جريدة القدس
يحتلّ محمود درويش موقعاً فريداً قلما حظي به شاعر في الثقافة العربية الحديثة، ولا يقارن نفوذه الأدبي إلا بالنفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء العرب في أطوار ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بنبيّ الأمّة، والناطق المعبّر عن كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة، وتلك الكامنة في مجهول لا يرى معلومه سواه، في السموّ والإنتصار كما في الإنكسار والهزيمة. وفي ثقافات الأمم تكر رت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر مهمة كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية.
ولقد توفّرت للشاعر أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أن كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري في حصيلته، كما حدث في أحيان أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأول. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.
وفي طليعة الأسباب الموضوعية يأتي انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت تتطوّر في فلسطين المحتلة منذ مطلع الستينات على يد شعراء مثل توفيق زياد وسميح القاسم وسالم جبران ودرويش نفسه، ثم اكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967، فأطلق عليها اسم «شعر المقاومة» في غمرة الحاجة الماسة إلى بدائل خَلاصية تخفف وطأة الإندحار وتعيد الأمل إلى روح تعرّضت لجرح عميق. ورغم أن هذه الحركة الشعرية لم تكن منفصلة عن التيارات العامة في الشعر العربي آنذاك، فإنها مع ذلك حملت نكهة خاصة مختلفة، نابعة جوهرياً من موضوعات ذات حساسية وجدانية (الأمل، المقاومة، الأرض، الهوية الوطنية)، وكذلك من أشكال في التعبير لم تكن مألوفة في الشعر العربي آنذاك.
وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعاظم وتترسخ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي قبل أي شيء آخر تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا ينقلب إلى تعاقد سكوني شبه إيديولوجي بين الشاعر الذي ارتقى إلى مصاف النبيّ، وبين الوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحق في تكييف الميول وردود الأفعال. ومنذ هذا الطور واصل درويش وفاءه لتعاقد ثنائي ـ شاقّ وخلاّق ـ مع موقعه كشاعر: تعاقد مع مشروع شعري لا بدّ له من أن يتطور ويتكامل وفق دينامية متصاعدة، وتعاقد مع قارىء عنيد عريض يتشبث بالطور الراهن من خطاب شاعره النبي لأنه يجد فيه الملاذ.
والمراقب للمشهد الشعري العربي المعاصر لا يجد صعوبة كبيرة في ملاحظة السلطة الأدبية الكبيرة التي يحظى بها شعر درويش، في مسألة الشكل والتجريب بصفة خاصة. فالشعراء الذين يقلدونه لا يجدون حرجاً في وضوح هذا التقليد وصراحته، والذين يزعمون الاستقلال عن منجزاته لا ينجحون غالباً في إخفاء الضغوطات الداخلية التي يمارسها شعره على خياراتهم الأسلوبية واللغوية والمجازية، مثلما على تجاربهم الشكلية. والواقع أنّ مشروع درويش الشعري يمارس، في الحالتين، تأثيرات إيجابية تصبّ في صالح تطوير تيارات الشعر العربي المعاصر.
* * *
في 13 آذار (مارس) 1941 ولد محمود درويش في قرية «البروة» التي تقع مسافة 9 كيلومترات شرق عكا، وكان الابن الثاني في أسرة فلاّحية تتكون من ثمانية أفراد، خمسة أولاد وثلاث بنات. ولقد عاش طفولة بريئة في أحضان هذه القرية الوادعة الواقعة على هضبة خضراء ينبسط أمامها سهل عكا. في سنّ السابعة «توقفت ألعاب الطفولة» كما يعبّر في وصف ليلة النزوح من «البروة»، تحت ضغط العمليات العسكرية التي شنتها العصابات الصهيونية بهدف تفريغ قرى الجليل من الفلسطينيين. وفي هذا يقول درويش:
إني أذكر كيف حدث ذلك... أذكر ذلك تماماً: في إحدى ليالي الصيف، التي اعتاد فيها القرويون أن يناموا على سطوح المنازل، أيقظتني أمّي من نومي فجأة، فوجدت نفسي مع مئات من سكان القرية أعدو في الغابة. كان الرصاص يتطاير من على رؤوسنا، ولم أفهم شيئاً مما يجري. بعد ليلة من التشرّد والهروب وصلت مع أقاربي الضائعين في كلّ الجهات، إلى قرية غريبة ذات أطفال آخرين. تساءلت بسذاجة: أين أنا؟ وسمعت للمرّة الأولى كلمة «لبنان».
يخيلّ إليّ أنّ تلك الليلة وضعت حدّاً لطفولتي بمنتهى العنف.
فالطفولة الخالية من المتاعب انتهت. وأحسست فجأة أنني أنتمي إلى الكبار. توقفت مطالبي وفُرضت عليّ المتاعب. منذ تلك الأيّام التي عشت فيها في لبنان لم أنس، ولن أنسى إلى الأبد، تعرّفي على كلمة الوطن. فلأوّل مرّة، وبدون استعداد سابق، كنت أقف في طابور طويل لأحصل على الغذاء الذي توزعه وكالة الغوث. كانت الوجبة الرئيسية هي الجبنة الصفراء. وهنا استمعت، لأوّل مرّة، إلى كلمات جديدة فتحت أمامي نافذة إلى عالم جديد: الوطن، الحرب، الأخبار، اللاجئون، الجيش، الحدود... وبواسطة هذه الكلمات بدأت أدرس وأفهم وأتعرّف على عالم جديد، على وضع جديد حرمني طفولتي».
بعد سنة تسلّل درويش، برفقة عمّه والدليل الذي يعرف مجاهل الدروب في الجبال والوديان، عائداً إلى فلسطين ليستقرّ في قرية «دير الأسد»، لأنّ قريته الأصلية «البروة» كانت قد هُدمت تماماً وأقيمت بدلاً عنها مستوطنة إسرائيلية. ولم يطل الوقت حتى فهم الفتى أنه فقد أرض الأحلام الأولى نهائياً: «كلّ ما في الأمر هو أنّ اللاجىء قد استبدل عنوانه بعنوان جديد. كنتُ لاجئاً في لبنان، وأنا الآن لاجىء في بلادي (...) وإذا أجرينا مقارنة بين أن تكون لاجئاً في المنفى، وأن تكون لاجئاً في الوطن، وقد خبرت النوعين من اللجوء، فإننا نجد أن اللجوء في الوطن أكثر وحشية. العذاب في المنفى، والأشواق وانتظار يوم العودة الموعود، شيء له ما يبرره.. شيء طبيعي. ولكن أن تكون لاجئاً في وطنك، فلا مبرر لذلك، ولا منطق فيه».
وفي مدرسة القرية كان المدير والأساتذة يحبّون هذا الفتى المتفوّق في الدراسة والرسم، والذي كان يحاول كتابة الشعر الموزون على غرار قصائد الشعر العربي القديم، وكانوا يخبئونه كلما كانت الشرطة الإسرائيلية تأتي إلى القرية لأنه يُعتبر في حكم «المتسلل»، وكانوا يحذّرونه من الإعتراف بأنه كان في لبنان، ويعلّمونه أن يقول إنه كان مع إحدى القبائل البدوية في الشمال.
وكان اللجوء إلى الشعر هو أحد أشكال بحث محمود درويش عن «وطن لغوي» يخفّف من حدّة النفي داخل الوطن الحاضر والغائب معاً. وفي وصف ذلك يقول درويش:
بدأت علاقتي بالشعر عن طريق علاقتي مع المغنّين الفلاحين، المنفيين من قبل الشرطة. كانوا يقولون أشياء غريبة على درجة من الجمال بحيث أنني لم أكن أفهمها، ولكني كنت أشعر بها (...) وهكذا وجدت نفسي قريباً من أصوات الشعراء الجوّالين المغنّين، وفيما بعد أخذت أستمع إلى الشعر العربي الكلاسيكي الذي يروي مغامرات عنترة وسواه من الفرسان، فاجتذبني هذا العالم وصرت أقلّد تلك الأصوات، وأخترع لنفسي خيولاً وفتيات، وأحلم في سنّ مبكرة أن أتحوّل إلى شاعر (...) وقد مررت بتجربة مبكرة علمّتني أنّ ما أفعله، وما ألعبه، هو أخطر بكثير مما أتصوّر. ذات يوم دُعيت لإلقاء قصيدة في المدرسة، ومن الغرابة أنّ المناسبة كانت ذكرى استقلال إسرائيل. وكنت وقتها في الثانية عشرة من عمري، وكتبت شيئاً سمّوه قصيدة، تحدثت فيها عن عذاب الطفل الذي كان فيّ، والذي شُرّد وعاد ليجد «الآخر» يقيم في بيته، ويحرث حقل أبيه. قلت ذلك كلّه ببراءة شديدة. وفي اليوم التالي استدعاني الحاكم العسكري، وهدّدني بشيء خطير جداً. ليس بسجني، بل بمنع أبي من العمل. وإذا مُنع أبي من العمل، فإنني لن أتمكن من شراء الأقلام والأوراق لكي أكتب. ساعتها فهمت أنّ الشعر حكاية أكثر جدّية مما كنت أعتقد، وكان عليّ أن أختار بين أن أواصل هذه اللعبة الأكثر جدّية مما أتصوّر، أو أن أتوقف عنها. وهكذا علّمني الإضطهاد بأنّ الشعر قد يكون سلاحاً».
ولقد واصل محمود درويش اللعبة! وبين عام 1961 و1967 سُجن خمس مرّات. كانت الأسرة قد انتقلت من «دير العدس» إلى قرية ثانية هي «الجديدة»، وأمّا محمود فقد استقرّ في مدينة حيفا، وانتسب إلى الحزب الشيوعي، وعمل في صحيفتي «الإتحاد» و«الجديد» اللتين كانتا المنفذ الإعلامي الشرعي الوحيد للعرب الفلسطينيين. وفي عام 1971 قطع درويش دورة دراسية في موسكو وظهر فجأة في القاهرة، فأثار خروجه ضجة كبرى واستُقبل في العالم العربي بترحاب كبير. بع إقامة في القاهرة استغرقت سنتين، انتقل درويش إلى العاصمة اللبنانية بيروت، وعمل رئيساً لتحرير فصلية "شؤون فلسطينية"، ثمّ أسّس الفصلية الثقافية "الكرمل" التي ستصبح أهمّ دورية ثقافية عربية. وفي عام 1982، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان، غادر درويش إلى تونس ثمّ إلى باريس التي بقي فيها حتى عام 1995 حين عاد إلى رام الله، فلسطين، واستأنف إصدار "الكرمل" من هناك.
* * *
ويمكن تقسيم تطوّر تجربة محمود درويش الشعرية إلى المراحل التالية:
- مرحلة «الطفولة الشعرية» وتمثّلها مجموعة «عصافير بلا أجنحة» (1960) التي سيتخلّى عنها درويش سريعاً لأنها، بالفعل، كانت تمثّل محاولات مبكّرة لا تعكس صوته الخاصّ بقدر ما تردّد أصداء تأثّره بالشعر العربي الكلاسيكي والحديث الرومانتيكي.
- «المرحلة الثورية» وتمثّلها مجموعته «أوراق الزيتون» (1964)، حين انتقل درويش من الهمّ الذاتي إلى الهواجس الجماعية، والحلم الثوري، والتغنّي بالوطن، وتثبيت الهويّة (كما في قصيدته الشهيرة "بطاقة هوية، التي ستشتهر باسم آخر هو السطر الاستهلالي فيها: «سجّل أنا عربي» والتي تحوّلت إلى أيقونة لأفكار المقاومة والصمود والإعلان عن الهويّة، في الشارع العربي العريض أكثر بكثير من الشارع الفلسطيني نفسه)، وحسّ الإلتزام الثوري، والتضامن الإنساني والأممي (كما في قصائده «عن إنسان»، و«عن الأمنيات» و«لوركا»).
- «المرحلة الثورية ـ الوطنية»، وتمثلها مجموعاته «عاشق من فلسطين» (1966)، و«آخر الليل» (1967) و«العصافير تموت في الجليل» (1969) و«حبيبتي تنهض من نومها» (1970). وفي هذه المرحلة كان شعر درويش قد أصبح جزءاً أساسياً من الحركة التي عُرفت في العالم العربي باسم «شعر المقاومة»، وضمّت شعراء من أمثال توفيق زياد وسميح القاسم. وكان شعره يتطوّر ضمن المنطق ذاته والموضوعات ذاتها، ولكنه امتاز عن أقرانه في خصائص عديدة بينها غزارة إنتاجه، والأفق الإنساني الأعرض لموضوعات قصائده، وحسن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية الشرق أوسطية والهيللينية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والإرتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانتيكية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.
- «مرحلة البحث الجمالي»، وهي التي تبدأ مع خروج درويش إلى العالم العربي وانتقاله من القاهرة إلى بيروت. لقد أراد البرهنة على أنّه شاعر صاحب مشروع جمالي منذ البداية وقبل أيّ «تصنيف» آخر، وأنّ اقتران تجربته بـ «شعر المقاومة» لا يعني أنه لم يكن يسعى إلى تطوير موضوعاته وأدواته ولغته الشعرية على نحو يتفاعل مباشرة مع حركة الحداثة الشعرية العربية ويغني تيّاراتها. في عبارة أخرى هذه هي مرحلة «صراع» محمود درويش مع قارئه العربي الذي أحبّه وأراد أن يسجنه في صورة «شاعر المقاومة» فقط، في حين أنّ درويش كان يعاند في البرهنة على أنّ شاعر المقاومة ينبغي أن يكون شاعراً حقيقياً أوّلاً، وشاعراً جيّداً ثانياً وأساساً.
ومنذ سنة 1972، حين صدرت مجموعته «أحبّك أو لا أحبّك»، وهي الأولى له خارج فلسطين، واصل محمود درويش تطوير مشروعه الشعري على نحو منتظم وعنيد، بحيث كانت كلّ مجموعةجديدة تشكّل نقلة أسلوبية عن المجموعة التي سبقتها: «محاولة رقم 7» (1973) تضمنت مزجاً بين الموضوع الغنائي والإستعادة التاريخية ـ الأسطورية للمكان الفلسطيني ـ الكنعاني (كما في قصائد «النزول من الكرمل» و«الخروج من ساحل المتوسط» و«طريق دمشق»)؛ ومجموعة «تلك صورتها وهذا انتحار العاشق» (1975) مثّلت نقلة أكثر وضوحاً نحو القصيدة الطويلة التي تمزج بين التأمّل الغنائي والسرد الملحمي؛ ومجموعة «أعراس» التي تعود إلى الموضوع الوطني ولكن ضمن صياغات إنسانية ـ ملحمية أوسع، وأخرى تسجيلية ذات ارتباط بوقائع محدّدة في الزمان الفلسطيني (كما في قصائد «كان ما سوف يكون» و«أحمد الزعتر» و«قصيدة الأرض»). - «المرحلة الملحمية»، وهي التي تعقب الإجتياح الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 وخروج الفلسطينيين من لبنان إلى بحر جديد وتيه جديد. وفي هذه المرحلة كتب درويش قصيدته الطويلة الشهيرة «مديح الظلّ العالي» (1983) التي صنّفها في ما بعد تحت تسمية «قصيدة تسجيلية» لأنها تصف أجواء مقاومة الإجتياح، ومعنى مدينة بيروت، ومجزرة صبرا وشاتيلا، وأسئلة الوجود الفلسطيني بعد الخروج إلى أوديسة جديدة. وإلى هذه المرحلة تنتمي أيضاً مجموعة «حصار لمدائح البحر» (1984) التي احتوت على «قصيدة بيروت» بوصفها العمل الشعري الطويل الثاني الذي يكمل ملحمة الخروج الفلسطيني من لبنان.
- «المرحلة الغنائية»، وهي تشمل القصائد التي كتبها درويش في باريس، وظهرت بعدئذ في مجموعتَيه «هي أغنية، هي أغنية» (1986)، و«وردٌ أقلّ» (1986). وفي هذه القصائد استمرّ البحث الجمالي الذي بدأ في بيروت وانقطع فجأة مع الإجتياح الإسرائيلي وخروج الفلسطينيين من لبنان، وبدا أنّ درويش يتفرّغ أكثر من ذي قبل لهواجس الذات والتأمّل الميتافيزيقي، والمحاورة الغنائية بين الشاعر والعالم. وهي أيضاً مرحلة استكشاف مسائل الشكل والبنية الموسيقية للقصيدة، إذْ كتب درويش الرباعيات، وحاول محاكاة إيقاع العزف المنفرد في الموسيقى، وكتب القصيدة القصيرة المعتمدة على «الفقرة» الشعرية المتصلة بدل السطور، أو القصيدة الطويلة المعتمدة على قصائد قصيرة من عشرة سطور (كما في مجموعته «ورد أقلّ»). ولعلّ هذه الفترة هي أكثر مراحل تجربة درويش قلقاً وتجريباً وتطويراً وخصوبة.
- «المرحلة الملحمية ـ الغنائية»، وتمثلها قصائد مجموعتَيه «أرى ما أريد» (1990) و«أحد عشر كوكباً» (1992). وهذه هي المرحلة التي شهدت عودة درويش إلى القصائد الطويلة والمشهد الملحمي العريض الذي لا يقهر النبرة الغنائية حتى وهو يستعيد الموضوع التاريخي، والذي ينفتح على تجارب إنسانية تراجيدية كبرى (المغول، الهنود الحمر، الأندلس، طروادة) ويبحث للفلسطيني عن موقع فيها، للفلسطيني ذاته أوّلاً ثمّ للإنسانية بعدئذ. وفي هذه المرحلة كان درويش يستكمل الفصل الأنضج من تجربته في مصالحة الموضوع الملحمي مع الموضوع الغنائي، وكان يقدّم صياغة فذّة لمراوحة الفلسطيني بين صورة البطل الملحمي الملتَقط على هيئة ضحية، وصورة الفلسطيني العادي الواقف أمام منعطف السلام واستحقاقات اتفاقية أوسلو. وكان درويش يرسم صورة شعرية رفيعة لآلام وآمال هذه المراوحة.
- «مرحلة الموضوعات المستقلّة»، وتشمل مجموعتَي «لماذا تركتَ الحصان وحيداً» (1995) التي تدور حول موضوعة السيرة الذاتية للشاعر منذ الطفولة وحتى الآن، كما تدوّن سيرة المكان حين تحتويه الجغرافيا وينبسط فيه التاريخ، وسيرة دلالات المكان حين تنقلب إلى محطات للجسد وعلامات للروح؛ ومجموعة «سرير الغريبة» (1999) التي تدور حول موضوعة قصيدة الحبّ إجمالاً، و«اغتراب الرجل في المرأة والمرأة في الرجل ودمجهما معاً» كما يقول درويش. هذه هي مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة «البطولة» وانتقل إلى مرحلة اليوميّ والعاديّ.
وضمن مرحلة الموضوعات المستقلة هذه يمكن احتساب مجموعتين صدرتا ضمن سياقات خاصة، شخصية ذاتية تخصّ الشاعر، وأخرى وطنية عامة تخصّ الأوضاع في فلسطين. وهكذا صدرت "جدارية" (2000)، وهي قصيدة طويلة تقارب الـ 1000 سطر، لكي تسجّل سلسلة تأملات ملحمية كثيفة في موضوعة الموت على خلفية رمزية وأسطورية وتاريخية محتاشة بتوتر الوجود ومقاومة العدم وموقع الشعر والفنون في هذا الخضمّ كلّه، وذلك من وحي تجربة شخصية عاشها الشاعر حين خضع لعملية جراحية دقيقة في القلب سنة 1998. كما صدرت "حالة حصار" (2000) لتدوّن يوميات الفلسطيني في سنوات استشراس آلة الاحتلال العسكرية والأمنية الإسرائيلية قبل وبعد مجزرة جنين وأعمال النسف والتصفيات الجسدية وبناء الجدار العنصري العازل. ولكنّ اليوميات لم تكن تسجيلاً حزيناً أو محزناً لعذابات الفلسطيني، بل أرادت أساساً القول إنه باق على قيد الحياة، يقاوم في صيغة آدمي من لحم ودمّ وليس في صيغة أسطورة ملحمية ورمز بطولي. - المرحلة الراهنة في شعر درويش تستأنف برنامج البحث الجمالي والفنّي الذي بدأه الشاعر في بيروت مطلع السبعينيات وفي باريس مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، ولكن في نطاق محدد أكثر هذه المرّة، هو تطوير شكل القصيدة العربية المعاصرة وجَسْر الهوّة بين الشكلين الرئيسيين السائدين في الكتابة الشعرية الراهنة، أي قصيدة التفعيلة وقصيدة النثر. ولأنّ درويش يؤمن بثراء البنية الإيقاعية للشعر العربي، وأنها ما تزال غنية وخصبة وقابلة للكثير من التطوير والتجريب، فإنّ هاجسه في المجموعات اللاحقة انصبّ على التطوير المرن والحيوي للتفعيلة عبر تطويعها ضمن تشكيلات موسيقية سلسة الوقع وخافتة الصوت تكفل تقريب المسافة بين الوزن والنثر. هذه هي السمة الكبرى في مجموعتَي "لا تعتذر عمّا فعلت" (2004)، و"كزهر اللوز أو أبعد" (2005)، وكانت النماذج المبكرة لهذا البحث الجمالي والفنّي قد تبدّت كذلك في "سرير الغريبة" (1999)، لكنها لا ريب تبلغ ذروة دراماتيكية في كتاب درويش الأخير "في حضرة الغياب" (2006) الذي شاء الشاعر أن يطلق عليه صفة "نصّ" لأنه في الواقع يستكشف أرحب آفاق شعرية النثر، وينجز صيغة فريدة وفذّة من امتزاج الشعر والنثر في قول ينفكّ عنهما معاً ويشكّل جنساً مستقلاً جبّار الإيحاء وعبقريّ التأثير. وأمّا عمله الشعري الأخير "أثر الفراشة"، 2008، الذي يجمع بين التفعيلة والنصوص النثرية، فقد كان أكثر أعمال درويش اقتراباً من قصيدة النثر، خصوصاً وأنّ الشاعر تعمّد إنصاف الوزن حين أعاد إنتاج تشكيلات إيقاعية عالية تذكّر بتقنيات قصيدته في أواسط السبعينيات، كما أنصف النثر حين تلمّس شعريته على نحو جمالي ولغوي غير مسبوق في نتاجه.
وإلى جانب الأعمال الشعرية (وهي 23 حتى الآن) كان درويش قد اعتاد كتابة المقال السياسي والثقافي منذ أيّام عمله في صحيفتَي «الإتحاد و«الجديد» في الداخل، وخلال رئاسته لتحرير الشهرية الثقافية «شؤون فلسطينية» في بيروت خلال السبعينيات، وتأسيسيه لمجلة «الكرمل»، الفصلية الثقافية الأشهر في العالم العربي، التي صدرت في بيروت، ثم انتقلت بعدئذ إلى نيقوسيا، وعادت مؤخراً إلى رام الله. ومقالات درويش جُمعت في الكتب التالية: ««شيء عن الوطن»، «وداعاً أيتها الحرب، وداعاً أيها السلام»، «يوميات الحزن العادي»، «في وصف حالتنا»، «عابرون في كلام عابر»، مجموعة «الرسائل» المتبادلة مع الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، و"حيرة العائد" الذي ضمّ منتخبات من مقالاته على امتداد عقدين.
غير أنّ كتابه النثري الأشهر يظلّ «ذاكرة للنسيان»، وهو عمل شبه روائي يصوّر فيه درويش تفاصيل العيش اليومي تحت الحصار الإسرائيلي لبيروت سنة 1982 على نحو مذهل في بساطته وعمقه وشاعريته العالية. وقد اشتهر كثيراً ذلك المقطع الذي يصف فيه درويش نضاله من أجل الإنتقال تحت القصف من صالون البيت إلى المطبخ لصنع فنجان قهوة، وكيف تحوّل غلي القهوة إلى طقس إنساني فريد واستثنائي.
* * *
وإذا كان مشروع محمود درويش الشعري هو مشروع تراجيدي في الجوهر، لأنّ «وعي الفلسطيني بالتراجيديا عالٍ بدرجة تكفي لكي يتماهى مع أي تراجيديا منذ الإغريق وحتى الآن» حسب تعبيره، فإن الملحمية الغنائية هي السمة المركزية في هذا المشروع. لقد حاول «إطلاق اللغة الشعرية في أفق ملحمي يكون فيه التاريخ مسرحاً لمناطق شعرية فسيحة تتسع لتجوال غير محدود للشعوب والحضارات والثقافات، ولبحث عن عناصر الهوية الذاتية ضمن اختلاط وتصادم وتعايش الهويات»، كما يقول الشاعر عن نفسه.(1)
(1) نُشر هذا النصّ، بالفرنسية أولاً، في مختارات درويش الشعرية La terre nous est étroite، التي صدرت سنة 2000 عن دار النشر الفرنسية غاليمار، في سلسلتها الشعرية الشهيرة، باختيار الشاعر وترجمة الياس صنبر. وقد تمّ تحديث النصّ بما يتيح الإشارة إلى أعمال درويش الجديدة.
* * *
ترجمة: صبحي حديدي
ولد محمود درويش سنة 1941 في قرية «البروة» الفلسطينية، والتي دمّرها الاسرائيليون بعد ذلك بستة أعوام. ولقد سُجن مرّات عديدة وتعرّض لمضايقات السلطات الإسرائيلية أثناء عمله كمحرّر ومترجم في صحيفة الحزب الشيوعي الإسرائيلي «راكاح». وحين وصل إلى بيروت في مطلع السبعينيات، كانت شهرته كشاعر لامع ـ والشاعر الأكثر موهبة بين مجايليه في العالم العربي دون ريب ـ قد تأسّست أصلاً. وسرعان ما التحق بصفوف منظمة التحرير الفلسطينية، وبات شاعر فلسطين الوطني الأول غير الرسمي. لكنّه، في الآن ذاته، حافظ على صلة وثيقة مع المجتمع الإسرائيلي والثقافة الإسرائيلية، وكان واحداً بين قلّة من العرب الذين يعرفون ويتذوقون الشعراء العبريين الكبار، من أمثال بياليك.
بعد عام 1982 انخرط درويش في حالة النفي المتجوّل، فعاش في عواصم عربية مثل القاهرة وتونس قبل أن يستقرّ في باريس حيث يقيم اليوم (1). ولأنّه رجل على قدر من الذكاء الرائع الحقّ، فقد لعب دوراً سياسياً هامّاً في منظمة التحرير الفلسطينية (على مضض دائماً). وطيلة عقد كامل على الأقل، كان شديد القرب من ياسر عرفات كمستشار أولاً، ثم كعضو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير بدءاً بالعام 1978. لكنّه لم ينتم إلى أي حزب سياسي، وكانت سخريته اللاذعة، واستقلاله السياسي الشرس، وحساسيته الثقافية ذات الصفاء الإستثنائي كفيلة جميعها بإبقائه على مسافة من الخشونة المألوفة في السياسة الفلسطينية والعربية. وسمعته الهائلة كشاعر جعلته يمتلك قيمة سياسية لا تُثمّن، ومعرفته الوثيقة بالحياة والمجتمع في اسرائيل أسدت النفع الكبير لقيادة منظمة التحرير. لكن قلقه حيال العمل السياسي المنظّم لم يفارقه على الدوام، وتنامى في أواخر الثمانينيات على نحو محدد.
في الآن ذاته كانت رؤيته للسياسة تراجيدية وسويفتية (2)، ولم يكن من المدهش أنه استقال من عضوية اللجنة التنفيذية احتجاجاً على توقيع «إعلان المبادىء» مع اسرائيل في خريف العام 1993. وملاحظاته الحادّة في هذا الصدد تسرّبت إلى الصحافة ونُشرت على نطاق واسع في العالم العربي وإسرائيل.
في عام 1974 التقيت بمحمود درويش للمرّة الأولى، وبتنا أصدقاء مقرّبين منذ ذلك الحين. وهو رئيس تحرير «الكرمل»، الفصلية الأدبية والفكرية التي تطبع في قبرص، والتي نشرت العديد من مقالاتي. لكننا لا نلتقي إلاّ لماماً، ونتواصل عبر الهاتف في معظم الأحيان. ودرويش يقرأ بالإنكليزية والفرنسية، ولكنه ليس طليقاً في أيّ من اللغتين رغم إقامته في فرنسا طيلة عقد كامل. والأمر راجع إلى أن وسطه الوجداني والجمالي يظلّ عربياً، وإسرائيلياً بدرجة أقل (لأسباب واضحة). ورغم سخريته اللاذعة وحقيقة أنه يقيم بعيداً عن فلسطين وإسرائيل، فإن له حضوراً طاغياً في حياة الشعبَيْن معاً.
جمهوره عريض واسع في العالم العربي (في عام 1977 كانت كتبه قد باعت أكثر من مليون نسخة)، ليس في أوساط الفلسطينيين فحسب، وعلى الرغم من أنه أبعد ما يكون عن النموذج الشعبوي. وهو مقروء ولافت للإنتباه على نطاق واسع في اسرائيل، بسبب اقترانه الطويل باللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. وإحدى قصائده، التي عبّرت عن رأي حاد وساخط ضدّ إسرائيل، تسبّبت في اندلاع نقاش داخل الكنيست (3)، بحيث تبيّن أن نبرته ذات وَقْع بالغ القوّة والتأثير على جمهوره الآخر. ولم يسبق لأية شخصية أدبية فلسطينية أخرى أن امتلكت تأثيراً مشابهاً، ولا يُستثنى من ذلك الروائي إميل حبيبي الذي فاز بجائزة اسرائيل عام 1992 وأدانه درويش بسبب قبولها.
عند درويش يدخل الخاصّ والعامّ في علاقة قلقة دائمة، حيث تكون قوّة وجموح الأوّل غير متلائمة مع اختبارات الصواب السياسي، والسياسة التي يقتضيها الثاني. ولأنه الكاتب الحريص والمعلّم الماهر، فإن درويش شاعر أدائي من طراز رفيع، ومن نمط لا نجد له في الغرب سوى عدد محدود من النظائر. وهو يمتلك أسلوباً ناريّاً، لكنّه أيضاً أسلوب أليف على نحو غريب، مصمّم لإحداث استجابة فورية عند جمهور حيّ. قلّة قليلة من الشعراء الغربيين ـ من أمثال ييتس Yeats وولكوت Walcott وغنسبرغ Ginsberg ـ امتلكوا ذلك المزيج النادر الآسر الذي يجمع بين الأسلوب السحري التعويذي الموجّه للجماعة، وبين المشاعر الذاتية العميقة المصاغة بلغة أخّاذة لا تُقاوم. ودرويش، مثل أقرانه الغربيين القلّة، فنّان تقني مدهش يستخدم التراث العروضي العربي الفنّي والفريد بطرق تجديدية وجديدة على الدوام. ذلك يتيح له أن ينجز أمراً بالغ النُدرة في الشعر العربي الحديث: براعة أسلوبية فائقة وفذّة، ممتزجة بحسّ بالعبارة الشعرية يجعلها أشبه بالمنحوتة بإزميل، بسيطة في نهاية الأمر لأنها بالغة الصفاء.
قصيدة «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، المترجمة في هذا العدد، كُتبت ونُشرت في عام 1992. ولقد انبثقت من سياق مناسبات متباعدة: الذكرى الـ 500 للعام 1492 [سقوط غرناطة، ورحلة كولومبس إلى أمريكا]، سفر درويش إلى إسبانيا للمرّة الأولى، وأخيراً قرار منظمة التحرير الإشتراك في عملية السلام تحت رعاية روسية ـ أمريكية وانعقاد مؤتمر مدريد في تشرين الأول (أكتوبر) 1991. والقصيدة نُشرت أولاً في صحيفة «القدس العربي»، اليومية الفلسطينية التي تُحرّر وتُطبع في لندن.
والحقّ أن هذه المقطوعات الشعرية تنطوي على نغمة الكلل وهبوط الروح والتسليم بالقدر، والتي تلتقط ـ عند العديد من الفلسطينيين ـ مؤشّر الانحدار في أقدار فلسطين التي، مثل الأندلس، هبطت من ذروة ثقافية كبرى إلى حضيض فظيع من الفقد، على صعيد الواقعة والإستعارة معاً.
ودرويش يقتبس العبارة الأولى [أحد غشر كوكباً] من سورة يوسف في القرآن الكريم: «إذْ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين». ويطالبه أبوه بألاّ يقصص رؤياه على أحد من أخوته لكي لا يؤذوه بسبب ما وهبه الله من قدرة على الرؤيا. ثم يعلم يوسف أنّ الله اختاره لتأويل الأحداث، الأمر الذي يعني منحه قوى النبوّة المباركة. وهكذا يتولّى الراوي في قصيدة درويش مزايا ومخاطر القدرة على رؤية ما لا يراه الآخرون، وهو هنا معنى سقوط الأندلس بالنسبة إلى الفلسطينيين وقيادتهم على وجه الخصوص. ومن المذهل أن درويش يتنبأ ـ فعلياً ـ بأحداث العام التالي، حين وقّعت اسرائيل ومنظمة التحرير إعلان المباديء في أيلول (سبتمبر) 1993.
لكنّ ما يمنح القصيدة تجانسها الفنّي ليس طبيعة موضوعها بقدر وجهة توسيعها للطَوْر الأكثر راهنية في شعر درويش، نحو مواقف جديدة وتصوير جديد، الأمر الذي تلتقط هذه الترجمة الممتازة قدراً كبيراً منه.
ومنذ أن غادر درويش بيروت عام 1982، وموضوعات شعره الرئيسية لا تدور حول مكان وزمان النهاية (حيث الإشارة الملحّة المتكرّرة إلى مختلف المنافي الفلسطينية) فحسب، بل حول ما سيحدث بعد النهاية، وهيئة العيش عبر زمان المرء ومكانه، وكيف يصبح اللقاء بعد الخاتمة موقفاً منفرداً وإكزوتيكياً دون ريب، يقتصر على الشاعر وشعبه. وفي عام 1984 كتب يقول: «تضيق بنا الأرض، تحشرنا في الممرّ الأخير»، وتابع:
.. ورأينا وجوه الذين سيرمون أطفالنا
من نوافذ هذا الفضاء الأخير، مرايا سيصقلها نجمنا.
إلى أين نذهب بعد الحدود الأخيرة؟ أين تطير
العصافير بعد السماء الأخيرة؟
وفي «أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي»، لم تعد الأرض والأعداء وراء التحكّم بالقضية وحشر الشعب نحو النهاية. الآن جاء دور الـ «نحن» والقَدَر، كما يتمثّل في سقوط غرناطة عام 1492، وهنا المسؤولية. والشعر اليوم يستبدل التاريخ كموقع للحدث، تماماً كما في قصيدة والاس ستيفنز Stevens «عن الوجود الصرف»:
النخلة عند نهاية الروح،
وراء الفكرة الأخيرة، تنهض
في المسافة البرونزية
مثل طير ذهبي الجناحين...
لكن انسحاب درويش في هذه القصيدة ليس شبيهاً بانسحاب ستيفنز في الأبيات السابقة، أو ييتس في «الإبحار صوب بيزنطة». الشعر عند محمود درويش لا يقتصر على تأمين أداة للوصول إلى رؤية غير عادية، أو إلى كوْن قصيّ من نظام مُتعارف عليه، بل هو تلاحم عسير للشعر وللذاكرة الجمعية، ولضغط كلّ منهما على الآخر. والمفارقة تتعمّق على نحو لا يُحتمل حين تُناط خصوصية الحلم بواقع فاسد مهدد، أو تتمّ إعادة إنتاجها بفعل ذلك الواقع تحديداً، مثلما يحدث في القسم الحادي عشر من القصيدة، حين ينهار الجدل القلق بفعل تكرار كلمة «كمنجات»، دون أن يُحلّ التلاحم أو يُرتقى به.
هذه السمة المشدودة; أو المعلّقة عن سابق عمد في شعر درويش الراهن، تجعل من ذلك الشعر نموذجاً على ما أسماه أدورنو Adorno بـ «الأسلوب المتطاول»، حيث التقليدي والأثيري السماوي، التاريخي والجمالي المرتقي، تمتزج جميعها لتقديم حسّ ملموس بالغ بما يجري وراء أمر لم يسبق لأحد أن عاشه في الواقع الفعلي.
* * *
أزمة موضوع الدراسات الأدبية، وفكرة الأدب ومقاربته كما تطرحها النظرية الأدبية الحديثة، هي أزمة مفارقة تناقضية في إمكاناتها ومؤثراتها (1). الأدب يُزاح ويُجزّأ ويُنتزع من أيّ جوهر هوية منفصل (فتَزيغُ الحدود هنا بين الخطابَيْن الأدبي وغير الأدبي)، ويجري إغراق الأدب أكثر فأكثر في النَصّية («ما من هويّة بذاتها لأية كتابة» كما يجزم جاك دريدا)، ويُردّ الأدب داخل تلك النَصّية ذاتها الى جنون الكلمات («المرء أبعد ما يكون عن القراءة حين يمسك بالنص في موضع معيّن، في استخراج أطروحة ما، معنى ما أو حقيقة»، دريدا أيضاً). وذلك الاستبدال، وتلك العودة إلى النصّانية والقراءات البلاغية، توجد جميعها في ترابط وثيق مع ضغوطات كبرى على الموضوع وعلى الأدب: ضغوطات من وسائل الإعلام والشبكات الإخبارية؛ ومن التمييع الثقافي للمعنى؛ ومن الفروقات المثارة حول أية هويّة، وحول الهوية الوطنية أساساً. (...)
ومسألة تمثيل Representation الأدب تعيدنا إلى ذلك التمثيل الذي يجمع المشكلات معاً، بنهاياتها الفضفاضة وفروقاتها وكسورها ومآزقها. وإذا كان ثمة ما نطلق عليه اليوم اسم «الأدب»، بمعنى أغراضه، فهو كتابة وقراءة الصراع من أجل التمثيل، وفهم ذلك على أنه استكشاف للاختلاف والتشابه، وللتعبير عن الهويّات الاجتماعية ـ التاريخية وتناقضاتها، وهو تدقيق ونقد وصياغة تعابير التمثيل ذاته: لغته، نظامه، علاماته. والأدب بذلك، وفي هذا الإدراك لواقعه، هو حالة إفراط. إفراط لجهة الهويّة على سبيل المثال، مثلما لمساءَلة الهوية، للّغة في موضعها مثلما للّغة في اشتغالها، وللعمل مثلما للنص.
حالة من هذا النوع أشارت إليها توني موريسون (2) في عرضها لوضعية الكاتبة السوداء وعلاقتها مع تراث الرواية كجنس حكائي، والشكل الذي ينفتح في سيرورة انكشاف تفكيكي ـ حواري Deconstructive-Dialogic لطُرُز الهويّة والشكل، تلك التي تتأكد في الوقت ذاته ضمن عمليات التصريح بالهوية والمطالبة بها. أو هي أيضاً، وبصورة مختلفة، حالة قصيدة «عابرون في كلام عابر» للشاعر الفلسطيني محمود درويش، التي تنطق بمطمح إنهاء الإحتلال الإسرائيلي وإقامة فلسطين المستقلة، وتعبّر بقوّة عن أحاسيس وتجارب أمّة ووطن، وتفعل ذلك في القصيدة بوصفها قصيدة أوّلاً. بدورها «كلمات عابرة» تنقل وتحوّل التمثيل المُعطى، متحركة ضمن حالة تبادل من الـ «نحن» والـ «أنتم»، وتترك الأشياء على قلق. إنها تكتب تاريخاً مختلفاً في الحقيقة، ولكنها تكتب ذلك على وجه التحديد: تكتب تاريخاً للحاضر.
وقصيدة درويش تذكرة دراماتيكية بحقيقة الفعل الرمزي بوصفه فعلاً، كما تذكّر بحقيقة الأدب داخل العالم. في ذروة الإنتفاضة، «ثورة الحجارة»، تصبح القصيدة موضوع نقاش في الكنيست، وتستفزّ حالة واسعة من فعل القراءة وتأزّم التمثيل. إنها تذكرة دراماتيكية، وحقيقة عامة: النضال في سبيل التمثيل مسألة أدبية وسياسية معاً، وهذا لا يعني دمج الإثنين في مكوِّن واحد لـ «اختزال» الأدب إلى سياسة كما يُقال، بقدر ما يعني تأكيد التمثيل على وجه الدقة. المسألة بالتالي تتصل بالأدب فعلياً، بقوّة النتاج ليس ضمن أُطُر الحدود القديمة أو الجديدة ـ القديمة للنصّ أو النصّانية، وليس ضمن أيّ مجال تخصّصي منفصل أو معرفة شاملة كاملة باللغة، التي هي في واقع الأمر نظرية قصوى.
«مقاومة النظرية هي... مقاومة القراءة»، هكذا يعلّق بول دي مان وهو يسعى إلى توصيف النظرية كحالة خاصة لصيقة بالمعرفة الأدبية والنصية. «إن من واجب الناقد أن يؤمّن أشكال المقاومة للنظرية»، هكذا يردّ إدوارد سعيد وهو يسعى لتوصيف النظرية كشكل تجريدي من خصوصية السيرورة التاريخية. الأدب ينتج نوع الأفعال والعلائق التي يحتاج الإنتباه التمثيلي إلى التركيز عليها الآن، وحيث يجري إدراك مسائل الإيديولوجيا والقيمة، والصراع من أجل التمثيل في عملية الكتابة ـ القراءة التي هي جوهر الأدب. والصراع اليوم، في ميدان تقييم الأدب، ملزَم سياسياً باجتراح أشكال جديدة تنطوي على الانخراط بدل الإنابة، وتعتمد على تآلفات إنسانية ذات مغزى أكثر من اعتمادها على أغلبيات مسجلة.
ترجمة: ص. ح.
* * *
كأنّ إرادة تراجيدية غاشمة، أشبه بعاصفة عاتية عمياء، أخذت في الآونة الأخيرة تقوده عنوة إلى قَدَرَيْن لا ثالث لهما: إمّا أن يسير إلى الموت بقدميه، ساعياً إلى ملكوته، طامعاً في هزيمته للمرّة الثالثة (بعد موتَيْن سريريين، سنة 1984 وسنة 1998)؛ أو أن ينتظر ـ مكتوف اليدين، متعب القلب، واهن الشرايين ـ مجيء الموت إليه، ساعة تشاء الإرادة الغاشمة. كانت هذه حال محمود درويش وهو يقلّب الأمرين، والأمرّين، مع نفسه أوّلاً، ثمّ مع أطبائه ثانياً، ولكن مع أصدقائه أيضاً، حتى مَن كان بينهم لا يميّز بين البطين الأيسر والشريان الأبهر. أمّا قلب الشاعر، العاكف على أكثر من مخطوط شعري قيد الإنجاز، فقد كان يتقلّب على نار غير هادئة أبداً.
فريق أوّل من الأطباء اعتبر أنّ درويش، بعد أن توسّع قطر الأبهر عنده إلى أكثر من 6,5، صار مثل رجل يحمل في قلبه لغماً قابلاً للإنفجار في أية لحظة، في أيّ يوم أو أسبوع أو شهر، ولا مناص بالتالي من جراحة دقيقة لتبديل الأجزاء من الشريان. فريق آخر، على رأسه ذلك الجرّاح الفرنسي العجوز المعلّم الذي كان وراء المآل السعيد لمحنة 1998، كان شديد التحذير من مخاطر العمل الجراحي، وكان يتوجس خيفة من المضاعفات الخطيرة التي قد تطرأ دون حسبان، ودونما قدرة كافية على ضبطها، حتى بعد نجاح العملية.
والحال أنّ درويش استقرّ على الخيار الأوّل، وبعد ظهيرة 6 آب (أغسطس) الجاري كان قلبه قد أنجز نصف انتصار بعد نجاح الجراحة، وتوجّب أن يكتمل الإنتصار ـ الثالث، على امتداد ربع قرن ـ عندما يغادر الشاعر غرفة العناية الفائقة، بشريان أبهر متجدد. تبادلنا زفّ البشرى، نحن حفنة أصدقائه ممّن تحتّم علينا أن نقبض على جمرة السرّ في ما جرى ويجري في مشفى "ميموريال هيرمان" في هيوستون، تكساس، فكانت الدقائق تحرقنا قبل أن نحرقها. ثمّ تعاقبت الأنباء الصاعقة، جلطة خلف أخرى، وانهياراً بعد آخر، واضمحلالاً لفسحة الأمل الضئيلة مقابل تضخّم السؤال القاتل: هل غادرنا، حقاً، مرّة وإلى الأبد؟ وهل انقطعت، نهائياً، مشروعاته الشعرية التي تضاعفت في السنوات القليلة الماضية، وتزاحمت: غزيرة في الكمّ، دائبة التجديد في الكيف، تأسيسية بقدر ما هي تراكمية، تنشقّ عمّا قبلها دون أن تقطع معه أو تنقطع عنه، مدهشة في استفزازنا بقدر مصالحتنا؟ وهل كانت تلك الأخيرة، قبل أن يطير صباحاً إلى هيوستون، ختام لياليه الباريسية حقاً؟ آخر عشاء، وآخر نبيذ، وآخر فنجان قهوة، وآخر نكتة، وآخر مخطوطة، وآخر مصافحة؟
بعد أن تأكد نبأ رحيله، خرجت أسير على غير هدى كحاطب ليل، أصارع إغواء استرجاع تفاصيل تلك البرهة من خريف 1976، حين تعرّفت عليه للمرّة الأولى، في بيت متواضع لصديق مشترك كان يسكن مخيّم اليرموك بدمشق. هل تلاشت التفاصيل لأني أستثقل اليوم ما كنت قد وجدت كلّ السراح في قوله آنذاك: أنّ مشروع محمود درويش الشعري ينبغي أن يكون أعلى، لأنه أرفع وأغنى وأكثر وعداً، من أن يؤسر في تسمية واحدة، ملتبسة، هي "شعر المقاومة"؟ كان ذلك الطرح أقرب إلى الهرطقة آنذاك، وكان في الحدّ الأدنى استفزازياً لشاعر المقاومة الأجمل، النجم اللامع المدلل النزق السابح في الأضواء.
وكنت أحسب الرأي ذاك فاتحة خصومة أبدية، حتى العام 1988 حين التقيت بالراحل في باريس، فأدركت أنّ العكس كان هو الصحيح: لم يجد الإستفزاز وقعاً حسناً في نفسه فحسب، بل لقد استطابه لأنه أصلاً كان محور تفكيره في تلك السنوات التي كانت حبلى بأكثر من محمود درويش واحد: قلق في موضوعاته وأشكاله وأدواته، عارم التوق إلى التحديث، عازف أكثر فأكثر عن ذلك "الحبّ القاسي" الذي ناشدنا أن نقلع عنه في تثمين شعره خاصة، و"شعر المقاومة عامة. كذلك أدركت، وبرهنت السنوات المتعاقبة، أنّ ذلك اللقاء الأوّل كان عتبة صداقة كبرى، في ما يخصّني على الأقلّ، سوف تتجاوز بكثير صلة الناقد بالمبدع، بل لعلّ هذه الأخيرة كانت في نهاية المطاف آخر مشاغلنا. وهكذا فإنني، في فقده اليوم، لا أخسر فقط شاعراً كبيراً كنت وأظلّ أعتبره أعلى ذروة بلغها الشعر العربي في العقود الثلاثة الأخيرة، وأحد أكبر شعراء الإنسانية المعاصرة، بل أخسر كذلك صديقاً كبيراً، وأخاً قريباً لم تلده أمّي.
وإذا كانت واقعة مخيّم اليرموك قد راوغت ذاكرتي، فإني في المقابل لم أفشل في استرجاع تفاصيل تلك البرهة الباريسية الأخيرة، حين كنت أودّعه على باب فندق الـ "ماديسون" في حيّ الـ "سان جيرمان"، صحبة أكرم هنية، رئيس تحرير صحيفة "الأيام" الفلسطينية ورفيقه في الرحلة إلى هيوستون. ذكّرته بأمر يجب أن يستكمله عند مروره في باريس عائداً إلى عمّان، فأجابني بابتسامة غامضة: "هذا إذا رجعنا"! وأعترف، هنا، أنني تعاملت مع إجابته بخفّة المطمئن، لأني كنت على ثقة مطلقة بأنه عائد، أكثر عافية وحيوية؛ وكان حرياً بي أن أتلمّس ما انطوت عليه نبرته من نيّة في اعتماد الخيار القدري الأوّل: أن يسير إلى الموت بقدميه، مردّداً تلك الفاتحة الشهيرة من إحدى أجمل قصائده: "نحبّ الحياة/ إذا ما استطعنا إليها سبيلا".
وبين استفاقة من تخدير ودخول في غيبوبة، خلال تلك الساعات المتثاقلة التي أعقبت نجاح العملية وانهيار جسده وظيفة بعد أخرى، هل أسعفه اللسان لكي يوصي، مجدداً وبحزم، أن يكون الجليل مثواه الأخير والوحيد؟ وهل امتلك من اليقظة ما يكفي لكي يتلو ذلك المقطع الختامي من قصيدة "جدارية"، مطوّلته العبقرية التي كانت ثمرة محاورة الموت سنة 1998:
"أمّا أنا ـ وقد امتلأتُ
بكلّ أسباب الرحيل ـ
فلستُ لي
أنا لست لي
أنا لست لي...".
* * *
لندن ـ القدس العربي ـ من حسام الدين محمد مات محمود درويش.
اغمض عينيه الجميلتين ومش في غمامته البيضاء.
مات عاشق الحياة الكبير لأنه لم يرد ان يجلس منتظرا الموت.
ااعرف ان الزمان لا يحالفني مرتينب قال ذات قصيدة. لكن الزمان حالفه مرتين فأراد ان يلعب النرد معه للمرة الثالثة فغلبه.
اهل يموت الشاعر؟ب مرّرت هذا السؤال اليه بعد عمليته الاول وكنا مجتمعين في استديو االام بي سيب بلندن فحدّثنا عن لون الموت الابيض والغمامة التي دخل فيها وغف.
كتب درويش عن ميتات اصدقائه كما لم يكتب احد وسألهم ان لا يموتوا وان ينتظروا سنة واحدة فقط: اسنة اخر فقط تكفي لكي اعشق عشرين امرأة وثلاثين مدينةب.
شهداء فلسطين الكبار كانوا احبابه وكتب اجمل قصائده فيهم من راشد حسين ال ماجد ابو شرار وعز الدين القلق ومعين بسيسو... وصولا للشهداء المجهولين. كانت القصائد ايقافا للموت وحراسة للحياة والا كيف نفهم قصيدته في الشاعر العراقي سعدي يوسف (أطال الله عمره): اأعد لأرثيك عشرين عاما من الشعرب غير كونها تعويذة من شاعر لصديق له ضد الموت؟ االموت ضرب من الغدرب قال مرة في رثاء له لحمادي الصيد وكونه لاعب الموت وتهرب منه مرتين فقد قال عنه: اأما الموت فلا شيء يهينه كالغدر: اختصاصه المجرّبب.
هل طلب محمود اسنة اخر فقطب في حجرة العمليات التي أقلّته ال موعده كما قال في كتابه افي حضرة الغيابب: افلأذهب ال موعدي فور عثوري عل قبر لا ينازعني عليه احد من اسلافيب.
هل ارأ ما أراد من البحرب في اهبوب النوارس عند الغروبب؟ مات كاتب الملحمة الفلسطينية الاكبر التي رافقته منذ تهجيره من قريته في شمال فلسطين وعودته اليها ثم اوديسته الطويلة بين البلدان والعواصم.
مات اكثر الشعراء العرب اصالة ولا اعرف ان كان النقاد لاحظوا خط الديمومة في الشعر العربي من امرء القيس مرورا بالمتنبي ووصولا اليه.
مات شاعر الحداثة الكبير الذي كانت الحداثة بالنسبة اليه علاقة باللغة والارض والواقع والعالم ولم تكن بحثا عدميا عن اللامعن والانقطاع في الصيرورة الأصيلة للمكان والزمان والناس: اان نكون عبثيين او لاعبين او ساخرين لا ان نرد عل اللامعن بلامعنب قال مرة في حوار معه.
لعل اهم مزايا محمود درويش في اعتقادي انه استطاع ابتداع المعادلة الاعجازية لشعر عميق وعظيم ومليء بالفذاذة الفلسفية والسخرية السوداء والنحت الرائع عل اللغة في الوقت الذي كان قادرا دائما عل الوصول للجمهور العام للشعر. كانت امسيات محمود درويش الشعرية مناسبات عامة ترسل كما لو كانت طاقة كهربائية عالية مسّا روحيا عاليا لم تكن لتجده الا عند الشعراء ذوي القامات الكبر في التاريخ.
ولأنه شاعر كبير وذو رؤيا فقد شاهد موته في قصيدته الاعب النردب التي نشرها في االقدس العربيب قبل أسبوع فقال: مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم ؟ مَنْ أنا ؟ مَنْ أنا ؟ لم يخيّب الشاعر فم الفناء الفاغر لكن جسده اخل المكان لشعره الذي سيفتح الآن صفحة حياته الخاصة التي لا يمكن للعدم ان يطالها.
االقدس العربيب كانت عل علاقة شديدة الخصوصية بالشاعر الراحل الذي اهداها الكثير من اجمل قصائده. ها هنا شهادات لمثقفين عرب في رحيله:
الكثيرون سيتذكرون ضحكاته ودموعه المتأثرة بتكريمه في كثير من العواصم العربية
11/08/2008
صنعاء ـ الرباط ـ القدس العربي من خالد حمادي والطاهر الطويل
سيظل بيننا ما بقيت الكلمة وبقي الشعر عبد العزيز المقالح (شاعر من اليمن) بداية أعتقد أن غياب الشاعر العربي الكبير محمود درويش، لم يكن خسارة للشعر العربي فحسب، بل كان كذلك خسارة للشعر الإنساني كله، فقد كان محمود شاعرا عربيا إنسانيا في شعره وفي مواقفه. وعظمة هذا الشاعر الكبير تتجلى في أنه كان شاعرا بكل ما في الكلمة من معان إبداعية وأخلاقية، فقد كان شاعرا في سلوكه وفي طريقة تعامله، قبل أن يكون شاعرا في كتابة القصيدة في أرقى مستوياتها، موقفا وفنا. لم يحاول محمود في أي يوم من الأيام، أن يخوض فيما خاض فيه الآخرون، من خلافات وافتعال لمعارك وهمية، لذلك فقد احتفظ بمكانته في القلوب، شاعرا وإنسانا، واستطاع أن يكون مدرسة قائمة بذاتها في حياتنا الأدبية. عرفته في بداية السبعينيات، واستمرت علاقتي الحميمة به حتى الآن. كان دائم السؤال عن أصدقائه، أكثر مما يسألون عنه، لا يكف عن مهاتفتهم والسؤال عن أحوالهم، وتلك ميزة نادرة من الكبار.
لم يمت محمود وإنما ماتت همومه وآلامه التي تصاعدت في الآونة الأخيرة، جراء ما يحدث بين الأهل من اقتتال لا مبرر له سوى الجري المحموم وراء سلطة موهومة، ووعود تتبخر كالدخان في الهواء أو كالسراب في الصحراء. محمود أيها الشاعر الإنسان سلام عليك، وستظل بيننا وفي حياة أمتك ما بقيت الكلمة وبقي الشعر. زيتونة المنفى حاتم الصكر (كاتب من العراق يقيم في اليمن) زيتونة المنفى واحد من أسماء محمود درويش التي أطلقت على الشاعر الحي بين الولادة والموت كما أراد قاطعا مسافة المابين بين وهو عنوان الكتاب الذي أصدرته حلقة مهرجان جرش في إحدى دوراتها النقدية مكرسا للدراسات التي تناولته.
بين الزيتونة والمنفى يتمدد درويش الذي لا يرى نفسه ممكنا بلا منفاه كالمنتظرين برابرة قادمين ضروريين للإفاقة، وفي تدقيق هوية ادوارد سعيد ومرثيته يتحدث عن عالم منشطر بين الهنا والهناك ولسانين لم يعد يدري بأيهما يحلم.
وذلك هو درويش في تفاعلاته الحياتية كلها منشطرا بين مزاج حاد وطرافة دامعة، بين كفاح حقيقي واستراحة هانئة، حب وصراع، أسى وفرح، تحديث والتزام، استطراد ووزنية، لكن من له في هذا الكون الشعري الفسيح لغة درويش وتوليده الصور من كل ما حوله، وكيف يؤاخي الصورة والفكرة والعاطفة والواجب والحرية والوطن في قصيدة يقولها حرة إلا من وجوده الإنساني الذي جعله سفير قضية وطنه بأفضل مما فعل السياسيون وشعاراتهم وكسب لصف حرية وطنه وعرض حقيقة احتلاله وعنصرية محتليه ما جعل رؤياه رؤية العرب المغلوبين على حرياتهم والأحرار في العالم المنحدر تراجعيا صوب الغابة والتسلط بعصي الأقوياء المطورة.
ولمحمود درويش مع الموت وشيجة لم تجعله يتلقاه كواقعة مفاجئة بل هذا هو في آخر نصوصه المنشورة ( لاعب النرد) يرمزه ويداعبه كعهده حين يسأله أن يتمهل وينتظر حتى يعد الحقيبة أو يرصد موته السريري المؤقت في عملية القلب المفتوح الأولى ويشكل من الموت تجربة فريدة لم تتهيأ لكثير من الشعراء الذين كتبوا استباقا عن موتهم بل هو يصنع معراجا روحيا سماويا يلاقي فيه الشعراء والفلاسفة هائمين في سديم الأبدية متحولا بدوره (ذرة في العالم العلوي) صانعا جدارية تؤاخي الفن بالشعر كما يؤاخي هو الفكر والنغم ويحفظ للنثر رونقه داخل النص ويقول عنه: (أحب من الشعر عفوية النثر والصورة الخافية/ بلا قمر للبلاغة).
من سوى محمود درويش ينزل الشعر لقارئ أعزل يتصفح كتابا من نور وامرأة عاشقة تصفدها العيون، وغزال وحيد في برية الروح، وطفل منتظر عودة الأب في قصيدة، ومنفي بلا غد سوى السراب؟ ربما لن يتكرر صوت درويش في تاريخ الشعرية العربية لا بموته الدراماتيكي شأن رعيل الشعراء العرب الذين مستهم لعنة الحداثة وغادروا الحياة غاضبين عجلين فحسب، بل ببصمته الفريدة في مدونات المتن الشعري الذي وهبه محمود درويش للقصيدة وفضائها الصوري ولغتها المتفاعلة بالجمال والفن، رغم ثقل الصليب الفلسطيني الذي حمله ماشيا طيلة حياته وفكر قليلا كي يستريح فجاءه نداء القلب الذي تعب من الحياة وتدبر أمره ماكرا بنا في ذلك اليوم الصيفي المشؤوم.
كثير من جراحنا تفتحت على ألمها الكامن حين نعت الأنباء محمود درويش وكثيرون هرعوا إلى صورهم في الذاكرة أو المخيلة عن زيتونة جميلة خضراء لكنها غريبة في تربة المنفى، وكثيرون استعادوا صورة يوسف الجميل آخر الأخوة في جب التجربة وكثيرون سيسمعون كما أسمع الآن ضحكاته في بهو الفندق بالقاهرة قبل أكثر من عام في مهرجان الشعر العربي الذي نال جائزته ويتذكرون دموعه المتأثرة في مشهد تكريمه المتكرر في أكثر من عاصمة، كما بكى المدن الضائعة في شعره وصنع لها جغرافية جديدة في الضمير ..شعره الذي هو واحد من تجليات حضوره الأبدي في قلب الغياب.
صداقة عميقة
ثريا جبران
(فنانة مغربية)
فضلت ثريا جبران (وزيرة الثقافة المغربية) أن تقدم شهادتها كفنانة مسرحية، إذ قالت وهي تقاوم حالة التأثر الكبيرة وبكاءها الذي كان يصل مراسل االقدس العربيب عبر الهاتف: اعلاقتي بمحمود درويش تعود إلى أوائل السبعينيات، حيث كنا مجموعة من طلبة معهد المسرح في الدار البيضاء نقدم عروضا مستلهمة من أشعار درويش، تحت إشراف الفنان الأستاذ فريد بنمبارك، ونقوم بها بجولة عبر عدد من الجامعات المغربية. وخلال السنوات الأخيرة كان كلما أتى محمود درويش إلى المغرب حرصت على تقديم لقاءاته على خشبة المسرح، مما قوى من صداقتنا العميقة، بحيث كان يشرفني بالحضور إلى بيتي.
وقبل ثلاثة أشهر جمعني به لقاء رائع على مائدة عشاء في الأردن؛ ضحكنا كثيرا، وتأكد لي أنه مفعم بالأمل وبالإقبال على الحياة بشكل سام وراق. هذا اللقاء سيظل راسخا في ذاكرتي ما حييت.
كنا ننتظر مجيئه إلى المغرب في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل لنحتفي به وبكتاباته ولكن ربنا أخذه بعدما أعطاه لنا. وسيظل دائما حاضرا في وجداننا.
عُرف عن درويش مواقفه الصلبة التي لا تتغير. كان شعره يضيء أيامنا الحالكة. وكلنا أحب شعره، كلنا اعتبره أكبر رمز للقضية الفلسطينية وللقضايا العربية القومية. ومن هنا، فرحيله خسارة كبرى لن تعوض للوطن وللأمة وللقضية.
أعزي بهذه المناسبة كل مثقفي ومفكري الوطن العربي، وأعزي عائلته في رام الله والأردن.ب
القاء خاص
عبد الحميد عقار
(رئيس اتحاد كتاب المغرب)
وفاة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش ـ ذي الصيت العربي والعالمي اللافت والمؤثر ـ تمثل خسارة كبرى للمشهد الشعري والنثري عربيا وإنسانيا. فقد كان درويش واحدا من أبرز شعراء هذا العصر، في شعره تنصهر وتتلاقح غنائية عميقة متحررة من الرخاوة ومن البكائية، وذلك في رمزية مثقفة ذات عمق كبير. كما كان في إبداعه الشعري والنثري يمتلك قدرة خاصة على الاشتغال على النبرة الساخرة.
لقد ملأ بشعره فراغات الروح والوجدان لدى قرائه وقارئاته، وأشبع فضولهم الفكري والجمالي، بغنى الصور، بكثافة العبارة، بقوة الإيحاء، بتملكه الخاص ليس فقط للثقافة العربية برمزياتها، بل للثقافات الإنسانية في قيمها الإبداعية والفكرية. تميز محمود درويش، كذلك، بوصفه شاعرا، بإلقاء شعري خاص استرعى اهتمام المهتمين بالشعر، من غير الأدباء والشعراء. في هذا الإلقاء تتضافر الكلمات والعبارات والجمل بصور شعرية وبظلال المعنى، هذا المعنى الذي يشكل في شعره موضوع بحث واستقصاء وتطلع. لدرويش جانب آخر، هو نضاليته الثقافية والسياسية لصالح حرية الإنسان والإبداع. ومن خلال ذلك حرية الشاعر وحقه في الوجود.
كانت لدرويش علاقة خاصة بالمغرب منذ ثمانينيات القرن العشرين، حيث تعود المغاربة ممن يتذوقون الشعر على حضور أمسياته الشعرية والقوية والمعبرة والتي لا تكرر نفسها أبدا. مكانة درويش في المغرب وصلة المغاربة به عمقت من الارتباط الوجداني بهذا الشاعر وارتباطه هو بالبلد وأهله.
لذلك فالخسارة ـ كما قلت ـ كبيرة جدا. ولعل آثاره الشعرية العميقة وإبداعاته النثرية المميزة تخفف من هول هذا الرحيل المفجع وتسمح بهذا العزاء.
أجمل هدية لشعبه
عبد الرحمن طنكول
(الرئيس السابق لبيت الشعر في المغرب)
مما لا شك فيه أن موت الشاعر محمود درويش خلف أثرا قويا في نفوس كل المبدعين والشعراء والمثقفين سواء في عالمنا العربي أو على المستوى العالمي، نظرا للقيمة الشعرية المتميزة التي طبع بها هذا الشاعر المُنجَز الإبداعي مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين.
ويعتبر محمود درويش من مؤسسي القصيدة الحديثة الملتزمة، فقد استطاع أن يخرج بالقصيدة من القوانين الشعرية المعروفة خاصة تلك التي عرف بها الشعر الملتزم إبان الأربعينيات والخمسينيات، سواء في أفريقيا أو أوروبا، بحيث استطاع أن يضع القضية الفلسطينية في قلب الشعرية العالمية، مع الارتقاء بها إلى أعلى مدارج الإبداع، ما جعله يتبوأ مكانة خاصة في المشهد الشعري العالمي. فدرويش ارتبط شعرياً بالقضية الفلسطينية، لكن بإبداعية كبيرة، استطاع بها أن يعطي لهذا الشعر قوة جعلته يتسامى على مختلف الأجناس الأدبية، فالقصيدة عنده تأخذ تارة لونا نثريا، وتارة لونا رومانسيا أو سورياليا، وهذا ما جعله ينفرد بموقع داخل الخريطة الشعرية العالمية.
لم يؤثر محمود درويش في الشعر الفلسطيني والعربي والمغربي فقط، وإنما أيضا في الشعر العالمي، أينما حل وارتحل. كان يحمل وطنه في يده، ويحمل قصائده في قلبه، ليجعل منها فضاء للتلاقي والتلاقح بين مختلف أصوات الشعوب التواقة للحرية والانعتاق. وباختياره للغربة فإنه ـ في الحقيقة ـ اختار أن يعطي للشعب الفلسطيني والإبداع الفلسطيني موقعا على امتداد الكرة الأرضية، فكان بذلك أحسن سفير للنضال الفلسطيني، وهذا ما جعل المهتمين يترجمون شعره إلى مختلف اللغات.
لقد كان درويش محبوبا عند الشعراء والكتاب العالميين، وكان محط إعجاب عند السياسيين، لأنه لم يسجن قضية وطنه في شعارات مستهلكة أو مفاهيم دغمائية، بل جعل هذه القضية قضية إنسانية، واستطاع بذلك أن يخلدها في سجل من ذهب، من غير أية نزعة شوفينية، لأن حلمه الوحيد كان دائما هو أن يمنح للإنسانية قصيدة تعمق النظر في عتمات الآتي ومتاهات المجهول لتنير الطريق أمام الإنسانية.
ولا أريد أن أختم هذه الشهادة دون أن أشير ـ مرة أخرى ـ إلى التأثير الذي أحدثه درويش في القصيدة المغربية منذ الستينيات إلى اليوم. ومن غير أن نضفي أي طابع تقديسي على شعر درويش، فيمكن لأي متتبع أن يقول ببساطة إن اسم هذا الشاعر سيظل ملتصقا بحداثة الشعر العالمي. وهذا الأمر في حد ذاته يعتبر أجمل هدية قدمها لشعبه وللإنسانية. وموته بعيدا عن فلسطين، في بلاد الغربة والاغتراب، له دلالات رمزية ستحفر لمدة طويلة في ذاكرة الشعر الإنساني.
وإذا كان الشاعر الفرنسي أراغون قال إبان مقاومة الشعب الفرنسي للنازية: اافتحوا قلبي.. تجدوا فيه باريس'، فدرويش يقول لنا وهو فاتح قلبه: القد حملت فيه الإنسانية وجعلت منه موطنا لكل الغرباءب.
بعدك ثمة بكاء كثير
شوقي شفيق
(شاعر يمني)
برحيلك أيها الصديق الكبير يفقد مثلث الكبار الأخير أحد ضلوعه المهمين. مثلث الكبار الذي أقصده هنا هو مثلث: أدونيس ـ سعدي ـ درويش. هل أعزّي نفسي وأترابي من الغاوين إياك في اليمن، أم أعزّي العربية وشعراءها، أم أعزّي شعراء العالم بذهابك.
كم أنت كبير برحيلك! وكم نحن يتامى لفقدك! بوقت طويل ستعجز الكلمات عن توصيفك ووصفك. ولزمن طويل، طويل، ستعجز العربية عن تعويضك. لن ننساك بين فراشتين، ولن تسافر الغيوم كي ما تشردك بعد الآن، فأحمد العربي الذي كنته أو صنعت كينونته سيظل فينا رمزا للحياة كما ينبغي للفلسطيني أن يكون.
أنت لم تعد فلسطينيا؛ أنت صرت عالما في عالمنا، محيطا تتراكض إليه مياه بحارنا وبحور نصوصنا.
أيها المعلّم الأكبر، يا ساحرنا الذي علمنا ريتا وبندقيتها، والزعتر البلدي، والمزامير الأولى وتفاصيل البلاد.
أب في الشعرية العربية لا نعوضه ولا نستعيض عنه.
بعدك، ليست ثمة أغنية في البال، ليس ثمة كلام؛ ثمة بكاء كثير.
قرر أن يكون الأعلى
نبيلة الزبير
(شاعرة يمنية)
إذا كانت الكتابة أيا كان مجالها قهراً وتحدياً للموت فإن الشاعر العملاق محمود درويش قهر الموت بطاقة أو بإبداع ما يعادل عشرات الشعراء. بمعنى أنه لا خوف عليه من حادثة عابرة كهذه، وإن كانت حادثته اليومية الأخيرة، التي يطلق عليها اسم الموت.
هذا الهزيل الذي سخر منه مرارا وعطف عليه وناجاه وخاطبه، يكفيك أنه آخر الأمر قال له: تعال، ربما لم يكن يدعو صديقا، اسمه الموت لكنه على أية حال ليس العدو الذي اسمه الإعاقة، تكفيك هذه الشجاعة، في اتخاذ القرار وهذه القدرة على تقريره، أيهما القاتل أن يقعد فوق الحياة معاقا يستثير العواطف أم يمشي إلى الخلود، مستحثا كل الإعجاب والتقدير، شخص منذ البداية قرر أن يكون الأعلى، حتى على الموت. أي حياة هنالك خلف ظلال التخيل! د. ابتسام المتوكل (شاعرة يمنية) مات محمود درويش! خبر حيّر القصيدة ووارى الكلمات. إذن أمام بلاغة الموت ماذا بوسع الأحرف الشاحبة أن تقول؟ وكيف لها أن تتجسد وأن تكتسي بالحياة؟ إنه الموت ثانية يعود ليجيب درويش القصيدة والحياة ليقول (أنا هنا، ولا أهزم!) فتبدو عبارة درويش (هزمتك يا موت) طفوليّة جدا ولا علاقة لها بمنطق النهايات وصرامة الموت. الموت ليس عدوا لأحد ولا هو بصديق لأنه موظف مخلص جدا ويقوم بعمله في صمت، ولهذا فهو لم يكن يرد على درويش أو يترصده. إنه فحسب كان ينتظر أن يأتيه دونما مقاومة ودون اعتراض.
هل مات درويش حقا؟ نعم على الأقل هذا ما تقوله الأخبار وتتناقله وسائلها. ولكن درويشهم الذي مات غير درويشنا فهو حي لا يموت. درويشنا شأن كل الشعراء الحقيقيين لا يموت لأن شعرهم يخلدهم وهم منذ اقترفوا القصيدة منذورون للبقاء.
وهكذا فدرويش منذ عرفت قصائده خصوصيتها وصار هنالك في القصيدة العربية نزعة درويشية أمكن للشاعر فيه أن يركن إلى الخلود تحت فيء الكلام .. الكلام الذي ليس يعبر.. الكلام الذي يمر ليبقى ليحفر في الروح موقعه ويغرس في روابي التذكر أشجاره.
يا لدرويش شاعرا عظيما كسبته القصيدة واستكان إلى مجدها شاعرا أنه قد خط صورته في الحروف التي صارت رفيقته وبها أدرك أي سر تحمله الاستعارات وأي حياة هنالك خلف ظلال التخيل.
سلام عليكت ولك سلام على الشعر والبهجة الممكنة ..
سلام على تربة أنجبتك وأنت تمرست في عشقها سلام على كل حرف وكل القصائد وكل الوطن.
اسم عالمي
حسن مخافي
(أستاذ جامعي وناقد من المغرب)
محمود درويش يعد علامة بارزة في مسيرة القصيدة العربية الحديثة، وينتمي إلى شعراء الجيل الثاني في مسيرة هذه القصيدة. وقد عرف في النقد العربي الحديث بوصفه شاعرا للمقاومة؛ ولكن هذا لا يحجب شعرية القصيدة عنده، حيث عمد طيلة حوالي خمسين سنة في مسيرته الشعرية إلى تطوير هذه القضية. ومن هذه الزاوية لا يمكن الحكم على شعره حكما عاما، بل إن التطور الذي خضع له يجعل من هذا الشعر مدرسة متجددة. ولا يعني هذا أن الشاعر قد خضع لنوع من التجريب، بقدر ما عمل على تطوير نفسه باستمرار، ولذلك اندرج شعره في البداية (خلال الستينيات) في إطار ما يسمى القصيدة الملتزمة، وفي إطار هذا المفهوم اشتغل محمود درويش على إبراز القضية الفلسطينية شعرياً، دون التفريط في مقومات القصيدة لغة وصورة وإيقاعا.
ثم تلت هذه المرحلة ما يمكن أن نطلق عليه االقصيدة الملحمية'، التي عرفت عنده بالقصائد الطوال المعروفة أو ما يمكن أن نسميه القصيدة/ الديوان. ومن أمثلة هذه الأعمال امديح الظل العالي'، 'بيروتب وغيرها من القصائد التي تستغرق دواوين شعرية بكاملها.
لتأتي المرحلة الثالثة التي عاد فيها محمود درويش إلى استبطان الذات ضمن محيطها الوطني والقومي والعالمي. ومن هنا عاد إلى كتابة السيرة الذاتية الشعرية، واحتاج ـ لأجل ذلك ـ إلى التخلي ظاهريا عن طريقته القديمة، محتفظا بجوهر القضية عنده الذي هو القضية الفلسطينية. كما استند فنيا إلى توظيف الإمكانات التي تتيحها قصيدة النثر، دون أن يكتب هذه القصيدة، لأن شعره ظل موزونا، ولكن بتنويعات كبيرة، جعلته ينخرط في تجديد الإيقاع الشعري العربي بما يسمح بابتكار إيقاعات جديدة خارج أوزان الخليل وخارج إكراهات تفعيلاته. وقد بدأ هذه المرحلة الثالثة بديوانه المؤسس الماذا تركت الحصان وحيدا؟'، وأتبعه بمجموعة من الدواوين الأخرى.
وطيلة هذه المراحل الثلاث التي تختزل مسيرة محمود درويش الشعرية ظل مشدودا إلى قضيته التي كان يعتقد أنه وُجد لأجلها، أي القضية الفلسطينية. كما أن لدرويش اجتهادات إبداعية خارج الشعر، تتمثل في نثره الذي لا يقل شعرية عن قصائده. ويتمثل ذلك أساسا في يومياته ورسائله ومقالاته المتعددة التي نُشر بعضها في مجموعات، ويبقى على المهتمين وأصدقاء الشاعر أن يجمعوا ما هو منثور منها في المجلات والصحف ولم يظهر ككتب.
إن وفاة محمود درويش خسارة كبيرة للشعر العربي خاصة وللشعر العالمي عامة، فقد ترجم إلى عدة لغات، وأصبح بذلك اسما عالميا وكونيا، بقدر ما هو اسم فلسطيني. وأتصور أنه لو أمهله الموت لسار بالقصيدة العربية الحديثة شوطا جديدا آخر، ولكن عزاء المثقفين والنقاد والشعراء العرب هو أن درويش ترك له تلامذة في جميع أصقاع العالم العربي من المحيط إلى الخليج، ممن سيحملون لواء الشعر العربي إلى العالمية.
ولادة جديدة
أسامة اسبر
( شاعر من سورية)
جاء موت محمود درويش كصدمة. منشأ هذه الصدمة أن الشعر العربي خسر إحدى قاماته الكبرى، ولكن موت الشاعر في الوقت نفسه إعلان لولادة من نوع آخر، لقد توقف القلب واستعادت الطبيعة عناصرها البيولوجية، ولكن محمود درويش ظل ينبض في الطبيعة الثانية التي يبتكرها الفن، وهذه ولادة جديدة للشاعر، ولادة في الضمائر وفي الأذواق وفي توق الثقافة العربية المغايرة إلى المحافظة على استمراريتها. لقد كان محمود درويش شاعراً ذا طبيعة مختلفة في نسيج الشعر العربي، وبوسعي أن أسميه شاعر القضيتين، القضية الأولى هي الجرح الفلسطيني الذي ظل يسكن جوهر تجربته الشعرية والفكرية، هذا الجرح الذي جعل الشاعر محافظاً لقضيته وعلى تجديده للصوت الفلسطيني المخنوق تحت الاحتلال. أما القضية الثانية فهي إخلاص محمود درويش للعناصر الفنية التي تجعلنا نقول عن كلام ما أنه شعر يختلف عن الكلام العادي، وفي التوحد بين قضية الفرد وقضية الإنسان ولدت قصيدة محمود درويش وستظل مستمرة عبر الأجيال والأزمنة مع الإبداعات الشعرية الكبرى، وبهذا المعنى نقول أن محمود درويش لم يمت.
هازم الموت
هالة زرقا
( شاعرة من سورية)
يبدو أن محمود درويش قد هزم الموت في لغته مرات عدة، فالشعر هو تمرين على الحياة، هو الذي كان في كل نص أو كتاب يستخدم كل الميثيولوجيات القديمة ليؤكد حضوره، حضورناس وانتماءنا إلى هذه الأرض التي نُنفى عنها قسراً.
محمود درويش كان المعلم الأول لجيلنا، في الحب وفي عشق الوطن، وفي مقاومة إحساسنا بالغربة والوحدة في هذا العالم القاسي. لذلك لا أعرف إذا كان يحق لي أن أقول له: عليك أن تعتذر الآن عما فعلته بنا !.
قضية منحت شاعرا بهذا المستوى لا بد ان تكون قضية عادلة
شهادات في موت محمود درويش:
11/08/2008
دمشق ـ بيروت ـ لندن ـ القدس العربي من انور بدر وناظم السيد وحسام الدين محمد
استقبل الوسط الثقافي في سورية نبأ وفاة الشاعر العربي الكبير محمود درويش بألم واحساس حاد بالفجيعة فالشاعر كان ذا اهمية استثنائية وتأثير كبير عل الشعراء والمثقفين السوريين االقدس العربيب اتصلت ببعض منهم وكانت هذه الشهادات:
الجماهيري النخبوي
شوقي بغدادي
( شاعر)
لا يوصف هذا الموت كما يوصف موت الآخرين، فالنكبة ليست وطنية فحسب، وإنما هي فنية جمالية بالدرجة الأولى، وإذا كان هناك شاعر في العالم استطاع أن يوحد بين قضيته الأم وبين فنه الشعري الرفيع فلا شك أنه محمود درويش أولاً ومحمود درويش ثانياً... ولعله بين الشعراء العرب هو الأوحد والأقدر على أن يكون جماهيريا ونخبوياً في آنٍ واحد، لقد جاء زمن الآن، وخاصة في السنوات الأخيرة، أن غرق عرب فلسطين في مستنقع النزاعات الدموية بين الأخوة الأعداء، وهكذا تضاءل لديّ الأمل، كما لدى كثيرين، بأن هناك خلاصاً لهذه المحنة، ولكن ما أن يظهر ديوان جديد لمحمود درويش أو أن نقرأ له قصيدة جديدة أو قديمة حتى يشعر الواحد منا أن هذه الشعلة الضعيفة الواهنة من الأمل قد توهجت من جديد واستعادت بريقها بفضل جمال الشعر وحده. وهكذا صار على محمود درويش أن يقوم بعبء إعادة الثقة إلى النفوس البائسة وحده، ولم تعد تصريحات هذا الزعيم أو خطاب ذاك القائد قادرة على صنع شيء، لقد بتّ أنا شخصياً في السنوات الأخيرة، وأكاد أقول ذلك حزيناً، لا يربطني وثاق عاطفي حميمي قوي بالقضية الأم إلا عبر محمود درويش ومن خلال شعره، كنت أستطيع أن أقنع الأجانب والمتشككين العرب بأن قضية منحتنا شاعراً بهذا المستوى الجمالي الرفيع لا بد أن تكون قضية عادلة وأن نكون معها. من يستطيع الآن بعد موت محمود درويش أن يقوم بهذا الدور؟ أي شاعر عربي استطاع أن يكون في الأراضي المحتلة وفي القاهرة وفي بيروت وفي قبرص وفي اليمن وفي كل المنافي والمطارات والمرافىء، أي شاعر استطاع أن يكون هو نفسه دائماً الذي يغني للمسيرة الصعبة في كل منحنياتها وصعوباتها ومآزقها بنفس الحنجرة الصافية والوجدان العميق سوى محمود درويش. افتقدناك محمود درويش وكأننا نفتقد هذا الرباط الحميم بالقضية، فمن يُعيدها إلينا سواك؟ هل يعيدنا محمود عباس أو هنية أو مشعل؟ من مِن هؤلاء قادر أن يعيدنا وهو يناضل ليثبت أن الآخرين على خطأ وهو وحده على صواب؟. محمود درويش وحده كان على صواب، ولكنه مات الآن، وها نحن الآن نبدوا وكأننا أيتام على مائدة القضية التي أخذت بعيدا عنّا، فمن يعيدها إلينا أو من يعيدنا إليها؟! موت جيل بكامله برهان علوية (مخرج سينمائي) حين مات محمود درويش أحسست أن جيلاً بكامله مات. ربما الآن يمكننا أن نكتب تاريخ درويش. الآن يمكننا أن نتأمل فيه وفي نتاجه، وذلك بعدما ذهب جسده وأخذ معه ما أخذ. الموت يمنح نتاج شخص ما نكهة أخرى. الموت يأخذ الجثة، لهذا أقول إنه ارتاح الآن. هكذا قلت عن يوسف شاهين الذي غادرنا أخيراً. العظماء يرتاحون حين يموتون.
لا أعرف المجاملة. محمود درويش شاعر كبير بالطبع، لكن هذا كلام لا قيمة له.
شعر محمود درويش شعر معاصر، شعر اشبابيب. ما معنى أن يكون قرّاؤه من الجيل الشاب؟ هذا السؤال دليل على موقع درويش في الشعرية العربية.
من يحرس اصورة الشاعرب من بعدك؟
أنطوان شلحت
(كاتب من فلسطين)
عندما أحيا محمود درويش أمسيته التاريخية في مدينة حيفا في أواسط شهر تموز/ يوليو 2007، قال عبارة بليغة لا تزال أصداؤها تتردّد إلى الآن فحواها زإنّ الشعر هو المرافعة النوعية المجانيّة للدفاع عن الحياة وعن حقنا في أن نحيا حياتنا كما نريدها، ببداهة وحرية وسلام، وهو دفاع عن الروح والذاكرة الجمعية والهوية، دفاع عن الحبّ والجمال وعمّا في أعماقنا من موسيقى خفيّة وفرحس. برسم هذه العبارة يمكن القول إن أكثر ما سيبقى منه هو قدرة نصّه الشعريّ على الاحتفاظ بصفاء صورة الشاعر في الذهنية الثقافية، تلك الصورة التي باتت تعتريها شوائب كثيرة من فرط تهافت الشعراء وبتأثير الفوضى غير الخلاقة في المنابر التي أمست تشكل السبيل الراهن إلى الانتشار السريع. واختصارًا للمواصفات فإني أقصد تحديدًا الصورة التي يمكن استمدادها من إدوارد سعيد في وصفه للمثقف عمومًا، وأساسًا قوله إنّ هدف المثقف المتوخّى هو اتشييد بنية ثقافية كاملة'، أولاً ودائمًا. إنّ البنية الثقافية المشيّدة هنا ترتبط بنصّ الشاعر وبهاجسه الوجوديّ. وتنهض على عنصر المعرفة، إمكانها ومصادرها وطبيعتها. وإنّ ما يلفتنا أكثر شيء هو إسهام درويش الخاصّ في شأن إمكان المعرفة، ذلك الإسهام الذي يراوح بين القول بذلك الإمكان وبين الشكّ فيه. ولئن كان توكيد إمكان المعرفة عادة ما يتبدى في نصّه عن طريق التجربة والخطأ، لا بمنأى عن إعمال العقل، فإنّ عنصر الشكّ فيه ينطلق من اتخاذه منهجًا للوصول إلى المعرفة، من جانب الشاعر. وبذا يدرأ النصّ الشعريّ عن ذاته وجع الارتطام بذلك الشكّ المذهبيّ الذي يشكل الوسيلة والغاية في الآن نفسه، ترجيحًا لاعتماده كوسيلة لا أكثر.
ومن الخطأ عدم الالتفات إلى حقيقة أن تجربة درويش لا تفتقر إلى ما يؤسس لهذا المشروع، منذ أرضه الأولى. وقد تكفي عودة سريعة إلى تلك الأرض لإثبات ذلك. ففي سنة 1961 نشر درويش أول زشهادة ذاتيةس له عن الشعر في مجلة زالجديدس الحيفاوية. وبمراجعة ما جاء فيها يمكن تأصيل مشروعه الشعري على قاعدة الحاجة إلى تجديد العلاقة بين الشاعر الفلسطيني، الذي بقي في وطنه، وبين كل ما هو أساس في الثقافة العربية والثقافة العالمية. إنّ هذا الأساس يشكل لحمة المعرفة وسداها.
إذا استعدنا جوهر الثقافة، وفقًا لبيير بورديو، فإنها أنساق (سيستامات) رمزية لها وظيفتان: الأولى- وظيفة معرفية، حين يستخدمها الإنسان كأداة معرفية لبناء الواقع الاجتماعي بطريقة موضوعية تعبّر عن منظومة معرفية تتألف من المدركات والمعاني والقدرات التي تمكن الفرد من فهم عالمه والتعامل معه. والثانية- وظيفة اجتماعية، حين تستخدمها القوى المهيمنة كأداة لفرض علاقات السيطرة الاجتماعية والسياسية في المجتمع.
ومن الواضح أنّ في تجربة درويش ما يشفّ عن انحياز صاحبها إلى ناحية الوظيفة المعرفية للشعر والثقافة عمومًا. وهو انحياز جعل شعره يكشف مكنونات اللانهاية.
يا للخسارة!
فاضل الربيعي
(روائي وكاتب من العراق يقيم في سورية )
شكلت تجربة محمود درويش الشعرية من منظور النقد الادبي اكبر تطور واهم تطور حصل في الشعر الحديث في العالم العربي قاطبة. لقد نقل محمود درويش الشعر دفعة واحدة من مجاله النخبوي ال مجاله الشعبي ولكن دون ان يسقط بالشعبوية. اعط مذاقا جديدا للشعر العربي الحديث. مع تجربة محمود درويش لم يعد حت بالنسبة لأبسط الناس حت الاميين منهم يجادل حول اهمية الشعر العمودي وافضليته عل الشعر الحديث او ان الشعر الحديث غامض وغير مفهوم ذلك ان شعر محمود درويش اصبح في متناولهم وبوسعهم ان يغرفوا من نبعه من دون اي احساس بأنه من عالم منفصل عن عالمهم وكل ذلك لأن محمود درويش جمع بين القدرة الفذة عل التقاط ما هو شعري في الحياة وبين الاقتراب من الناس دون تكلف او تصنع.
اليوم صباحا كان في منزلي نجار بسيط لا يقرأ ولا يكتب وكان اثناء عمله يتابع تقرير الجزيرة عن موت محمود درويش وسمعته وهو يردد بحزن: يا للخسارة مات محمود درويش وعندما سألته: وهل تعرف محمود درويش؟ قال: نعم. صحيح انني لا اقرأ ولا اكتب ولكن قصائده ترن ال الآن في اذني ثم قال: سجل انا عربي! الا يعني هذا ان محمود درويش تمكن من احداث اختراق هائل القوة والمعن بمعادلة العلاقة بين الشاعر والجمهور. لا احد يجادل في روعة شعره وجمال صنعته ولا في التقنيات الحديثة التي يستخدمها ومع ذلك كان قريبا من نبض الناس لأنه كان شاعر المقاومة بحق والبشر وهم يواجهون مصاعب الحياة يفهمون افضل من المثقفين معن كلمة مقاومة لأنها تعني لهم كل شيء ان يقاوموا الموت والجوع والنسيان والفقر والالم وهذا ما جسدته تجربة محمود درويش. انه صوت عصرنا الجديد الذي سيصدح دوما في اناشيد العودة وكأنه هو من سيقرع اجراسها وليس احدا سواه.
بلاغة الموت
صباح زوين
(شاعرة ومترجمة من لبنان)
هل هذا هو سرير الغريبة الذي بحثت عنه يا محمود درويش؟ أم هو سرير الغريب، أنت الغريب عن الأرض وعن سرير طفولتك وأحلامك؟ ذهبت عن الدنيا وأنت في سرير العمليات القاسية، ذهبت عن أحلامك وأنت في سرير الغربة، والغريبة كانت دائماً أحلامك عن أرضك القريبة البعيدة. وهل مت يا محمود في رمز الغربة أم في واقعها؟ هل مت لشدة رمزية علاقتك بالأرض، أرضك الأولى والأخيرة، أم مت لفرط ما تغربت عنها وآخر غربة كانت تكساس، كانت غرفة باردة في أحد المستشفيات البعيدة عن تراب أقدامك وشجر الزيتون والتلال والهضاب المتعرجة؟ ألا يدل السرير بذاته على المكان الحميم والسري للعشق، إنما يدل كذلك على المرض والعجز؟ سريرك في تكساس لم تتحمله فقررت الذهاب عنا، أنت الذي لطالما بحثت عن سريرك، أنت الغريب في سرير الأفول، أنت الذي لم تأبَ سوى أن تنقش القصيدة لوحةً أبدية على جدار الذاكرة، وبعد زوال الجسد، لن تبقى سوى قصيدتك التي حفرتها عميقاً في جدارية أرضك المتغربة أو التي غربت عنك غصباً أنت الدائم الغربة، والذي مع ذلك حاولت ألا تغرب. إنما هذه هي أصول العشق يا محمود ، العشق للأرض الذي حملك إلى رؤية السر والسريرة في قصيدتك المتغربة والعاشقة. وعشقك لا يُحصر ضمن حدود الحب المادي والمباشر، بل يتجاوز تلك الحال إلى بلوغ الصوفية الصرفة؛ أليست الصوفية وقبل كل شيء عشقاً غريباً وسرياً، والسرير هو مكان سرية العشق وسرية المرض؟ أنت مرضت عشقاً بالأرض الغريبة ثم مرضت حزناً على الأرض المتغربة، ولم يبق لك سوى أن ترى في الرحيل خلاصاً لمعضلة الكلمات التي نهشت جسدك وروحك كما الغربة التي نهشت معنى أرضك. ألم تتوجه إلى الله بهذه الكلمات وأنت الراغب في الانتهاء : اإذا كنت آخر ما قاله الله لي، فليكن نزولك نون الـبأناب في المثنىب. ا حلمت بأنك آخر ما قاله الله لي حين رأيتكما في المنام، فكان الكلامب. هل حبك للكلمة هو الذي أخذك في غفوتك الأبدية على سرير المرض وأنت الذي حلمت بسرير العشق لتلك الأرض الغريبة والحميمة، تلك الأرض المعلنة والسرية، تلك الحالة الثنائية التي تراها أمام ناظريك؟ وهل أردت الرحيل عن واقع الأرض إلى الحلم بها عند الله وفي غربة السماء؟ هل الغربة التى أنشدتها هى حدسك بالأفول، أفول جسدك لتبقى أنت في سرية السرير الأول، حيث حلمك الذي لم يكتمل؟ هل أصبحت اليوم في قلب االنونب وهل بلغت اليوم آخر الكلام، أي، منتهاه؟ اهذا هو اسمك، قالت امرأة، وغابت في الممر اللولبي. أرى السماء هناك في متناول الأيدي (...) واللاشيء أبيض في سماء المطلق البيضاء. كنت ولم أكن (...) أنا وحيد في البياض (...) عزفت عن جسدي وعن نفسي لأكمل رحلتي الأولى إلى المعنى، فأحرقني وغاب. أنا الغيابب. اأنا الأولى، أنا الأخرى، وحدّي زاد عن حدّي وبعدي تركض الغزلان في الكلمات لا قبلي ولا بعديب. الا أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أو ثقل الهواجس. لم أجد أحداً لأسأل: أين اأينيب الآن؟ إني مدينةُ الموتى، وأين أنا؟ فلا عدمٌ هنا في اللا هنا... في اللا زمان، ولا وُجُودُ وكأنني قد متُّ قبل الآن... أعرفُ هذه الرؤية وأعرفُ أنني أمضي إلى ما لست أعرفُ . رُبَّما ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأعرفُ ما أريدُ '.
أبلغ من أن أقول أنا عنه ، الشاعر هو الأبلغ وقالها قبل أن يرحل. أي بلاغة هي بلاغة الموت هذه، بلاغة الرؤيا قبل أوانها وكأنها في أوانها. إنها رحلة الدرويش الدوّار الذي توصل إلى مخاطبة الموت بلغة القلب في سدى التاريخ وسدى الحياة. مخاطبة الموت في مواجهة الأنا الحاضرة الغائبة، الغريبة والراكضة كالغزلان في مروج القصيدة الخالدة. نعم ، قد تتساءل اليوم أين أنت، لكنك قلت إنك تعرف وإنك حيّ. لا تزال كلمتك هنا، وهي ستمضي إلى حيث تعرف، ولا تخف عليها. إنك اليوم الواحد وليس المثنى، والبياض يلفك إذ هو مكانُ منتهى الحضور.
نهايةً، إذا استوقفني كثيراً الكلام على السرير، مستوحية من كتابك اسرير الغريبة'، فلأنك غادرتنا على أحد الأسرة الغريبة.
مكانة تاريخية
هاشم شفيق
(شاعر من العراق يقيم في لندن)
الشاعر الفقيد محمود درويش كان من الشعراء الكبار الذين لا يتكررون عل مد قرون طويلة فهو يمكن ان يوصف بالمتنبي وابي تمام وابي العلاء المعري فهو من هذه السلسلة الكبيرة التي سيخلدها العصر والتاريخ عل مرور الازمنة.
محمود درويش سيبق بالتأكيد حيا مثل هؤلاء الكبار يعيشون بيننا ويضيفون برؤيتهم الثاقبة مسارات جديدة للقادمين من الاجيال الجديدة.
شعر محمود درويش لا يمكن حقا ان يوضع في خانة محددة فهو شعر انساني وشمولي وفيه معان كبيرة ودلالات عميقة جسدها بشكل ازلي مما بوأه هذه المكانة التاريخية للشعر العربي الحديث والمعاصر.
محمود درويش ليس شاعرا كبيرا فقط بل كان انسانا كبيرا وصديقا عظيما للشعراء من الاجيال التي لحقته. كانت تربطني به علاقة حميمة وجميلة منذ تعرفت عليه في بغداد عام 1976 عندما جاء لأحد مهرجانات المربد وظلت علاقتي به متميزة وجيدة، حت حين اقامتي في بيروت كنت اتردد عليه في مجلة االكرملب واعطيه قصائدي وكان يأخذها وينشرها دائما في المجلة وكان يبدي ملاحظات عل الشعر والشعراء وكانت له رؤية ثاقبة وعميقة في الشعر المكتوب والمعاصر الحديث. وتكررت لقاءاتي مع محمود في باريس وفي عمان عندما كنت ازورها آخر مرة التقيت به في عمان ودعاني ال غداء وكان معي الشاعر طاهر رياض وذهبنا ال مطعم خارج عمان واحتسينا الشراب الابيض الذي كان يفضله. كنت عائدا من كردستان وكنت احمل هدية له وهو مزمار كردي وأحبه وعزف عليه قليلا لأنني كنت اعرف انه يحب هذه الآلات الموسيقية الرقيقة. التقيت محمود في القاهرة اثناء مهرجان امل دنقل وكنا دائما نلتقي عل العشاء والغداء والقينا في امسية واحدة وكان متواضعا حين وضع اسمه في آخر القائمة ووضع اسمي في اول القائمة وكان ذلك تواضعا كبيرا منه بالنسبة للشعراء الجدد واللاحقين عليه، وما كان يعزل نفسه او يعطي نفسه ميزة تضعه في خانة اخر بل كان مندمجا مع الشعراء وكان يسهر ويتفكه وينكت وكان جميلا بكل معاني الكلمة. وكنت اتصل لأطمئن عل صحته بين الفينة والاخر ومرات كنت اكتب عنه وآخر مرة كتبت عنه مادة سميتها ابورتريه لمحمود درويشب وعن ديوانه اجداريةب الذي انتصر به عل الموت وحقق مسألة الازل.
مات وترك لنا الموت لنجربه
غسان جواد
(شاعر وصحافي من لبنان)
مات محمود درويش، خبر عاجل على التلفزيون: اوفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويشب.. للوهلة الأولى أحاطت الصدمة المكان ولفّت أرجاء كياني. لم يكن محمود درويش صديقاً، التقيته مرّات قليلة وأجريت معه حواراً تلفزيزنياً واحداً، لكن لا أعلم لماذا شعرت بخسارة شخصية كأنما الخبر متصّل بأحد أفراد أسرتي.
هل الشعر رابطة دم وقرابة؟ لماذا رجفت أصابعي ويداي وقلبي حين عرفت النبأ؟ أظنني راهنت على الشعر، كنت أعرف أن محمود في حالة حرجة وأجرى عملية جراحية، وأنها نجحت ثم سرعان ما تدهورت حالته، لكن لم يتبادر لذهني لحظة أنه قد يموت. الأرجح أني ظننت الشعر تعويذة ضد الموت، وحجاباً في وجه ملاك القبض على الأرواح، وأي شعر؟ شعر الوطن والبندقية والحب والحرب والحصار والأمل والفرح فوق جثة الألم والمصاب، شعر أحمد العربي، وتل الزعتر وحاصر حصارك.. شعر الجدارية ولا تعتذر عما فعلت، وأحد عشر كوكباً، ولماذا تركت الحصان وحيداً، وأي كتابة؟؟ أثر الفراشة وكزهر اللوز أو أبعد، وحالة حصار. مات عاشق من فلسطين ولم يحجبه الشعر عن قبضة الموت. يموت الشاعر ولا ينتظر منا أن نرثيه، لقد رثى قبلنا شعراء وتحدّث عن أثرهم الأدبي والفني.. ثم ماذا؟ لحق بهم لكي يأتي آخرون ويكتبوا عنه وعن الأثر الذي تركه في الحياة من شعر وأدب ولعب باللغة ومفرداتها.. موت الشاعر، يا لها من لعبة مملة ومضجرة، يا لها من تسخيف للحياة.
أن يموت محمود درويش يعني أننا جميعنا سنموت، لقد سبقنا فقط، وترك لنا كتبه وبعض الضحك والمصافحات والأمسيات.. ترك لنا الموت كي نجربه بدورّنا.
إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين فادي عزام ( كاتب من سورية) 1- اليوم فقط تم احتلال فلسطين، أنجز احتلال فلسيطن بموت محمود درويش. بحقيقة موت محمود درويش اكتمل فقدان فلسطين، هذا ليس مجازا يفرضه رحيل درويش، ليس مرثية لشاعر وانسان عرف كيف يعلمنا جميعا معنى أن ننتمي لفلسطين دون كلمات كبيرة وثورة حتى النصر ونرتهن لخطاب مناور مُفخم متخم بالصراخ والضجيج وفقير بالحب والاحتفاء بالذي لا يموت.
2- لا يمكن أن نرثيه لا يمكن أن نبكيه لا يمكن أن نقر برحيله لا يمكن أن نصدق آخر قصيدة إنه هناك في عتمته الباهرة سيعود إلينا حاملا دهشة أخرى يصفعنا بورده وأقماره الحليبية وحديثه عن أنثى عبرت به قبل قليل. في موت درويش نحن من يستحق الرثاء. 3- لم نكن نملك سوى فيروز وضوء قمري غامض والرغبات السرية بأن نكون أحرارا وقصائد درويش وأشرطة مرسيل خليفة والشيخ امام، كان محمود صديقنا يجعلنا نلتقي بسرعة نطل من كلماته على شرفات الوقت ونجلس في فوهتة ونلعب بألوانه، كان درويش يجعل من حياتنا أقل وطأة وأكثر بحبوحة واتساعا، كان محمود حاضرا أبديا وسط ركامنا كوشم سري يقول لنا دائما فوق هذه الأرض ما يستحق الحياة . 4- رقش عبد الرزاق شبلوط جدارن غرفته في الدويلعة بشتاء ريتا الطويل، كلمات درويش هي ما كانت تهطل علينا، كلما اختنقنا نتنفسه، وكلما أصيب القلب بعطب نتبلسم بكنوز الحب نبحر معه نتزود منه كي نقول ما لا يقال نتعلم منه معنى الاحتفاء ببدايات الحب، ونهاياته معنى أن نكون مناضلين ثوريين يساريين أصحاب قضايا عادلة يعني أن نعرف كيف نحب أولا. كان درويش معلم الحب الأول وشاعر الحب الأول. 5- أن أسمع من سعاد في باريس خبر موت درويش، لم يكن مفاجأة. كان عبد الباري عطوان قد باح لنا منذ شهر بذلك. يومها تذكرت شاعراً من شباب فلسطين عندما دخل محمود في عمليته الأولى كتب (يا الله دع لنا محمود درويش). نعم ماذا بقي لفلسطين وآخر الرحلين محمود درويش بعد رحيل ادوارد سعيد؟ الفلسطينيون اليوم أصبحوا فعلا أيتاما. قالت سعاد لي لا أصدق أن المتعة الوحيدة المتبقية لي في الحياة قد صودرت مني اليوم، لا أصدق أنه لم يعد هناك ديوان جديد لدرويش سأنتظره. في يوم موت محمود درويش لا أجد سوى عبارة تأبينه لإميل حبيبي ( إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين). 6- (وهو الآن في غيابه، أقل موتاً منا، وأكثر منا حياة) هذا ما قاله درويش في أربعين الماغوط. هل كان يرثي نفسه في كل الشعراء الذين سبقوه؟ هل كان يعرف أننا في غيابه سنكون أكثر موتا منه وأقل حياة منه هو من لم تتسع له الأرض فحجز موعدا نهائيا مع التاريخ والمستقبل مع الغيب والسماء ليقربنا منها أكثر ويكتب عنا ولنا من هناك؟ 7- حاور الموت وحوّله إلى شيء أليف خفيف مثل سحابة تمر فوق الجليل، هذا العاشق من فلسطين هو من قال (الحب مثل الموت وعد لا يرد ولا يزول) هذا العاشق السرمدي الأبهى والأجمل والأنقى دمغنا نحن جيل ما بعد هزيمة 67 بلوثة لن ننفك منها أبدا، نحن جيل محمود درويش لسنا جيل الهزيمة لأننا استطعنا رغم كل السود أن نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا ونحب ونعشق الحياة ونغنيها وننحاز للحياة كما وصفها وكتبها ورواها، نحن جيل محمود درويش لم نحزن حين كتب الحصان ليس وحيدا ولم نقل درويش تغير بل شعرنا كم نحتاج نحن أن نتغير ولا ننهزم مرتين، وأخذنا من سرير الغريبة زوادتنا للسنوات العجاف وأحببنا ريتا بمقدار ما أحببنا البندقية ولم ننس أمهاتنا ولم نحترق لنضيئهن ونأخذ مهنتهن الجميلة، نحن جيل ما بعد الهزيمة ننتمي لمحمود درويش العاشق أولا المحب أولا الانسان أولا ثم المناضل لأنه بدون أن يكون المرء محبا وانسانا وعاشقا لا يستحق أن يكون مناضلا. 8- لن تقرأ هذه الكلمات. لا اريد أن أقول أحبك فأنا لم ألتق بك سوى مرتين، مرة كنت برفقة خمسة عشر محباً آخر في ملعب الجلاء في دمشق، كيف استطعت يا درويش أن تجعل الابرة تسمع رنتها قبل أن تبدأ بالكلام؟ كيف حج الناس في دمشق ليحددوا موعدا مع عاشق دمشق الأنبل؟ كيف تفقدك السحب الخفيفة في الشوارع القديمة وهي تسير حافية حافية فما حاجة الشعراء للوزن والقافية، تتبع رائحة كلماتك وأنت ترتل في دمشق تتنفس دمشق مثلما تنفست فلسطين وبيروت. أكاد أجزم وأكاد أعرف لماذا أوصيت الأطباء أن لا يجعلوك تعيش على التنفس الاصطناعي. 9- وداعا يا درويش نقبلك ونبكي أنفسنا.
درويش الشعراء وليُّهم
سامح كعوش
(شاعر فلسطيني من لبنان)
محمود يا درويش الشعراء، ووليهم، يا مطر فلسطين على صحراء العرب لتخضرّ بالشعر أو لتنطفئ نجمتها الأخيرة، وتوق العرب يحتضن الزهر في مرابع فلسطين لتتحرر بأحمر الشوق الغالب على قوانين الحدود وقيودها، وينجرح بالسلك الشائك يحاصرك بدمعتين ومليون مفردة لا يكتبها إلا قلمك.
الماذا تركتنا وحيدين كحصان أبيكب يا محمود، يا سليل أبيك ولا أحد سواه، يا يتيم الأمة في اغترابك وغيابها إلا عن قليل أمل وكثير ألم، ولماذا تتبعت اأثر فراشتكب لتحترق بنارها ونور الشعر؟، أيها الحاضر اليوم وغداً كما أنت، وكما كنت، أيها الشاعر حقاً في شكل شعرك الواقف كالرصاصة في لحم القصيدة، تجرحها لتشبه فلسطين، وتكونها.
ها أنت الآن أكثر وضوحاً وصراحةً من قبل، ها أنت الساطع تماماً كهذا الصباح الوحيد، في عتمة القلب، وقلة حيلة الشعراء، في قولك السؤال: اما حيلة الشعراء يا أبتي غير الذي أورثت أقداري إن يشرب البؤساء من قدحي لن يسألوا من أي كرمٍ خمري الجاريب.
نعم لا يسأل الذين يقرؤونك من أي كرم أتيت بعنب شعرك، لكنهم يعلمون تماماً أنك ابن طولكرم، ونابلس، وجنين، والقدس، وكل فلسطين، وطول هذا الكرم امتداد لمسيرة الشعب العربي محتفياً بحضورك الساحر، المشاغب، الراغب، المثير للدهشة حدّ الانهمار.
ولأنك كتبت بالنار، يا فينيق فلسطين، لم يعطوك حيزاً في انوبلب كرمهم، ولو أنك جحدت فضل النار لكرّموكَ وعظّموك وبكوْك طويلاً، كما نبكيك الآن نحن الأيتام واللئام من الشعراء العرب الحاسدين والمحبين لك، أيها الرائع أنت، والجميل أنت، والنبيل أنت، ولا يكفيك انهمار الدمع ولا سخاء الكلمات العابرة.
نعم وأنت القائل والكاتب والماثل كأنك الآن: الملمتُ جرحكَ يا أبي برموش أشعاري فبكت عيون الناس من حزني، ومن ناري وغمست خبزي في التراب وما التمستُ شهامة الجارب.
ها أنت الآن تغمس جرحك في جراحنا لتنكأها، لتغسلها بملح بحرك البعيد، حبرك على جدران المدن الهاربة منك وأنت تعدّها، واحدةً فواحدةً فواحدةً كأنها تتزوجها، تعاشرها، تعاقرها خمرة شعرك ونبيذ دمك الفلسطيني المسفوك يومياً كأنه فرض صلاة. ها أنت الآن تغمس خبزك في الموت، صديقك منذ سنوات تنبئنا بقربه منك حدّ التوحّد بك، كأنك كنت تعلمه وتتعلم منه، قبل قليل قلت: اأعلم أن الوحش أقوى مني في صراع الطائرة مع الطائر، ولكنني أدمنتُ، ربما أكثر مما ينبغي، بطولة المجاز'، نعم أيها الجميل أدمنت وأدمنّا هذا النوع من البطولات، حتى موتك الآن يأتي مجازاً، كأنه غيبوبة قليلة، لا تطول، أو هو الذهاب في رحلة المسافر ننتظر عودته القريبة، أو هجرة الطائر جنوباً ليعود مع الربيع، لتعود إلينا وتبقى، وتبقى، وتبقى.
* * *
مثل قمر نحاسي يسقط في مرايا البياض ولجة الغياب ... يرحل الشاعر محمود درويش تاركاً للشعرية الفلسطينية والعربية والانسانية تراثاً مكتظاً بالايقاع العالي والرؤيا الناجزة .. كيف لا وهو قمّاش اللغة ومروّض خيوطها الجامحة.. برحيله نفتقد روحاً وثّابة، أقل سماتها الانتباه الجمّ.. والتوتر الكامن في زوايا الكلام وحقول القصـــيدة التي حرص محمود درويش على تعشيـــــبها منذ كرج يافعاً على حفافي البئر الى آخر نظرة رشق بها البلاد باعتباره لاعب النرد والأكثر دربة ودراية بالقوانين الشعرية وسياق الجماليات.من حق معشر الشعراء أن يرفعوا الرثاء إلى أعالي الندب.. ومن حق البلاد أن تشيّع الشجر الثاكل الذي أعول على رحيل سادن الشعر الفلسطيني.. والمنشور الجماعي لبلادنا..
محمود درويش.. نقطة الضوء العليا الشاسعة وجمرة الشعر الواسعة بحجم فلسطين.. وماؤنا الشعري الثقيل الذي أوصل فلسطين الى العالم حرّة ومعافاة وعصية على الانكسار والرضوخ.
إنه محمود درويش الاسم الحركي لفلسطين والمغني الجوّال الذي حاس في المنافي والمغتربات وأسطر حكاية شعبنا العظيم وقال مقولته الأكيدة والناجزة في الدفاع عن الجماليات والسياقات العفية والنقية في الخطاب الثقافي الفلسطيني العربي.
وانفتح بقلب الشاعر على الانسانية ليحقق حضوراً استثنائياً ومختلفاً، فاستحق بجدارة واقتدار أن يكون مغني بلادنا العالية الذاهبة الى أفق الحرية والتحرير سلام على روحك ايها الشاعر حتى ترضى سلام عليك يا سيد الوقت سلام عليك يا صاحب الكلام نداء من أجل أن يدفن محمود درويش في الجليل وجّه مجموعة من أصدقاء الشاعر الكبير محمود درويش هذا النداء: في هذه اللحظات المليئة بالأسى، ونحن نودّع شاعرنا الكبير محمود درويش، نرى الحزن مرسوماً على خريطة فلسطين، ونشعر بفداحة الخسارة التي جاءت تتويجاً لزمن الخسارات الذي نعيش.
هذا النداء موجه الى أهلنا في فلسطين، الذي كان درويش وسيبقى شاعر الحلم والمعنى في أرضهم. وهو نداء يتعلق بحقّ شاعر الجليل في أن يعانق أرض الجليل ويستريح في المكان الذي شهد ولادته الشعرية، وملأ قصائده بعطر اللوز والزيتون.
يحق لابن الجليل وشاعره أن يدفن في أرضه، ويجب أن لا يقوى أحد على منع هذا الفلسطيني العظيم من العودة الأخيرة إلى بلاده.
هذا نداء موجه إلى الجميع، كي نعمل معاً من أجل أن تستعيد الأرض جسد كلامها، الذي صار شعراً عظيماً كتبه شاعر عظيم.
التواقيع
- حنا أبو حنا
- محمد برادة
- سليم بركات
- محمد بكري
- عباس بيضون
- صبحي حديدي
- مارسيل خليف
- الياس خوري
- سهام داود
- رمزي سليمان
- أنطوان شلحت
- أنطون شماس
- ليلى شهي
- الياس صنب
- فواز طرابلسي
- محمد علي طه
- طه محمد علي
- فاروق مردم
- محمد نفاع
* * *
عمان ـ القدس العربي ـ من يحيى القيسي:
تلقى المثقفون والكتاب الأردنيون مساء السبت خبر رحيل الشاعر العربي الكبير محمود درويش بالذهول والصدمة،ونعت وزيرة الثقافة نانسي باكير الشاعر معتبرة رحيله خسارة للثقافة العربية،وشكلت رابطة الكتاب الأردنيين لجنة من اعضائها للتعامل مع هذا الحدث بما يليق به، وتم إقرار فتح الرابطة لتلقي العزاء فيها لثلاثة ايام اعتبارا من يوم الدفن، وهذا امر يجري للمرة الأولى في تاريخ الرابطة منذ انشائها قبل اكثر من 33 عاما، كما عبر الكتاب والمثقفون الأردنيون عن الخسارة الفاجعة التي لحقت بالشعب الفلسطيني خاصة وبالأمة العربية لرحيل شاعرها الأجمل والأقدر درويش،وثمة خصوصية لرحيله في الساحة الأردنية فقد كان الفقيد يعيش في عمان معظم وقته، إضافة إلى ارتباطه بالعديد من اصدقائه ومريديه حوله.وكانت الصحف الأردنية قد خصصت صفحات إضافية لصفحاتها الثقافية المعتادة لتغطية الخبر الصادم إضافة إلى وضع صورته وما تناقلته وكالات الأنباء على صفحاتها الأولى . هنا رصد لعدد من ردود الفعل على خبر رحيل الشاعر عند المثقفين والأدباء الأردنيين : أكثر من موت وأبعد من رحيل د. خالد الكركي (ناقد وأكاديمي) اللغة مشبعة بالأسى،فهذا أبعد من رحيل ،وأكثر من موت، غياب محمود درويش في هذه المرحلة بالذات يحيله رمزا أهم من رموزه الشعرية، رمزاً وطنياً وقومياً وإنسانياً، فدرويش تاج مرحلة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، وبين المحمودين أي محمود سامي البارودي،ومحمود درويش رحلة عربية في الشعر كان فيها شوقي وحافظ ومطران والسياب والبياتي وشعراء المقاومة في فلسطين والجزائر وما بعدهم، لكن محمود درويش كان تاجا للحداثة نفسها التي ظلت متصلة بفلسطين ،وبالأمة وبالهم الإنساني دون أن تفقد قدرتها على حداثة القصيدة نفسها رؤية وإيقاعا ورمزا ونتاجا ومفارقة،ومجمل شعر درويش يصبح الآن كتابا خالصا في نقائه ورفعته ومستواه في الشعر العربي كله.
إن رحيل درويش جارح فنحن عشنا زمانه، وكتبنا عنه، وعلمناه لطلابنا، وقد فعلنا ذلك حتى لا تغيب فلسطين،وحتى لا يضيعها السياسيون الهواة. خالص العزاء لكل الذين عرفوا فلسطين والأمة في الجرح والأسى والصبر والمقاومة وظلوا ينشدون معه ز على هذه الأرض ما يستحق الحياةس ...! سنظل نتعلم منه كثيرا ونعلمه لأبنائنا ...!
سأعوّد نفسي على غيابك
فخري صالح
( ناقد وصحافي)
لن أراك بعد الآن يا صديقي. لن أحظى بطلتك علي مبتسما بكامل أناقتك، وأنت تفتح لي الباب. فأسألك هل أنت خارج إلى موعد، فتقول: لا، أريد أن استقبلك.
لن أشرب بعد اليوم قهوتك التي لم أشرب مثلها في أي مكان. لن أرى عينيك الذكيتين، أو أسمع مناكفاتك وتعليقاتك السريعة الخاطفة التي تبلغ جوهر المسألة دون كبير عناء. لن أتحفظ في إجاباتي وأسئلتي حتى لا أقع فريسة حضور بديهتك. كنت في الشهور الأخيرة مهموما بفكرة العمر، تهجس بالموت في كل حديث، في كل مهاتفة، وكأنك تعد نفسك للموت الذي قلت له في جداريتك زهزمتك يا موتس. كأنك كنت تريد مصالحته بعد خصام ليأتي سريعا وينهب روحك التي تعبت من هذا الصراع الطويل الطويل على أرض بقعها الدم ومزقها الخصام. كنت تقول لي إنك تحمل في صدرك قنبلة موقوتة، ولكنك تعيش هكذا أياما، شهورا، لا تدري ما تفعل بشرايينك الضعيفة التي ورثتها عن أبيك. لم يورثك وإخوتك إلا شرايينه الضعيفة. لكنك كنت تخاف إذا أجريت العملية أن يصيبك الشلل، ولم تكن مستعدا (وأنت الشخص الأنوف الذي يعتمد على نفسه في كل شيء، يصنع قهوته لنفسه وأصدقائه، يعد طعامه بنفسه في كثير من الأحيان) أن تصبح عالة على غيرك. هل اخترت الموت إذاً أم أنه هو الذي اختارك في غفلة منا نحن الذين شجعناك على ضرورة أن تجري تلك العملية الدقيقة التي أخذتك منا؟ هكذا إذاً، رحل محمود درويش فجأة دون أن ينبهنا. هكذا دون أي إنذار ولا تلويحة وداع، دون ابتسامته العذبة التي تلوح من بعيد، وطوله الفارع يكاد ينحني على قلبه وشرايينه الضعيفة التي رققتها حوادث الأيام والانكسارات الكثيرة التي أكلت أيامه وأيامنا. رحل وهو في عنفوانه وشبابه وقمة تألقه ونضجه الإبداعيين، في ذروة حماسته واندفاعه للكتابة والتجريب ودخول معارج جديدة في الخلق وابتكار الأشكال والطرق والأساليب. لم يصب الهرم روحه ولا كتابته. كان في السنوات الأخيرة وكأنه يبدأ الكتابة من جديد شابا في العشرين من العمر يفتش عن لغته وفكرته وسط آلاف اللغات والأفكار. كان يزوج النثر للشعر والشعر للنثر، يقرب بين فلسطين واليومي، بين الحكايات الكبرى للعرب والفلسطينيين ومقاطع مختارة من سيرته الذاتية ليكتشف الكوني فيه وفينا، والعادي في القضية. كان يخفض من إيقاع قصائده الأخيرة لتتناسب ومنحنى الحكاية الفلسطينية التي صعد بها حصان شعره شاقا الآفاق نحو جهات الأرض الأربع ليصبح شعره اسما حركيا لفلسطين. فهل كان اندفاعه وحماسه المتقد للكتابة خلال الشهور الأخيرة إحساسا بقرب النهاية، بدبيب الموت يسري من شرايينه الضعيفة إلى سائر أنحاء جسده؟ لقد استشرف النهاية، لا بل إنه رآها قادمة من داخله، من شرايينه الضعيفة التي غدرت به وهو في أوج عطائه. وداعا يا صديقي لن أكحل عيني بمرآك. سأعود نفسي على غيابك.
سينهض من موته ليقرأ مراثينا له
إبراهيم نصرالله
( شاعر وروائي)
كيف يمكن أن نرتجل كلاما في مثل هذا الموت؟ وأمام هذا الموت الذي يهزمنا مرة أخرى، بإصابة مباشرة وفي القلب تماما.كما لو أننا نعاني من قلة الأعداء، وقلة القتلة؟! لسبب ما غامض، أصابني إحساس غريب، بأنه سينهض من موته ليقرأ مراثينا له.. ولكنه لم يفعل..
رحيل محمود درويش، فصل كبير من فصول هذه التراجيديا الفلسطينية أو (الملهاة)، التي لا يصل فيها الحبيب إلى الحبيب، كما قال ذات يوم، إلا شريدا أو شهيدا.
رحيله، كما رحيل أي فنان أو كاتب كبير، يترك مساحة هائلة من الروح الفلسطينية والعربية عارية، فكل قصيدة هي سماء ملجأ لهذه الروح؛ ولذا، نحن اليوم نرزح تحت ثقل خسارة كبرى بهذا الرحيل القاسي، خسارة افتقادنا لمبدع كبير سنفتقد قصائده الجديدة التي هي رفيقة الطريق ورفيقة الحلم لشعب يستحق أن يحيا حياته حرا فوق الأرض لا تحت التراب.
مرة أخرى يهزمنا الموت بكل هذه القسوة، لأنه الأكثر معرفة بأننا كنا دائما عشاق حياة.
محمود درويش: شاعر بحجم فلسطين
د. فايز الصُيّــــاغ
(شاعر وأكاديمي)
في تاريخنا الوطني والثقافي، كثيرة هي الأحصنة التي تركها فرسانها وحيدة، وكثيرة هي المراثي والجداريات التي أبدعها من يناجون الموت حباً في الحياة وعشقاً لزهر اللوز. لكنا لم، وربما لن، نعرف أنبل من هذا الفارس، ولا أكرم من هذا الحصان. لقد كان محمود درويش، وسيظل، شاعراً بحجم فلسطين، ومبدعا بقدر ما تحمله الفجيعة والمقاومة والنفي والانبعاث من الإبداع المتوهج، ومناضلاً كانت كلماته أمضى من السيوف الكليلة التي يحملها أكثر مُدّعي النضال والشعر على حد سواء. كان حضوره الشعري، وسيظل، جماهيرياً وعميقاً ومدوياً ومتألقاً على الصعيد الفلسطيني والعربي عموما، وإنسانياً ومؤثراً على الصعيد العالمي. وقد أعاد الاعتبار لجدوى الشعر في الحياة العربية المعاصرة، وارتاد، هو وقلة من الشعراء الحقيقيين بيننا، آفاقاً غنية رحيبة تثري الإحساس بالكرامة الإنسانية، وتجذّر الإيمان بالحرية والتحرر في أوساط الفلسطينيين والعرب أجمعين.
سيبقى اسمه خالدا في تاريخ الأدب العربي
نانسي باكير
( وزيرة الثقافة الأردنية )
فقدان محمود درويش يشكل خسارة كبيرة للثقافة العربية، ونحن في الأردن نشعر بالخسارة، كون الفقيد الكبير كان قريباً من الحالة الثقافية في الأردن، ويقيم بعض وقته في عمّان. إن محمود درويش حالة من الإبداع الذي نعتز به، وسيبقى اسمه خالداً في تاريخ الأدب العربي.
سيبقى حيا في ضمير محبيه
د. عز الدين المناصرة
( شاعر وأكاديمي)
عندما جاءني الخبر فزعت فزعاً شديداً، لأن علاقتي الشخصية بمحمود درويش، هي علاقة الصداقة العميقة في الحياة، وفي الشعر. وزاد من حزني عليه أننا افترقنا منذ سبع سنوات على خصومة ملتبسة لعب فيها بعضهم دوراً كبيراً، فلا هو عاتبني، ولا أنا عاتبته، لكنني لم أقل في أية لحظة أن درويش ليس شاعراً كبيراً، بل هو شاعر كبير موهوب، استطاع أن يوصل حداثته الشعرية الخاصة إلى الجماهير العريضة، التي أحبّت قصائده.
إن رحيله خسارة كبرى لثقافة الشعب الفلسطيني وللشعر العربي الحديث. وأنت يا محمود تموت منفياً مثل كل المنفيين من أبناء شعبنا الفلسطيني، ولكن اسمك قد دخل في سجل الخالدين الذين أعطوا لشعبهم الكثير، وستبقى حياً في ضمير محبّيك.
نحن يتامى بعدك يا محمود
موسى حوامدة
( شاعر وصحافي)
حزينة عمان هذا المساء، حزينة رام الله والبروة والجديدة وحيفا، وفلسطين هي الأكثر حزنا لأنها ستنام لأول مرة بدون عريسها الفتي والوسيم وبدون شاعرها الأجمل.
حزينة عمان لأنها ستنام أيضا بلا رائحة درويش وقد اختارها سكنا ومنزلا وحمل جواز سفرها مؤكدا ما كان يقوله دائما أن الأردن وفلسطين رئة واحدة أو شقان لذات الرئة وقلب واحد وشعب واحد وقد صدقت نبوءته فنحن الأكثر حزنا وبكاء عليه وخسارة له.
نحن يتامى اليوم بعد رحيلك يا محمود فقد كنت الجدار الذي نستند عليه والأخ الأكبر الذي نطاول به عنان السماء والمعلم الذي مهد لنا طريق الشعر وحب فلسطين وعشقها.
لك الخلود أيها الشاعر فالشعر بعدك حزين يلبس ثياب الحداد، ويقيم في دمعة العمر الطازجة، ويستقر في قلب المراثي. لكم كنا عاجزين عن حبك كما يليق بالنجوم، لكم نحن ضعفاء ومترددون أمام خسارتك الكبرى، خسارة سماء سقطت في قلب الحقيقة القاسية. لكم نحن عاجزون عن قول الحقيقة، لكم قهرنا الموت برحيلك، لكم حطم فينا الكثير، لكننا مؤمنون بأنك لم تمت، بل رحلت من بيت الحجر إلى بيت الخلود.
نحن عشاقك يا محمود نحبك حياً وخالداً نحبك كما أحببناك صغارا وأطفالا وشبابا ونحبك حتى نموت ونحن نردد قصائدك ونسمع صوتك الجميل الجميل، ونمشي بقامتك الباسقة والشامخة.
قامة عالية وحالة شعرية استثنائية
جريس سماوي
( شاعر وأمين عام وزارة الثقافة)
أشعر بالخسارة والفقدان على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد الثقافي بفقدان محمود درويش، فلقد كان صديقاً قريباً وحميماً، وكان حالة تمثل الأكثر شفافية والأكثر نبلاً والأكثر إبداعاً. إن فقدان قامة عالية مثل درويش سيترك أثراً بالغاً في حركة الشعر العربي الحديث. لقد كان اختراقاً شعرياً وحالة استثنائية، واستطاع بإبداعه العالي أن يجرّ الجمهور إلى مساحاته الإبداعية وتخومه ضمن شروطه هو، لا شروط الجمهور. لم أكن أتوقع موته، وكنت أعد العدة بالترتيب معه لأمسية شعرية كبرى له في عمّان. لكن درويش أنهى الآن كتابة قصيدته بشكلها النهائي.
لقد قدمتُه في أكثر من أمسية شعرية، وفي أكثر من توقيع كتاب، وعندما قدمته في توقيع كتابه (في حضرة الغياب) لاحظت الحضور الطاغي للموت في نصه، ذلك النص الجارح والحزين والمليء بالوجد.
صدمة لا مهرب منها وخسارة بحق الشعر
إلياس فركوح
( روائي وقاص)
رغم حالة التوقع برحيل درويش، إلا أن الحدث بحد ذاته شكّل صدمة لا مهرب منها، إذ الوقْع تركَ في داخلي سؤالاً: كم سيكون الفراغ كبيراً إذ رحل شاعرنا الكبير. ليس سهلاً استبدال شاعر بآخر، فكيف يكون الحال إذا ما غاب عنا صاحب قامة شعرية أرى أن الثقافة العربية لن تنتج مثيلاً لها عبر عقود وعقود.
لم يكن محمود درويش مجرد شاعر، ولم يكن مجرد فلسطيني، ولم يكن مجرد نجم ثقافي. بل كان ذلك كله، إضافة إلى كونه أحد المثقفين العرب الأعمق معرفةً والأحرص على نقاء المفردة حين يرصفها إلى جانب غيرها في سطر لم يكتمل رغم مئات الصفحات التي ملأها. أرى أن درويش لم يكمل جملته بعد. ربما ترك البقية لنقولها نحن. رحيل درويش خسارة كبيرة بحق الشعر العربي والشعر في العالم.
علينا ان نعيد قراءة اعماله واستيعابها
جمال ناجي
( روائي)
أنا واحد ممن فجعوا بهذا الخبر غير السار، وما أزال تحت وقع الصدمة، ليس بسبب مفاجأة الموت، وإنما بسبب الخسارة الفادحة التي مُني بها الأدب العربي جراء موت واحد من أصحاب المدارس الشعرية المجددة التي تأثر بها الكثيرون من الشعراء العرب، وشكلت ما يشبه الموجة التي امتد تأثيرها في أبيات وقصائد كثيرة، في كل أنحاء الوطن العربي، الأمر الذي يدعوني إلى القول إن هذا التأثير في صيغته المستقبلية قد توقف، وأصبح علينا أن نعيد قراءة أعمال درويش وتفسيرها واستيعابها، فهذه هي الطريقة الوحيدة التي نضمن خلالها بقاءه بيننا، دون أن نغفل الدور العالمي الكبير الذي اضطلع به شاعرنا في الدفاع عن الحق الفلسطيني، عبر القنوات والوسائل الإعلامية العالمية التي قدمت أفكاره التي كان لها أثر كبير في خدمة هذه القضية.
موهبته فذة توائم بين الثقافي والسياسي
يوسف عبد العزيز
( شاعر )
برحيل الشاعر محمود درويش تفقد الأمّة العربية واحداً من رموزها الحضارية الكبيرة، الذين أخذوا على عاتقهم مهمة مجابهة مشروع الهزيمة والانحدار في المنطقة. لقد حمل هذا الشاعر قضية فلسطين، ونقلها من حيزها الجغرافي الضّيّق إلى العالم. لقد بشّر بها باعتبارها قضية شعب ينشد العدالة والحرية، وذلك مقابل ما كانت تشيعه الصهيونية أن هذه القضية ما هي إلاّ قضية مجموعات متورطة بالإرهاب! محمود درويش اشتغل أيضاً في المنطقة الشعرية الحرجة، لقد استطاع بموهبته الفذّة أن يوائم ما بين الجانب الثقافي والجانب السياسي في النّصّ الذي يكتبه، كان لا يستسلم للكتابة الجاهزة المعبأة بالشعارات، ويدرّب جمهوره في الأمسيات الشعرية التي يحييها على معانقة الجمال والتّلذّذ به واكتشافه. وعبر ذلك كلّه استطاع هذا الشاعر الفذ أن يصنع له جمهوراً كبيراً ومتعدّداً في كلّ عاصمة عربية وعالمية زارها. ممّا يمكن إضافته في هذا الحيّز أن محمود درويش قد ظلّ مخلصاً للشعر ولروح الفنّ حتى الرمق الأخير من حياته، لقد كان يسهر على قصيدته ويحدب عليها حتى وهو يخوض صراعه الضّاري مع الموت الذي ظلّ يتربص به في السنوات الأخيرة. عزاؤنا نحن أيتامه بهذا الشعر العظيم الذي تركه بين أيدينا.
سيبقى أدبه خالدا بعده
سعود قبيلات
( قاص ورئيس رابطة الكتاب الأردنيين)
رحيل درويش خسارة كبيرة للحركة الثقافية العربية. لقد نقل القصيدة العربية إلى مستويات متطورة، وأصبح علامة مهمة في الأدب العالمي ككل، وعبّر عن قضية شعبه العادلة بلغة إنسانية وأدبية رفيعة، ولذلك سيبقى أدبه خالداً بعده، وسيصبح جزءاً مهماً من التراث الأدبي العربي والإنساني.
أمير الشعر ومتنبي العصر
ليلى الأطرش
( روائية ورئيسة القلم الدولي فرع الأردن)
محمود قيثارة فلسطين ونايها الحزين كلماته المنسابة لها قدرة التفجير مذ صرخ في عتمة الهزيمة ز سجل أنا عربيس لملم نجوم الأوطان والنفوس المنكسرة فغرسها في شوق الأرض ورواها شعرا نبتت فلسطين في مآقي المهزومين واليائسين غنى الأطفال لوطن مرسوم في كلماته هو متنبي عصر لم تشغله الإمارة وصاحب معلقة كتبها على جدران القلوب ذهبا هو أمير الشعر والشعب والوطن فتماهى الوطن والشاعر صار فارسها واحدا كبر أحمد الزعتر فعانق عروبته ونضج في حضن العالم تلونت قصائد الأمير بعذابات التيه والخروج الفلسطيني فصاح سأقاوم خاض حروبه بسيف الشعر فالتمع النصل وهجا في الزمان، وكلل هامة الشاعر بالتمايز،وحارب الآخرون معارك الكلام الرخيصة فتثلمت سيوفهم بالتنازل.
سطر البطل الإغريقي ملحمة الوجد والشوق اكتمالا ونضجا بموهبة بحجم القرن والقضية.
وحده درويش لملم شتات شعبه أملا وأضاء ظلامه انتماء.
نسج من عذابات فلسطين طوقا من زهر اللوز فأضاء جباه الصبايا وزين عنق الوطن. وحده ضخ الحياة في الشرايين عنفا وقوة فاتسع شريانه حتى الموت تمدد قهرا ورفضا لقتال الأشقاء وتنازل القرار فرد الحزن ظلاله على الشرايين فتمددت بصمت الأنين حضر الغياب جلل قيثارة الحزن الفلسطيني ترمل الشعر تبكي فلسطين فارسها .. تصرخ بعده آه يا وحدي.. آه يا ولدي.
* * *
عندما التقيته للمرة الأخيرة، قبل ثلاثة أسابيع، على مائدة عشاء في مطعم ايطالي اختاره بعناية في جادة 'سان جرمان' المفضلة للشعراء والكتّاب والمثقفين في العاصمة الفرنسية 'باريس'، وبحضور الصديق المشترك، الناقد والأديب صبحي الحديدي، كان محمود درويش قلقاً لسببين، الأول أن القنصلية الأمريكية في القدس المحتلة لم تمنحه تأشيرة دخول (فيزا) لمراجعة المستشفى المتخصص بالشرايين في هيوستن رغم أنه تقدم بطلب في هذا الخصوص قبل أربعة أشهر، والثاني ان نتائج الفحوص الأخيرة التي أجراها لدى طبيبه في باريس لم تكن مطمئنة، فالشريان الأورطي متضخم ويمكن أن ينفجر في أي لحظة، ولا علاج إلا بعملية زرع اخرى، ولكن العملية مثلما قال له الطبيب الفرنسي تعني أحد أمرين.. الموت أو الشلل شبه الكامل. سألني بغتة عما اذا كان جسمي مؤلفا للكوليسترول مثل جسمه.. لم يتركني أجيب وواصل قائلا بأن عقله يكتب الشعر، وجسمه 'يؤلّف' الكوليسترول اللعين، ويبدو... واصل مازحاً، أن انتاج الجسم أغزر كثيراً من انتاج العقل، ولكنه انتاج قاتل للأسف.
غيّرنا موضوع الحديث، وانتقلنا إلى موضوع تأشيرة الدخول التي ينتظرها، ويستعجلها، وكأنه يستعجل شهادته، ولقاء ربه، كان غاضباً على الأمريكان، ومعاملتهم له وكأنه زوج ابنة اسامة بن لادن أو أخته، أخذوا بصماته، وطلبوا منه توقيع عدة طلبات مرفوقة برزمة من التحاليل الطبية والرسائل المتبادلة مع المستشفى الأمريكي، ومع ذلك ورغم وساطة 'الرئيس' محمود عباس، وتدخل السيدة كوندوليزا رايس مثلما همس البعض في أذني لاحقاً، فقد كان الجواب دائماً بأن الرد لم يأت بالموافقة من وزارة الأمن الداخلي، وعليه الانتظار. امتد بنا الحديث في ردهة فندقه المفضل، وهو بالمناسبة الفندق نفسه الذي كان يرتاده الراحل ادوارد سعيد، حتى الساعة الثانية والنصف صباحاً، وشعرت انه يخشى الليل ويستعجل الصباح، أو ربما أراد أن يطيل أمد اللقاء، والأحاديث عن شعراء قصيدة النثر الذي قال انهم دمروا الشعر، ووصفهم بالفدائيين الذين يملكون جرأة غير عادية في القاء شعرهم في قاعات خالية إلا من بعض اصدقائهم وزوجاتهم وبعض الأقارب.
كان يخشى هؤلاء، ويبتعد عن الصدام معهم فهم مراكز قوى مدججة بالأسلحة، أو 'مافيات' تهيمن على الصفحات الثقافية في الصحف والمجلات العربية، ويجاملون بعضهم البعض، ويكرهون بعضهم البعض، واذا تصالحوا فلفترة قصيرة كان يسميها 'تحالفات الخمس دقائق'، ولكنهم والرأي للمرحوم محمود، يتوحدون ضد غيرهم من شعراء الوزن والموسيقى، ناهيك عن شعراء القوافي. قلت له سنلتقي في باريس لنحتفل بسلامتك، عندما تتوقف فيها في طريق عودتك، وفي المطعم نفسه المتخصص بطبق الحبّار الذي تحب، نظر إليّ وقال 'إذا عدت'، ثم تساءل: لا أعرف ما إذا كنت سأوافق على العملية الجراحية أم لا، ولكن الشيء الوحيد الذي أعرفه أنني لن أعود 'مشلولاً'، فإما في تابوت أو سيرا على قدمي.
افترقنا في اليوم التالي، عاد الى رام الله عن طريق عمّان، وعدت إلى لندن، ليهاتفني بعد ثلاثة أيام بأنه وجد الفيزا في انتظاره، وأنه سينطلق مع أواخر شهر تموز (يوليو) إلى هيوستن وبصحبته صديقه الصدوق أكرم هنية رئيس تحرير صحيفة 'الأيام' الفلسطينية، وسألني عن أصداء قصائده التي خص بها 'القدس العربي'، فشرحت له كمّ الردود الهائلة عليها في موقعنا الالكتروني، وشعرت كم كان مرتاحاً وسعيداً.
محمود درويش كان دائماً يعيش حالة قلق كلما كتب قصيدة جديدة، وكأنها القصيدة الأولى التي يكتبها في حياته، يسأل عما اذا كانت جيدة، وتصلح للنشر، فننهره بمودة، ونستغرب أسئلته هذه، ولكنه يقسم، وهو صادق، انه لا يعرف ما اذا كانت جيدة أم لا، ويريد رأينا قبل النشر وبعده، ثم بعد ذلك تدخل الطمأنينة إلى قلبه المتعب.
لم نعرف أن الحكومة الأمريكية اسدت إلينا معروفاً كبيراً عندما تلكأت في منحه الفيزا، فقد ابقته بيننا أربعة شهور، انجز خلالها اثنتين من أعظم قصائده، وشارك في عدة أمسيات احداها في رام الله، والثانية اقيمت في ملعب كرة قدم في جنوب فرنسا، ومحاضرة في باريس وسط نخبة من كبار الأدباء الفرنسيين، فقد يأتي الخير من باطن الشر الأمريكي.
لم يحدث أن اسيء فهم شخص في الثقافة العربية مثل محمود درويش، حيث ظلت تهمة الغرور تلاحقه من قبل الكثيرين، ولكنه لم يكن مغروراً ولا متكبراً، وانما شخص 'خجول' لا يفضل الاختلاط كثيرا بمن لا يعرف، ويتجنب الثناء والاطراء، وهو الذي يملك أرصدة ضخمة منهما على امتداد حياته الادبية. فهو لا يستطيع، كما كان يقول لي دائماً، أن يكون صديقاً للملايين من معارفه ومحبيه، ويحتاج إلى الخصوصية التي يتقوقع في داخلها في لحظات حياته بعيداً عن الأضواء.
عندما كان يقيم في باريس، وبالذات بعد استقالته من عضوية اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً، ورفضاً، لاتفاقية أوسلو، واجه ظروفاً مالية صعبة جداً، فقد قرر الرئيس الراحل ياسر عرفات وفي خطوة مؤسفة، وقف الغالبية العظمى من مخصصاته المالية، ومن بينها أجرة الشقة المتواضعة التي كان يعيش فيها (غرفتان وصالة)، وكان بيننا اتصال هاتفي يومي في الساعة الثانية عشرة بتوقيت لندن، وفي احدى المرات، ولظروف قاهرة تتعلق بمشاكل مادية واجهتنا في الصحيفة استدعت قدوم محصلي الديون لمصادرة اجهزتنا وطاولاتنا وما تبقى من اثاثنا الهرم، لم اهاتفه كالعادة لمدة يومين فاتصل بي في اليوم الثالث غاضباً ومزمجراً بسبب انقطاعي عن الاتصال.
فاجأني عندما قال انه يعيش على هذه المكالمة اليومية، فهو لم يعد يستقبل غير مكالمتين فقط، الأولى مكالمتي المعتادة، والثانية من شخص عابر سبيل، وتساءل هل طلبتني في أي يوم من الأيام ولم تجدني، قلت لا.. قال معنى هذا أنني لا أخرج من البيت لأني لا أملك ما يجعلنى أخرج إلى القهوة أو المطاعم فقطعاً سيلتف حولي المحبون، ولا استطيع دفع الفاتورة. شعرت بالصدمة، فهذا الشاعر الكبير لا يجد من يهاتفه، وربما أحس بهذا التساؤل في ذهني، وقال: الأمر بسيط جداً: لا نقود.. ولا نفوذ.. ولا يهود.. وشرح لا نقود لأن الرئيس عرفات أوقف مخصصاته، ولا نفوذ أي لم يعد عضواً في اللجنة التنفيذية وقريباً من الرئيس مما يمكنه من حل مشاكل المحتاجين أو توظيف بعضهم، وأخيراً لا يهود.. أي أنه ليس منخرطاً في المفاوضات التي كانت على أشدها، حتى يكون في قلب الحدث الاعلامي والسياسي.
محمود درويش واجه 'خيبات أمل' كثيرة في حياته، ولكن أبرزها في رأيي، خيبة أمله في الشعب الفلسطيني عندما لم يثر غاضباً ضد اتفاقات اوسلو، فقد توقع هذه الغضبة، واراد ان يكون مع الشعب، لا مع الموقعين عليها، ولكن هذا الشعب فاجأه عندما رقص في معظمه طرباً، وصدق 'أكاذيب' قيادته بأن السلام قادم والدولة الفلسطينية المستقلة على بعد أربع سنوات فقط.
خيبة الأمل هذه اجبرته على ان يخفف من معارضته، وأجبرته ان يعود الى رام الله لانه لم يعد يستطيع العيش في باريس، وحتى لا يتهم بانه، وهو أحد المتشددين في الاصرار على حق العودة، رفض ممارسة هذا الحق عندما سنحت له الفرصة، مضافا الى ذلك ان معظم اصدقائه في تونس عادوا ولا يريد ان يتخلف عن الركب، وحرص ان يترك مسافة بينه وبين السلطة.
اما خيبة الأمل الثانية فتمثلت في رأيه بالأداء الفلسطيني، والفشل الكامل في اقامة المؤسسات والحكم النموذجي الذي كان يأمله، وفوق كل هذا انهيار المشروع الوطني الفلسطيني الذي كانت تبشر به السلطة وقادتها واتساع دائرة الفساد المالي بصورة مرعبة، وقال لي في احدى المرات ان امنيته ان يهاجر مرة اخرى الى باريس ويعيش في استديو صغير (غرفة واحدة) ويقضي بقية حياته هناك، ولكن ما يمنعه هو الخوف من الاتهام بانه يرفض الوطن، والتضحية من اجله.
محمود درويش استقال من كل مؤسسات منظمة التحرير، واعاد اصدار مجلة 'الكرمل'، ورفض كل ضغوط الرئيس الراحل عرفات لتوزيره في حكومة السلطة، وفضل ان تكون دائرته في رام الله صغيرة جدا، محصورة في مجموعة اصدقاء، بعضهم شعراء وكتاب، واكثرهم من الناس العاديين البعيدين عن الوسط الثقافي. لانه كان يبحث عن الجلسة المرحة للهروب من ضغوط مرضه، وامراض المثقفين المستعصية، من غيرة وحسد ونميمة مثلما كان يقول.
كان يكره القيود، ولهذا لم يتزوج ثالثة، كان يكره ان تشاركه امرأة حياته، وكان يفضل دائما ان يكون سريره مملكته، كنا نلتقي بصفة دورية في باريس، وكان يحب الحديث عن النساء ومغامراته، وفي احدى المرات سألته كيف تطلق 'فلانة' بعد ستة اشهر وبهذه السرعة، قال لي: وهل تعتقد ان ستة اشهر فترة قصيرة، لقد طوّلت اكثر من اللازم.
محمود درويش أحب العرب جميعا، ولم يكن غريبا ان تكون اقوى قصائده في بواكيره الاولى 'سجل انا عربي'، وكان يشعر بمودة خاصة تجاه ابناء المغرب العربي الذين بادلوه الحب بحب اسطوري، ولذلك لم يتردد في قبول دعواتهم لإلقاء اشعاره في تونس والجزائر والمغرب في فترات متقاربة.
ربما تكون المملكة العربية السعودية من الدول القليلة التي لم يزرها مطلقا، وهناك قصة غريبة وراء ذلك، فقد جاء احدهم يفاتحه قبل عشرين عاما بدعوة لحضور مهرجان الجنادرية الثقافي السنوي في وسط نجد، وعندما سئل عن الجهة المنظمة قالوا له انها 'الحرس الوطني'، فقال وما علاقة العسكر بالثقافة، ألا توجد رابطة او نقابة او هيئة تتولى هذه المهمة غير الحرس الوطني؟ وكانت هذه الكلمات نهاية العرض.
كان مولعا بالتدخين، وبعد عمليته الجراحية الاولى التي تكللت بالنجاح، قال له الطبيب ان اول شيء يجب ان يفعله ان يتوقف عن التدخين، فقال له دعنا 'نتفاوض'، فقال له الطبيب لا مفاوضات ولا تنازلات، فرد عليه: واذا توقفت عن التدخين ماذا سيحدث؟ فقال الطبيب: سيطول عمرك عدة سنوات، فقال له: سأستمر في التدخين، وليقصر عمري، لانه يعني تقصير شيخوختي. ولكنه اضطر للتوقف كليا بعد عمليته الثانية، وظل يجلس بالقرب من المدخنين ليستنشق ما هو محروم منه.
محمود درويش لم يعش الشيخوخة مطلقا وغادرنا وهو في قمة عطائه وعنفوانه وأناقته، وشخصيته المحببة، وتعليقاته الساخرة اللاذعة، شيء واحد لم يحققه، وهو الذي دخل قلوب وعقول الملايين، عدم حصوله على 'جائزة نوبل' التي ترشح لها عدة مرات في السنوات الاخيرة.
بعد محمود درويش لن يكون الشعر بالقوة نفسها او بالسحر نفسه، سيكون شعرا مختلفا، فبرحيله رحلت ظاهرة شعراء يملأون ملاعب كرة القدم بالمعجبين والمعجبات، ليس في الوطن العربي وانما في المنافي الاوروبية.
خسرته صديقا عزيزا، ورمزا من رموز هذه الأمة التي ربما لن تتكرر الا بعد قرون. محمود درويش اقول وداعا.
القدس العربي
11/08/2008
***
في المقاومة المتعددة
ذلك ما شاءت لنا الطبيعة. أن ترحل بعيداً عنا، بعيداً إلى حيث أصدقاء ومعلّمون رحلوا. لهم الأزمنة القديمة والحديثة، من امريء القيس إلى سركون بولص، ومن سقراط إلى إدوارد سعيد. كوكبة بها كان للحياة معنى ويكون لغيرنا ولنا، على هذه الأرض. ها أنت معهم، في الطريق التي لا يدركها إلا الخبيرون بأهوال السفر. عشقت الحرية فأصبحت واحداً من أهلها، وانتسبت للقلق فعرفت قبيلته. وكان لك المنفى والمنفى، غريباً على الحدود. 2- لا أصدق النبأ، ولكن ليس لي سوى أن أصدق. ذات مرة سألتك بنوع من المداعبة: 'كيف أنت مع تعب القلب؟'. 'قصة وقعت، وانتهت.' أجبتني. مرحُك لم يترك لي شكّاً في اجتيازك محنة تعب القلب، وتجربة الموت الأولى. أتذكر الساعات المتلاحقة أثناء العملية وبعدها. وأتذكر زيارتك للمغرب وأنت تستعيد حيويتك وحرارة لون بشرتك. ثم البارحة مساء، وصلنى النبأ. لم أستطع الرد على مكلٍّمي. لساني صار أخرس وأعضائي مشلولة. لا الحزن ولا البكاء. أحسست بجبهتي تنشق وتخيلتُ أني أرى جمجمتي فارغة.
مشاهد متقطعة من حياتك أخذت تمطر في صمتي. بدون ترتيب كانت المشاهد تذهب وتجيء. غرفة العمليات لم تبيّن حجمها. أضواء كاشفة تنطفيء. مقاطع من قصائدك تلمع. أنا وقفتك وأنت تقرأ أمام جمهورك، الذي لا يشبه جمهور أي شاعر آخر، عبر جهات الأرض ومن لغات يصعب عدُّها، مقاطع مما تحب أن يظل حاضراً في جسد جمهورك أو أن يعود إليه في القراءة. أحاديث بدورها أصبحت تتردد في سمعي 'مناجاة' كنت أحياناً تسميها، ممتزجة بابتسامة تخترق بها جبال الألم. مطر لا يتوقف. ونفسي خارج نفسي.
3- من حقك على كل واحد منا أن يقف، اليوم، صامتاً. هو وقوف لأجل أن يتعهد بتكريم الشاعر فيك، ويتأمل مقاومتك المتعددة، إنه حق الذين وهبوا حياتهم للسهر على المعنى: معنى الشعر.. الثقافة، الحرية، الإنسان. معنى الشاعر، المبدع، المقاوم، كلمات هي رحم رؤية للحياة والموت، أساسها الإنسان والإنسان من حق هؤلاء جميعاً، عبر أزمنة وأمكنة، تستمد حقك بها من كل واحد منّا.. وقوف تجسدته الكلمة ذاتها. وهل هناك ما هو اوكد من كلمة تقف ضد زمن يمنع عنا معنى الكلمات؟ بلى إن الشاعر فيك مبتدأ مقاومة لا نهاية لها.
الشاعر الفلسطيني، الذي قاوم من أجل أن يكون الشعر لغة فلسطينية حديثة ومن أجل أن تبقى فلسطين لغة انسانية مشتركة. في معنى 'الشاعر الفلسطيني الحديث' يرتسم البعد الكوني لمغامرتك الشعرية وحياتك الشخصية في آن. وذلك أيضاً ما كنت أنت حريصاً عليه. ببصيرة وفراسة ومعرفة.
4- تقف الكلمة كلمتي وكلمة اصدقائك ومحبيك في فلسطين وعبر العالم لتكون لك الوفاء والعهد. على أنني أشعر بشيء يتلاشى في كلمتي. أقصد القدرة على أن تختصر ما لا يقبل الاختصار. كذلك كان شأني معك دائماً، في لقاءات وأفعال وحوارات لم تتوقف بيننا منذ أواسط السبعينيات، عندما التقينا أول مرة في الرباط. كنت دائما أقوى من كلمتي لأن معنى المقاومة لديك يخفي أكثر مما يظهر. وهو ما يحمي سرّها من الانكشاف الكلي.
ما قرأته لك، وما عشته، قريباً أو بعيداً عنك، وما عرفت منك ومن غيرك، كلّه يؤدي بي إلى قول أن لمقاومتك أسراراً لن ندركها دفعة واحدة. مثقفون عرب نادرون في زمننا الحديث بلغوا هذه المكانة، وأقربهم إلى نفسك إدوارد سعيد. من هذا الركن يمكننا إعادة قراءة الثقافة العربية الحديثة لندرك معنى الثقافة في تاريخ الإنسانية ومعناها في مشروع التحديث لدى العرب، منذ القرن التاسع عشر.
5- أستعمل هنا كلمة 'المقاومة' وأنا أعلم أنها تعرضت للتشوه في خطابات، تعتبر نفسها ما بعد حديثة، مثلما هي تتعرض للتسفيه. تلك مشكلة ثقافة عربية (وغير عربية) تتخلّى عن مكانها، وليست مشكلة معنى كلمة 'المقاومة'. أستعمل الكلمة واصر على استعمالها، بل أراها الكلمة التي هي مفتاح شعرك وحياتك. بل أستعملها بما هي متعددة. ولا بد لمن يغتبط بالسعي إلى معرفة أسرار مقاومتك المتعددة أن يتأنى، لأن حياتك الثانية على هذه الأرض ستبدأ الآن فقط. والقادمون سيقتربون منك أكثر مما نحاول نحن المعاصرين لك، وسيعرفون أكثر حياتك الثانية حياة أعمالك. والرحلة الكبرى، رحلتها. ثمة التباسات يحسن استبعادها. كانت الصفة التي اختارها لك النقاد، حينما تعرفوا سنة 1968 على شعرك، هي 'شاعر المقاومة'. بهذه الصفة كان الاستقبال والاحتفاء. استقبالك جنباً إلى جنب مع إخوان فلسطينيين من الشعراء المقيمين داخل فلسطين والاحتفاء الذي أنسى الناس معنى الشعر في تاريخه العربي أو في تاريخه الإنساني. ولكن قلق الشاعر فيك كان، مرّة بعد مرّة، يعلمك كيف تنصت إلى أسئلة القصيدة في تجاوبها مع أسئلة ما يرجّ العالم ويقلب جغرافيات السياسة كما في المجتمع والأدب والثقافة. بقلق الشاعر ثرت، منذ البدء، على 'الحب القاسي' وتبعت صوت القصيد في زمنك، صوتاً ينتقل من الخارج إلى الداخل، ومن الضجيج إلى الإنصات. قلقُ القصيدة مضاء للبداهة.. وفلسطين، بؤرة قصيدتك الأولى، عبرت من البداهة إلى السؤال. ذلك أن قلق القصيدة متأت من الصلة لديك بين الشعر والحياة. مع تلك اللحظات اللانهائية للعبور كنت تفاجئ قارئك (وجمهورك) بقصيدة أسبقُ ما يعنيها ملاحقة الممكن الذي يحافظ للقصيدة على المعنى المتعدد وللقارئ على المجهود الشخصي في توليد تعدد المعنى. ولم تخدع نفسك (ولا قارئك) بالنفور من جمالية العروض والقافية، رغم انك غامرت بلغة تأنس بلغة الحياة اليومية وحكايتها. نفسك ترتاح لانسياب وزني ينفتح فيه الغنائي على الملحمي بفنية تتقن اللعب بالتركيب كما بالتشبيه والاستعارة.
اصبحت القصيدة تدل قارئها على قيمة الشعر فيها، لانها غادرت البداهة والارتجال والتحقت بالبحث الصبور، الصارم، عن صدمة اللغة ودهشتها. هي صدمة ودهشة الارتفاع بالحالة الفردية الى علق التجربة الملحمية. ابتداء من 'ورد اقل' اخذت قصيدتك يا محمود تنتصر على ما يفرضه عليها قارؤها، ثم مع 'جدارية' كان اختراق الحجاب نحو كتابة يتبادل فيها الظاهر والمحجوب الضوء.
6- اعرف ان ذلك كان مركز قلق كتابتك في الشعر والنثر معا. اعمال نثرية تتكامل مع الاعمال الشعرية كانت، حينا بعد حين تبني رؤية شعرية جديدة لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. رؤية تخلت عن البداهة بقدر ما تخلت عنها القصيدة. فلسطين في تاريخ يخطف البصر، وفلسطين يواجه احتلالا يدعي امتلاك حقيقة الارض والتاريخ، وشاعر يحفر الطبقات السفلى للتاريخ والاسطورة والملاحم، دائم التعلم، من اللغة الى الفلسفة ومن الاتجاهات الشعرية الحديثة الى الاديان والفنون. وكانت 'الكرمل' الوجه الآخر لهذا البحث او هذه المعرفة التي اصبحت ضرورية لفلسطين والفلسطينيين والشاعر. وعي كامل بالثقافة والفنون لبناء فلسطين حديثة، حرة، ديمقراطية، هي المسكن الرمزي للأحرار في العالم. كل ذلك لانك تحب للكلمة في قراءة العلامات الدالة على زمنك، الفلسطيني والانساني.
ومن يقترب من مركز قلق كتابتك يدرك عنايتك بالشخصي والجسدي. انك الشاعر الفلسطيني الذي جعل الشخصي والجسدي ينفلتان من خط الأحوال النفسية الرومانسية او الخطابية، وينحلان في ماء الحسية والمادية. هي ذي، باعتقادي، ثورتك الشعرية في قصيدة اعادت صياغة المأساة الفلسطينية من خلال تجربة فردية، شخصية وجسدية.
جرأة هي جرأة المعرفة نفسها بالشعري في زمننا الحديث. ولكنها ادت، في تجربتك بالذات، الى كتابة قصيدة تراهن على تحديث لاسطورة الفلسطينية التي هو احدى اقدم اساطير الشرق الاوسط. شعب متنوع لأعراق وأديان سماوية وغزاة وأناشيد ومنفيون وشهداء ومقاومون. تاريخ تهب رياحه على المتخيل البشري واسطورة حفظتها عن ظهر قلب كل شعوب البحر الابيض المتوسط ومنها الى العالم.
ثورة شعرية تحتاج الى قراءة تنسى قليلا قضايا جزئية شغلت القصيدة العربية الحديثة ونقادها في العقدين الاخيرين. اي ان ثورتك الشعرية، التي تحققت بحسية دقيقة ستأخذ في الظهور، من جديد، لنا وللاحقين علينا بمجرد ان نبدّل مكان القراءة. فتحديث الاسطورة الفلسطينية ابعد من جمالية ابيات او قصيدة اعمق من فكر سياسي وأوسع من تأويل قانوني لانها اصرت على ان فلسطينك اما ان تكون حديثة او لا تكون، اما ان تكون حرة او لا تكون. صراعك مع الذات لم يكن اقل من صراعك مع المحتل الاسرائيلي. وتحديث الاسطورة الفلسطينية هو عمل الشاعر الذي ينصت بجرأة ويقرأ العلامات. انك وانت تكتب الاسطورة الفلسطينية وضعت للفلسطينيين ولأهل الارض جميعا، كتابك المشرق بالأمل في السلام والحرية.
7ـ قلقك، اذن، يسهر على حدود القصيدة، داخلها وخارجها في آن. قلق المقاوم لكل ما يلغي القصيدة والشاعر، ثم قلق المقاوم للاحتلال الذي يريد ان يطرد فلسطين وشعبها من المتخيل البشري، الآن وبعد الآن، باسم الحق الديني للشعب المختار.لا. قلقك نداء للمستحيل، في القصيدة والحياة والجسد، على ارضك، فلسطين، وعلى ارض الناس جميعا. اسطورة فلسطين الحديثة التي كتبتها بدمك، بمنافيك وعذاباتك، اغنية تحتمل خلق عالم جديد، هو المستحيل ذاته. وهو لذلك لم يعثر على فضاء غير المقاومة المتعددة في القصيدة والحياة او في القصيدة والجسد.
وهاانت قريب دائما منا بأسرارك الكبرى سيدي وحبيبي محمود.
شاعر من المغرب
******
وداعا لشعر الألم
'وقال: اذا مت قبلك اوصيك بالمستحيل! سألت: هل المستحيل بعيد؟ فقال: على بعد جيل سألت: وان مت قبلك قال: اعزّي جبال الجليل واكتب: ليس الجمالي الا بلوغ الملائم، والآن لا تنس: ان مت قبلك اوصيك بالمستحيل عندما زرته في سدوم الجديدة في عام الفين واثنين، كان يقاوم حرب سدوم على اهل بابل والسرطان معا، كان كالبطل الملحمي الأخير يدافع عن حق طروادة في اقتسام الرواية/ نسر يودع قمته عاليا، فالاقامة فوق الاولمب وفوق القمم قد تثير السأم وداعا، وداعا لشعر الألم' نخاطبك بكلامك الذي خاطب ارواحنا، لا شيء ايها الشاعر الذي ذهب الى موته مستعجلا المعركة الثالثة مع القدر، لا شيء سوى كلماتك.
لا اصدق الموت، لا لأنه كاذب، بل لأنه صادق ويتقن عمله. لذلك نتركك يا محمود درويش تمضي من القمة التي اثارت سأمك وسأم ادوارد سعيد، ونخاطبك بالكلمات التي خاطبت بها ادوارد، ونتركك لهاوية النسور وجبال الجليل. نراك طفلا ينظر ذاهلا بعينيه الجميلتين الى الحياة وهي تنتهي، ونعود الى كلماتك، التي مزجت المستحيل بالملائم. لن اروي عنك اليوم، كل الكلام لك يا امير الكلام. اقف وحدي وابكي. لا ابكيك بل ابكي البكاء الذي اخترعه جدي وجدك وجد العرب امروء القيس، محولا الحصان الى حكاية والمثنى الى لحظة انفصال الأنا عن الأنا.
عندما تتوحد الأنا بالأنا يكون الموت، لكننا نبكي ونقول للأصدقاء جميعا قفا نبك، فلنكن في المثنى، او فلنرث منك انقسام الأنا عن الأنا، كي نموت مع الحصان. هل نسألك سؤالك، ونقول لك 'لماذا تركت الحصان وحيدا'؟ ام نسأل الحصان الذي اغوته الجليلية.
'لا شيء الا الضوء لم اوقف حصاني الا لأقطف وردة حمراء من بستان كنعانية اغوت حصاني' هل اراد الحصان ان يموت مضرجا بقصيدتك، كي يقتلك وانت على صهوة الزمن: 'سقط الحصان عن القصيدة والجليليات كن مبللات بالفراش وبالندى، يرقصن فوق الاقحوان الغائبان انا وانت انا وانت الغائبان زوجا يمام ابيضان يتسامران على غصون السنديان لا حب، لكني احب قصائد الحب القديمة، تحرس القمر المريض من الدخان كرّّ وفرّ كالكمنجة في الرباعيات انأى عن زماني حين ادنو من تضاريس المكان لم يبق في اللغة الحديثة هامش للاحتفاء بما نحب فكل ما سيكون... كان سقط الحصان مضرجا بقصيدتي وانا سقطت مضرجا بدم الحصان... ' والله ايها الشاعر كل قصائدك تصلح للبكاء عليك، فأنت لم تكن في حضرة الغياب الا كي تكمله.
'فلتحتفل مع اصدقائك بانكسار الكأس في الستين لن تجد الغد الباقي لتحمله على كتف النشيد... ويحملك قل للغياب نقصتني وانا اتيت لأكملك'.
وكي تكمل الغياب يا صاحبي عليك ان لا تنزل عن الصليب مثلما فعلت في 'الجدارية'، بل ستبقى عاليا فوق قمة الجليل وقبة ارواحنا.
ومثلما سار المسيح على البحيرة سرت في رؤياي لكني نزلت عن الصليب لأنني اخشى العلو ولا ابشر بالقيامة.
هذه المرة اخذتك القصيدة الى الأعلى، وعندما حاولت النزول، جاءك شعر الألم، جاعلا منك قصيدته الأخيرة.
******
شعره أهم من فلسطين
شهادات المثقفين العرب حول رحيل محمود درويش
'لقد مات محمود درويش وعاش مرات عدة، وكان موته دائماً إيذاناً بالحياة. منذ وضعته أمه في البروة، في فلسطين، أدخلته أقداره في فك الوحش، وهو فك مركب لأنه فك إسرائيل. فإذا كان الإنسان العادي حين يولد يدخل في التجربة فإن محمود درويش حياته كانت تراجيديا مركبة. حقيقة هذه الحياة التي عاشها هذا الشاعر كانت بين سجنين أو ثلاثة سجون، سجن فلسطين الداخل، وسجن المنافي الكثيرة التي تنقل فيها. لكن سجنه الكبير كان آتياً من وطأة إحساسه بمأساة وجوده.
كتب ثلاثة أنماط من الشعر، شعر الوطن، وشعر المنفى. لكن أهم ما كتبه هو النمط الثالث وهو شعر ذات. وبعد أن عزّت الإقامة بالنسبة إليه في وطن أو منفى اختار أحسن ما يختاره الشعراء: الإقامة في نفسه والإقامة في اللغة. ولعل من المفارقة أن أجمل ما كتبه هذا الشاعر هو وصفه الرائع لرحلته الأولى إلى الموت وما رأى في هذه الرحلة العجائبية، وهو ما سجله في ديوانه 'جدارية'.
مات إذاً رئيس جمهورية فلسطين، لكن علمها ما زال مرفوعاً في شعره. أنا أعتبر محمود درويش ثميناً، وأكاد أن أقول بل أثمن من فلسطين، مثلما هو المتنبي أهم من بلاد العرب، ومثلما هو شكسبير أهم من إنكلترا.
مات النجم الوحيد في ازمنتنا
عبد المنعم رمضان
(شاعر من مصر)
موت محمود درويش شديد الاسى، ويثير الكثير من الحزن اكثر من موت سواه. وفي الشهور الاخيرة واجهنا موت عدد كبير من رجالات الثقافة والابداع، يوسف شاهين، عبد الوهاب المسيري، رؤوف عباس، رجاء النقاش الى آخره. كل هؤلاء ماتوا بعد ان اكملوا مشاريعهم. كان موتهم موتا فيزيقيا. محمود درويش ـ في كتابيه الاخيرين 'في حضرة الغياب'، و'أثر الفراشة'، كان ينبئ عن نتاج جديد سيستكمله في السنوات القادمة لذا فإنني ارى موته موتين: الموت الفيزيقي وموت تلك المشاريع التي لم تتم.
مما يزيد الأسى ان موت محمود درويش بدا لي وكأنه موت المقامر، ذهب اليه بقدميه، وخرج على نصائح طبيبه واستجاب للرهان الذي وضعه أمامه الطبيب العراقي. أخشى أن أقول أن رهان محمود درويش جاء ليكون موازياً لموت القضية التي عاش أغلب عمره رمزاً لها.
جزء من ضجة موت درويش كون هذا الموت ليس موت شاعر فقط، إنه يبدو لنا نحن الذين نتابع الانهيار الفلسطيني وكأنه إعلان عن موت القضية، لذا فإن موته مرة ثانية موتان.
ومحمود درويش الشاعر شديد الذكاء كان قد فطن منذ فترة إلى أن قطار النضال الذي ركبه لزمن طويل وأنشد داخله أغلب قصائده الشهيرة، لم يعد يصل إلى أية محطة، فانصرف مختارا ومجبراً، مختاراً بفعل موهبته الشعرية وخبراته وربما اقترابه من الموت، ومجبرا بفعل تغيير الشروط والظروف والأوضاع، إلى ما أخذ يدافع عنه في حواراته الأخيرة أعني الشاعر الإنساني لا شاعر النضال، وكان يصر على ذلك في ندواته.
محمود درويش شديد الذكاء انصرف أيضا مختاراً ومجبراً في كتابيه الأخيرين عن قصيدته الموزونة المتمتعة بغنائية عالية جداً وموسيقى لا تخطئ، انصرف عنها إلى كتابة كتابيه المذكورين. اعتبر أحدهما نصاً واعتبر الآخر يوميا وإن كنت أراهما كتابين شعريين خرج بهما محمود درويش عن طريقته المألوفة والتي وصلت إلى جدارها الأخير.
محمود أدرك ذلك وهنا تكمن موهبته. خسارتنا أيضاً في موت محمود هو أنه الشاعر النجم الوحيد في أزمنتنا. سبقه إلى هذه المرتبة نزار قباني. وأهمية الشاعر النجم كبيرة، لأننا إذا قسمنا الشعراء تقسيماً تعسفياً إلى ثلاث فئات سنجد فئة أولى هي فئة الشعراء الشعراء، وهؤلاء ليسوا بالضرورة معروفين لدى الجماهير العامة، ثم هناك النجوم الذين ليسوا شعراء على شاكلة فاروق جويدة في مصر، وسعاد الصباح في الكويت، وأشخاص آخرين يحاولون أن يكونوا مثل أحمد مطر، وغيره، ثم هناك الشعراء النجوم، والحقيقة أن الفئة الأخيرة، فئة نادرة. محمود درويش هو آخر هؤلاء. أهميته أنه كان يعصمنا من النجوم التافهين، فالشاعر النجم هو الواسطة والجسر العظيم الذي يربط بين الجمهور العام والشعر، وهو ضروري لنا لأنه يحفظ للشعر مكانته، وأن يكون محمود هو الجسر، هذا ما كان يجعلنا في حالة اطمئنان. تخيلوا فاروق جويدة هو الجسر، تخيلوا حجم التدهور في الذوق والمفاهيم. أنا تخيلت عندما رأيته على شاشة قناة 'الجزيرة' وهو ينعي محمود درويش، تخيلته وخفت. لا يمكن أن ننكر أن النجومية ليست هبةً فقط، إنها ايضا تنطوي على شروط لا بد أن يحرص النجم على امتلاكها. محمود درويش كان وسيماً والنبي في ثقافتنا لا بد أن يكون جميلاً، محمود درويش استمرار لفكرة النبي في ثقافتنا. الجماعة الفلسطينية المشردة اختارت محمود درويش ليكون رمزها واستطاع هو أن يصبح ملائماً لهذا الاختيار، أغلبنا لن يستطيع لأنه لكي تصبح رمزاً لا بد أن تقبل حياة طويلة في سجن من اختاروك. استطاع محمود درويش أن يحقق هذا.
في ثقافتنا لا يمكن أن تكون نجماً إلا إذا اخترت الطريق المعبد، الطريق الآمن الذي يمشي فيه الجميع، لا يمكن أن تكون نجما على أساس من اقتراح طرق جديدة. نجوم ثقافتنا هم هؤلاء السائرون في الطرق المعبدة.
بعضهم يصل إلى أماكن لم نكن نعرفها مثل درويش، لأن شرط النجومية أن تذهب بفنك إلى الجمهور الموجود، لا أن تصنع جمهوراً جديداً لأول مرة.
الأفق الإنساني لا الدائرة الفلسطينية
جودت فخر الدين
(شاعر من لبنان)
تنازعتني المشاعر والأفكار عند تلقيَّ خبر رحيل محمود درويش. شعرت بأسى لم أعرفه من قبل. شعرت بهول غياب شاعر شكل بالنسبة إلينا جميعاً مظلة وارفة على مدى عقود من الزمن. لقد كان حضور درويش الساطع في الساحة الثقافية العربية، مصدر قوة وثقة لأدبنا الحديث. لقد كنا نحتمي بأصالته ومصداقيته في خضم الفوضى والتخبط اللذين سقطت فيهما أوضاعنا العامة، ولا سيما الثقافية منها، والشعرية على وجه الخصوص.
في خلال السنوات الست الماضية، ربطتني بمحمود درويش علاقة من المودة المتبادلة، نشأت من اللقاءات المتكررة التي كان يعقدها الناشر والأديب رياض نجيب الريس أثناء زيارات درويش إلى بيروت، ويدعو إليها مجموعة مختارة من الشعراء والكتّاب. في هذه اللقاءات، لمست لدى درويش ذلك القلق العظيم وراء مواقفه وآرائه، في السياسة والفكر والأدب. لقد تبادلنا الأحاديث الكثيرة، سمع منا وسمعنا منه، فإذا به قلق إزاء الكتابة الشعرية وآفاقها، قلق حيال الآخرين عندما ينظرون إلى تجربته، فيتجاهلون في الغالب جوانبها الفنية، أو يقصّرون عن التبصر في هذه الجوانب، ويكتفون بالكلام على جوانبها السياسية أو الفكرية أو النضالية. لم يكن يحب أن يُوضع شعره في دائرة فلسطينية ضيقة، بل كان يحب أن يُوضع احتضانه قضية فلسطين في أفق إنساني واسع، وفي مشروع فني كبير. لقد أحببت في محمود درويش قلقه هذا واقتنعت بأن كتاباته ظلت متوهجة بسببٍ من ذاك القلق، وربما بسببه أيضاً ظلت قادرة على احتضان فلسطين. لقد ظلت تجربة درويش حيوية ومتفجرة على الدوام، فهي كفلسطين في تحولاتها المأساوية وفي تقلّبها المرير في العذاب والأمل.
اكبر شاعر عربي يغيب بعد قباني
نوري الجراح
(شاعر من سورية يقيم في لندن)
بغياب محمود درويش ينطفء نجم مضيء من نجوم الشعر العالمي. محمود تجربة عربية حديثة بالغة الفرادة لأنها استطاعت ان توفق بين الثراء الموسيقي للشعرية العربية والتطلعات الحديثة للشعر العربي المعاصر فهو لم يكن رغم سجاليته المتسرعة لشعراء قصيدة النثر التي بدت في مرات عدوانية 'انقذونا من هذا الشعر' الا ان هذه السجالية لم تمنعه في لحظات الصفاء من تقدير تجارب شعراء بعض افضل نتاجات شعراء قصيدة النثر العرب الذين شكلت تجاربهم بعض النوافذ التي اطل منها شعر محمود درويش الجديدة.
محمود درويش مجموعة من الحلقات التطورية الهادئة وليس الانقلابية من هنا لم يلمس البعض مثلا الملامح الحداثية جدا في شعره الجديد ورأ فيها تنويعا عل الخلاصات التي توصل اليها شعراء قصيدة النثر. نعود ال النهر الاساسي لشعر هذا الشاعر فهو شعر ملهم ومبدع وقصيدته مغرية جدا لكونها استطاعت ان تقدم مجموعة من العناصر المتوائمة مع بعضها لتنتج حداثة خاصة بهذا الشاعر الذي استطاع ان يكون صوت شعبه وقضيته واستطاع ان يخاطب بانسانية العالم الذي ظل مع قضيته بانسانية تعالت عل جراح قضيته والمظلومية الكبر التي وقعت ضحية لها القضية الفلسطينية والانسان الفلسطيني والعنصر الثالث انه استطاع ان يجيب عل تطلع الذائقة العربية الحديثة ذات الطابع المستقبلي فكانت قصيدته بالمعنيين الجمالي والتعبيري خلاصة رفيعة المستو لمغامرة الشعرية العربية الحديثة.
هذه شهادة لمحمود درويش الشاعر الانساني الكبير حمل القضية الفلسطينية والقضية الحضارية العربية ال ذر انسانية رفيعة.
درويش هو اكبر شاعر عربي يغيب بعد نزار قباني وانا دائما اعتبرت ان هناك خيطا يربط جانب التلقي عند محمود درويش بالشاعر نزار قباني فهما معا تمكنا من ابتكار صيغة سحرية كلا منهما عل طريقته تحبب الناس بالشعر فهما معا حارسا استمرار العرف الشعري في الثقافة العربية. درويش سيبق حيا في قصيدته الفريدة.
غياب درويش في ايامنا هذه حدث حزين. .
شاعر القبيلة والامة
يوسف أبو رية
(روائي ـ مصر)
يبدو ان العظماء والكبار يختارون الوقت المناسب للرحيل. فحينما يقتتل الفلسطينيون ولا نستطيع ان نحدد من منهم الشهيد، وتفقد القضية الفلسطينية زهوها، وتمد للأعداء مبررات الادانة وتصبح حركة التحرير في مواجهة عدو شرس الى صراع سلطة وصراع كراسٍ قبل الاوان.
فهنا الشاعر يتفجر من داخله، وتبدو القصيدة وكأنها تنتحر، لأنه يفقد نبع الالهام الشعري، وبالتالي يفقد مبرر وجوده، فكيف نعيد للقضية قداستها ووهجها؟ وما حدث أخيرا بين الفلسطينيين عجل بموت محمود درويش، لأن الموت به جزء ارادي يمكن مقاومته الى حين، ويمكن ان تستسلم له فيأتي اليك ملبيا رغبتك والدليل على هذا، فانه قبل تفاقم الامر بين الداخل الفلسطيني، مر درويش بأزمتين قلبيتين وخرج منهما منتصرا لان الامل كان معقودا، وكتب قصيدة في هذا بعنوان 'هزمتك يا موت'، اذ كان لا يزال لدى الشاعر بصيص أمل.
وفي كل الاحوال لم يحظ احد بمكانة درويش في الشعرية العربية ان لم يكن على مستوى جماليات القصيدة، انما على مستوى الاجماع الشعبي والرسمي، وقد خضع كل الشعراء للتقييم فيما عدا درويش، فهو بحق شاعر القبيلة وشاعر الامة، وكل القبائل العربية اعتبرته شاعرها من المحيط الى الخليج وكل الشعراء الذين لديهم تحفظات عليه، فانهم لا يستطيعون الحديث عنه الا في السر بسبب رسوخ مكانة درويش، هو نفسه له تعبير جميل يقول 'من استطاع تجاوزي شعريا او جماليا فليبدأ من مقاومتي.
وقد وصل درويش الى ذرى شعرية لم يصلها احد، رغم انه ادين بسبب خروجه من الوطن، رغم انني ارى ان ذلك كان إثراء لتجربته الشعرية، وهو ما يطرح على اذهاننا سؤال: هو التشبث بالارض أم بالشعر، فهو ترك الارض ولكنه منحنا حدائق من الشعر، رغم انه عاش اغراءات واغواءات تهدم تجربته منذ البداية، لأنه ولد كبيرا، ولد نجما، ومن حرصه ودأبه على القصيدة منحته القصيدة نفسها.
لا تعتذر عن موتك
محمد آدم
(شاعر من مصر)
لا تعتذر عن موتك يا محمود ولا تعتذر عما فعلت فسرير الغريبة ما زال يتسع لرقدة تسع جسمك وروحك وقصائدك، ولك مقعد لا يزال في المسرح المهجور. ستكون انت فيه الممثل والفارس الوحيد وسوف تحتضن بلادك لا كما يفعل السائح الاجنبي وانما كصبي يحب ليلها واسلاكها الشائكة، قصائدها ومواويلها، وحبات زيتونها الاخضر، هل تحررت من حالة الحصار يا محمود، وماذا قال لك المسافر الذي يرافقك في الطريق الى الموت؟ هل تركت الحصان وحيدا؟ ارجوك لا تترجل عن حصانك فلا تزال القوافي تتبعك ولا يزال الشعر يقف على اطراف اصابعك ويحلق فوق رأسك مثل طائر القطا ويتبعك من بلد الى بلد ولا زال الضوء يحن اليك، كما تحن الى صدر امك، والى جذع زيتونة في قرية البروة، انت ايها السيد الطفل الذي عرف كيف يقف على شفا الجحيم ليغني وسوف تتبعك كذلك يا محمود بنات ارض كنعان الاسطوريات وحكايات سدوم لا اقول الى مثواك الاخير فليس للشعراء من مثوى أخير، مثواهم الاخير، يحدد وحروف قصائدهم واحبائهم، ولأنك الايقونة الاكثر نقاء، في بلور المكان فسوف تظل تركض في الريح، والارض تركض في نفسها وتسافر.
على رسلك يا محمود فقد كنا نتمنى ان يتركك الموت، قليلا، قليلاً، لتغتسل في نهر الاردن من جراحك وكما عمد يوحنا المعمدان يسوع المسيح في نهر الاردن، فقد عمدت نفسك في نهر الدم، الذي يسيل ليل نهار، فوق تراب وطنك الحي، الذي صنع اسطورته بعدد كلماتك، وبحجم شهدائه واطفاله الذين يموتون كل يوم تحت المجنزرات ونسائه المتشحات بالسواد.
اعرف. ربما اخطأ الغرباء الطريق الى نزهة الغرباء، خسئت يا موت، اما كان يمكن ان تتمهل قليلا قليلا ليترجل الفارس من على ظهر جواده ليكمل السطر الاخير في قصيدة وطنه والتي لن يكملها احد غيره؟
لعنة الحب القاسي
نجاة علي
(شاعرة من مصر)
لا اصدق انه رحل وترك حصانه وحيدا الى الابد، ولا اعرف ما الذي جعلني اتوقف انا واحد اصدقائي الشعراء امام مقهى ريش بالقاهرة حين انتبهنا لوجود الشاعر خيري منصور داخله فدخلنا لنسلم عليه فوجدناه يتابع قناة الجزيرة التي اعلنت خبر وفاة محمود درويش. وجدناه مذهولا وغاضبا لاعنا قناة الجزيرة ومكذبا لها ويدير كل القنوات باحثا عن قناة اخرى تقول له شيئا يمكن ان يصدقه.ان محمود درويش حي لم يمت.
لعلني اذكر انني تعرفت على شعر درويش اول مرة من خلال اصدقائي اليساريين في الجامعة في منتصف التسعينيات والذين كانوا لا يعترفون بأي شاعر لا يحب درويش ويحفظ اشعاره مثلهم، التي كانوا يرددونها باعتبارها انجيلهم. فمنذ قرأت ديوانه 'مديح الظل العالي' تعلقت به وبشعره وادركتني وقتها لعنة الحب القاسي الذي يشبه لعنة الحب الاول وظللت اتابع دواوينه بشغف وكنت ارى انه قد ظلم كثيرا حين صنف بأنه شاعر فلسطيني، او بشاعر الثورة او بشاعر الارض المحتلة، لان هذا التوصيف جائر وضيق لا يعطي الشاعر قدره الذي يستحقه. استطاع مع كل قصيدة ان يغير جلده وان يخلق قارئا خاصا به. لم يسقط في فخ الاعجاب بقصيدة يحبها الجمهور فيكرر كتابتها. وتجاوز حتى في قصائده التي يتداخل فيها الهم الجمالي بالهم السياسي ولا تعرف كيف تفصل احدهما عن الآخر، ربما لانه وقف مثل كل الشعراء العظام على الحدود الانسانية، التي تجعلك تتصور انه يكتب عن هموم واسئلة انسانية تتجاوز حدود الزمان والمكان والسياق التاريخي الذي انتجها.
واعرف ان البعض من الشعراء كانوا يشيعون عن درويش ما هو ليس صحيحاً .لم ار هذا عندما التقيته وجها لوجه في المرة الوحيدة. كنت اجلس بصحبة الاصدقاء سيف الرحبي وعباس بيضون وآخرين، بكافتيريا فندق بيراميزا فجاء درويش الينا وسلم علينا جميعا بمحبة وابتسامة جميلة وظل معنا بضع دقائق يشاكس عباس بيضون ويضحك بصوت عال ثم حيانا وانصرف.
وعلى عكس ما يشاع عنه وجدته خجولا وهو يصعد ويتسلم جائزة الشعر العربي الاول بالقاهرة وكاد يبكي وهو يتكلم كأنه طفل صغير لا الشاعر الكبير النجم.
شاعر على يسار الزمان
رفعت سلام
(شاعر من مصر)
رحيلٌ مفاجئ، وصدمة مباغتة. كأننا كنا نفتعل السهو والنسيان، أو لا نريد أن نرى. لكنه زمنٌ- عربي فلسطيني- لا يليق به سوى الرحيل.
وها هي الآن قصيدته مفتوحةٌ على نهاية غامضة، بعد أن ترجل عنها عن قرابة خمسين عامًا من الشعر والوجع والعواصم. قصيدة صعدت- في النصف الأول من الستينيات- في وضوح 'القضية' والشعر واللغة، ليمضي بها الوقت إلى دروب لم تنبئ بها المقدمات 'العادية' أو شبه 'العادية' لشاعر 'المقاومة' الجهوري.
رحلة طويلة، عسيرة، بلا أفقية؛ أعادت العلاقة بين الجمهور والشعر إلى أزهى عصورها، بانطلاق صوت الشاعر بالتعبير عن الحلم الفلسطيني العربي لذلك الجمهور، بلا تعالٍ أو إيغال في التركيبية؛ ليوحد الجمهور- والكثير من المثقفين- بينه وبين القضية ذاتها، فلا تبقى مساحة- في مراحله الأولى- للذاتي الحميم، الذي تماهى في العام.
رحلة تراوحت من الوضوح وصفاء وواحدية الرؤية- في دواوينه الأولى- إلى تجريبية وتركيبية شعرية في 'أحبك أو لا أحبك' و'محاولة رقم 7'، إلى الخطابية الصاخبة في 'مديح الظل العالي'، إلى خفوت المناجاة الروحية، في الظل الرمادي، في أعماله الأخيرة.
رحلة لا تختصرها مرحلة أو ديوان؛ لكنه- في جميع الحالات- هو المغني الحالم، الرافض، المنكسر، المجلجل، الهامس، المباشر، الفانتازي، الذي يستند إلى الوقائع والأساطير والتواريخ القديمة والغابرة، ليرى ببصيرته الآن الملتبس.
هو صوت الشاهد الذي يكشف المخبوء الراهن، وصوت النبي الذي يكشف المخبوء القادم، وصوت المحرض الذي يستثير على الفعل، وصوت القاضي الذي يحكم بالبراءة أو الإدانة، وصوت المغترب الذي يرثي فساد العالم. وأحيانًا ما تندمج هذه الأصوات ـ جميعًا ـ في صوت واحد، صوت الشاعر، الذي يطلق في وجه العالم كلمته الشاملة.
ويتراوح الصوت الشعري بين أي يقدم 'لِيَدَين مِن حَجَرٍ وَزَعْتَر/ هَذَا النَّشِيد'، وأن يحكي 'وَمِن المُحِيطِ إلَى الخَلِيجِ، مِن الخَلِيجِ إلَى المُحِيط/ كَانُوا يُعِدُّون الرِّمَاحَ'، وأن يصف 'أحمَدُ الآنَ الرَّهِينَة'، وأن يستنطق 'أنَا أحمَدُ العَرَبِي ـ قَال/ أنَا الرَّصَاصُ البُرتُقَالُ الذِّكْرَيَات'، وأن يرثي 'وَلَه انْحِنَاءَاتُ الخَرِيف/ لَه وَصَايَا البُرتُقَال'، وأن يحرض 'يَا أيُّهَا الوَلَدُ المُكَرَّسُ للنَّدَى/ قَاوِم '، وأن يتكشف الراهن 'فَأرَى العَوَاصِمَ كُلَّهَا زَبَدًا'، وأن يكتشف القادم 'جِلْدِي عَبَاءَةُ كُلِّ فَلاَّحٍ سَيَأتِي مِن حُقُولِ القَمْحِ كَي يُلْغِـــــي العَوَاصِم'، أو يتساءل في دهشة الاكتشاف 'كَيفَ سَكَنْتَنَا عِشْرِينَ عَامًا وَاخْتَفَيت'.
إنه الصوت المنفرد ـ الأنا ـ مركز العالم في القصيدة، وفعاليته الإيجابية. أما فعالية العالم ـ السلبية غالبًا ـ فإنها، أيضًا، محكومة به، مشدودة إليه، أو إن سلبيتها تتحقق ـ بوصفها كذلك، فقط ـ من خلال ما تضفيه عليها الذات من سلبية. لكن فعالية الذات في العالم ـ برغم كون الذات مركز العالم ـ تتحقق عبر انفصالها عنه؛ أي إن الفعل يتم عبر انفصال الفاعل عن المفعول به، وليس عبر ارتباطهما. فأفعال التقديم والحكي والوصف والاستنطاق، إلخ- في ذاتها- على تلك المسافة الفاصلة بين الفاعل والمفعول به، برغم تحقق الفعل ذاته.
ينفصل ـ إذن ـ صوت القصيدة عن عالمها؛ فهو لا يندمج في العالم؛ إذ العالم تغلب عليه السلبية، وحركته لا تتناغم مع إيقاع الحركة الشاملة؛ لكنها موازية لها، أو متعاكسة معها، ومنفصلة عنها في جميع الحـــالات. وتصبح فعالية الصوت المفرد- في القصيدة- فعاليةً 'كلاميةً' لا تشتبك مع العالم من أجل تحويله الفعلي، وإنما تكتفي بعلاقة التوازي أو التعاكس المنفصلة عنه، فلا يتبقى سوى الكلام في مواجهة العالم، بعد أن تهاوى الفعل إلى أسوأ حالاته: الانتحار، أو ما يشبهه.
لكنه- في جميع الحالات- صوت باذخ، ارتقى- في الأعمال الأخيرة- إلى حالة نادرة من الصفاء الشعري والبصيرة.
لم يطلب أن يكون شاعراً
هدى النعماني
(شاعرة)
الشاعر الوحيد الذي لم يطلب أن يكون شاعراً. هو جدول يركض في البراري النائية. هو الضحكة التي تصعد النجوم. هو السيف القاطع لكل نقطة دم. هو حامل الأرض على كتفيه. لم يخشَ الحب كما لم يخشَ الموت. ركض عالياً كالمتصوفين وركع في العتمة وحده كالنجوم. من كبار شعرائنا المحسودين إن لم أقل المكروهين. قام عن كرسيه، قام عن العرش، فليركض إلى كرسيه الشعراء الذين يحلمون أن يكونوا شعراء.
محمود قارئ ملهم وناقد ملهم. كان يقول لي: هدى، بياضك ليس بين مقطع ومقطع، بل بين كلمة وكلمة، وحرف وحرف. أخذ مني أحمد الكحلي وأخذت منه شفافية الكلمة وطلاوتها. تلازم الشعري والواقعي
حمزة عبود
(شاعر)
محمود درويش هو أحد الرموز الأكثر تجسيداً للثقافة العربية في هذه المرحلة. وحين نقول الثقافة العربية لكي نشير إلى تلازم 'الشعري' كقضية أو حدث و'الواقعي' باعتباره محركاً أو محرّضاً للغة بمختلف تعبيراتها في شعر محمود درويش.
لقد استطاع درويش أن يُنشئ هذه العلاقة الغامضة (والمعقدة) بين أسئلة الواقع وأسئلة الشعر دون تعنّت يحدُّ من تطور العملية الإبداعية أو يجعلها إحدى مرادفات هذا الواقع لمحاكاته مديحاً أو ذماً.
أظن أن قدرة درويش على استشراف هذه العلاقة بأبعادها الفنية والفكرية تضعه في طليعة شعراء الحداثة. القصيدة هنا حدث مستقل وهي لا تستعيد مصادرها من 'الواقع' إلا بقدر ما تخضعها لأسئلة القصيدة ومقارباتها الخاصة.
شعر محمود درويش هو باختصار محاولة فريدة واستثنائية لمعاجلة هذا المشهد العربي القاتم الذي يعكس حالتنا. وهي محاولة كانت تقتضي هذا القدر من الحرية لتشكل نصاً مغايراً.
بعد غياب درويش سوف نتوقع هذا النص، كما كنا نفعل في مواعيد ولقاءات كثيرة معه بين بيروت والقاهرة وباريس وسواها من العواصم، وسوف نعثر عليه (النص) بالتأكيد في قراءة متأملة لكتابات درويش سوف تتسع لها صفوف طلابنا وطالباتنا في المدارس والجامعات وفي منتدياتنا الأدبية والثقافية.
طالما رمّمَ جروح الفلسطينيين
صقر أبو فخر
(كاتب وصحفي)
لعل الشعر العربي المعاصر، ولا سيما في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يعرف شاعراً احتل تلك المكانة الرفيعة في قلوب الناس مثل محمود درويش. اثنان باتا في الموقع الأرفع شعرياً: أدونيس ومحمود درويش. لكن أدونيس ظل شاعراً خاصاً ومتميزاً ونخبوياً. بينما كانت جموع الناس تزحف بالآلاف على أمسيات محمود درويش في شتى عواصم العالم العربي، ولم يزاحمه على هذه الظاهرة إلا الشاعر السوري الكبير نزار قباني.
ولعل من المفارقة أن محمود درويش الذي كانت تجربته الشعرية تغتني بطريقة مذهلة، والذي كان يتخلص بالتدريج من لغته الشعرية التي بدأها في حيفا، كانت 'شعبيته' تزداد باطراد. ولا أتعسف بالقول إن جموعاً غفيرة كانت تزحف للإنصات إلى قصائد محمود درويش حتى لو لم تفهم الكثير من قصائده.
بهذا المعنى كان محمود درويش ظاهرة شعرية ذات فرادة، ظاهرة لا يمكن تفسيرها ببساطة. ربما تحول محمود درويش إلى قديس الشعب الفلسطيني وشاعره ومطربه وراوي ذاكرته والرائي الذي ما انفك يرمم جروح الفلسطينيين وهزائمهم ونكباتهم، ويقول لهم إنهم ليسوا عابرين في كلام عابر، بل منذورين لأغاني العودة، وفي إمكانهم أن ينتصروا على التيه، وأن هناك ما يستحق الحياة على هذه الأرض.
ما سره الشعري إذاً؟ هذا السر الذي جعل محمود درويش مثالاً للشعر لا يمكن اجتنابه، ولا يمكن الاقتراب منه، ولا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تحطيمه.
إنه شاعر مهيمن، وشعره كاشف وفاضح. مهيمن، لأن قامته الشعرية باسقة جداً ولا تدانيها، على الإطلاق، قامات الكثيرين من الشعراء. وكاشف، لأن الشعر الصافي صار يُقاس بقصائده. فقد كانت كلماته احتفالاً وثنياً في العراء، وكان هو مثل قصبة ثقبتها الريح فصارت ناياً.
هذا هو سره على ما أحسب. ولهذا تبعه 'المريدون' وبايعوه ملكاً على فسلطين، ووضعوا بين يديه 'أحد عشر كوكباً'. محمود درويش الذي سما بالقضية الفلسطينية إلى مصاف القضايا الإنسانية الكبرى، مات بعد أن شاهد، بأم عينه، كيف يتناوش هؤلاء العابرون في الليالي الدموية في غزة 'حبيبته التي نهضت من نومها ذات يوم' فكانت فجيعته الأخيرة.
محمود درويش ربما هو الشاعر العربي الوحيد الذي كان كل ديوان جديد له يمثل قمة جديدة في مسيرته الشعرية المخضبة بالألم والقلق ووجيف القلب وخفقانه. إنه الشاعر الذي واجه الموت ولاعبه بمتعة مثل 'لاعب النرد' وخسر ثم مضى.
لقد كان حقاً مرمم جروحنا. إنه لاعب النرد الذي لاعب الموت طويلاً.
******
محمود درويش قامة الشعر ترحل: سلام على الصاعدين خفافا على سلم الله... في حضرة الموت لا نتشبث الا بصحة اسمائنا
يحلو لنا نحن االبشر امام سطوة الموت ان نبحث عن رمزيته ومعانيه، وان نقول مات هنا لرمزية ما ومات هناك لأن الامر ليس مصادفة، فمن كتب عن اصدقائه الراحلين اشعارا ومراثي، ومن صاغ قصة الفلسطيني في واحدة من تجلياتها بقصة الهندي الاحمر، ومن استعاد الزفرة الاخيرة للعربي- الاندلسي مات في مدينة لم تكن ضمن قاموسه إلا لأنها قريبة من ناحية التراب بمن رحلوا هناك في نيويورك، ادوارد سعيد وراشد حسين، مع ان ازمنة او عقوداً تفصل بين الرجلين في نيويورك.
وامام غموض الموت وسره، نسأل البشر لماذا لم يمت محمود درويش (1941 -2008) في رام الله، حيفا، صاعدا للقدس نازلا من الكرمل؟ لماذا لم يرحل في بيروت او باريس او تلك المدن التي عاش فيها واستعادها واحبها؟ لماذا اختاره الموت هناك بعيدا في هيوستن؟ امام سؤال الموت ولغزه تبدو اسئلتنا لا قيمة لها. لكن الشاعر الذي قابل الموت بل واجهه عندما خرج من عمليته الجراحية الاولى استسلم له اخيرا. وهزيمته امام الموت او انتصاره هو تلخيص لكل ما سجله وكتبه الشاعر الفلسطيني في رحلته مع الشعر والقصيدة. وهنا نتساءل عن المقاربة بين موت الشاعر وموت الوطن اي خسارته، وتبدو لنا الاجابة واحدة، فالخسارة للوطن هي معادل لخسارة الشاعر لان الاخير صاغ الوطن في المفردة وفكك الكلمات لكي ينحت كلمة الوطن 'تعلمت كل الكلام وفككته كي اكتب فقرة واحدة هي الوطن'. وعند هذا تكون خسارتنا نحن الفلسطينيين فادحة وكبيرة، لان معنى وجودنا ووجود ضدنا انصهر وتكون في صياغات التكوين الشعرية عند درويش، فشعر درويش قبل التحولات وبعد التحولات وما فوق الصياغات كان كله من اجل صياغة معنى الفلسطيني وحفر الكلمة في زمنها اللانهائي. نحزن لان الشاعر رحل وخسارته بمثابة خسارة امة لكنها ليست نهاية الامة كيف وهو الذي اكد على ان الوطن الفلسطيني حلم قابل للعودة مقارنة مع حلم بات مستحيلا لن يعود الا في زمن التمنيات الاندلس. ما يعزي الفلسطيني فردا وجماعة ان محمود درويش ترك مشروعا شعريا، عمل طوال العقود الماضية على تثبيت مداميكه، مراجعة ملامحه وصياغة افكاره. ومشروع درويش هو صورة عن عنفوان الفلسطيني، خروجه، تمرده، ثورته وبحثه عن الانتصار. وهو تشكيل لمعاني الحنين والحق بالحلم ضد الاستبعاد والمحو. لكن مشروع درويش ليس شكلا نمطيا من البدايات والتحولات والنهايات، وهو ليس مشروعا خطيا. فقد كان مشروعا يبدأ من وطن ليعود اليه ويرحل لمنفى ليكتشف المنفى في المنفى. كان الموت يبدأ في الشباب وتبدأ الحياة في الشيخوخة، وكان مشروعا مفتوحا على التفسيرات. ذلك ان اهم ما في منجز محمود درويش هو تكريسه الدائم لتطوير قصيدته، والتعب من اجل ان يقيم مداميكها.
وقصيدته كانت طازجة. كان درويش مسكونا بحس الجدة وعدم التكرار، ومن اجل هذا كان راغبا طوال الوقت بتجاوز التنصيفات المرحلية التي حلا للبعض ان يربطه بها، فهو رفض ان يكون شاعر 'المقاومة' وشاعراً يكتب للجمهور وعلى ذوقه وعندما ابدى ضجره من طلبات الجماهير له ان يقرأ قصائده القديمة على غرار 'سجل انا عربي' لم يكن يتبرأ من ماضيه وان اتهم من قبل زملائه الشيوعيين بهذا ونقاد شعره، خاصة قصة قصيدته الشهيرة 'عابرون في كلام عابر' التي لم تنشر في اي من مجموعاته. فشاعر المقاومة هو ليس فقط من يكتب القصيدة الحماسية ويكتب للجماهير الثائرة ويتغنى بثورات الجزائر وكوبا وشعوب االعالم بل هو من يدافع عن الحياة. وفي عدد من المقالات التي كتبها في مجلة الكرمل دافع وحلل موقفه من فكرة المقاومة. كتب محمود درويش اشعاره الاولى التي عرف العالم بها الشهيد غسان كنفاني في ادب المقاومة، كانت اشعاره هذه عندما كان عضوا في الحزب الشيوعي، وعندما غادر الوطن عام 1970 اضحى شاعر المقاومة وعاش معها مسؤولا واعلاميا، وعبر صعودها وازماتها وكان شجاعا في نقد عيوبها فقد كتب في ذاكرة للنسيان عن الثورة ومحاكمة اعضاء القيادة على 'جرائمهم المدوية' لكن درويش على خلاف الفنان ناجي العلي لم يمض حتى نهاية الطريق في نقد القيادة. وعاد بعد الخروج من بيروت للتصالح معها. وهنا فان محمود درويش كان من اكثر الشعراء الذين ظلمتهم السياسة حسب ما اشار الناقد المصري الراحل غالي شكري، الذي قال انها لعبت في حياته دور الغمامة. وعليه فان ربط شعره بالسياسة وتحليله بناء على مواقفه السياسية يظل مغامرة محفوفة بالمخاطر، لان درويش بعد خروجه من فلسطين على الرغم من غضب رفاقه تأكد منذ اللحظة الاولى ان حياته في الشعر وعالمه القصيدة، ومجال حياته التي يتنفس من خلالها كانت هي هذه القصيدة، صحيح انه انتقد عندما حذف كلمة 'شيوعية' من 'بطاقة هوية' حتى يتم توزيعها في دول تحارب الشيوعية، وحذف اشياء اخرى لكنه المهموم بالقصيدة ومداها كان يدافع عن نفسه قائلا انه يحرص على 'تخليص الشعر مما ليس شعرا'، اي الفصل بين الشعر والسياسة في الوقت الذي اكد فيه نقاده على ضرورة الربط بينهما. لا يلغي هذا الحديث وجود ثغرات في هذا الفهم والدفاع لكن ما يهم هنا ان الشاعر الخارج من تراب الوطن الى تراب المنفى والشاعر الذي اختار القصيدة كمجال لتأكيد الوطن في المنفى كان معنيا اكثر بتطوير فهمه للشعر ومعنى ان تكون شاعرا لوطن استبيح ومعنى ان تكون شاعرا عربيا ومواطنا في هذا العالم. ولهذا ونتيجة لقراءته الجديدة واطلاعه على المدارس الادبية غير الواقعية اصبح اكثر عناية في المراحل اللاحقة من حياته بالعلاقة بينه وبين القارئ الناقد وليس القارئ المقاوم او السياسي وكثيرا ما اشتكى في قصائده وخص نقاده بانهم اساؤوا فهمه وانهم يغتالونه 'يغتالني النقاد احيانا وانجو من قراءتهم واشكرهم على سوء التفاهم ثم ابحث عن قصيدتي الجديدة' فدرويش وان كان مهموما بما يقوله النقاد الا انه اكد في اكثر من مقابلة على انه عندما يكتب القصيدة يترك ذاته تتحدث على سويتها بعيدا عن اعين النقاد. ولانه كان يجدد في شعره ويفتق اللغة، حيث كانت تنصاع له الكلمات، وتنساب بعذوبة فقد عبر في شعره عن ثقة الفلسطيني بالنصر في قصائده الاولى وعنفوان الشهادة والثورة ومعنى الصمود والتمسك بالارض، وامسك شعره بأزمة المقاومة وتعبها وكللها وانتقدها في مديح الظل العالي وقصائد اخرى وعبر عن خيبات الفلسطيني وتعبه مثل ما علق الراحل ادوارد سعيد على 'احد عشر كوكبا' واصفا اياها بانها تنطوي على نغمة التعب وتردي الروح والتسليم بالقدر. لكن ما شكل تجربة الراحل درويش وفهمه للمقاومة وماهية شعرها وفهمه لبنية القصيدة، وايقاعها موزونا ام منثورا والفرق بين النثر والوزن؟ ففي مجال شعر المقاومة ألمحنا الى فهمه لماهيته وان شعر الشاعر ايا كانت مفرداته يمكن ان يفهم كشعر مقاومة، فالتغني بالعشبة او الوردة الصفراء لا يعني خيانة للسنديانة الثابتة والزيتونة التي كتب شاعر آخر رفيق لدرويش تاريخ الفلسطينيين عليها. وكما اشرنا ظل درويش مسكونا بهم الوطن، تاريخه وصورته الانسانية وحقه في الوجود والكفاح ولعل اكبر واهم منجز في شعرية درويش هو تأكيد من خلال نفي الاخر للفلسطيني على وجوده وحضوره 'يتناول الملك اقراص المهدئ، ويتذكر لولا بطولتي، لولا ما فعلت بدير ياسين لما قامت مملكتي، لولا الغياب غيابهم لما حضرت، ان لا يكونوا هو ان اكون'، لقد اتقن درويش لعبة التلاعب على معنى النفي والحضور والمواجهة التي تجعل من هذا 'العابر' خائفا مرعوبا يتناول المهدئات وفي هذه اللعبة كان يؤكد على اهمية التمسك بامل الانتصار على الرغم من تقزم الحلم الذي شاهده بعد اوسلو وما يقترحه المسار الفلسطيني الحالي من تشرذم، وهنا يقول درويش الشاعر ان نبوءة الشعر اقوى سلطة من السياسة فاذا قادت النبوءة والشعر 'الاخر' للوطن فالشعر يجب ان يقود مسار النبوءة الفلسطينية ليتمسكوا بوطنهم. في تعامله مع المعنى الفلسطيني كان درويش يدور القصيدة، يعود فيها من البداية للنهاية والعكس. والحق ان المعنى الفلسطيني، والهم ان شئت يتلون في مشروع درويش بتلون ثقافته وتطور او نضج فكرته، فمن البراءة الثورية، للمقاومة وتجادلاتها السياسية، ومن الخروج والرحيل الدائم من مدينة لاخرى للعودة الى الذات والدخول وفلسطين في معناها الكوني والانساني. ومن هنا فان كل شعرية محمود درويش المتحدث دائما مع وطنه وذاته وانسانيته كانت تولد القصيدة من الاخرى، هذه العملية يحلو للبعض ان يسميها قصيدة السلالة، فبطاقة هوية التي انتجها في زمن صعوده وتوقه الثوري هي من نفس سلالة 'ورد اقل' 'على هذه الارض ما يستحق الحياة: على هذه الارض سيدة الارض، ام البدايات ام النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين، سيدتي استحق لانك سيدتي، الحياة'. سيلزمنا وقت طويل لكي نتعافى من خدر صدمة الفقد لكن نص درويش لا يترك مجالا لقارئه بان من يكتب 'عاشق من فلسطين' ولفلسطين، انه كان محبا متيما، فلم يحب احد من الشعراء ارضه كما احب درويش وطنه، لم يزعجه ان يتقزم الحلم بعد اوسلو لوطن لا صورة له، وطن من الفسيفساء، فالجنة الارضية التي هي فلسطين، لها شكل واحد ومعنى واحد، ليس رومانسيا حالما في زمن وتهويمات ماضية ولكنه شكل يحس بمرارة الحقيقة ويسعى لان يكتب معادلا او بديلا عنها، ومن هنا تتردد في قصائده تلك الثنائية بين الانا والضد، بل كان درويش قد ابتدع اناه الوهمية وضميره الوهمي لكي يؤكد على وجوده وبقائه، في المنفى حيث لا احد يتحدث اليك. تحاول ان تصغي لنفسك وتغني لها. مع ان درويش كان واعياً بثقل اللحظة، لحظة العودة للوطن الذي تغير لدرجة النكران، لكنه كان يعلم انه وطن لا يتسع لاثنين 'يقولون لي لا مكان لحلمين في مخدع واحد' هكذا حاول ان يفهم معنى علاقة ادوارد سعيد في 'طباق' فهنا اعتراف بأهمية الحلم وتهيئة النفس بل دفعها للتسلل لكي تستعيد ماضيها 'هيأت نفسي، لان اتمدد في تخت امي، كما يفعل الطفل حين يخاف اباه، وحاولت ان استعيد ولادة نفسي وان اتتبع درب الحليب على سطح بيتي القديم.... لكن وحش الحقيقة ابعدني عن حنين تلفت كاللص خلفي'. سنحتاج لاعوام طويلة كي نفهم معنى ان نفقد قامة شعرية طويلة مثل درويش، لانه الشاعر الذي اخلص لتجربته وعاش لها وفهم ان لا فرق بين الشعر والوطن فبالشعر يحيا الوطن وبالشعر يحيا الفقراء، هكذا كان شعره في عنفوانه الشبابي يخاطب فقراء شعبه والمسحوقين تحت الدبابة الاسرائيلية وهكذا ظل شعره في مراحله الاخيرة حتى عندما اخذ يشعر بثقل الوقت والعمر عليه، ولم يعد قادرا على الانفعال والتوتر حسب ما اوصاه الاطباء قوي العافية والامل. لكنه كان يوقن ان الشعر يضمن له الحياة والتواصل، لهذا تتكرر في اشعاره اللغة ومجازاتها كمعادل لأناه 'انا لغتي، انا ما قالت الكلمات' او 'لولا حاجتي الغامضة إلى الشعر لما كنت في حاجة الى شيء يقول الشاعر الذي خفت حماسته، فقلت أخطاؤه. ويمشي لأن الأطباء نصحوه بالمشي بلا هدف، لتمرين القلب على لا مبالاة ما ضرورة للعافية. واذا هجس، فليس بأكثر من خاطرة مجانية'. لا شك ان الشاعر انتقد في عدد من المراحل من ان قصائده نرجسية مثلا 'احبك او لا احبك' و 'لماذا تركت الحصان وحيدا' وانها اصبحت اكثر تعقيدا فلم تعد تفهم ولم تعد تنحاز للمعنى الواضح ذي الهدف الواضح الذي عبر عنه بقوله 'قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت، اذا لم تحمل المصباح من بيت الى بيت وان لم يفهم البسطا معانيها فأولى ان نذريها ونخلد نحن للصمت'. لكن الشاعر الذي عاش صعود الحلم القومي وارتداده وتفجر الثورة وانكسارها، وشاهد ولادة الوطن المشوه من وطنه المستعاد في ذاكرته ليس مطالبا منا ان يكتب بنفس اللغة التي كتب بها في شبابه والا نعتناه بالشاعر الذي يتميز بالطفولة الشعرية، كيف لدرويش ان يعبر عن نفس الموضوع في سياقه الزمني والحاضر، وان يبني سردا يواجه الواقع الحالي خاصة ان 'ارض الحكاية'، قد لا نكون ما نتخيل'لا سمن ولا عسل' والسماء رمادية اللون..' هنا كان درويش مجبرا او مدعوا لكي يبني حكايته، مستعيدا الاسطورة والحقيقة، هاجسا بصوفية الصوفيين ومغنياً مع مغني وراقصي التروبادور، مستعيدا الهندي الاحمر، مستعينا بمفردات الشعراء الجاهليين من طرفة بن العبد وامرئ القيس الى ابو العلاء المعري وابو فراس الحمداني والمتبني، مارا بشعر وتجربة الاوروبيين، وقبلهم باحثا عن اسطورة سيزيف في الميثولوجيا اليونانية، كل هذا جدله في لغة متدفقة حية تعود لتراب وشجر وحجر وذاكرة الفلسطينيين. لكن درويش حتى في شعره الذي بدا يوميا ويحتفل بعادات اليوم 'يوم نرتب مطبخنا وغرفة نومنا كُلاً على حدة' لم يكن يهجس الا بالبحث عن معنى لوجوده ومعنى وجود الاخر، في بلده. وهنا نعود ونقول ان ديوان محمود درويش من اغنى الدواوين مفردات، وقاموسا، فهو يمتد على التاريخ الانساني ويضعه في فلسطين وليس معادلا لها. بل لا يستقر درويش في الارض بل يصعد مع فلسطين الى السماء العليا ويخاطب الملائكة ويبحث عن النعيم والجحيم. كيف تأتى لدرويش هذا المنهج؟ قلنا ان هذا جزء من البحث الدائم عن شكل للقصيدة يتجاوز العادي لأن فلسطين تظل فكرة غير عادية. وهذا يقود الى الجدل حول قصيدة درويش التي ظلت منحازة للقالب الغنائي فالشعر ليس شعرا ان لم يكن غنائيا، هكذا آمن درويش لكنه في شعريته كان يرى ان الغنائية توجد في النثر، ولهذا كانت كتابته النثرية اقرب منها للشعر، وشعره كان في بعض الاحيان اقرب للنثر، صحيح انه ضاق كثيرا باسئلة النقاد حول موقفه من قصيدة النثر. فقد قال مرة أعلم أنني سأتهم، مرة أخرى، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يعرفها العصابيون بمعيارين؛ الأول: انطلاق الأنا على محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح على الخارج. والثاني: إقصاء، الشعر الموزون عن جنة الحداثة. فلا حداثة خارج قصيدة النثر. واضاف قائلا انه ليس صحيحا انه ليس من حق الشاعر الفلسطيني أن يجلس على تلة ويتأمل الغروب، وأن يصغي إلى نداء الجسد أو الناي البعيد، إلاّ إذا ماتت روحه وروح المكان في روحه. فالفلسطيني يظل كما يقول درويش، كائن بشري يحب الحياة وينخطف بزهرة اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول. ولانه انشغل كثيرا بمفهوم الشعر ومعناه ورفضه لكل كليشيهات شاعر المقاومة او شاعر الشعب والمسحوقين وشاعر الذات النرجسية فقد كان واضحا انه كان يتعامل مع الشعر كمهنة قبل ان يكون وطنا، ولان صاحب المهنة يجود بضاعته فقد ذكر اقرانه الشعراء بضرورة فهم طبيعة الشعر الذي لا يعرف بما يقوله الشاعر ولكن الشعر (القول) المختلف عن العادي وانه كذلك متعة وصنعة وجمال. ولهذا كتب درويش مع انحيازه الواضح للغناء، قصائد تنتمي للنثر واخرى بين النثر والغناء وحلا له في بعض الاحيان ان يتلاعب بالنثر ويحوله الى غناء. وفي احيان اكتفى بكتابة 'نص' كعنوان فرعي لاعماله 'في حضرة الغياب'. كان شاعرا حول وطنه للشعر واسكن الكلمات فيه ودخل هو الكلمات ورحل صاعدا هناك لمكان كوكب سماء 'سلام على النائمين، سلام على الحالمين، ببستان فردوسهم آمنين، سلام على الصاعدين خفافا على سلم الله... في حضرة الموت لا نتشبث الا بصحة اسمائنا' سلام على محمود درويش. بطاقة: ولد محمود في قرية البروة قرب عكا عام 1941 لعائلة فقيرة نزحت للبنان عام 1947 ولكنها عادت وتسللت الى فلسطين. درس درويش في مدارس دير الاسد وكفر ياسيف. انضم مبكرا للحزب الشيوعي وعمل في حركة الشبيبة الشيوعية، بدأ يكتب الشعر مبكرا اثناء الدراسة، وبعد ذلك اخذ ينشر في مجلتي الحزب 'الاتحاد' و 'الجديد' اللتين كانتا تصدران في حيفا، وتعرض لمضايقات الشرطة الاسرائيلية، حيث فرضت عليه الاقامة الجبرية اكثر من مرة بتهم تتعلق بنشاطاته السياسية.
في عام 1970 ارسل للاتحاد السوفييتي السابق للدراسة لكن لم يعد وبعد عام سافر لمصر وعمل فترة في صحيفة 'الاهرام' وانتقل بعدها لبيروت كي يعمل في مؤسسات الثورة كاتبا ومسؤولا عن الدائرة الثقافية ومديرا لمركز الابحاث الفلسطيني، وعضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي استقال منها عام 1993. كما شغل منصب رئيس رابطة الكتاب الفلسطينيين. كانت اولى اعماله الشعرية 'عصافير بلا اجنحة' التي صدرت في عكا عام 1960 وبعدها اصدر خلال نصف قرن تقريبا عشرين مجموعة شعرية وكتابات نثرية. حصل درويش على عدد من الجوائز الادبية منها جائزة لوتس عام 1969 وجائزة المتوسط عام 1980 ودرع الثورة الفلسطينية 1981 وعدد كبير من الجوائز العربية والاجنبية.
وترجمت قصائده لاكثر من 22 لغة. عمل محررا لعدد من الصحف منها الملحق الادبي للاتحاد ومجلة شؤون فلسطينية ومحررا لمجلة الكرمل التي اصدرها في الثمانينات واعاد اصدارها في التسعينات من القرن الماضي في رام الله وهي من اهم المجلات الادبية العربية. ومن نثره البالغ القوة كتابته اعلان الاستقلال الفلسطيني عام 1988 في الجزائر. زار درويش عواصم العالم مشاركا في مهرجانات ادبية وعاش في عواصم عدة مثل بيروت وباريس وعمان ورام الله اضافة لتونس وقبرص. غنى جيلان من ابناء العرب قصائده 'ريتا'، 'بطاقة هوية'، 'احن الى خبز امي' و 'عصافير الجليل'. ترجمت قصائد درويش لاكثر من 22 لغة. في عام 2000 اقترح وزير التعليم والثقافة الاسرائيلي يوسي ساريد تدريس بعض قصائد محمود درويش في المنهاج الدراسي الاسرائيلي الا ان رئيس الوزراء السابق وزير الدفاع الحالي ايهود باراك عارض الفكرة.
توفي في يوم 9 آب (اغسطس) 2008 في مدينة هيوستن الامريكية/ تكساس بعد عملية جراحية في القلب في مستشفى هيوستن وحسب مقربين رافقوه فالشاعر درويش اوصى بنزع الاجهزة عنه حالة حدوث تعقيدات ومضاعفات. تزوج درويش مرتين ولم يخلف ابناء.
صدر له: ـ عصافير بلا أجنحة - 1960. ـ أوراق الزيتون ـ عاشق من فلسطين ـ آخر الليل ـ أعراس ـ العصافير تموت في الجليل ـ يوميات جرح فلسطيني ـ حبيبتي تنهض من نومها ـ محاولة رقم 7 ـ أحبك أو لا أحبك ـ مديح الظل العالي ـ هي أغنية ... هي أغنية ـ تلك صورتها وهذا انتحار العاشق. ـ حصار لمدائح البحر ـ شيء عن الوطن ـ ذاكرة للنسيان. ـ وداعاً أيها الحرب وداعا أيها السلم ـ يوميات الحزن العادي ـ ورد اقل ـ مأساة النرجس، ملهاة الفضة ـ في حضرة الغياب ـ لماذا تركت الحصان وحيداً ـ سرير الغريبة ـ لا تعتذر عما فعلت ـ جدارية ـ حالة حصار ـ كزهر اللوز أو أبعد ـ أثر الفراشة (2008) صدرت اعماله الشعرية الكاملة في 3 مجلدات عام 2005
******
سيمضي وقت طويل
اقول من خلال ما قراته من مراثي الكتاب الاجانب لمحمود درويش، ان هناك اعترافا عالميا بالموقع الاستثنائي لهذا الشاعر على خريطة الادب العالمي، الى حد القول انه لم يكن في العالم قبل وفاته شاعر يعادله مكانة، ولم يبق غيره من عصر اولئك الشعراء الذين يستقطبون من جماهير الشعر ما يملأ ملعبا رياضيا عند الاعلان عن تقديم قراءات لشعرهم، هو ما يزيد من حجم الاسى الاسف على رحيله لانه بجوار العطاء الشعري الذي كان سيضيفه الى ديوان الشعر العربي والانساني، حرم الادب العربي من جائزة نوبل ثانية، كانت في طريقها اليه قريبا، لو لم يأخذه مرض القلب من بين ايدينا في هذا العمر المبكر، لان هؤلاء النقاد الكبار من انحاء العالم الذين تكلموا عن مكانته المتفردة على خريطة الشعر المعاصر، يعرفون انهم يقولونه في حضور شعراء نالوا جائزة نوبل مازالوا على قيد الحياة، مثل هيني الارلندي وويلكوت الجامايكي وغيرهما .. يبدو سؤالا وجيها ان نتساءل عن حال الوجدان الانساني في العالم بعد رحيل محمود درويش، حيث ينبيء انقراض الشعراء من امثاله ممن لهم قوة حضوره وعمق اتصاله بالجمهور الذي يفرح بتلقي شعره مسموعا بعد ان تلقاه عن طريق القراءة، بنضوب شيء ما في الوجدان الانساني. لابد من وقفة تأمل وتقييم واعادة نظر ازاءه وربما يأتي بعد ذلك جهد عالمي مشترك لاعادة او تعويض هذا النضوب، واذا صح لنا ان نتكلم عن الفراغ الذي يتركه غياب درويش على المستوى الانساني العالمي فماذا نقول على مستوى الوطن العربي ومستوى اللغة العربية والثقافة العربية، والوجدان العربي، ثم ماذا نقول عن تاثير غيابه في شعبه الفلسطيني ومصير بلاده الجريحة وقضية الوطن السليب التي كان هو صوتها المعبر اعظم تعبير عنها والنبراس الذي يشحن الوجدان الفلسطيني بالنور وقوة الامل ويبقي النوافذ مفتوحة على الغد الافضل والاكثر اشراقا لشعبه وتعميق الولاء لهذا المستقبل، باعتباره الحارس الذي يحمل شعره سلاحا ضد الوقوع في اليأس والعبث .
كلها اسئلة يستحق شاعر استثنائي معاصر، من عظماء الشعراء الانسانيين الذين انجبتهم الحضارة البشرية على مدى التاريخ، ان نطرح اسئلة من هذا النوع يوم غيابه. كان حضوره كبيرا طاغيا، وهو نوع من الطغيان الجميل الذي ينبثق من الحب، ولا يأتي نتيجة القمع كما هو نوع الطغيان الذي يقطن الجسد العربي دائما، اقول ان هذا الحضور كان لابد ان ينتج عنه اثناء الرحيل، غياب له نفس القوة، ولذا وجب ان نستنفر كل الاجهزة في حياتنا لتعويض هذا الغياب، خوفا على الشعر والثقافة والوجدان، غيابه معناه غياب هذا الحارس لمشروع الامل، وهذا القلم المنافح والمناضل ضد اليأس والعبث، وهذا المبدع الذي انجز مشروع التحديث والتطوير للذائقة العربية الشعرية، ولمدونة الشعر العربي نفسها وحقق ولادة جديدة لشعر يستطيع ان يبقى شعرا قويا ينتمى لأرقى انواع الشعر ويحفظ له شروطه ثم لا يعجز عن التعبير عن القضايا الساخنة لابناء شعبه.
نعم توفرت لمحمود درويش خصائص لم تتوفر لغيره على غزارة الوطن العربي بالشعراء ممن يتمتعون بمواهب كبيرة في قول الشعر ولكنه تميز باشياء جعلت له فرادة وخصوصية في المشهد الشعري عربيا وعالميا، فهو بداية جعلت منه ظروف تاريخية واجتماعية وسياسية وثقافية، شاعر القضية، وهو لقب ينطبق على شعراء كثيرين مثله، ولكنه استطاع دونهم جميعا، ان يبقى شاعر القضية دون تفريط في ذرة واحدة من ضرورات الشعر وشروطه، يقتضيها احيانا ما تطلبه السليقة الشعبية والذائقة العامة ومستوى الجمهور في شعوب مازالت تعاني الامية والحرمان من التعليم من تنازل عن المشارف العالية للشعر هبوطا الى مستواها، لكنه استطاع على مدى حياته الشعرية، ان يقول الشعر في اعلى مستوياته التي تتطلب تركيبا صعبا وتعاملا مع الايحاءات والرموز واللغة الشفافة ذات الصفاء والنقاء والرقي، البعيدة عن المباشرة والصراحة والفصاحة التي تشبه فصاحات الخطابات السياسية و لغة الاستعمال العام التي يقولها الخطباء في مهرجانات الخطابة ويلقونها من فوق منابر المساجد والتي يقتضيها الفهم العام والذوق والعام، وبرغم ذلك يصل الي وجدانات الناس وعقولهم وقلوبهم ويحقق ذلك التواصل العميق مع ابناء شعبيه وينجح في التعبير عن قضيتهم والارتفاع بها الى سمت انساني يجعلها قضية الانسان المظلوم المكلوم في كل زمان ومكان . من بين شعراء الحداثة، يحتل محمود درويش موقعا في المقدمة، دون تطرف في التعامل مع هذه الحداثة، لم يذهب في التجريب الى حدوده القصوى التي تنتهي الى بحر الظلمات حيت تغيب الرؤية ويصبح الغموض الجميل الذي يحل على القصيدة كرداء من ضباب شفيف، سجفا من ظلام سميك يحجب الرؤية و يقود الى العمى والتوهان الذي يجلب الكوارث لمن يسير في متاهته، دون ان يبقى في ذات الوقت مقيدا الى القوالب القديمة والانماط الجاهزة والاساليب الشعرية التي تجاوزها العصر.
لقد كان شاعرا مسكونا بهاجس التجديد والتطوير قادرا على اجتراح لغة جديدة واساليب عصرية وكتابة قصائد يتجاوز فيها نفسه ويقوم بتطوير ذاته وتعميق رؤاه باساليب تزيده قربا من جمهوره وتؤسس له مكانة خاصة في وجدانهم وتصنع له مكانا متقدما في المشهد الادبي على مستوى العالم.
وبقى برغم وجود شعراء من اباء الشعر العربي الحديث، كان معايشا لهم،ومعترفا بفضلهم، وتلقيه اصول الشعر على ايديهم، شاعرا خارج المنافسة لما اسبغه الله عليه من موهبة استثنائية، عززها بخبراته وتجاربه وتكريس حياته تكريسا كاملا شاملا لقضية شعره المرتبط ارتباطا عميقا بارضه واهله، وما رفضه الدائم لعروض التوزير والمناصب القيادية، الا دليلا على هذا الحرص على اخلاصه لقضية الشعر وجعل هذا الشعر محور حياته لم يستطع معه، حتى وهو يستجيب لنداء الحب في علاقاته النسائية رافضا ان يجعل هذه العلاقات تستحوذ على شيء من عشقه للقصيدة التي خصها بالولاء فمات دون ان ينشىء اسرة من زوجة واولاد، خاصة به، مما اكسبه هذه القدرة على الاحتفاظ بشعره متدفقا كنهر لا تنضب منابعه ولا يتوقف جريانه مهما قست الطبيعة واحتجب المطر واشتدت حرارة الجو، وامحلت الموارد التي تغذي الانهيار والجداول والبحيرات، فبقي حين يصيب الجفاف مواطن الشعر، واديا يحمل الماء النمير لا يصيبه امحال ولا جفاف .
الاخلاص للشعر استوجب ايضا الابقاء على عشقه للوطن ثابتا، صافيا، نقيا، لا مراء فيه، ولا يشوبه شيء مما يشوب هذا النوع من العلاقات، من تحولات وتقلبات ومراجعة للمواقف، لانه ليس موقفا تكتيكيا كما يحدث مع القادة السياسيين، او استجابات لاحداث وتطورات عارضة طارئة، او حسب ما تقتضي لحظات التوتر والانفراج وما يحدث حولها من ضغوط، تحضر فينتج عن حضورها موقف، وتغيب فيحدث موقف جديد، فالقضية بالنسبة لشاعر ربط شعره بقضية بلاده، لا سبيل لوجود هذه المناورات والتكتيكات والكر والفر في حياته، وانما موقف استراتيجي من القضية وثوابتها التي لا تحتمل هذا التذبدب، رؤية عميقة لها ثبات القناعات الوطنية المتجذرة في عمق الروح والوجدان، حافظ عليها واخلص لها وجعل شعره معبرا عنها، فكان بالثالي شاعرا متسقا مع نفسه لا يرتدي لكل حالة لبوسها، ولا يعنيه الا الجوهري من الامور، دون ان يجعل العاجل والطارئ والتكتيكي يلهيه او يحيده او يشغله عن عمق تلك الرؤية وذلك الموقف الذي بدأ ت به حياته وانتهت به .
رغم هذا الهم الوطني القاسي الذي يحمله، والتفاعل الشخصي والعام، المادي والمعنوي، مع محنة شعبه، فان هذا الهم وهذه المحنة لم يعميانه عن رؤية الافاق الانسانية في امتدادها الرحيب، ليضم هذه الافاق الى ارض اهتمامه بدل ان يبقى ضيق الافق سجين محنته، فاكتسب شعره بفضل هذه النظرة هذا البعد الانساني الذي يخترق كل قصائده، كما لم يقتصر الانتماء لارض فلسطين التي ابتلاها الله بنوع من الاستعمار شديد التطرف والطغيان والانغماس في ظلام الاساطير الرافضة للانفتاح والتطور على قيم العصر، لم يقتصرانتماء الشاعر على فلسطين التي انجبته، وانما شمل ايضا رحابة الامة العربية بكل شعوبها وقطارها ودائرتها الحضارية التي تشكل فلسطين حجرا ثمينا من احجار لوحة الفسيفساء التي تشغل مساحات كبرى من قارتي اسيا وافريقيا، بما لها من امتدادات في التاريخ بالاضافة الى هذه الامتدادات الجغرافية وما تضمه من زخم في الفكر والثقافة والعلم والسياسة والاجتماع المتداخل مع بعضه البعض ليصنع لمحمود درويش ارضا يتحرك عليها حضاريا وثقافيا اكثر من قطره الصغير.
كان لهذا التماس المبكر بين الشاعر وبين جماهير الامة العربية التي احتفت به منذ بداية ظهوره على خريطة الشعر العربي، وهذه الاحضان التي مدتها اليه على مساحة الوطن العربي كله، تريد حمايته وتوفير الامن لشاعريته، لكي لا تحطمها عنجهية المستعمرين، وهو لا زال غضا في صباه، كان لهذا التماس تأثيره على الوجدان الشعري للشاعر الصغير، التي رأته الجماهير كبيرا، فكان لابد ان يكبر حقا، ليحصل التوازن بين الصورة والحقيقة، خاصة في ذهن الشاعر الذي قرر ان يواصل نموه وخطط لنفسه ان يكبر ويكبر ويكبر ليكون جديرا بهذا الاحتفاء الشعبي به، وصار حب التطور والنمو في طبيعته وجزءا من تكوينه، فواصله حتى اخر يوم في حياته، لا يرضى بانجاز حققه حتى يأتي بما يتفوق به عليه وعلى نفسه .
نتيجة حرصي على حضور المؤتمرات التي يعقدها الادباء، بسبب انني اعتبرتهم دائما، وسط مجتمعاتنا التي تحتفي بالانتماء القبلي والعشائري، هم قبيلتي التي لا اعترف بقبيلة سواها، فقد التقيت وتعرفت على كل من له صيت من الشعراء العرب مشرقا ومغربا، كبارهم في السن وصغارهم، وكان لابد ان التقي بالشاعرمحمود درويش منذ اول خروجه من فلسطين، في اول مؤتمر للادباء العرب يحضره الشاعر عقد في تونس في مطلع السبعينيات، وكما نعلم فقد ولد درويش نجما منذ شبابه، وكان اثناء هذا المؤتمر محاطا بالمعجبين والصحفيين اينما تحرك، فتجنبت الاقتراب منه بسبب هذا الزحام وبسبب اشاعة ظهرت عنه انه رجل متكبر، ممتلئ بنفسه، وقد تبين ان هذا التكبر اشاعة اكثر منه حقيقة، وندمت لانني صدقت الاشاعة وتجنبت الاقتراب منه، رغم التصاقي بشعره وعميق حبي له واعجابي به ناثرا ايضا، ارى انه احد اجمل من يكتبون النثر في ادبنا العربي المعاصر . اكتفي بتبادل التحية معه، وانطلق في سبيلي تاركا اياه يستمتع بحلقات المعجبين والمعجبات، وقد سمعت من اصدقاء مشتركين مد ما لديه من عذوبة وما يستمتع به من ملاحة في الطبع وما يملكه من روح الدعابة مما جعلني نادما على الفرص التي ضاعت للاقتراب منه على المستوى الشخصي. وار ان الفرص القادمة كثيرة، التي ستعوض هذا التقصير من جانبي في السعي لمعرفته وعقد صداقة جميلة معه، كتلك الصداقات التي عقدتها مع رواد الشعراء واحتلت في ذاكرتي موقعا زاهيا مبهجا الوذ بالفرار اليه والاقامة فيه كلما حاصرتني حلقات البؤس في الواقع الذي حولي، الا ان القدر شاء ان يحرمني من تحقيق هذه الامنية فهنيئا للاصدقاء والزملاء الذين عرفوه وواصلوا التقائهم به، واحتفظوا بذكريات عنه ستكون زادا يبهجهم ويمتعهم مدى العمر.
سيمضى زمن طويل قبل ان يظهر شاعر في قامة وقوة وغزارة الموهبة التي يملكها هذا الشاعر العبقري، في وطننا العربي، ولكن العزاء الذي يخفف عنا بلوى غيابه، هي ان شعره الذي يسيل جمالا وعذوبة ويمتلئ بقيم الحداثة والمعاصرة بما يجعله شعرا مواكبا لاحداث زماننا، سوف يبقى معنا، نجد فيه انفسنا ونلتقي فيه بالتعبير العميق عن معاني حياتنا، ونتلمس فيه نوعا من جماليات الشعر التي قد لا نجدها الا لديه .
رحم الله محمود دريش، واجزل له العطاء بقدر ما اعطى للبشرية جمعاء.
روائي من ليبيا
القدس العربي
12/08/2008