رام الله ـ عمان ـ 'القدس العربي': حول الفلسطينيون جنازة شاعرهم الوطني الكبير محمود درويش (67 عاما) الذي تبنى قضيتهم في قصائده وعبر عن طموحاتهم الوطنية الى ما يرقى الى الجنازة الرسمية في مدينة رام الله الاربعاء وشيعوا الرجل الذي عبر عن الشعور بالمنفى والفقد والتحدي. وغصت شوارع مدينة رام الله في الضفة الغربية بحشود غفيرة من المشيعين الذين تجمعوا لوداع الشاعر الراحل.
ورافق عشرات الآلاف موكب الجنازة سيرا على الاقدام من مقر الرئاسة الفلسطينية حيث هبطت الطائرة الاردنية التي اقلت جثمان درويش، الى موقع الدفن الذي يبعد حوالي كيلومترين.
وعلقت المئات من صور الشاعر الراحل على جانبي الطرق كتب عليها 'على هذه الارض ما يستحق الحياة'.
وقد اختارت السلطة الفلسطينية تلة جنوب رام الله تطل على ضواحي مدينة القدس التي يتطلع الفلسطينيون الى جعلها عاصمة لدولتهم المقبلة، وتبعد عنها بضعة كيلومترات، لدفن محمود درويش.
وتبرعت بلدية رام الله بالتلة لتكون مقاما ادبيا للشاعر الراحل، قرب قصر الثقافة الذي اقام فيه محمود درويش آخر امسياته الشعرية.
وعلقت لافتة ضخمة على احدى جهات القبر تحمل صورة درويش وقصيدته 'في حضرة الغائب' التي يقول كتاب وادباء ان عنوانها اشبه برثاء لنفسه.
وزرعت ثلاث اشجار نخيل على اطراف القبر وعشرات من اشجار الليمون. وقال عاملون في وزارة الاشغال العامة بانه سيتم احضار كميات من تراب بلدة البروة مكان ولادة الشاعر الراحل لوضعها على القبر.
ونقش على شاهدة قبر درويش 'على هذه الارض، سيدة الارض، ما يستحق الحياة'.
وخلال الجنازة، بكى المشيعون عند سماعهم تسجيلا لصوته في امسيته الشعرية الاخيرة في قصر الثقافة قبل اقل من شهر. ونقل تلفزيون فلسطين وقائع التشييع مصحوبا بكلمات اشعاره وغناء الموسيقار اللبناني مرسيل خليفة.
وجاء المشيعون، رجالا ونساء وشيوخا واطفالا من مختلف المناطق، ومن مدينة القدس وباقي ارجاء الضفة الغربية. وجاء بعضهم من الجولان السوري رفعوا العلم السوري ولافتة كتب عليها 'ثكلت فلسطين السليبة ملهما بين النوابغ ذروة شماء'.
لكن العدد الاكبر من المشيعين جاءوا من منطقة 48 وتوجهوا من قرية الجديدة التي تعيش فيها عائلة الشاعر.
وقال شهيل ميعاري (53 عاما) ان اكثر من ثلاثين حافلة قدمت من بلدة الجديدة لتشارك في تشييع درويش.
وارتدت مجموعة من الشبان قمصانا بيضاء حملت صور درويش، كتب عليها احد ابياته الشعرية 'لو اننا على حجر ذبحنا .. لن نقول نعم'.
واطلقت المدفعية احدى وعشرين طلقة عقب دفن الجثمان احتراما وتقديرا للشاعر درويش.
وكانت مروحية عسكرية اردنية حملت جثمان درويش من الاردن. وقد حطت في باحة المقاطعة مقر السلطة الفلسطينية التي يرئسها محمود عباس في رام الله.
وكانت مراسم وداع نظمت في مطار ماركا العسكري شرق عمان حيث وصل جثمان محمود درويش من الولايات المتحدة صباح امس.
وتوفي الشاعر الفلسطيني في التاسع من آب/اغسطس عن 67 عاما في احد مستشفيات الولايات المتحدة بسبب مضاعفات اثر عملية جراحية في القلب.
وأدت ثلة من حرس الشرف التحية امام النعش الذي لف بعلم فلسطيني وحمله ثمانية ضباط.
وبعد ذلك وضع الجثمان في قاعة قام الرئيس الفلسطيني فيها برثاء الشاعر الراحل الذي كان يجسد تطلعات شعبه الى الاستقلال ويروي آلامه التي ولدها النزوح والاحتلال.
عباس: الى اللقاء وقال عباس 'اليوم نودع نجما احببناه الى درجة العشق'، مؤكدا ان 'التاسع من آب/اغسطس (يوم وفاة درويش) يوم فارق في تاريخ الثقافة الفلسطينية والانسانية عندما ترجل ذاك الفارس العنيد عن صهوة الشعر والادب ليترك فينا شمسا لا تغيب ونهرا لا ينضب'.
واضاف ان محمود درويش 'اوفى عطاء بسخاء وزاد فينا طموحا بالمزيد لهذا لا نصدق انه رحل. وعندما نوقن بالقدر ونستسلم للقضاء الذي لا بد منه وليس لنا فيه من مفر تزداد فاجعتنا الما وأسى وحسرة'.
واكد عباس 'ستظل معنا يا محمود لانك تركت لنا ما يجعلنا نقول لك إلى اللقاء وليس الوداع'.
سميح القاسم: سامحنا على ضعفنا ومن جهته قال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم الذي اجهش في البكاء أثناء حفل التأبين 'لأنك مسكون بالحنين إلى خبز أمك وقهوة أمك، فإنهم مسكونون بهاجس العبثية والزوال، ولأنك مفعم بحب شجرة الخروب التي على الطريق بين البروة وعكا، فإنهم ملغمون بالكراهية وشهوة التدمير والتدمير الذاتي، لأنهم لا يحبون الحياة والسلام بقدر ما تحب أشجار الخروب والسنديان في وطنك'.
وقال 'يا أخا لم تلده أمي ...سامحنا على ضعفنا. سوف تتشبث حتى الموت باليقين بأن شعبنا العربي قدم المنسوب الاعلى من دماء الشهداء، وهذا الشعب الصغير الكبير المدهش بقوة حياته وحيويته يتقن فن ادارة المفاوضات ويتقن فن ادارة الانتفاضات أيضا.' ومثل فرنسا في مراسم التشييع رئيس الوزراء السابق دومينيك دو فيلبان الذي كان على معرفة شخصية بدرويش ووصفه في كتابه 'فندق الأرق' بانه رجل 'يحمل ضوء نجمة حزينة'.
وأدى الحاضرون الصلاة على روح الشاعر وأمها مفتي القدس محمد حسين.
وكانت طائرة ارسلها رئيس دولة الامارات العربية المتحدة الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان نقلت جثمان درويش من الولايات المتحدة الى مطار ماركا العسكري شرق عمان، حيث نظمت مراسم وداع للشاعر العربي الكبير.
وكان بين مستقبلي النعش في الاردن ممثلون عن جامعة الدول العربية ومسؤولون اردنيون وفلسطينيون بارزون بينهم رئيس الوزراء الفلسطيني سلام فياض الذي رافق الجثمان الى رام الله على متن طائرة هليكوبتر عسكرية.
وشارك الموسيقار والمغني اللبناني مارسيل خليفة في استقبال الجثمان في الاردن وأدى وهو يبكي بعض الاغاني المأخوذة من قصائد لدرويش.
وقال خليفة 'باحس اليوم لحظة كثير قاسية. محمود أحبك أكثر وسنظل نحبك'.
وفي القاهرة تجمع جمهور الشاعر الفلسطيني محمود ردويش في حداد على ضوء الشموع مساء الثلاثاء لتوديع شاعرهم الراحل. وحضر الموسيقار وعازف العود العراقي نصير شمة أمسية الحداد على ضوء الشموع في القاهرة وأدى بعض ألحانه المستوحاة من اعمال درويش أمام المشاركين.
وقال شمة 'الألم والحزن ولذلك اليوم كل أصدقائه مدعوين هنا لإشعال الشموع.. إضاءة الشموع من أجل روحه وهو كان يريد احتفالا بالزهور وكان يريد احتفالا هادئا وصامتا وقد عملناه مثلما كان كتب في وصيته'.
***
شعر وورد أقل بعدك
لم أسألك منذ باريس عن صحتك إلاَّ باعتباره سؤالا من لوازم الكلام العادي، فأنا أعرف أنك لا تحب الضعف سوى في القصيدة والوردة، وربما في الأم. كثيرون يسألونك السؤال الذي تكرهه، لا لأنك تفضل أن تظل طويلا ونحيلا وانيقا في أهبة الذهاب الى الحفل، ولكنه ضجرك من لائحة أمراضك الوراثية الطويلة وربما غضبك منها، غير أني سألتك آخر مرة تحدثنا فيها بالهاتف. قلت لك: تعرف أنني لم أسألك منذ باريس عن حالتك الصحية، يومها كنت خارجا من غرفة العناية الفائقة، كانت كلماتك التي تتدرب على استعادة ضربات القرار أفشل من أن تقنع سامعا يحفظ، عن ظهر قلب، طبقاتها الصوتية، وبدل الكلام عن الصدر المفتوح رحت تمتدح انفاسا تقع على مقربة من اوجاعك الاندلسية، فخجلت من نفسي ومنك ومن 'صبحي' الذي كان بجانبك على السرير وقررت ألا أقترب من تلك الهشاشة التي ترغب بالاحتفاظ بها، كاملة، لنفسك، ولكن ليس هذه المرة. هذه المرة أريد أن أسألك السؤال الذي لم أسألك منذ باريس، ففعلت (يا للنذير الذي لم التقط اشارته المفزعة) ما لم تفعل من قبل. قلت لي: هذه المرة مختلفة. هذه المرة غير المرات السابقة. لقد جربت الموت سابقا ولم يخفني إلاََّ قليلا. فلم أعرف انه الموت، بل البياض أو القطن المتطاير في سديم لا نهائي. هذا الموت لا يخيفني لأنني جربته ولم يكن يشبه الموت إلاَّ في درجة السبات. يخيفني الشلل. ألا اقف على قدميَّ الاثنتين كما كنت أفعل عندما سندت طولي، أمام المحن، طويلا. ورغم أنني لا امشي كثيرا ولا آكل كثيرا ولا أحلم، كما كنت احلم سابقا، إلا انني اريد خطوتي وقدميَّ ويدي اليمنى التي ترفع سيجارة غير مرئية الى شفتيَّ الظامئتين للنيكوتين والقبل التي كأنها لم تكن. أريد قدميَّ ويديَّ كاملة، وطولي كله وعمري الذي لا أعرف كيف سبقني الى الخريف.
لا أخاف الموت فهو، إن كان مثل الذي رأيته في باريس، لا يخيفني. لأنه أبيض. لأنه قطن متطاير. لأنه نوم عميق. أخاف الكرسي المتحرك أو جانبا واحدا من السرير. فقلت، بعد منولوج طويل لم اسمعه منك قبل ذلك اليوم، لا تخف، فإن كانت حدوس الشعراء صحيحة سنراك كثيرا بلحمك ودمك ولسانك السليط، فضحكت كما يضحك الاصدقاء، وشعرت من رنة ضحكتك التي أضاءت غرفتي القاتمة في لندن أنك أحببت تجرئي على قطع ذلك المتر اللعين الذي ظل يفصل، دائما، بيننا. فقلت لي: لم يعد لساني سليطا، فقلت لك صادقا: يا للأسف، ثم كمن يجيب على الكلمات التي لم أقلها اضفت: تربيتنا الخشنة تمنعنا من التعبير عن عواطفنا. كأنك كنت تقول لي: أعرف أنك تهتم لأمري. عن ضربة النرد التي كيف لي أن أعرف أنها الاخيرة تحدثنا لآخر مرة. كنت قد ارسلت القصيدة وتحدثت عنها مع 'عبد الباري' ثم طلبتني. لم أكن في الصحيفة. وجدت رسالة صوتية منك على هاتفي النقال المغلق تقول فيها بنبرة بكر العائلة في بلادنا: بربك ما حكمة أن تحمل هاتفا نقالا مغلقا؟ طلبتك في رام الله. كنت بجانب الهاتف. لعلك كنت تنتظر اتصالا اكثر اهمية من اتصالي. سألتني عن القصيدة التي تركت قشعريرة في بدني. القصيدة التي يمكن لأي جاهل في الشعر والنثر والحياة أن يرى، من وراء كلماتها، يدك تلوح وداعا. لم أقل لك، طبعا، ذلك، فلم اصدق الكلمات التي تودعنا واحدا واحدا، بل قلت انها المرة الاولى التي تقترب فيها، الى هذا الحد، من حياتك وعائلتك وامراضك من دون ان تترك فرصة للتأويل الوطني الجاهز في رؤوس الذين يريدونك شاعرا بحجم 'المقاطعة'. سألتك إن كانت القصيدة جزءا من مشروع شعري على غرار ما فعلت في السنين الاخيرة، فقلت لي، بنبرة لم افهمها سوى بعد الخبر القادم من هيوستين: كلا.. ليست جزءا من مشروع شعري، فأنا لا أشتغل على مشروع الآن.
أردت الاقتراب أكثر من تلك المنطقة التي ابتعدت عنها منذ باريس، لكني بدلا من ذلك قلت بلا تبصر: ليس ضروريا أن تواصل التزامك المنهك بوضع مشروع شعري بين دفتي كتاب كل مرة. استرح قليلا واكتب قصائد منفردة. لم افهم، لحظتها، معنى قولك انك لا تعمل على مشروع شعري كعادتك. سؤالي الأخرق عن تاريخ لاعب النرد كاد أن يقطع حبلا بدأ يمتد بيننا، بقوة، لأول مرة. قلت لي انك كتبت 'لاعب النرد' ثلاثة او اربعة شهور قبل قصيدة النكبة. لا اعرف إن كان ذلك صحيحا، فأنت لا تذيل قصائدك بتاريخ أو مكان. الآن أشك في التاريخ الذي اردت تضليلي به، خصوصا عندما أخبرني 'خيري' انه لم يعلم بوجودها، وأكثر عندما فوجىء بها 'صبحي' منشورة، وتسلمها 'غسان' قبل ساعات من دفعها الى الطبع. هؤلاء يطلون، عادة، على البروفات الاخيرة لقصائدك. ليس هناك شاهد على ولادة قصيدة الوداع هذه إلاَّك. أنت وحدك من وضعها في بيت لا يسمع فيه تنقّل قدم واحدة. بيتك الذي اعطيت مفتاحه لصديقك 'حليله' كي لا يشم احد رائحة اخرى غير كولونيا الحلاقة التي ترطب خديك الأجردين.
لم يكن لدى لاعب النرد سوى لاعب النرد نفسه. لم يسمع أحد تلك الرمية الاخيرة إلاَّ من رماها. كلنا كنا بعيدين وغافلين وعاجزين عن تبديل موقع الحجر المرقط الذي تدحرج في تلك الخانة. اليوم أذهب الى مطار 'ماركا' لاستقبالك. لن أراك. ففي بلادنا لا يكشفون عن وجوه الموتى المسجين في تابوت. الموتى ليسوا مسؤولين عن وجوههم. سيكون هناك كثيرون ينتظرون التابوت الذي سينقل من طائرة الى طائرة. ستكون هناك وجوه لا تحبها. ولكن هذا ليس مهما بعد. ما يهم أنه سيكون شعر وورد أقل بعدك.
***
قد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي!
منذ رحيل المتنبي لم يفجع الشعر العربي برحيل قامة من قاماته الكبار، مثلما فجع بفقدان نجمه بامتياز محمود درويش. منذ بداياته الأولى استطاع هذا الشاعر أن يحرر القصيدة العربية من'المثالب' التي هيمنت على لغة الشعر قبله. لقد كان مسعى درويش الأول هو التحرر من فخامة الكلاسيكيين وبلاغتهم وجهوريتهم، ومعه لم يعد اللفظ الرقيق هدفاً للخلق، بل اللفظ المشحون المضطرب برموزه.
إنه سيد الصورة الشعرية، تلك الصور الغنية والمتحررة والمضيئة، مكتوبة بلغة لا تقارب التعقيد ولا تسقط في فخاخ الغرابة، وهي رغم ذلك متفردة تحمل ميسمها الطليق، الجذاب والقادر على الحياة وعلى الآخرين. قصائد تتوهج بنورها الخاص وهي لشدة حميميتها تأخذ بمجامع القلوب وتستأثر بها، وتعلق بالذاكرة، وكأنها تملك طاقة الحفر وموهبة النقش في أذهاننا.
دائماً يعطينا هذا الشاعر الصورة غير المتوقعة، الصورة المدهشة التي لم نعتد عليها يوماً، وها هو يدعونا إلى'تربية الأمل' ويحرضنا على اجتراح 'ذاكرة للنسيان'، ومعه نعثر على ذلك الجنوح نحو تمثيل الحياة العريضة المتفتحة المغاليق، نحو إيجاد معان جديدة في الأشكال والألوان والأشياء، وفي علاقتها بالإنسان وتجربته. إن في صوره (وخصوصاً في أحدث قصائده) غرابة ذات معنى داخلي، فكأنها تصدر عن النفس العميقة الجارفة الاندفاع كالنهر، وفيها مفاجأة الأشياء الغريبة واصطدام الرؤية بالمعنى البكر المعتق، البريء المتحذلق، المختمر بمعاني الأشياء في روحها البدائية، وفي محتواها الحضاري الجديد.
إن مغامرة محمود درويش الأولى هي مع المعنى، لكنها في الوقت نفسه مغامرة مع اللغة، فاستعماله للكلمات بعيد عن المألوف، وقاموسه الشعري غني بالدلالات، وهو مغامر جريء توصل إلى أسلوب شعري خاص به، وفرض على لغة الشعر كلمات لم يسبق لها أن استعملت في الشعر. إنه شاعر المعنى والإيماءة والتوهج، وإذا كانت الكلمات في شعره تحافظ إلى هذا الحد أو ذاك على معناها الأول، إلا أنها أيضاً وهنا فرادتها تكتسب قرائن جديدة فهو يقف في منتصف الطريق بين الشعر والفلسفة. إن كلماته، متوهجة، فجائية، راعشة بحالات قلقها وجدتها وغرابة استعمالها، تبعث الرعشة الشعرية في النفس، وهي الأكثر قدرة على الإحاطة بالكائنات والأشياء من حولها، ومن تجارب الإنسان جميعها، دينية وسياسية وشخصية.
بسرعة بدأ محمود درويش حواره النقدي مع الأسلاف، وبحث الشاعر عن اتجاهه وطريقه في مجموعته' أحبك أو لا أحبك'، و'الكتابة على ضوء البندقية' و'أوراق الزيتون' ، تحولت القصيدة إلى أداة لا غنى عنها، إنها باتت تستخدم في غرض حيوي، بل بالإمكان القول إن مثل هذا الشعر كان من وحي الساعة، وعكس على طريقته الجانب الموقوت المحدود بالظروف السياسية والاجتماعية، فبدا بدوره موقوتاً ومرهوناً بظروفه - ولم يكن الاتصال من طابع القصيدة الفلسطينية في ما مضى من تاريخها، ولا أظن أنه كان طابعها في أدب من الآداب. لقد كان شعر درويش في تلك المرحلة شعراً يتسم بالجهد والعناء، لا يطفر طفرة حتى يتجاوزها، ولا يتصل بتراث حتى يعلن عليه القطيعة- أي انه كان مرهوناً بظروف بلده ومبدعه في أغلب الأحوال. لكن رغم هذه السمات إلا أن القصيدة الدرويشية لم تكن تهرب من مواجهة الأزمات، أو تنقل رد الفعل إلى عالم جمالي منعزل، بل رأينا أن مجموعات هذا الشاعر سرعان ما حظيت بالكثير من الإعجاب والاحترام والتقدير ولاقت نجاحاً نادراً وأقبل عليها القراء أيما إقبال 'حبيبتي تنهض من نومها'، و'محاولة رقم 7'، و'تلك صورتها وهذا انتحار العاشق'، مع هذه المجموعات طرأت على قصيدة درويش بعض التغيرات، كانت في مجموعها أقرب إلى روح المغامرة الجسورة، من دون أن تفقد هذه القصائد طابعها السياسي الملتزم. نعم في هذه المرحلة سطع نجم درويش وتوهج في سماء الشعر العربي حتى أوشك أن يطفئ كل ما عداه. لقد ارتبطت قصائده بموقف فكري وأخلاقي صلب لا يلين. وهذا هو الذي جعله من بين قلة بين شعراء وطنه الذين لم يضعف نتاجهم ولم يتغير أو ينقطع حتى بعد هجرته من وطنه فلسطين. أصبحت القصيدة عنده دعوة سياسية تهم الرأي العام، سلاحاً للكفاح في سبيل العدل والتقدم والتحرر والسلام، أداة للفعل والثورة والتغيير. واستقبل الناس في العالم العربي كله نموذجه الشعري المستفز المتحدي بالغضب أو الترحيب. وها نحن من جديد إزاء رسالة الشعر الذي يجب أن يكون عوناً على الفعل.
لقد ظل شعر محمود درويش في حركة دائمة وتحول لا يعرف الراحة أو الاستقرار، والكلام عن المدارس والحركات والاتجاهات في القصيدة الدرويشية أمر يوقعنا في التبسيط، ذلك أنه من أصعب الأمور أن نفرض على الشعر في عصر أو مرحلة معينة شكلاً ثابتاً أو قالباً جامداً، ولذلك يحسن بنا الحديث عن القصيدة الدرويشية، بدلاً من الحديث عن الشعر، فهناك القصيدة السياسية، وقصائد الحب، وقصائد الومض والحكمة والتوهج، وقصائد التجريب أو اللعب، وكل هذا يقودنا إلى قصائد التأمل أو الصمت إذا جازت التسمية. وفي كل مرحلة من هذه المراحل كنا نتعرف على محمود درويش صاحب الطموح الشعري الأعلى والوعي الشعري الأرقى والمعرفة الشعرية الأغنى. نعم محمود درويش الذي تمرد منذ بداياته على الرواد أعطى شعره شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن تقنيات الرواد. ففي شعر هؤلاء الأخيرين كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها تكونان مختلفتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما مع درويش فقد اكتشفنا أن نظرته للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية عند درويش كانت تقوم على كيفية إعادة الحياة إلى اللغة على إيقاع زمن القصيدة الحديث، والتي هي في المحصلة إعادة نظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد.
نعم لقد أدرك درويش أن شعر الرواد كان تبشيراً بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها، لكنه رغم هذه المعرفة كان يدرك أيضاً أهمية الدور التاريخي الذي لعبته قصائد هؤلاء الرواد أمام الجيل الجديد الذي لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته، ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد والقديم. هكذا ورث الجيل الدرويشي حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني أو المقدس... إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع الشعراء الشباب تجربتهم ويغامرون، لأن المناخ بات صالحاً للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى أحياناً.
واللافت أن درويش الذي يملك حساً نقدياً عالياً قلما كتب شيئاً غير الشعر، بل هو من بين قلة من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر. إلا أنه لم يفعل ذلك من منطلق أنه من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً مع نتاجه، ذلك لأنه من وجهة نظر درويش فان الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته. وفي رأي درويش أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه، أي ان الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. مع درويش الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته لشعره.
هل لهذا السبب عندما ينظر هذا الشاعر إلى الوراء لا يحس بالرضا أبداً؟! وهل لهذا السبب اكتشفنا مراراً أن درويش هو أكثرنا مقدرة على نقد ذاته وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعره؟ كان محمود درويش يملك القدرة على إعادة النظر في كل نص من نصوصه النثرية والشعرية على حد سواء. ولذلك كان يردد باستمرار أنه لو أتيح له أن يعيد كتابة ما كتبه فقد لا ينشر منها إلا نحو خمسة فقط.. هذا هو تواضع المبدع.
لقد اجتهد درويش كي يصل بقصيدته إلى مرحلة الشعر الصافي، رغم أنه كان يدرك استحالة هذه المهمة، لكننا حين نقرأ له ليس أمامنا إلا أن نصدق أنه موجود ، وأن هذه القناعة هي التي كانت تحرضه على مواصلة البحث والكتابة، وذلك بهدف إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. ومن دون أن يقتنع درويش بأن هذا المستقبل غير موجود إلا أنه كان أكثرنا تصديقاً أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع. محمود درويش شاعر المعنى بامتياز، ومن وجهة نظره أن التمرد على المعنى هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته، ورغم انحيازه الموضوعي إلى الكلام المفيد إلا أنه كان يدرك أنه في حياتنا المعاصرة تموت الكثير من المعاني الكبرى وتتساقط، لذلك حاول في شعره أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي، وكانت قصائده تكشف عن شاعر يؤمن بحقه في العبثية واللعب، لأنه يعتبر أن هذه العبثية هي الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى. والسؤال: هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس من الحركة حتى، وهذا ما قاومه درويش في تجربته الإبداعية والإنسانية.
(شاعر لبناني ومسؤول القسم الثقافي في مجلة 'الكفاح العربي')
***
وقائع في كواليس امسية شعرية في المانيا
أيها الموت انتظر حتى أعود... من قصيدة 'جدارية في عام 1994 طرأت لي فكرة إقامة أمسية للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش في ألمانيا، لكنني كنت متردداً بسبب ما سمعت عنه من نرجسية وافتعال أسباب تحول دون موافقته بسهولة على أي مشروع يعرض عليه بهذا الاتجاه كما ذكر لي بعض من يعرفونه. وبعد إجراء بعض الاتصالات مع أقرب الناس إليه لجس النبض، أستقر رأيي على الفكرة رغم الآراء المتباينة حوله. وأنا بين هذا وذاك التقيت أثناء زيارتي لدمشق بالصديق الفنان قيس الزبيدي صدفة، وأثناء احتسائنا القهوة في مقهى هافانا سألته عن رأيه بدعوة الشاعر إلى برلين؟ فأجابني سيكون أمراً رائعاً حيث سيصبح أول نشاط من هذا القبيل على الساحة الألمانية في عهد توحيد ألمانيا وسقوط الجدار، وأردف قائلاً، لكن محموداً صعب المنال، وعلى ما أعتقد أنك تعرف الأخ عبد الله حوراني؟ فاتصل به وسيعينك بالتأكيد لأنه من أقرب أصدقاء درويش.طلبت من الأخ قيس توفير وسائل الاتصال بالصديق عبد الله حوراني الذي كان مقيماً في عمان، وأبلى قيس بلاءً حسناً حين زودني بعد يوم من ذلك بتلفونه. عزمت عل الاتصال به مباشرة وتحدثنا ضمناً بالموضوع وأخبرني أنه سيتصل به ويخبرني حين يقضى الله أمراً لنا.. في اليوم التالي اتصل بِي الأخ عبد الله وأخبرني بعد أن زودني برقم تلفون محمود في باريس على ضرورة الاتصال به قريباً وهو الآن على علم بالموضوع وقد رحب بالفكرة 'واضح أن عبد الله كان قد أقنعه'. بعد يومين عدت إلى برلين وكان لنا أول لقاء تعارف عبر الهاتف، تكررت فيما بعد الاتصالات الهاتفية وكنا نتحدث في أمور كثيرة منها السياسية والثقافية، إلى أن التقيته على وجه السرعة وهو يشد الرحال إلى عمان للتشاور معه في أمور الأمسية والمشاركون فيها.كنت قد اتفقت مع الشاعر محمود درويش على مشاركة الفنان العراقي عازف العود الشهير الصديق نصير شمه، وأيضاً مشاركة المسرحي الألماني المعروف برفسور كوك الذي أشرف على ترجمة قصائد درويش إلى اللغة الألمانية، والممتع بصوته العميق حينما يقرأ الشعر بطريقة مسرحية لا تخلو من حركات جسدية جذابة، فيما سيقدم الشاعر السوري الصديق عادل قره شولي درويش مستعرضاً سيرته باللغتين العربية والألمانية.. في هذا اللقاء ومن باب المجاملة سألت بحذر شاعرنا الكبير وهو منهمكاً يكتب شيئاً ما على بعض كتبه التي جهزها ليقدمها لي: كيف لي أن أخاطبه بأبو مَن ؟ كما هو معتاد لدينا نحن العرب، فرد مبتسماً ليس عندي أولاد، لكن العراقيين ينادونني بأبو شاكر.
يوم الأحد 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1995 جاء درويش برلين ودخل الصالة الرئيسية للاحتفالات في دار ثقافات العالم وسط ترحيب كبير من قبل الجمهور الذي اكتظت به القاعة للاستمتاع بأمسيته الرائعة، جلهم كان من الألمان، من الوسط الثقافي والأدبي والفني ومن وسائل الإعلام. لكن التحضير الذي سبق الفعالية كان لا يخلو من المفارقات والمفاجآت التي كادت أن تعصف بالفعالية أحياناً، منها اضطرارنا لتغيير الموعد عدة مرات بسبب عدم توافق أوقات المشاركين أو عدم جاهزية الترجمة إلى غير ذلك.يوماً ونحن في أشد العزيمة على ترتيب أمور اَلأمسية ووصولنا مرحلة متقدمة فنياً وإداريا، طلب مني آنذاك السيد 'هارالد شيرر' مدير الشئون الأدبية والثقافية في الدار زيارته لأمر ضروري. التقيته، وبعد تبادل الآراء حول تطور المشروع، عرض عليّ مقترحاً أراد رأيي فيه. قال، ما رأيك في دعوة الكاتب الإسرائيلي عاموس عوز، سألته لماذا؟ قال، الحقيقة أنني خائف من عدم نجاح الفعالية، سألته من جديد، وهل تعتقد أن مشاركته ستحقق النجاح؟ قال ربما، قلت هل تريد أن تسمع رأيي حقاً؟ نعم، أجاب وهو فاتح الثغر بنوع من العجب. قلت أنا متأكد من إن الأمسية ستلقى استحساناً واسعاً بين الأوساط الألمانية والعربية وستكون على قدر عال من الأهمية والنجاح دون عاموس، كما أعتقد بأن درويش سيرفض المشاركة وربما سيلغي الأمسية برمتها، لكنني سأطرح الفكرة عليه لأنه صاحب القرار.
هكذا انتهى اللقاء وغادرت مزعوجا وما أن وصلت البيت إلا واتصلت بمحمود لأروي له ما جرى بالتفصيل. سألني رأيي قبل أن يستعرض موقفه، قلت في الحقيقة أنني أنشد نشاطاً عربياً متميّزاً، أنا لا أرى في ذلك أي نفع ولا أتفق ثقافياً وسياسياً مع المقترح لأن وراءه هدفاً ما، ولنا اعتباراتنا الوطنية والأخلاقية وأنا ملتزم، أما أنت فلك رأيك وعليك أن تقرر.. أصر درويش على رفض المشروع من الأساس إذا ما وجهت الدعوة لعاموس قائلاً: ' أنس الموضوع' مضيفاً، 'هل يعتقدون بأننا مثقفون من الدرجة الثانية لا مرجعية ثقافية وحضارية لنا كي نستنجد بكاتب على مقياسهم، إنك على حق وأنا أتفق معك'. نقلت وجهة نظر محمود درويش لدار ثقافات العالم وتم إنهاء أمر الكاتب الاسرائيلي من على منبر النقاش ومضيت على سبيلي في التحضير.
ومن مفارقات الفعالية قبل حصولها، انه اتصل بِي يوماً بعض الأشقاء الفلسطينيين، يطلبون قيام حفل خاص لمحمود قبل الأمسية، وعلمت بأنهم حاولوا الاتصال به لإقناعه ولم يفلحوا. رفضت الفكرة لكنني وعدتهم بطرح الموضوع عليه رغم عدم قناعتي، وتبيّن فيما بعد بأن وراء الاقتراح هدف سياسي أراده طرف فلسطيني. اتصلت فعلا بمحمود درويش ونقلت له دونما أي تعليق وجهة نظر الإخوة، لكنه تساءل لماذا، أليس هم عرباً حتى يريدون أمسية بمذاق آخر؟ عليهم التعاون لإنجاح الفعالية دون اعتبارات خاصة. نقلت للإخوة ما جاء على لسان درويش وتركت الأمر مفتوحاً أمامهم موضحاً عدم قبوله مقترحهم.
مضى على تلك الأمسية وقت طويل، كنت ألتقي بين الفينة والأخرى الشاعر عن طريق الصدفة أو في مناسبات داخل ألمانيا وخارجها، في باريس وعمان والقاهرة وبرلين وفرانكفورت، وكنا كلما التقينا نتحاور ونستذكر الكثير مما يجمعنا حتى تلك الأمسية التي كان يقول عنها دائما بين جمع من الأصدقاء بأنها من أجمل وأروع ما أقيم له. وفي كل مرة نفترق فيها، نبقى على اتفاق بأن يتجدد إحياؤها، لكنني لا زلت أجهل أسباب تعثر هذا الخطب.
في 12 آذار (مارس) 2008 كتبت لمحمود رسالة بعد أن اتفقت مع دار ثقافات العالم ونصير شمه لإقامة أمسية لهما من جديد، أطلب معرفة رأيه قائلاً: لا تزال أمسية برلين 95 يا أبا شاكر كما يقول العراقيون لم تنطفئ قناديلها رغم مرور زمن طويل، وبالأمس تحدثت مع مدير دار ثقافات العالم حول أهمية تنظيم أمسية لك خلال هذا العام، وقد رحب بالفكرة وطلب مني مخاطبتك بهذا الشأن لتحدد أنت الوقت المناسب لإقامتها. ولا أخفي طبيعة هدفي من وراء إقامة مثل هذه الأمسية، التي كنت أريد ألا تقتصر على الشعر، إنما تتجاوز حدود الذاكرة لرصد حالة معاناة شعب كاد يفقد الأمل ، وليس من معين يسلط الضوء على قضيته وما يجري بحقه. السبب الذي جعلني أكتب له مرة أخرى في 20 اذار/مارس، مذكراً بمقترحي قائلاً: حملة واسعة وبأشكال مختلفة، تقوم بها المنظمات الصهيونية وبدعم دولي سيما من قبل الولايات المتحدة وأوروبا، بمناسبة مرور 60 عاماً على تأسيس الدولة العبرية المشؤومة. بالمقابل وللأسف لم نلحظ أي نشاط عربي يدرج على جدوله عمل سياسي أو ثقافي، على مستوى الرسمي أو غير الرسمي على امتداد العالم العربي أو خارجه، يقف، لنصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه المغتصبة ومنها حق العودة وتقرير المصير.
هكذا كان أمري بدافع الحرص والمسؤولية، أخاطب شاعراً عربياً بوزن محمود درويش، للقيام بأي نشاط نواجه فيه عجز الأمة ونظامها العربي البائس، مثلما نوجه أنظار الرأي العام العالمي وبالحد الممكن حول حق الشعب الفلسطيني بالحياة والسعادة والأمل. كنت مصراً على تحقيق هذا الهدف سيما وأن محمود كان وعدني بالمشاركة في كل لقاء بيننا، كما أن دار الثقافات قد مهدت الطريق بقبولها تنظيم مثل هذه الفعالية في ظرف كان الكيان الصهيوني يستعد للاحتفال بمناسبة اغتصاب فلسطين. الأمر الذي جعلني متحمساً لتحقيق المشروع في هذه الفترة بالذات، والإصرار على الاتصال بمحمود شخصياً بعد أن راسلته مرتين. وعلى مدى المرات الثلاث التي تحدثت فيها معه في محل إقامته في رام الله ، أخبرني بأن وضعه الصحي في الوقت الحاضر لا يساعد على السفر، ووعدني خيراً حال أن تتحسن صحته آملاً المجيء خلال الأشهر القريبة القادمة.. لكننا فقدنا شاعرنا الكبير على حين غره في ظرف نحن بحاجة إلى من أمثاله، وغاب عنا في الظهيرة أم بعد العشاء؟ لا أدري... شَوَساً كالفينق حلق، دون أن يهزم الموت بالخلود، فيما بقي موعدنا عالقاً حيث أن الموت لم ينتظر.
(كاتب من العراق)
***
محمود درويش صرت اليوم ما أردت: فكرة وكرمة وطائرا فينيقا
عمان ـ 'القدس العربي' كلمات كثيرة ألقيت صباح أمس في عمان حين وصل جثمان الشاعر الكبير محمود درويش، وجل هذه الكلمات التأبينية كانت سياسية الطابع، وذات صيغ رسمية لنعي الفقيد، أما الناقد والأديب الأردني د. خالد الكركي رئيس الجامعة الأردنية، فقد تم اختياره ليمثل الكتاب والمثقفين الأردنيين، والصوت الشعبي لكل الأردنيين، ولهذا فقد القى نصا مختلفا في مضامينه وروحه، ننشره هنا: أبدأ بسلام يمتد من عمّان إلى القدس، ومن الكرك إلى الخليل، ومن السلط إلى نابلس، أبدأ بالسلام على روح محمود درويش، وعلى أهلنا الأحياء والشهداء على أرض فلسطين ، وقد اجتاحنا حزن نبيل منذ اللحظات الأولى لنبأ الرحيل ، وأسى فاض حتى عبر النهر نحو دروب الجليل . وأبدأ بالسلام من شرفات عماّن، ومن كتّاب الوطن ومثقفيه ، وطلابه ، ومفكريه، وسائر الذين ظلوا يستعيدون قصائد محمود درويش وهم يغذون الخطى نحو فلسطين، مدنها، وبيوتها، وشهدائها من البحر إلى النهر، وانتظارها ليوم التحرير العظيم..
ها هم أهلك من حولك، من دخل بيوتهم، يقرؤون في كتاب الله العزيز قوله: 'ولمّا دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إنّي أنا أخوك'. فانهض، فهذا زمان خروج الأمة قبل غروبها الأخير، وقبل أن تنحني كل زيتونة على كبدها 'من خشية أن تصدّعا'. وبعد، نسأل: كيف يمكن الكلام في حضرة الغياب ـ غيابِ سيّد الكلام؟ كيف نفلت من سطوة من قال إنهم يحبونه 'ميتا ليقولوا لقد كان منّا وكان لنا'؟ لا يا أيها العزيز، لقد كنّا نحبّك حيّا، وكّنا وصرنا منك ولكل ما كتبت. نعم لقد أشرت إلينا حين عرفت أن البلاغة كما تقول 'تجرح المعنى وتمدح جرحه'، وسألت الموت أن ينتظرك لكي تنهي تدابير جنازتك كما تحبّ وتمنع، كما تنبأت، الخطباء كلّهم 'من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه' ولكن أنّى لنا أن نتركك دون أن نقول شيئا عنك وعن بلادك الحزينة، وأغانيها التي في البال، أو ندعك تعود هكذا إلى البيت من غير أن ندّعي حِصّة فيك، أو نسألك لماذا تركت الزمان وحيداô فقد كان عمرك مثلما تهب اللئام، ولا نعرف من سيؤنس الآن الشعر بعدك. يا محمود، لقد انتظرت الموت 'بذوق الأمير الرفيع البديع'. وأبّنت نفسك بأفضل مما قد يفعل أي منّا، فأذن لنا أن نذكّر إخوتنا غرب النهر بوصيّتك في الجداريّة حيث قلت: 'سأقول صبّوني بحرف النون ، حيث تعبّ روحي سورة الرحمن في القرآن وامشوا صامتين معي على خطوات أجدادي ووقع الناي في أزلي. ولا تضعوا على قبري البنفسج ، فهو زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت الحبّ قبل أوانه. وضعوا على التابوت سبع سنابل خضراء إن وجدت، وبعض شقائق النعمان إن وجدت، وإلا، فاتركوا ورد الكنائس للكنائس والعرائس ..' لقد سقط الحصان عن القصيدة لكي يرحل إلى البيت عبر السفح كما شاء: إما الصعود وإما الصعود. والآن يا أخانا ما عدت بشرا مثلنا، فقد متّ شاعرا أسطوريّا لتعيش مع من هم مثلك: شعراء بابل، وهوميروس وامرئ القيس وطرفة والمتنبي وشكسبير وطاغور ولوركاô لقد دخلت التاريخ، وصرت اليوم ما أردت: فكرة وكرمة وطائرا فينيقيّا وشاعرا جسده تحت الثرى، واسمه فوق الثريا: لقد صرت تماما كل ما تريد. وكما هو جدّك العظيم المتنبي؛ نظلّ بعدكما عاكفين على السؤال نفسه عند ضفّتي النهر: حتّام نحن نساري النجم في الظّلَم وما سراه على خفّ ولا قدمِ ونتبع الماء ما ينفكّ في سفرٍ ما سار في الغيم منه سار في الأدمِ قبل سبعين عاما كان جثمان فيصل بن الحسين مسجّى في حيفا في طريقه من أوروبا إلى بغداد، وها أنت على ربوة في عمّان في طريقك إلى رام الله، وكأن ابراهيم طوقان كان ينشد لكما معاً : شيّعي الليل وقومي استقبلي طلعة الشمس وراء الكرمل واخشعي يوشك أن يغشى الحمى يا فلسطين سنا من فيصل وحين تعبر اليوم النهر إلى فلسطين، سيغمرها سناً من فيصل وسنا من محمود. فيا فلسطين، ويا محمود، أيها المرهف والشاهق والرائع والنبيل ، أيها المبدع والحاضر أبدا ، والمناضل والإنسان، نقف شكراً وامتنانا عميقا لأنك كنت يوما بيننا، وأعطيتنا، من بغداد إلى قرطاج، كلاما جميلا، وحنينا طويلا إلى القدس وعكا وحيفا ويافا وسائر المدن القديمة. وكلّها ستفتقد شاعرها وعاشقها، كما سيبحث عنه زهر اللوز، وعصافير الجليل، واللغة العربية، وفراشات المدى في كل مكان ... سلام لروحك، وسلام لإخوتنا في الحركة الثقافيّة في فلسطين، سلام من الأردن، أهله وكتّابه وشهدائه، ومن سائر الذين يناضلون حتى يزول الاحتلال البغيض، في اللطرون وباب الواد، يتذكرون محمد الحنيطي وشيوخ الثورة والمقاومة على ثرى فلسطين. محمود، كم سنفتقدك حيا هنا وهناك. وكم ستبقى حيا بيننا أبدا تغنّي: 'على هذه الأرض ما يستحق الحياة'.
***
لعلَّنا لا نهتدي للخيط
(إلى محمود درويش) لكَ أنتَ، وحدكَ، - يا مدى الأحلامِ ـ ترقصُ نجمةُ القطبِ الشماليِّ البعيدةُ، للمسافر عَبْرَ صحراءِ المنافي ... كلُّ هذا الإرثِ والعشبِ المرابطِ فوقَ صخرتهِ / يطلُّ معَ الربيعِ، ولا يفكّرُ بالغيابِ لأنّهُ ملكُ الحضورِ الساعةُ المثلى لقولِ الشعرِ، ساعةَ ما تشاءُ، الفجرُ، وقتُ طلوعِ قامتِكَ المهيبةِ، لم يعدْ للشمسِ من معنىً إذا تَفْْرُكْ جفونكَ كي تودّعَ هدنةَ الفيضانِ معْ جيرانِ نهركَ، إنّ نومكَ يمنحُ الأجواءَ فرصةَ أن تحلِّلَ ما نسجتَ لها، فبيتُ الشعرِ منظومٌ كبيتِ العنكبوتِ، وتلكَ مرآةُ الزمانِ غدتْ مقعّرةً لتفهمَ ما الذي أفرغْتَهُ بين السطورِ في كلّ آنيةٍ نراكَ، مع الطعامِ، مع النبيذِ، لعلّنا لا نهتدي للخيطِ، ثمةَ حالةٌ علويةٌ نحتاجُ فيها بعضَ حنطتِكَ اللذيذةِ، بعضَ حكمتكَ النبيلةِ، أين أنتَ ؟ وأينَ نحنُ؟ وللحقيقةِ إننّا نحتاجُ لكْ وندورُ في فوضى الفصولِ من الخريفِ إلى الربيعِ إلى الخريفِ، وأنت تبذرُ دونما كللٍ، ونأكلُ، غافلينَ وعالمينَ بما تُحمّلُه رياحُكَ من بخورِ الهندِ، من سامبا الأمازونِ الرشيقة، من صبايا يفترشْنَ الأرضَ في 'لومبارديا' مثل الزهورِ الآنَ، في كبدِ المسافةِ، تذرعُ الآفاقَ مشحوناً بطاقةِِ فحمِكَ البشريِّ، تَنبتُ من سوادِ الحبرِ أغنيةُ المسافرِ، لا محطّةَ تستطيعُ بأن تعطّل رَحلةَ البحثِ الطويلةَ، فالمدى ... كلّ المدى ....
من حقّهِ، والنّاسُ، (الرّكاّبُ)، مفتونونَ بالأشجارِ والأنهارِ عبرَ الدورةِ الكونيةِ الخضراءِ .... كلُّ حروفِـكَ العربيةِ القسَماتِ خُضرٌ، والدروبُ أمامَ ركبِ الشعرِ خُضرٌ، والجميلاتُ اللواتي يحترقْنَ مع الغناءِ عيونُهنَّ الخضرُ خضرٌ، والندى والزعترُ البلديُّ والسرواتُ في سفحِ الجليلِ، فلا تفكّر بالغدِ الباقي، فحبُّ الأرضِ والإنسانِ، يحملُ قلبكَ المسكونَ بالرّؤيا على كتفِ النشيدِ إلى نهاياتِ العصورِ مِن طعمِ خبزِكَ نفهمُ التأسيسَ للوجعِ المراوحِ بين أمّ ِالقلبِ أو أمّ ِ المسافةِ، كم شبعنا في حقولكَ، كم شرِبنا قهوةَ الفجرِ الملَبّدِ بالحنينِ إلى بلادٍ لا تغادِرُنا، ونشربُ، فالهواءُ الرطبُ والميناءُ في عكاّ لنا، ولنا هنالك كلُّ أمتارِ الغيابِ، ولا يشاركُنا سوى زهرِ الترابِ الفوضويِّ اللونِ، خذنا فوقَ أشرعةِِ الحنينِ اللازورديِّ الذي لا يسأمُ الأياّمَ والأحلامَ، آهٍ، أيها الوطنُ الذي رسَمْتهُ ريشتُكَ الجميلةُ فارتكبْنا حُبَّهُ من يومِ أنْ كنّا صغاراً، دونَ إدراكٍ لشيءٍ غير صورتهِ التي أوحيتَها، ما أصعبَ الفكرة! ... ما أسهلََ الدولة!! ما أروعَ اللوحات ِ في ذهنِ الصغيرِ لن نفترقْ ...
نحنُ القصيدةُ في تقلُّدِها نياشينَ البقاءِ وأنت خزّانُ الحروفِ الخالداتِ فحضّرِ القرطاسَ ... نحنُ الحبرُ ...
نحنُ الزيتُ يا عشتارُ فامنحْ نورَكَ الغافي كقنديلٍ على أسوارِ بابِلَ، كلُّ ركنٍ في فروعِكَ، خمسةٌ أصليةٌ، لا شيء فيها زائدٌ أو قطعةٌ لغيارِ أعباءِ الطريقِ ...
وأنت دوريٌّ يمارسُ شهوةَ الترتيلِ، لا فوضى مزاميرِ المؤقّتِ قد تعطَّلُ لحنهُ العفويَّ، حتى يملأَ الأرجاءَ من كنعانَ أوركسترا، تمهّلْ أيها الموجُ المعذَّبُ من هلامِ البحرِ ... أو ضيقِ المحيطِ عليكَ بالصبرِ المجرَّبِ فهو - مَهما قلتَ فيهِ ـ عَزاؤكَ الأبديّ من لا يحبُّ الشّعرَ في هذا المساءِ فلن يحبَّ غزالةً ترتاحُ قربَ النّبعِ ...
لن يجدَ البدايةَ وهو مرتحلٌ إلى الشوطِ الأخيرِ شاعر من الأردن
***
يا لاعب النرد ..إنهض !
إنهض.. إنهض ..
فلسطين كلها والعرب تحمل قلوبها إليك .. لتنهض ..
حاصر حصارك .. إقهر مرضك وانهض..
قم من نومك المؤقت .. إنتفض ..وانهض لا تغادرنا قبل أن ترتوي بقهوة أمك .. وقبل أن تعود أبداً لحيفا..
الجبل ينتظر .. والزيتون الوديان تصبو .. والسنديان 'وعندما أغلقوا باب قلبي عليّ وأقاموا الحواجز فيّ ومنع التجول .. صار قلبي حارة وضلوعي حجارة..
واطل القرنفل .. واطل القرنفل' إذ جاءك الموت قل له: ليس موعدنا اليوم .. فلتبتعد وتعال غداً أو بعد غدٍ ..
يا لاعب النرد تسألنا : من أنا ؟ أنت نحن .. كلنا أنت سرمدية الأسطورة وجمال فلسطين وعبق العروبة أنت اللانهاية ..أنت نور النفق يا لاعب النرد ...
تسألني ناتالي الصغيرة : من سيلقي عليّ الوردة الحمراء بعد اليوم ؟ إنهض .. إنهض محمود فالحاكورة وشجراتها ... زيتونها وسنديانها تسأل ..
اين رفيق الدرب ..؟ قلت : ما أقساها الحروب.
يموت الجنود ولا يعرفون من انتصر! ما اقساك ايها المرض.
تغفو ولا تعرف حجم الدموع تغيب فجأة ولا تعرف كم هو الحب لك! او انك تعرف يا محمود إنهض واصرخ في وجهنا جميعاً : غبت قليلاً لكي أعود .. وأعيش ولتحيا فلسطين..
فألقي عليكم وردتي الحمراء
القدس العربي
14-8-2008
****
ماذا ذهب يكتب في العتمة؟
جزعت لرحيل محمود درويش. كنت في أمريكا وكان يرقد مريضاً في احدى مستشفياتها، وماعلمت، حتى جاءني خبر غيابه الأخير في رغبته الى تذوّق سكون الموت، فعرفت سرّ كوابيسي التي أثقلت لياليّ الأمريكية. موت شاعر وسيم، مشدود جسده كرمح صعقني. شعرت بالحرج من رحيله المباغت، وداهمني حداد زائغ، منعزل، متفكك. تمرنّا على الموت، نتحمله بسكون في كثافة هذا العالم، لكننا نصعق ما زلنا، تتقطع أنفاسنا ونرسل صرخات مكتومة حين يغادر شاعر. مات محمود درويش وانفتحت ثانية، ستائر قلبي كاملة على جسامة غيابه، فالموت تطاول كثيراً وتحدانا في عقر دارنا وقصائدنا، ودّك أساس الكلمات.
لم أكن بالضرورة، قارئة مثالية لشعر درويش، ولم أكن أعرف أيّ المشاعر أبذلها له، وكنت مذنبة قطعاً في فوضى تذوقّي الخاص للشعر، لكنه درويش كان يكمل دورانه، رقصه، وحوله يدور بريق الأنوار، كأنما الأنوار كلها لم تسطع الا لهدف واحد : التمهيد لغياب عجائبي مخيف، يردم الهواء المتحرك بين الحياة والموت، تلك الهوة الجنونية التي تركتها وراء درويش ذراته المختفية.
ماذا ذهب يكتب في العتمة الكاملة، الرجل كثير الشعر، كثير الحب، كثير فلسطين، كثير الأسفار المتقلبة فتنته في المدن والمنافي. لمن ترك فلسطين كتلاً مزرّقة، بطيء نبضها، منتفخ قلبها ويملأ السواد شوارعها.
ماذا ذهب يفعل وحيداً، من دون فرضية صغيرة جداً، استثناء وحيد، امكانية عودة ما، معلقة في الهواء، أو مطمورة في 'البروة ' أو في 'رام الله '.
موته هجوم ارادة خشنة فظة، تدفقت كريح جليدية على قامته الفارعة، على قصائده وفلسطينه، لا أدري من أيّ شريان اخترقته، أو من أية سماء، ومن أية غفلة، ومنعته من أن يكون الى أبد الآبدين، شاعراً وسيماً تنساب كلماته بلا انقطاع بين ذرات عالمنا المُضجر.
غداً، على عادتنا في النسيان، نغذّ السير في نسيانك. غير ان غيابك جعل كل الأشياء بلا ملامح، واستقّر العالم في بلاهته وقبحه، وكنّا نتحملّه معك بشكل أفضل. كلماتك تأخذ الفتنة على عاتقها وكل كلمة كأنها فتنة أولى. أيها الشاعر الراحل، لن تجد أي مصدر للمرارة والحزن والتعب حيث رحلت، لكنك تقبع تحت نظام الموت الصارم جداً وليس يُشغلك بعد ترتيب القصائد.
حفل مشيتك الراقص يرتعش بعيداً في ذاكرتي الآن : حطام جسدك الممشوق، ووحيد في محيط ساكن وقد خلفّت لنا مطراً من الكلمات لأجل أن نُنعم التفكير في جدوى الحب، وجدوى الوطن والمكان، ولأجل أن نتنّزه في حدائق الشعر، نسترجع بعض روحنا، نرتعش، نتدفأ، نحتمي، نتغذّى، نكبر ونخرج من طيات الذّل، نتمطىّ حتى السماء، وذات يوم تكون فلسطين، ندخلها من تعب كلماتك، ندخلها في كل سطر كتبته.
الحيل الصغيرة التي كنت أُجيزها لنفسي كلما جمعنا سفر في دعوة واحدة: أن أجلس وحيدة وبعيدة عنك، ان أتجنبّ الكاميرات التي تلاحقك، أن أتظاهر أن وهج حضورك لم يحرقني الى أن تناديني وتسألني : كيف الشعر؟ فيهدأ روعي ويقيني أن كل ما كنت أتظاهر به ليس أكثر من خداع لنفسي، فقد كنت في الحقيقة أسير اليك وان على مبعدة، كأنني مشدودة بخيط نحو نور حضورك الذي أُحبّ، والذي كنت وددت لو خزنّت منه قبل أن ترحل، لتغتذي به أيامي المعتمة. شلني الخوف من رحيلك وانهار قصر الكلمات، وكلّه من المرمر. الهاتف الذي رنّ يُنعيك، والأرقام التي لمعت في الظلام وأيقظتني من نوم ساخن ثقيل، لم تدر أيّ تعب حمّلتني. انشغالي بأميركا لم يترك لي وقتاً لمتابعة الأخبار، فجاء رحيلك مباغتاً، مهيباً، صاخباً. ألم، مزيد من الألم، وكان جسدك ممّددا في احدى مستشفيات هيوستن، على مقربة منيّ، وما عرفت، فقط الكوابيس، والمزاج المعتكر، وها هو نعيك يُضيء الأرقام في العتمة.
****
الجزيرة لم تعتذر لاسرائيل ومحمود درويش يطل على القدس ويحرسها
قال محمود درويش في ديوانه الأخير 'أثر الفراشة'، 'صدّقت أني مت يوم سبت'. صدّق ولم نُصدِق. صدقتْ نبوءته ولم نُصدق. نحن لا نصدق موت من نعشق. فكيف نصدق رحيل محمود درويش ونحن نتنفس شعره، وفلسطينه هي نبضنا. رجل بهامته الإنسانية والشعرية تركنا على مدى العمر نفيض بنصوصه الفلسطينية، بعد أن كانت فلسطين جرحاً مفتوحاً في كل اللحظات. قال محمود درويش'صدّقت أني متُ يوم سبت' وهو رحل هناك في البعيد حيث الصقيع والجفاف بعيداً عن خبز أمه 'السخن'. ومنذ ذلك الخبر العاجل الصاعق في يوم سبت، ونحن محبي درويشنا ومحمودنا نُقلِب أقنية التلفزيون بحثاً عن صوته، شعره، حركته وحضوره، وذلك المدى الساكن أبداً تحت نظارتيه. كأننا نرفض التصديق، نرفض التسليم بإن لحياتنا لحظة رحيل، وساعة حقيقة. كان ما كان، ومحمود درويش 'في حضرة الغياب' مشاعر تتجاذب المحبين، كأنهم في سرهم ينتظرون ما يقول العكس. ربما هم يتصورون إنعزالاً له، لأيام، لساعات، تلد بعدها قصيدة تخبرنا تجربة ذلك الخبر العاجل في يوم سبت من شهر آب اللهاب. ولكن... ولأن الرجل بنظرنا من كبار كبارنا، ورمز لرموزنا، رحنا نبحث عنه على الشاشات. توقعنا أن تكون مساحته مفرودة بلا توقيت ولا زمان. توقعنا له برامج خاصة وكثيرة. ربما هو طمع يفوق الممكن من شاشاتنا العربية الكثيرة. ونحن نبحث عن محمود درويش وجدناه في ذات مساء على شاشة الفضائية 'السورية' التي قررت الإحتفاء ب'عريس فلسطين'. شكراً للفضائية 'السورية' لأنني من خلالها وجدت في تلك اللحظة ما أريد. شعراء وكتاب من سورية وكل الوطن العربي قالوا في محمود درويش ما يستحق. والأهم أنهم أقنعوني بأن أمثال محمود درويش يترجلون عن الفرس ليمتطوا مباشرة فرس البقاء والخلود. بحثي عن محمود درويش على الشاشات بدأ من يوم الإثنين، وهي مسافة كافية منذ السبت كي يعد المعدون برامج لتكريمه. وفي يوم الثلاثاء بثّ تلفزيون 'المستقبل' ومن خلال برنامج 'خليك بالبيت' آخر لقاء بمحمود درويش، فكانت لحظات إحياء له أبعدتني على مداها من فكرة قبول ما قاله يوم السبت.
في رحلة الوداع الأخير وجدتهم يستعجلون لحظة 'مواراة الثرى'. هي لحظة الحقيقة المرة، لحظة اللقاء الأخير. كان في مخيلتي وفي رغبتي الدفينة بأن قامة محمود درويش الممتدة إلى أبعد من طول قصائده بمجملها، ستتاح لها لقاءات النظرة الأخيرة مع عشاقه من عامة الشعب الفلسطيني مباشرة والشعب العربي عبر الشاشات . فإذا برحلة الوداع الأخيرة تُحشر حشراً ضمن المراسم الرسمية. وبيقيني أن محمود درويش في لحظاته تلك كان يرغب بخلوة مع خبز أمه وقهوتها. وكان يرغب بلقاء ذلك الفلسطيني الصلب الذي 'يحاصر حصاره'. كان يرغب بحكاية من أمه عن طفولته في البروة. لكن كان ما كان وإنغرس محمود درويش في فيء شجرات وعينه على القدس وعكا وحيفا والبروة والجديدة. إنغرس وهو منتصب القامة مرفوع الهامة، وحوله المودعون من فلسطين التاريخية جميعها. إنه عريس فلسطين ورمزها الأبدي الذي يردد معه كل الفلسطينين والكثير من العرب 'على هذه الأرض ما يستحق الحياة'. وهو إنسان عاش مدى عمره بما تستحقه فلسطينه منه. ومع ذلك كانت رغبتنا بأن يكون يوم محمود درويش على الشاشات أكثر مدى مما شاهدنا، منذ وصوله إلى عمّان، وتحليقه فوق الوطن وصولاً إلى محطة رام الله. فمحبو محمود درويش كان رجاءهم بالشاشات، لأنهم ممنوعون من الوصول إلى رام الله بفعل الإحتلال. كنا مع مشاهد لا تشفي الغليل.
صيغة مألوفة أكثر من ثلاثة أسابيع مرّت على حلقة برنامج 'حوار مفتوح' التي إستضافت البطل والرمز العربي سمير القنطار حيث تمّ الإحتفاء بعيد ميلاده وحتى الآن لم يتم وضع خاتمة لما أثار حفيظة إسرائيل ضد القناة. فقناة 'الجزيرة' ردت رسمياً على تساؤلات طرحت عليها من صحف لبنانية بنفي خبر تقديمها لأي إعتذار لسلطات الإحتلال. ومن ثم عاد خبر الإعتذار ليتسرّب من جديد لغاية في نفس يعقوب. وإذا بصحيفة 'السفير' اللبنانية تنشر يوم الثلاثاء في 12 الجاري بياناً توضيحياً للزميل غسان بن جدو، رأينا من اللازم نشره في صحيفة 'القدس العربي' وفي هذه الزاوية بالتحديد بنصه الكامل، ليكون الفيصل بالنسبة لقراءنا حيث صدّق بعضهم إعتذار قناة 'الجزيرة'. وفي تفاصيل هذا البيان: 1ـ إن قناة 'الجزيرة' مؤسسة تحترم نفسها ومشاهديها والعاملين فيها، وتقوم بشكل يومي ودوري بمراجعة ما تقدمه من أخبار وبرامج، وهو ما جرى بشكل طبيعي مع حلقة سمير القنطار.
2ـ أن قناة 'الجزيرة' لم تقدم أي إعتذار على الإطلاق للسلطات الإسرائيلية التي قدمت إحتجاجاً على ما تضمنته الحلقة المذكورة. وهي تتعاطى بشكل فيه من الفوقية والتدخل السافر في شؤون القناة والتحريض المباشر على شخصي، وهو تحريض موجه ومستمر منذ حرب تموز 2006.
3ـ إجتمعت هيئة التحرير في القناة يوم 30/7/ 2008، وتناولت فيما تناولت من ملفات إخبارية وبرامجية حلقة 'حوار مفتوح' خصوصاً أن الإدارة العامة للقناة تلقت مطالبات من صحف عربية وغربية عدة حول الموضوع، وإعتمدت الهيئة نصاً واضحاً وصريحاً عن المحطة إلى كل من يطلب تعليقاً، والنص هو التالي: عُرض على هيئة التحرير بشبكة الجزيرة في إجتماعها بتاريخ 30/7/2008 الملاحظات التي قدمها قسم ضبط الجودة بشأن حلقة 19/7 من 'حوار مفتوح'، والتي إستضافت السيد سمير القنطار.. وبينما أكد المجتمعون على تميز 'حوار مفتوح'، وتنوع موضوعاته، وما يتمتع به الزميل غسان بن جدو من سعة ومعرفة وإطلاع، إلا أنه تبين لهيئة التحرير أن الحلقة المذكورة خرجت في بعض جوانبها عما أقرته 'الجزيرة' لنفسها من دليل سلوك مهني، ولا سيما الأجواء الإحتفالية التي صاحبت الحلقة.
4ـ هذا النص هو الصيغة الرسمية الوحيدة التي تقدمها قناة 'الجزيرة' لأي جهة قدمت إستفساراً حول الموضوع، ولا تتضمن أي إعتذار، وهي صيغة مألوفة لدى القناة في مرّات سابقة..
5ـ لم تفاجئني الهستيريا الإسرائيلية من الموضوع، ولن تدفعني ضغوط مسؤوليها أو إعلامها وحلفائها إلى تغيير نهجي الصحافي القائم على المهنية والحرفية والإلتزام في الوقت نفسه بقضايا الأمة، ولا عجب أن يقود هذه الحملة المكتب الصحافي لرئيس الوزراء الإسرائيلي، وهو ذاته الذي إتصل بمكتب 'الجزيرة' في بيروت خلال حرب تموز وتوعد وهدد بقصفه، لكن أسفي أن تستغل أصوات وأقلام عربية وزميلة الأمر بشكل معيب تسميه نقداً، وأنا أربأ بنفسي عن الرد لأن الرأي العام هو الفيصل الحقيقي.
ولمزيد من التوضيح فإن الزميل غسان بن جدو تلقى العديد من الإتصالات التضامنية والداعمة له، ومنها بيان صدر عن سمير القنطار. كما تعد الهيئات الثقافية والقومية اللبنانية لتوقيع عريضة تضامن مع غسان بن جدو وقناة 'الجزيرة' في وجه هذا الهجوم الذي تتعرض له إسرائيلياً ومن بعض العرب الذين يتلطون خلف عنوان نقاد.
صحافية من لبنان zahramerhi@yahoo.com
****
الموت كتب آخر قصائد محمود درويش
محمود. مرثية لم تكتمل بعد
من أين لي الوقت كي أرتب أوراقي في حضرة الموت، وأهدهد حيرتي وأرجِّل أحزاني إزاء الفجيعة؟ لم يعد يفصل بين مرثية وأخرى غيرُ مرثية ثالثة. يا إلهي ما أسرع هذه الوعول الذاهبة إلى برية الموت. وأنت يا صاحب هذه 'الجدارية' كيف خرجت منها وتجاوزت حدود الإطار؟ لماذا تركت فلسطين وحيدة ، والقصيدة وحيدة؟ لماذا تركت الحصان وحيداً يا محمود؟ لماذا ترجلت قبل أن تصل إلى أسوار القدس، قبل أن ترد المياه العذبة في بحيرة طبرية؟ من أشار عليك بعملية القلب المفتوح؟ ألم يكن قلبك دائماً مفتوحاً للشعر والسفر والآلام، مفتوحاً للمعذبين والمحرومين والمخيمات المترامية الأحزان؟ ألم يكن قلبك مفتوحاً لفلسطين على عظيم قدرها واتساع مدياتها ومعانيها، فلسطين التي وسعت التاريخ والشعر والأنبياء؟ ألم يكن قلبك مفتوحاً على بحر غزة وبحر القصيدة؟ فمن أشار عليك إذن بعملية القلب المفتوح وما حاجتك لها؟ لهفي عليك أيها الخارج من غرائب التاريح وخرائب الجغرافيا، أيها القادم من 'حالة حصار'، أيها الخارج من حطام الأحلام وركام الأماني التي مشت عليها عجلات البلدوزر ذات غفلة من العرب.
أنت أيها الخارج من عباءة عنترة العبسي ، والسابح في مياه الخليل والمُطل من صفحات القاموس المحيط. أيها القادم من الأقاصي البهية، والهاطل علينا ندىً وأحلاماً وشيئاً لذيذاً لا ندري ما معناه.
يا أنت يا أنا يا محمود، أيها القادم من بلاد يموت أغنياؤها بالتخمة، وفقراؤها بالأنيمياء ورؤساؤها بالانقلابات العسكرية، وشعراؤها.. شعراؤها وحدهم يموتون بالقلب.
لماذا اقترفت الموت دون أن تستشير قبائل الشعراء يا محمود؟ ألست تعرف أن عرف قبائل الشعر يقتضيك عدم الإقدام على مثل هذا القرار الخطير دون استشارتنا نحن أولياء دم قصائدك التي فتحوا قلبها؟ كيف انفردت باتخاذ القرار وحدك دون الرجوع إلى أهل عكاظ؟ ومن قال لك أن حياتك هي ملك لك وحدك حتى غامرت بفتح قلبك دون أية مشورة من أحد من صعاليك الحروف؟ لماذا فعلت ذلك دون أن 'تعتذر عما فعلت'؟ ما أعجلك عن قومك يا محمود وهم ليسوا على أثرك بعد؟ لم يشربوا من النهر ولكنهم لم يعبروه، لم يسمعوا مآذن القدس وإن حنوا للصلاة في مساجدها ولم يغمدوا السيف غير أنهم لم يشهروه.
وها هم الآن على بعد معجزتين من قبة الصخرة وعلى بعد حصارين من غزة، وعلى بعد حلمين من المسجد الأقصى.
آهٍ يا محمود! كيف تركت القصيدة مشطورة شطرين بين غزة ورام الله. من سيعيد صدر البيت الشعري المحاصر في غزة إلى عَجُزه المقيد في رام الله؟ من سَيـَلُمُّ شطري بيت الشعر الفلسطيني بعدك أيها 'الحجر الذي تركه البناؤون'، من سيعيد فلسطين إلى فلسطين ويعيد لها خريطتها التي تاهت في مسالك خريطة الطريق، من سيعيد للقصيدة وحدتها العضوية، ويعيد للحياة طعم الألم اللذيذ والمنافي والمخيمات؟ تُرى من سيُرصِّع القصيدة بعدك بدموع الأطفال وأصوات المؤذنين ومن سيضعها بعدك على خارطة الشعر العالمي؟ آهٍ عليك أيها الشاعر الذي ملأ حياته ضجيجاً ولكنه عندما مات.. مات خلسة. هل كنت بترتيبك هذا قد أشفقت علينا من وقع الخبر، هل كنت تريد أن تخبئ موتك عنا حتى لا تفجع قلب فلسطين وقلب أمك التي تنتظرك في رام الله.
الحق أنك بموتك هذا قد كتبت آخر قصائدك التي لم تنشر بعد ضمن سلسلة أعمالك الكاملة. لقد جاء موتك مدهشاً ومحيراً كمفردة غامضة لفـَّها خيالُك البعيد. لقد تركتنا حيارى إزاء موتك كما تركتنا حيارى إزاء حروف اسمك وعناوين قصائدك ومجازاتك الضاربة في تراب الأرض.
قبل عام فقط كنت استمع إليك وأنت تتساءل: لماذا يؤجَّل موتك؟ وكأنك كنت على موعدٍ مؤجَّل مع الموت. قلت لي: إن موتك ربما أجل لخطأ في حسابات القصيدة. وها هي قصيدتك الآن قد اكتملت، ووُضعت اللبنة الأخيرة في مكانها، والحجر الذي نسيه البناؤون.. هاهم قد عادوا وتذكروه. وها نحن نتناول لحمك وعظامك في عشائك الأخير، نحن الذين أنكرناك ثلاث مرات قبل أن يصيح الديك مرتين.
شاعر وكاتب من اليمن
*****
محمود في خيمته الأخيرة!
لم يكن ليهتم بموعد موته. لم يكن ليهتم بأن يموت أمس أو اليوم أو غدا. كان مهتما بأن يعيش كل حياته المتاحة. لقد فعل كل ما كان يريد أن يفعله. 'ولم يعتذر عما فعل'.
قبل بضع سنوات خرج من قاعة العمليات بما يشبه المصالحة مع الموت، وبصورة شعرية لم يلبث أن دسها في 'جداريته' العميقة. لقد التقى بالموت 'صيادا يتربص به في منبع ماء!' لماذا لم يمض الصياد الى مبتغاه؟ هل هو الحذر الشعري للظبي، وعطشه، هو ما أجل اقتناص الطريدة؟! ها هو الصياد يعود لنفس النبع، وها هو الظبي يتنازل عن حذره، ويتبع عطشه غير آبه بالأجل المحتوم. نوع من المودة المدروسة، والتواطؤ المنظم، بين الطريدة والقاتل، تجعل الأمر خاليا من كل تربص أو خديعة. نوع من 'سلام الشجعان' بين رجل لا يريد أن يفقد أناقته، ولا يريد أن يمر في شارع بدون قامته كلها، وكائن ينظم هذا العبور الرهيب بين ضفتين.
إنه الشاعر الذي رأى رأى شجر الجليل، وورد بيروت، وثلج موسكو، وليل باريس..
رأى فكرة تكبر. ودولة تضيق رأى حدودا تمحي. وأخرى تنبت داخل العين رأى جداول شعر عند قدميه، وأخرى في سحاب بعيد هو الذي رأى رأى الممكن والمستحيل، رأى المدهش والمألوف رأى إخوة يوسف ينزلونه الى غيابات الجب ورأى يوسف يأوي إخوته إليه.
رأى 'الحصان الذي ظل هناك وحيدا' ورآه يركض خلفه في بياض المصحة.
هو الذي رأى رأى الشعر مستحيلا في القضية. والقضية مستحيلة في الشعر.
رأى جسدا يستأذنه في بناء وطن بنبضه. ورأى روحا تكتب على عجل قصيدتها الأخيرة.
رأى أصدقاءه الشهداء، نائمين في مراثيه المورِِِقة ورأى أعداءه يرفضون 'الخروج من أحلامه' ويبنون سورا حولها.
رأى فجرا يجئ، وليلا يجئ، في لحظة واحدة.
هو الذي رأى رأى أحمد العربي واقفا في حاجز، ينتظر العبور من عين الإبرة.
ورأى نفسه جبلا يعبر من نفس العين.
عاش محمود حياة أحبها وأحبته.
حياة جرب كل آلامها ولذائذها، ومفاجآتها وعذاباتها الصغيرة والكبيرة وحقائقها وأوهامها.
في الشعر نصب الخيمة الكبرى لرحيله الدائم. لم يغادر أبدا هذه المنطقة الغنية بمخاطرها وأهوالها ووعودها السخية.
كلما جنحت به الحياة وشرطه الفلسطيني هنا أو هناك، لم تزغ روحه، ولم يفقد الطريق الى خيمته.
في ذهابه يرتفع الى مقام حلم تحقق. وليس إلى مقام أسطورة.
ندرك وهو ينأى، أننا معه اكتسبنا رغم كل إعاقاتنا المزمنة لغة جديدة، وجمالا جديدا، وتجربة إنسانية وشعرية مكتملة قل نظيرها في التجارب الشعرية الكونية. تجربة لا مكان فيها لشيء بدأ قبل أوانه أو توقف قبل تمامه، أو جاء بعد أوانه.
ندرك وهو يغادرنا أنه أهدانا رغم كل الهشاشة واليأس المحيطين به صرحا إبداعيا غير مثلوم.
ندرك وهو يغادرنا أن قلبه كان يرفض عن حق أي شيء 'زائد' عن هذه التجربة الرائعة.
ندرك أنه مضى في 'الوقت الذي يلائمه'، ليس من حق أحد أن يبتكر له وقتا آخر. ولا حياة أخرى.
ندرك أننا كنا محظوظين جدا، إذ عشنا في عصره وأتيح لنا أن نراه، ونسمعه يقرأ، ويعزف على العربية أناشيد الأرض كلها.
كنا محظوظين جدا، لأننا قرأنا قصائده فور انبثاقها من أحشائه.
كنا محظوظين لأننا انتظرنا قصائده، فوصلتنا، وأصبحنا بعد قراءتها أشخاصا آخرين.
أما بالنسبة لمن منا كان أوفر حظا فاقترب منه، وصادقه ونسج معه وشائج تلك الأخوة التي لا يتقنها أحد سواه، فإن يدرك الآن كم كان ممتعا ورقيقا وأنيقا.
كما كان كريما وعزيزا.
كم كان شفافا في محبته وخصومته وغضبه، كم كان حفيا بالحياة، رافضا لاختزالها، كم كان قادرا على رفع الحزن الى أرقى مراتب الوجود الإنساني. كم كان قادرا على السخرية والضحك ومقاومة الغباء، ومراوغة الآلام المحدقة به. كم كان قادرا على جعل الكلمات أجنحة للآخرين حتى وهو مكسور الجناح.
بهذا الاكتمال النازف، مضى محمود الى الخيمة التي حضّر فيها منذ أمد بعيد، طفولته الخالدة.
شاعر ووزير الثقافة المغربي السابق qpt3
*****
أنت الآن.. نحن..!!
'ما تيسر من غناء الوداع في حضرة الدرويش' ما من مكان في زحمة الرثاء سوى نهنهة القرفصاء..
وما من كلام يليق براحل الراحلين سوى سرب عشق معتق في دنان الأمهات..
هكذا أبدأ الخاتمة..
كلها الكلمات تسمرت منذ غروب السبت..
جف الندى ..
تحت الخماسين .. أطلقها المذيع الجهوري ..فبكيت لم يفاجئني موت من ترك الحصان وحيدا..لكنه جزع الفراق.. '' أرجعتني الذكريات إلى بدء الرحيق..
كان درويش طفلا في تمام العنفوان ..قمرا يطل علينا كل شهر بقصيدة..
..حفظنا كاليتامى كل شيء عن مواويل يغنيها لأم ، ولولا شيب حزيران في مفرقيها يا ظلنا ما عرفناك..
ولولا قهوة الصبح من يديها ما عرفت الأغنيات..
'' صار درويش كهلا ..غضنت شعره البنادق والمنافي والخلافات والمسافات من بيروت الى الخضراء ..فبان للعاشقين سحر الأخاديد..!! قاد الحداثة حيث شاء فلم تمت القصائد بغته في المزهرية..!! مات من مات في بحور الشعر لأن العشق لم يكن يوما نيشان الحجيج أو خطاب التباهي أعد على عجل للمصفقين.............!! '' وبقيت أنت..
أنت وحدك..
وحدك طعم الأرض..رغوة الحلم..ألوان العلم يا وحدنا أسكرتنا فيك التوابل ، واسترحنا من هزائمنا على ضفاف قصيدة قالتك يوما في الفراغ لملمنا ضفائر شعرك..
وحفظناها عن ظهر قلب..
تذكرنا كيف كنا نضيء التفاعيل مما خبأناه تحت الوسائد ونغني كي يزول الاحتلال..
كم كنت رومانسيا حينها..
وكم كنا عند بابك فقراء..!! أحببناك..كما أنت استرقنا منك ما استطعنا من قواف وقبل عتبنا عليك..
اختلفنا معك..
لكننا لم ننسحب من عشقنا كالآخرين..!! '' كنت نبيا في اجترار الأمنيات..
كنت شقيا في لعبة الكلمات..
وكنت ذكيا..في اقتياد الأغنيات..
المسافة بيننا كانت كالمسافة بين زهر اللوز والحنظلة..
قربنا الموت فصرنا جسدين في فضاء من أغان موجعة قبل أيام..
رأيناك تفرك ناي كنعان..وتصلي للبعيد أعيتنا التراكيب..
ثم.. قرأت لنا عن الرحيل والراحلين ..
غمرتنا صوفيتك الموحشة..فغرفنا انك تحزم ما تبقى من حنين وتغادر..
كما غادر غسان والآخرون..
لا فرق في قبضة الردى بين السكتة والرصاصة سيدي لم تمت بالقلب..
إنما متنا فيك جرحا تقيأ بين رام الله وغزة '' غادرتنا.. أعدتنا ليتمنا..
أريتنا ..قبحنا ودعتنا بلا وداع كل المنافي لم تتسعك..
عدت صمتا لاذعا..
جسدا يفارقه الغناء..
لكأن روحك لا تزال ترفرف فوقنا ولا تهبط مع هبوط الطائرة أخذتك رام الله بين ذراعيها ..مسحت على شعرك كالمسيح..
أي صلاة عليك تجوز.. وأي شعر عليك يجوز..
هنا..
كأنا هناك حاولنا احتضانك..
ردنا التلفاز قبلتك شفاهنا عن بعد وانتحبنا عذرا..
ليس بالإمكان أن ندحر ليلا بأيدينا صنعناه وليس بالإمكان أن نجني من الوقت سوى شوك زرعناه فآه..حين تلقى الموت وآه حين ..نلقاه '' يا محمود بالله عليك..
بلغ منا السلام لكل الذين استفاقوا ..
وأعطوا النهايات لون التراب..
فأنت..وهم..
شهقة الياسمين وأنت وهم..
لون حرقتنا في حضرة الغياب..!! '' هرول الجثمان..
من فوق الأكف استقر على الفضاء قرأنا الفاتحة..
هذا المسجى.. أرضع شعره للعاشقين البارحة هذا المسجى .. ألقى قصيدته الأخيرة..
فوجمنا صرخنا كما يحكي الرواة عن نخل تقصف في العراق صرخ الجميع..
رحماك يا سيد الشعراء أنت الآن نحن..
أنت الآن نحن..!! شاعر من العراق
*****
عاشق من فلسطين.. يترجل
ترجل فارس الشعر الفلسطيني، رجل المهمات الصعبة في الشعر العربي والعالمي، ترك الحصان وحيداً، وأصبحت عصافيرنا بلا أجنحة! كانت صدمة قوية لكل محبيه، وبخاصة ان رحيله جاء في مساء ذات اليوم الذي نقلت فيه الأنباء نجاح عمليته الجراحية في القلب الذي أضناه عشق فلسطين، المتيم ببرتقالها وزيتونها وورودها، الظامئ دوماً لمياهها وبحرها وشاطئها المتوسطي، المتعب دوما بما يحمله من احلام شعبها، المتجسد دوما في قضيتها ومعاناة أهلها، المتماهي مع سمائها وطيورها وأحاسيسها. أذكر تماما في نهاية الستينيات وفي سجون الارض المحتلة، كيف كانت قصائد درويش وسميح القاسم وتوفيق زيّاد، زادا لنا في غرف الاعتقال، كنا نحفظها عن ظهر قلب، وكانت بأصالتها تساهم في رفع معنوياتنا ومجابهة السجانين.
كانت تلك المرحلة هي بداية تعرّف الفلسطينيين على شعراء الارض المحتلة، بعد ان كان الشهيد غسان كنفاني قد قدمهم الى شعبه وأبناء امته العربية وأصبحوا يوصفون بـ(شعراء المقاومة). كان ذلك في موسكو في عام 1973، وبعد ابعادي ومباشرتي للدراسة في عاصمة ام الدنيا، وفي جامعة الصداقة، حيث اجتمع الشعراء الثلاثة معاً، وتناوبوا على القاء الشعر مدة ساعتين، يومها قرأ درويش وبإلحاح من الطلبة قصيدته المشهورة: سجل انا عربي، وتلاها (وبطلب من الحضور ايضا) بقصيدة: عاشق من فلسطين. ستظل تلك الأمسية في ذاكرتي ما حييت، وللأسف فقد ضاع مني شريط تسجيل الأمسية، وحتى اللحظة ما زلت اتأسف على ضياعه.
ليس من السهولة بمكان اختصار محمود درويش في مقالة صحافية، وخاصة امام هذا الكم الهائل من المقالات والتعليقات الصحافية وبرامج الفضائيات، والتي اعتقد بمصداقيتها الكبيرة وحزنها على الراحل، فدرويش تجاوز حدود الاقليمية والقومية الى النطاق العالمي، وهو صاحب موسوعة المغناة الفلسطينية من ألفها الى يائها. قيمة محمود درويش انه المعبّر عن كل واحد منا بلسان جميل وبكلام اجمل، لذا سيكون من الصعوبة بمكان اختصار تجربة درويش الشعرية في مقالة صحافية وحب هذا الشاعر هو قاسم مشترك بين كل الفلسطينيين والعرب مهما اختلفت انتماءاتهم السياسية، باختصار ـ ان شعر محمود درويش هو تاريخ للمراحل الفلسطينية بكلام شعري، ففي البداية كان التركيز على الهوية الوطنية وعلى الفلسطينية/فلسطينية العينين والوشم/ فلسطينية الاسم/ فلسطينية الاحلام والهم/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسم/ فلسطينية الكلمات والصمت/ فلسطينية الصوت/ فلسطينية الميلاد والموت/ سجّل انا عربي... وغيرها.
وفي مراحل الثورة المختلفة، كان لمحمود درويش قصائد مختلفة متماهية مع تلك المراحل، فحين خفتت المقاومة كانت قصيدة درويش: عندما لا يتحرك الاحياء يتحرك الاموات، وفي حصار بيروت كانت قصيدة مديح الظل العالي، ومع بدء الانقسام الفلسطيني، جاءت قصيدة، انت منذ الآن غيرك.. الخ، الخ.
محمود درويش استلهم الام والحبيبة، والشهيد وأقاربه، والزوجة والابناء، والفدائي في قصائده، وهو الذي اضفى لمسات انسانية كبيرة على النضال الفلسطيني، وساهم ذلك في انتشار القضية والحقوق على النطاق العالمي. محمود درويش مسكون بالهم الفلسطيني منذ بداياته حتى مرحلته الأخيرة. محمود درويش هو الذي يتنبأ بنهاية الصراع، وهو الذي استعرض في قصائده كل الجوانب الاخرى الانسانية التي تلازم النضال الفلسطيني، فالفلسطيني ليس مقاتلا ومكافحا فحسب، بل هو الذي يحب ويعشق ويسمع الموسيقى ايضا، وهو الذي يحن الى خبز امه وقهوة امه ولمسة امه.
محمود درويش هو الذي قال عن رائحة البن بانها تشكل الجغرافيا الفلسطينية/رائحة البن جغرافيا/ فالقرى الفلسطينية في الصباحات الباكرة تعبق برائحة البن اثناء غلي القهوة التي يشربها الآباء الفلاحون قبل ذهابهم الى العمل.
محمود درويش اصبح جزءاً لا يتجزأ من التضاريس الفلسطينية، وما يعز علينا انه لن يكتب قصيدة النصر القادم، لكن عزاءنا الكبير ان ام احمد (والدة الشاعر) لن تخجل من دموعها على رحيل فلذة كبدها وانها ستغطي عظام محمود بكل ازاهير فلسطين ورياحين فلسطين بعد تعميدها بأنفاسها، وان تراب فلسطين سيضم بين حباته جسد الشاعر الذي سيبقى خالدا مثل نشيدنا الوطني ومثل زهر اللوز الفلسطيني والفراشة الفلسطينية.
شاعر وكاتب من اليمن
****
رحل محمود درويش ولم ينه قصيدة الحنين بعد
أخيرا توقف محمود درويش عن كتابة فصول أخرى من قصيدة الحنين التي ظل يكتبها طيلة حياته الممتدة على 67 سنة، قضى أغلبها في المنافي باحثا عن طريق تؤدي إلى وطن من تراب وأهل. وقبل أن يتوقف قلب الشاعر الكبير عن النبض كانت القصيدة هي الوطن الذي أوى إليه لائذا بها من الضياع في زحام العالم الذي أدار ظهره دائما لحقه وحق الفلسطينيين في وطن حر ومستقل. لقد أخذ محمود درويش على عاتقه، ومن زاوية جمالية مشوبة بروح نضالية عالية، الدفاع عن قضية الشعب الفلسطيني مانحا لهذه القضية بعدها الإنساني في إطار ملحمي أحيانا وغنائي أحيانا أخرى، وبذلك كانت قصيدته وسيلة نضالية موازية للنضال السياسي وللكفاح المسلح دفاعا عن حق الفلسطيني في الوجود، وكان حتى في قصائده التي يحاور فيها ذاته أو يكتب فيها عن الحب والعاطفة قريبا دائما من الألم الفلسطيني الجماعي، وهو الألم الذي ولد معه ذات يوم من أيام سنة 1941 في قرية صغيرة اسمها البروة دمرتها في ما بعد العصابات الصهيونية ضمن ما تم تدميره من القرى والبلدات الفلسطينية.
ولم يكن محمود درويش شاعرا فحسب، بل مناضلا سياسيا أيضا في قالب جمالي هزت قصائده غير ما مرة الكيان الصهيوني، وكلنا نتذكر قصيدته الكبيرة 'أيها المارون بين الكلمات العابرة' التي أثارت حنقــــا كبـــــيرا في الكنسيت الإسرائيلي، بالنظر إلى نبرتها الواضحة من غير توريــات خفية أو مجـــازات غامضة، كما لو أنها بيان 'جمالي' ضد الاحتلال والغــــــزاة:أيها المارون بين الكلمات العابرة، آن أن تنصرفوا وتقيموا أينما شئتم ، ولكن لا تـــــموتوا بيننا فلنا في ارضنا ما نعمل ولنا الماضي هنا ولنا صوت الحياة الاول ولنا الحاضر، والحاضر ، والمستقبل ولنا الدنيا هنا... والآخرة. وفي آخر زيارة للمغرب، كما في قصائده الأخيرة، بدأ محمود درويش حوارا مفتوحا مع الموت ومع ذاته/ آخره كما يراه بعد أن يموت:ويا مَوْتُ انتظرْ ، يا موتُ، حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع مع وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقة بيننا وُدّيَّة وصريحة : لَكَ أنَت َما لَكَ من حياتي حين أَملأُها ..ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها. وكأنه بذلك كان يكتب وصاياه ويؤرخ لتاريخه الشخصي الذي ليس في الواقع إلا تاريخا للشعب الفلسطيني بأكمله، باعتباره عاش المراحل الاولى للتشرد مع نكبة 1948، وإعلان الكفاح المسلح وحصار الثورة الفلسطينية في لبنان ثم الرحيل الجديد باتجاه الضياع، أو كما جسد ذلك في قصيدة 'مطار أثينا' وهو يتحدث بألم وسخرية معا:قال رجال الجمارك: من أين جئتم؟ أجبنا: من البحر. قالوا: إلى أين تمضون؟ قلنا: إلى البحر. لقد ناضل درويش على واجهتين مستثمرا روافده الثقافية المتنوعة، فبقدر ما دافع عن حق الفلسطيني في الوجود 'إما أن تكون أو لا تكون'، حول قصيدته إلى ورشة لضخ دماء جديدة في القصيدة العربية المعاصرة، فكانت قصيدة منسجمة مع روح الحداثة في الشعر العالمي دون أن تتخلى عن روح القصيدة العربية الأصيلة، وهو مؤشر على ريادته الشعرية إلى حد اعتبار نهجه واختياره الشعريين مدرسة قائمة، يعزز ذلك التأثير الكبير الذي لقصائده على أجيال من الشعراء العرب. يدخلون مدرسته في طريق بحثهم عن صوت خاص في سماء الشعر العربي، كما يعزز ذلك أنه واحد من أكثر الشعراء العرب مقروئية، وواحد من أكثرهم 'جماهيرية'، إذ يكفي استحضار الجموع التي كانت تحضر أمسياته التي يزيدها ألقا إلقاؤه المتميز لقصائده. رحيل محمود درويش، بعد أن امتلأ بكل أسباب الرحيل، كما كتب في جداريته، وبعد أكثر من عملية على القلب الهش، المليء بالألم، وبالحنين إلى الأرض والأهل وإلى العديد مما لم يره من الأحلام، ليس رحيلا عاديا لشاعر عاد، بل هو خسارة كبيرة للنضال الفلسطيني، وللقصيدة العربية الحديثة التي سيظل أحد أعمدتها الأساسية. شاعر وكاتب من المغرب
*****
وداعا محمود درويش
ليس فقط أن الموت هو أنجح حدث في هذه الحياة في تحويل الإنسان إلى مجرد رمز بعد أن يسل منه نسغ الحياة، بل أن موت محمود درويش لا يمكن أن يكون أكثر رمزية مما قرره له القدر، أن يعجز الطبيب الأمريكي عن علاج قلب الشاعر الفلسطيني المعتل، فينتظر الجسد الهامد هناك موافقة الاحتلال على أن يعود إلى تراب الوطن، إلى رحم الأم إلى عشقه الطفولي..رحلة طويلة بدأها الجسد الذي حط رحاله بعيدا بعيدا عن الوطن، من التهجير من منزل الطفولة الذي ليس سوى تسجيل لمصير الفلسطيني في القرن الذي مضى، إلى محاورة الورقة والكلمة، إلى الخروج من الوطن إلى الوطن، وأخيرا آلام الموت - الولادة من جديد، الرحلة الصعبة الأخيرة نحو تراب الوطن الذي سيقرره الغرباء، من توعدهم درويش بالرحيل ذات يوم من حيث جاؤوا، هم من ستكون لهم الكلمة الفصل في مكان إقامة الجسد الأخيرة، كم هو بيت الطفولة قريب وبعيد في آن يا محمود! لماذا يتعين على الجسد أن يموت في تكساس بعيدا بعيدا عن الوطن، كما قضى معين بسيسو في فندق من فنادق لندن، هل هو جزء من قصة غربة الفلسطيني التي تمتد من الخيام المنصوبة على الحدود السورية العراقية حتى أمريكا الجنوبية؟ جزء من غربة الفلسطيني عن أرضه واشتياقه الدائم لتلك الأم الرؤوم التي يعود إلى حضنها فقط جسدا هامدا؟ قصة ذلك اللاجئ الذي يحمل صليبه على ظهره في كل مكان ومعه خبز أمه ورائحة بيارات البرتقال تائها يحمل هويته كتهمة ولكنه لا يحمل جواز سفر، وفي أعماقه هناك فقط هاجس العودة إلى عالم الطفولة الأولى، إلى أرض الوطن كحلم لا يقدر عليه الفناء. يفزعني من يحاول أن يرثيك اليوم يا درويش برياء منافق. هل يريدون توديع بيارات البرتقال إلى قبر يحفرونه لها في الذاكرة؟ كيف يمكن لأزلام الطغاة أن يرثوك ؟ هل عرفوا يوما أزهار اللوز الفلسطينية؟ إذ نبكيك اليوم يا محمود فإننا نبكي قهوة أمهاتنا، نبكي بيروت الفقراء، نبكي بيارات البرتقال، نبكي قبور آبائنا التي لم نعد قادرين على البكاء عندها كأطفال خائفين، نبكي كهولة هذا العمر الذي مضى ونحن ما زلنا نبحث عن وطن، عن جواز سفر. وداعا يا محمود درويش!
شاعر وكاتب من سوريا
القدس العربي
15/08/2008