة أبدية، لذا كان يكتب نصا دراميا ذا عالم فني مركّب..وتحولت الثورة الكامنة في روحه إلى شعر..ولاشك أنه "شاعر يملك حساسية ثقافية ذات صفاء استثنائي" كما يقول عنه إدوارد سعيد.. وهو بالنهاية مدرسة متفردة في الشعر العربي الحديث. نعم فقدنا بيرقا خفاقا..من الصعب أن نعوضه في حالة الضياع التي نعيشها ثقافيا، فهذا الرجل كان نتاج مرحلة مريرة في الحياة السياسية العربية.. رحم الله محمود درويش، الشاعر الذي كنا نلاحقه من مكان إلى آخر لنتعلم منه كيف يكتب النص المغاير..ولعله الآن رأى الموت ليعرف حقيقته.
****
أحمد الشهاوي
/ شاعر مصري
(وردٌ أكثر لَكَ اليوم وكل يوم)
مِتَّ غريبًا في سريرٍ لَيْسَ لَكَ فَمَنْ إذن سَينامُ في "سرير الغريبة" غيركَ
أَنْتَ الغريبُ في بلادٍ غريبةٍ، ذَهَبْتَ إليها بَوَسَاطةٍ، كيْ تستقبلَكَ "مريضًا" لا شاعرًا.
كان يمكنُ أَنْ تَظَلَّ في "باريس" صحبة صديقنا المشترك صبحي حديدي،كاتمُ أسراركَ، وناقدُكَ، والأقربُ إليكَ روحًا وفكرًا.ربَّما كُنْتَ ستبقى ولو لأيام أو أسابيع تُرتِّبُ فيها أعمالَكَ التي حدَّثْتني عنها ذَاتَ يومٍ في الإسكندرية، هذه الأعمالُ الشعريةُ المنجزةُ التي لم تنشرها في حياتِكَ، أذكر أنَّكَ قلتَ لي إنها ثلاثةُ أعمالٍ، أردتَ أن تشذِّبَها وتهذِّبها وتحذفَ منها وتصفِّيها من "الأثقالِ" والشَّوائبِ.أينها الآنَ، أهي في عمَّان أم رام الله. أيمتلكُ صبحي حديدي نسخةً منها.أم أنَّك كُنْتَ حريصًا كعادتكَ ألاَّ تُطْلعَ أحدًا عليها.الآن زادت خُسَاراتي في الحياة. كُنْتُ كلَّما تَأَزَّمَتْ رُوحي عُدْتُ إليكَ.لن تستطيعَ "البروة" أن تأوي جَسَدَكَ لأنَّها – كما تعلم – زالت من على خريطةِ فلسطينكَ، لكنَّكَ ستكونُ في مكانٍ ما قريبٍ منها. أُمُّك (92 سنة) تنتظركَ، وأخوك أحمد، والأقرباءُ والأصدقاءُ، وحتَّى الأعداء من الأهلِ الذين حَسَدُوكَ غيرةً من شِعْرِكَ، وكدَّروا حياتَكَ في السنواتِ الأخيرةِ. كُنْتَ تضمرُ غيظكَ وحُزنَكَ وانفعالكَ وتصمتُ. لكنْ عندما فاض كيلُ الحَسَدِ أو قُلْ السِّبَابَ، بدأتَ تعلنُ دونَ أَنْ تُسمِّى أَحَدَهم، كُنتَ أحيانًا تشيرُ أو ترمُزُ حتَّى لا تكشفَهُم وهم يواصلون دونَ خجلٍ. ماذا سيقولون اليومَ، سأقولُ لَكَ يومًا ماذا سيقولونَ ويكتبونَ. لستَ حِصَانًا وحيدًا متروكًا في الصحراءِ العربيةِ، لكنَّكَ حاملُ السُّؤالِ "لماذا؟"، وغيره من الأسئلةِ، التي ستكبرُ كنجمةٍ تحملُ اسْمَكَ ليبقى في سَمَاءِ الشِّعْر إلى جوارِ جَدِّكَ الذي أحببتَ "المتنبي".إذْ سيبقى شِعْرُكَ عابرًا للأمكنةِ والأزمنةِ، باقيًا، وشاهدًا على روحِكَ، ومهارتِكَ كصائغٍ عظيمٍ لكونِكَ الشِّعريِّ.سنملأُ "فراغَكَ" بشعرِكَ، فقد تركتَ ما يشغلُنَا، نستعيدُهُ، ونعيدُ تأويلَهُ، لأنَّه منذ "تِلْكَ صورتُها وهذا انتحارُ العَاشِقِ" حَمَّال أَوْجُهٍ.تركتَ في كُلِّ مَنْفَى ذكرى، تركتَ قصيدةً. أعرفُ أنَّكَ أنجزتَ ديوانًا عن مدنِكَ – منافيكَ، أَيْنَهُ، أريدُهُ لنا جميعًا، لنعثرَ عليه قبل أَنْ يضيعَ في الزحام. أعرفُ أن الموتَ لم يكن ليخيفكَ، لكنكَ كنتَ تريد "قليلاً" من الوقتِ لترتِّبَ بيتَكَ الشعريَّ. لكنَّهُ لا يستأذنُ يا صديقي، يباغتُ ويصرعُ. الآَنَ ستذهبُ إلى من جالستهم يومًا بمستشفاك في باريس: المتنبي، رينيه شار، المعرِّي.
محمود، أَنْتَ غيَّرتَ إيقاعَكَ، فَاسْتَحْقَقْتَ أن نقرأَ قَلْبَكَ الباقيَ ونحملَهُ كطوقِ حمامةٍ.إنَّكَ لَسْتَ صَفْحَةً تُطوى – بموتِكَ – في كتابِ الشِّعْر..ولستَ طابعَ بريدٍ تُصْدِرُهُ وزارةٌ فلسطينيةٌ قَبْلَ مَوْتِكَ بأيامٍ.أَنْتَ قِطَارُنَا، اسْتَقْبِلْنَا ولا تودِّعْ أَحَدًا. لَكَ أرصفتُكَ ومقاهيكَ وموسيقاكَ ولغتُكَ وكلامُكَ، وأرضُكَ التى ترثُ لغتَكَ الصافيةَ التى جَرّدْتَهَا حتَّى استطاعتْ ذَبْحَكَ وَنَالَتْ مِنْ قَلْبِكَ.تَركْتَ قَافِيةً لَنَا، فانتظرْنَا.أَنْتَ الدَّليلُ، ولن يدلَّكَ أَحَدٌ علينا.هَزَمْتَ المَوْتَ، لكنَّ الهزيمةَ لِمْ تَكُنْ بالضربةِ القاضيةِ، كُنْتَ مُصَارعًا فَذًّا لكنَّه غَافَلَكَ، وَصَرْعَتُه بالنقاطِ.و"النقاط" كان ينبغي أن تشكِّل جُمْلَةَ النهاية "المفيدة".النقاطُ لم تمنحك فرصةَ أَنْ تتدبَّرَ أَمْرَكَ. بِأَنْ تختارَ نوعَ الزهور وألوانَها،مودِّعيكَ،المكانَ الذي سَتُدفَن فيهِ، أن تكتبَ وصيتَكَ، أن تأتي إلى الإسكندرية، أن تذهبَ إلى الرباط لتتسلَّم جائزةَ الأركانةِ الدوليةِ. أَنْ وَأَنْ وأن...استدرجْتَ المعْنَى، لترحلَ
تاركًا أَثَرَ فَراشتِكَ التي طارت أمام عينيك. اقتبستَ الظِّلالَ مِنْ ظِلاَلِكَ، أَنْتَ المُتَيَّمُ بالِّلعبِ مَعَ الشِّعْرِ، بالإنجذابِ إلى البَحْرِ، والنَّوم مع الموسيقى. "وَرْدٌ أَكْثَر" لَكَ اليوم وكُلّ يومٍ.
****
عبدالله بن أحمد الفَيْفي
/شاعر وناقد سعودي
وأستاذ النقد الحديث جامعة الملك سعود
(محمود درويش)
محمود درويش مدرسة مهمّة في تاريخ الشِّعر العربيّ.لعلّ من أبرز مميّزاته أن الجماهيريّة التي حظي بها لم تجرفه غالبًا إلى التنازل عن لغة القصيدة وطموحاتها العليا، إرضاء للمتلقّي، وذلك ما وقع فيه غيره. وعلى الرغم من تقبّل درويش لتجربة قصيدة النثر- بوصفها شِعرًا- وخوضه في التنظير الخطابي لمفهوم "الشعريّة"، كما يتضح من كلمته البيانية في الذكرى الأربعين لرحيل محمد الماغوط، في دمشق 2006، فقد ظل أمينًا لذاكرته الموسيقيّة الشعريّة. ومع هذا فإن المتتبع لتجربة درويش سيلحظ أنه- بعد مشواره الطويل من القصيدة البيتيّة، إلى شعر التفعيلة، مرورًا بما أسميته لديه ولدى غيره بـ"شعر التفعيلات"، حيث المزج بين بعض الأنساق التفعيلية المتجاورة في دوائر العَروض العربي- قد سار في أعماله الأخيرة إلى تنثير اللغة الشعريّة. مثلما كان قد أخذ في أعماله الأخيرة يعتمد على شِعريّة الموقف، لا شعريّة اللغة، حتى لو جُرّد النصّ من التفعيلة، لجاء قصّة قصيرة جدًّا. وذلك ما يُلحظ على سبيل المثال في قصيدة "اللا مبالي"، في مجموعته النصوصيّة "أثر الفراشة"، (2008)- وهي خليط من نصوص شعريّة ونثرية، اختار المؤلِّف أن يسميها: "يوميّات"- وكذا في بعض نصوصه في مجموعته السابقة "كزهر اللوز أو أبعد"، (2005). لذا، قد يمكن القول: إن النموّ التجديديّ (الحقيقي) في شِعر درويش قد توقّف في الثمانينيّات من القرن العشرين تقريبًا، ثم ظلّ ينسج على منوال منجزه، ويحفر فيه. ولعلّ تجربته النثريّة في المرحلة اللاحقة لا تقل أهميّة عن شِعره، إنّ لم تفقها، وذلك كما في "الرسائل"، بينه والشاعر سميح القاسم، أو في كتابه "ذاكرة للنسيان"، (1987). و إذا كان درويش قد حَصَر شِعره- إيقاعيًّا- في التفعيلة، إلاّ نادرًا، فإنه في بعض مجموعته الأخيرة "أثر الفراشة" قد عاد إلى بحور الشعر العربي مجدّدًا، وإنْ على استحياء. وتأتي قيمة تلك الأوبة إلى العروض العربي من أنها تعبّر عن عدم قطيعته الحداثيّة مع الشعر العربي في قوالبه الأصيلة. كما أنها تدلّ على وعي بإمكانية تحديث التراث من خلاله، لا من خارجه، وأن بالإمكان تفجير أشكال لا نهائيّة من "عرابسك" العروض العربي.
يظلّ درويش (رحمه الله)- مهما اختلفنا حول تجربته الحياتيّة أو الشعريّة- أحد شعراء العربيّة الكبار في العصر الحديث.
****
عبد السلام العطاري
/ شاعر فلسطيني
(ما زال الوطن يحن إلى خبز أمه)
برحيل الشاعر الكوني محمود درويش، تفقد الأمة العربية خاصة والعالم اجمع لغة طالما عجزنا عن توقّدها وعن جمرتها ولكنها كانت تفاحة الشمال الندية تماما كجبهته العالية التي تتوضأ منها الشمس وتصلي على جذع المساء أيقونته التي تباركنا، " لا شيء بعده سيرحل ولا شيء بعده يعود"، إذاً هو درويش الكون والبلاد العاتية وريح الصيف الذي ينعس على موجه هدير البحر وجبال الوطن وتنام حيفا العاشقة لصوته... رحيل الكبار وبكاء الأطفال اليتم وتراويد الأمهات وصمت السكون الراسم لوجهه الفضاء.درويش الذي يغادرنا ويُبقي لنا ما يكفي قوت يومنا لسنوات لافحة جائعة لقصيدته المحمولة على أغصان الزيتون المحناة بالسنابل ستبقى ملاذ حُزننا وجوقة فرحنا الذي أحب.
14-8-2008