****
أصدقاء درويش، محبوه، وأبناؤه، يودعونه بحزن الكلام.. وفي رحيله يضيئون شمع القصيد
ملف عن الشاعر الذي أقام عاصمة الأمل، وتتبع أثر الفراشة مبقياً حضوره في الغياب
سعود قبيلات، د. نضال الشمالي، يوسف عبد العزيز، إلياس فركوح، حميد سعيد، د.عيسى برهومة، ممدوح أبو دلهوم، منيرة صالح، هشام القواسمة، رفقي عساف، جمال عياد، نهلة الجمزاوي، رشاد رداد وإيهاب الشلبي.
*****
درويش
سميحة خريس - لا شيء يشعر المرء بعبثية الحياة كالموت، ولا يمكنني أن أفهم الآلية التي نتمكن فيها من تجاوز فجيعتنا، ذلك أن وقع الحدث حارّ على النفس، ويكاد المرء يستشعر هول وعبء الحياة كلها في لحظة الفقد المريعة، ثم تبدأ الحياة في العودة إلى ميزان رتيب وإيقاع عادي، وكأن النجم ما هوى.
برحيل الشاعر محمود درويش والذي كان متوقعاً من الناحية المنطقية، كما هو حقيقي ومنطقي أننا جميعاً راحلون، وقفنا مستنكرين، ربما لأن جمال وجود الشاعر في حياتنا كان أكبر من أن نصدّقه، ولأن الرحيل امتزج بغصة لاجراءات ترحيله، فالمبدع الذي غذى أحلامنا زمناً طويلاً، وانقضى عمره وما تحقق حلمه، وهو الذي كان للناس ومنهم، صار جثماناً ترحل به الجهات الرسمية و تعتقله مانعة إياه عن أبنائه المبدعين ومحبيه القراء.
مثّل درويش صفحة وضيئة في مسيرة الشعر الفلسطيني، لأنه مع قلة قليلة تمكنت من إنقاذ الفن من روح الافتعال، وانتصرت للشعر دون الخطابة التقليدية التي ميزت كثيراً من الشعر الذي تعاطى مع القضية الفلسطينية، لأسباب نفهمها ونضعها في مكانها الصحيح من حيث الحاجة إليها، لكن المعجز أن تتخلص من تلك الزوائد التي تفسد الفن دون أن تطرح بالقضية أرضاً، وهكذا كان شعر درويش.
كذلك حملت التجربة الدوريشية سمات مدرسة خاصة في الشعر والفن، ومما لا شك فيه أنك تستطيع تتبع آثار التوجه والأسلوب الدرويشي في أكثر من تجربة، ربما صار نموذجاً أحاط بكثير من التجارب والأسماء على الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية عموماً، وقلة من الشعراء المبدعين تمكنوا من النجاة بقصائدهم من ظلاله المؤثرة، بل إن تأثيره امتد إلى النثر، ولا شك أن ما أذهب إليه في هذا الخصوص لا يصلح أن يُلقى جزافاً دون تمحيص ودراسة، وهذا ما ستستوفيه الأبحاث المستقبلية مؤشرةً على حجم التأثير الذي تركته تجربة الشاعر محمود درويش في السرد والقصيدة العربية.
عندما تكون التجربة بهذا الحجم الذي لا يعدّ بأي حال من الأحوال صخباً إعلامياً بلا طائل، ولكنه وجود حقيقي فاعل، فإننا قد نستريح إلى فكرة أن المبدع الكبير لا يموت.. تفنى الأجسام، ويكون لزاماً علينا نحن أبناء هذا الجيل الذي حظي بالقليل من القامات أن نحزن ونقهر للفقد الأليم، ولكن الذين شغلوا حياتنا بالفن والأدب والفكر، لم يفارقونا، فكلماتهم أضحت وجوداً قائماً بيننا وفكرة تصوب الدرب، فقد علمونا أن تلك المسيرة تعتمد على مقدار التحمل واستمرار المضي قدماً. لا نظن أن الأراضي التي عرفت تلك الينابيع الصافية المعطاءة قد تنضب ويجف ماؤها وينقطع عطاؤها، فكل شاعر تمكن من خط طريقه باقتدار هو وفاء لدرويش وقبله كنفاني وآخرون في المسيرة الفلسطينية، بل وفي المسيرة العربية بأكملها، وفي الدرب الإنساني الأوسع الذي يعني كل الراحلين من المبدعين العرب.
يحلو لي أن أتصور الحياة مثل فضاء متسع مجلل بالعتمة، كلما تساقط علم منه شق وجه السماء ووُلدت نجمة. هكذا نمضي في رحلة الحياة القصيرة الصعبة حاملين ذكرى من استحق على أكتافنا، جيلاً فجيل.
الرحمة لدرويش، ولنا التأسي وصمتٌ يختصر الكلمات، إذ إن فارس الكلام ترجل.
Khrais_samiha@hotmail.com
****
أثر الفراشة) .. الموت والحياة يتساويان في حضور الشاعر
د.نضال الشمالي - يستدعي المثول أمام ديوان شعري من دواوين محمود درويش الأخيرة العودة مجددا للاتفاق على مفهوم الشعر، لأن مفهومه مع هذا الشاعر المتحوّل يتعرض للانزياح فيتحول بظلاله ومراياه تاركا خلفه علامة ترقيم جديدة غير مألوفة ولكنها مقنعة، فالمسألة ما عادت لعبة شكل ومضمون أو معاني ملقاة في الشارع (الجاحظ)، أو رأس بصل لا شكل ولا مضمون له (بارت). إن المسألة تستدعي درجة الصفر في الكتابة مرة أخرى.
نعم، الشعر نوع خاص من الاستخدام اللغوي، ولكنه مع درويش بات فناً يروم نقل استجابة الشاعر الانفعالية والفلسفية إلى العالم المحيط به، فهو تعبير عما يحسّ به الشاعر، وليس بالضرورة تعبيراً عن حقائق معلومة. إنه مقارنة ذات جدوى بين ظواهر مختلفة غير مترابطة أو غير وثيقة الصلة بين بعضها بعضاً.
لم يعد الشعر مجرد تلاعب ذكي بالألفاظ، وإنما مزيج من الانفعال وحسّ جماعي يبذل جهده في إيصال خبرة عاطفية وعقلية وجمالية حميمة وأصيلة إلى القارئ فتمنحه حسّاً بالاكتشاف والحبور والإدراك العميق.
لقد تغيرت وظيفة الشعر في القرن العشرين وما بعده؛ إذ تضاعفت ثقافة الشاعر وكثرت مشاهداته، واختلف في المقابل وعي القارئ فغدا يطالبه بأشياء بديله وحقيقية تفسّر لهم تفاهة الحياة وسطحيتها، ولعل كل هذا هو ما جعل درويش كثير التقلب قليل الثبات، مدمنا على التفوّق وصانعا للنوع.
أصدر درويش ديوانه الشعري الثالث والعشرين صبيحة هذا العام 2008 بعنوان رئيسي أثر الفراشة ، وعنوان توضيحي فرعي يوميات ، والديوان برمته نصوص كتبها ما بين العامين 2006 و 2007 شملت 128 قصيدة في 386 صفحة توزعت على (47) قصيدة تفعيلة متحررة من القافية و81 قصيدة نثر، جاءت في مجملها وصفا لمشاهدات وتساؤلات ذاتية عن الحياة ورؤى تخص الشاعر وقضيته الأساسية دون ترابط بيّن بينها، فهي يوميات متحررة من رقابة الشاعر التي يمارسها عند كتابة ديوان متكامل. إنها على الأصح مراجعات مباشرة لما يتوالد في ذهن الشاعر جراء تقلبات الحياة والمستجدات اللامنتهية المتكررة.
إن صيغة اليوميات تستوعب كل ذلك. إنها خواطر واستباقات واستجماع لأكثر من لون شعري في الشعر نفسه، وفي اليوميات تخفف القيود ويسافر الشاعر مع قرائه في رحلة خارج إطار القصيدة الدرويشية الصارمة، فتقنياً لم نرصد جديدا في قصائد هذا الديوان مقارنة مع دواوين درويش الأخرى منذ العام 1986 في هي أغنية هي أغنية و ورد أقل ، وفي العام 1990 في أرى ما أريد ، وفي العام 1992 في أحد عشر كوكبا ، وفي العام 1995 في لماذا تركت الحصان وحيدا . وبوصف الديوان هذا يوميات، فإنه لن ينطويَ على تنظيم واضح أسوة بما سبق من دواوين محكومة لهندسة ثنائية واضحة منظّمة ومترابطة. لقد سمحت هذه اليوميات اللامنتظمة لعدد كبير من القراء -أكثر من المعهود- من تتبع أثر الفراشة في سماء محمود درويش اليومية خلال العامين 2006 و2007، ليجسّوا نبض الشاعر ويؤولوا سبب التسمية، فهل الفراشة هي العمر القصير العابر؟ أم تلك الحشرة الونيسة التي تعانق البصر وتجري خلف النور وتبحث عن الحقيقية في الحياة المظلمة؟ أم هي رمز للضعف الجميل؟!.
قد يكون أثر الفراشة رهناً لكل ما سبق، فالشاعر يصدر فيه عن حزن عميق هادئ هدوء الحكمة المتأتية من تعاقب الأيام وتسامي الهمّ وحضور الإنساني الطاغي:
أَثر الفراشة لا يُرَى
أَثر الفراشة لا يزولُ
هو جاذبيّةُ غامضٍ
يستدرج المعنى، ويرحلُ
حين يتَّضحُ السبيلُ
هو خفَّةُ الأبديِّ في اليوميّ
أشواقٌ إلى أَعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامَةٌ في الضوء تومئ
حين يرشدنا إلى الكلماتِ
باطننا الدليلُ
هو مثل أُغنية تحاولُ
أن تقول، وتكتفي
بالاقتباس من الظلالِ
ولا تقولُ..
أَثرُ الفراشة لا يُرَى
أُثرُ الفراشة لا يزولُ .
إن امتثالنا أمام القصيدة الدرويشية يعني سماع الجزء الذي يشي بالكل، فدور الشاعر أن يسير بخطوات الفراشة، أن يكثف خبرته في أوجز شكل ممكن، لأن توظيف اللغة العادية لن يوصلنا إلا لفهم عادي وسطحي يريد الشاعر أن يغادره إلى العميق اللامرئي ك أثر الفراشة ، ومع أنه يعود إلى مرجعية واقعية فإن ذلك لن يؤثر على قصائده اللامرئية. إنها مرجعية تتناسب حتما مع اليوميات ، والمسألة في النهاية مرتبطة بمفهومه عن الشعر كتعبير، لقد مزج الشاعر بين اليومي والشعري، بقصائد قصيرة (لقطات/ ومضات) إذا ما قورنت بالسلالة الشعرية العملاقة التي أنشأها درويش وعودنا عليها. يقول درويش في قصيدة ما أنا إلا هو :
بعيداً، وراء خطاه
ذئابٌ تعضُّ شعاع القمرْ
بعيداً، أمام خطاه
نجوم تضيء أَعالي الشجرْ
وفي القرب منه
دمٌ نازفٌ من عروق الحجرْ
لذلك، يمشي ويمشي ويمشي
إلى أن يذوب تماماً
ويشربه الظلّ عند نهاية هذا السفرْ
وما أنا إلاّ هُوَ
وما هو إلاّ أنا
في اختلاف الصّوَر! .
هذه القصيدة الخاطفة المبنية على مجاز علاقته جزئية تعتمد على مدّ من التأملات ممزوجة بالسردي اللامكتمل المبدّل بالنكرات (ذئاب، نجوم، دم،..) التي تقود إلى دلالات مفاجئة ليست بالحسبان. إن هذه القصائد غير المؤرخة هي أشبه بتواقيت متكررة لحال الشاعر المتقلبة في فترة حرجة ولعينة تمر على الفلسطينيين منقسمين متقاتلين، يقول: أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين، إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً، هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى! .
ثم يغادر الشاعر سريعاً إلى قضية أخرى قبل أن يسبر الأولى على اعتبار أنها: مثل أُغنية تحاولُ أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلالِ ولا تقولُ... . وكأن أثر الفراشة قطار يقف عند كل محطة فيُنزل راكباً همساً ثم ينطلق نحو أخرى مجهولة، فالفراشة كثيرة التنقّل دائمة الحركة تظهر فجأة ثم تختفي ماحيةً أثر وجودها، ولكنها تعلق في الذهن.
إن أبرز ثيمة غذّت أثر الفراشة بوصفه يوميات هي الموت الذي كان حاضراً بقوة ليؤازر حزن الشاعر الرتيب في غير قصيدة من قصائد الديوان، ولكن بطعم مختلف تشوبه المفارقة وتصنعه اللحظة المفاجئة. ففي قصيدة الحياة حتى آخر قطرة يظهر الموت حكماً لا مفرّ منه:
وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم،.
فماذا تفعل؟ لن أَحتاج إلى مهلة للرد:
إذا غلبني الوَسَنُ نمتُ.
وإذا كنتُ.
ظمآنَ شربتُ. وإذا كنتُ أكتب، فقد.
ش يعجبني ما أكتب وأتجاهل السؤال .
إلى هذه الدرجة المفاجئة ما عاد للموت ذلك الوقع المريع على النفس لأنه غدا يومياً مألوفاً وعادياً، وكأنك تسأل إذا نعست فماذا تفعل، أو إذا جعت فماذا تصنع؟ إن هبوط الاستثنائي المريع إلى مستوى اليومي الطبيعي أمر يقع موقعا مريعا في نفس باعث الموت الذي يلوّح به سلاحا يخوفنا به، ولكنه عند درويش فلسفة ذات منشأ آخر غير مألوف مبني على مجاز مرآوي مفترض:
وإذا كنتُ نائماً بقيتُ نائماً.
وحالماً وهائماً بالغاردينيا. وإذا كنتُ.
أضحك اختصرتُ ضحكتي إلى النصف احتراماً.
للخبر. فماذا بوسعي أن أفعل؟ ماذا.
بوسعي أن أفعل غير ذلك، حتى لو.
كنتُ أشجع من أحمق، وأقوى من هرقل؟ .
الموت والحياة يتساويان في حضور الشاعر، على صيغة افتراضية مفادها الحضور المفاجئ للموت: وإن قيل لي ثانيةً: ستموت اليوم، فماذا تفعل؟ لن أَحتاج الى مهلة للرد . هكذا تحلّ المسألة ببساطة وكأن القصيدة جرعة مخدرة ومهيئة لموت ما عاد مفاجئاً، بل إنه مرحَّب به في كل الأوضاع، لأن طعم الحياة أمسى الآن محفّزاً أكثر من أي وقت مضى لاستقبال الموت. إنها لحظة تتساوى بها حوافز الموت وحوافز الحياة لدينا، وقد بررت مثل هذا التآلف بين الضدين الموت والحياة قصائد عدة حلّق فيها الموت، كقصيدة ذباب أخضر ، والعنوان هنا يرمز إلى الطائرات الإسرائيلية التي تحيي الموت بين أفراد شعب يحصد كسنابل القمح:
واليوم أفضلُ من الغد. لكنَّ القتلى هم الذين
يتجدّدون. يُولَدُون كُلَّ يوم. وحين يحاولون
النوم يأخذهم القتلُ من نعاسهم إلى نومٍ
بلا أحلام. لا قيمة للعدد. ولا أَحد
يطلب عوناً من أحد. أصوات تبحث عن
كلمات في البرية، فيعود الصدي واضحاً .
جارحاً: لا أَحد. لكن ثمَّةَ من يقول:
من حق القاتل أن يدافع عن غريزة
القتل. أمَّا القتلى فيقولون متأخرين:
من حق الضحية أن تدافع عن حَقِّها في الصراخ .
فهل القتل يحيي؟ نعم، ولكن على طريقة: يخرج من الميت ميتاً، فيولدون قتلى وهنا يتحقق الفعل ليس سبباً، بل نتيجة، ومثل ذلك يمكن أن يفصّله درويش في قصيدته التي استهل بها ديوانه البنت/الصرخة ، فمنظر الموت يومي طبيعي مألوف مع غياب كل معترض أو رصد كل شاهد، فالأمر قانوني مئة في المئة:
وفي البحر بارجةٌ تتسلَّى.
بصيدِ المُشاة على شاطئ البحر:
أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ.
يسقطون على الرمل، والبنتُ تنجو قليلاً .
إن القتل فعل يومي فقدَ صفة التجدد، فتكراريته مقيتة إلى حد الاعتياد والألفة، فلا يهم إن حصدت البارجة أربعة أو خمسة أو حتى سبعة، والعدد هنا مؤنث ليعكس المعدود المذكر، فالفتاة تنجو قليلاً، وكأن النجاة فعل قابل للتفاوت كالطول والحب! لغة ساخرة ومرّة في الوقت نفسه، فمع الغياب التوثيقي تبقى الصرخة أثراً كأثر الفراشة لا يرى. هذا الموت المتجدد لا بد أن أحداً يمدّه بالحياة، فيتدفق الجواب من قصيدة نيرون رمز آلة الموت والفاعل الحقيقي لا المستتر:
ماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرّج على.
حريق لبنان؟ عيناه زائغتان من النشوة،...
وماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرج على.
حريق العراق؟ يُسْعِدُهُ أن يُوقِظَ في تاريخ.
الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عَدُوّاً لحمورابي...
وماذا يدور في بال نيرون وهو يتفرج على.
حريق العالم؟ أنا صاحب القيامة. ثم يطلب.
من الكاميرا وقف التصوير، لأنه لا يريد.
لأحد أن يرى النار المشتعلة في أصابعه،.
عند نهاية هذا الفيلم الأمريكي الطويل! .
فالموت تسيد الأماكن كلها: لبنان، العراق، العالم بأسره. بأسلوب استفهامي ساخر، يقف نيرون المنتشي أمام أعماله الذي يغذي غريزة القتل لديه فيحرق، وعندما تحترق أصابعه يأمر بوقف التصوير، والأمر في قانون اليومي لا يحتاج إلى عظيم تأويل، فنيرون هو من يتجوّل في العالم يفعل ما يشاء ويغزو من يشاء ويقتل من يشاء، فهو صاحب الحق حتى في صنع الصورة المشرقة، لأنه يمتلك آلة التصوير وآلة الموت على حد سواء.
في غمرة كل ما سبق لا يغفل الشاعر من العودة إلى الإنساني، وذلك عندما يقارن بين الأنا والآخر اللذين يشغلان معاً حيز الضحية (والضحية هو من يتعرض للإساءة دون أن يعرف أنه عرضة لها)، ففي قصيدة عدو مشترك يطيب لدرويش أن يمارس هذا الدور الإنساني لينظم المسألة مرة أخرى بين المتقاتلين، يقول:
تمضي الحرب إلي جهة القيلولة. ويمضي
المحاربون إلى صديقاتهم متعبين وخائفين على
كلامهم من سوء التفسير: انتصرنا لأننا
لم نمت. وانتصر الأعداء لأنهم لم يموتوا
أمَّا الهزيمة فإنها لفظة يتيمة..
المحاربون من الجانبين يقولون كلاماً متشابهاً
بحضرة من يُحِبُّون. أمَّا القتلى من الجانبين،
فلا يدركون إلا متأخرين، أن لهم عدواً
مشتركاً هو: الموت. فما معنى.. .
هنا يتجلى العمق الإنساني لدى درويش عندما يعقد مثل هذه المساواة بين حالتين متباعدتين في القصد. إنه إعادة لتصوير الواقعي، ولكن من وجهة نظر أخرى غير مألوفة، فالاثنان في عرف الحياة والموت يخسران، وقد قال سابقا درويش في ديوانه حالة حصار في العام 2002:
لا ليل في ليلنا المتلألئ بالمدفعية..
أعداؤنا يسهرون وأعداؤنا يشعلون لنا النور
في حلكة الأقبية.. .
من هنا تنبع الأفكار المفاجئة القابلة للتأمل، مثل هذه الطروحات امتدت واسعاً على صفحات درويش، وقد حضرت في أثر الفراشة كذلك، ففي قصيدة واجب شخصي يقول:
هتفوا له: يا بطل! واستعرضوهُ في
الساحات. نَطَّتْ عليه قلوب الفتيات
الواقفات على الشرفات، ورششنه بالأَرُزِّ والزنبق..
في صباح اليوم التالي، وجد نفسه وحيداً يستذكر.
ماضياً بعيداً يلوِّح له بيد مبتورة الأصابع
يا بطل! أنت الأمل. يتطلع حوله
فلا يرى أحداً من المحتفلين به البارحة..
أحسَّ بالجوع. تفقَّد معلبات السردين والفول .
فوجدها منتهية الصلاحية. ابتسم وغمغم:
للبطولة أيضاً تاريخ انتهاء صلاحية..
وأدرك أنه قام بواجبه الوطنيّ! .
هنا يفاجئنا درويش بأن للبطولات أيضا تاريخ انتهاء صلاحية، فمن كان يظن أن البطولة هذا المعنى السامي والخالد لها صلاحية وتاريخ انتهاء! على ما يبدو أن الواقع العربي يفرض مثل هذا اللون من إهانة المعاني السامية لتنتهي المسألة بعبارة أدى واجبه . لقد غدت البطولة محجمة الأثر في واقعنا العربي الضيق، أو أن علينا أن نزهد بها لأنها ما عادت تشكل قيمة ترتجى. إن الاستثناء فيما سبق يتعالق مع قصيدة أخرى تفسر هذا اللون من المجاز هي مكر المجاز و التي يقول فيها:
مجازاً أقول: انتصرتُ
مجازاً أقول: خسرتُ..
ويمتدُّ وادٍ سحيقٌ أمامي
وأَمتدُّ في ما تبقَّى من السنديانْ..
وثَمَّة زيتونتان
تَلُمَّانني من جهاتٍ ثلاثٍ
ويحملني طائرانْ
إلى الجهة الخاليةْ
من الأَوْج والهاويةْ
لئلاّ أقول: انتصرتُ
لئلاّ أقول: خسرتُ الرهانْ!
فالانتصار مصطلح مرهون بالمجاز الذي يصنع محتواه، هذا المجاز الذي يجعل الفهم يلتف على ذاته غير مرة فيقف عند الفهم الذي يناسب الفهم، ليغدو الأمر برمته تعدد على تعدد والحال واحدة، لكن امتلاك الفهم يتعدد، وكأن المسألة كلها رهن بالألفاظ التي نختارها للحالة التي نعيش، عندها ستحلّ المسألة ولن يكون هناك ازدواج وتماس بين ما نحن فيه وما يجب أن نكونه فعلاً. ثمة مثال آخر على مكر المجاز من قصيدة أنا خائف التي يقول فيها:
دخل إلى البيت، وخاف أن
يكون قد نسي نفسه على المقعد خائفاً
وحين تأكد أنه هو من دخل لا سواه،
وقف أمام المرآة، وحين تعرَّف إلى
وجهه في المرآة اطمأنّ. أصغى إلى
الصمت، فلم يسمع شيئاً يقول: أنا
خائف، فاطمأنّ. ولسببٍ ما غامض... لم يعد خائفاً! .
إن حالة الخوف المزمنة تلك مبنية على الاقتناع به، فغيابه أمر غير اعتيادي وليس صحياً، ووجوده اعتيادي وصحي ومطلوب لسير الأمور بشكل طبيعي. إنها الحالة المثلى التي تعودنا ونشأنا عليها! صار لازمة للحياة وللموت وللحزن ولانقطاع الصدى. إنها اليوميات الحبلى بالمكاره، فإذا ما تحقق الخوف يزول الخوف: ولسببٍ ما غامض..لم يعد خائفاً! . طبعاً لم يدخل الشاعر كل طروحاته في ألعوبة المجاز، بل أخرج مسميات أخرى منها، كتعريفه لكلمة العدو في قصيدته عدو مشترك ، ويقصد به الموت الذي يطارد المتقاتلين أنى تقاتلوا:
لا ملامح له ولا عينان ولا عمر ولا
اسم. هو... هو الذي اختار أن يكون له
اسم وحيد: العَدُوّ! .
وبعد، فإن هذه اليوميات ذات استغلاق مستحبّ وآفاقها مفتوحة على التأويل، فهي سهام تنطلق من داخل النص إلى خارجه، ولكنها سهام غير مبرية النصل، هي قصائد اعتمد الشاعر في بنائها على المجاز الجزئي المرآوي ذي البنية الناقصة، تنتظر القارئ أن يسهم في إتمامها بمساعدة من الشاعر المقيّد بسلاسل التقنية.
إن الشاعر مرغم على مثل هذا البناء، فإتمام النص يعني إغفال مستجد يومي آخر يمر سريعاً فلا يترك أثراً، وعلى الشاعر ان يوثقه، تماما كأثر الفراشة يحتاج لمتابعة بصرية هادئة لتعقّبه، ولكنه يبقى عصيّاً على الإمساك خصباً للتأويل لأنه مبني على مرآة المجاز.
@ناقد أردني
****
قلبه الذي مات من شدّة الحبّ
يوسف عبد العزيز - أخيراً هدأ قلب الشاعر المريض بحبّ فلسطين والشعر، سكتت الكمنجات التي هبّت على العالم بعواصف عظيمة متواصلة من الأغاني على مدار نصف قرن من عمر البشرية، أخيراً تركنا الشاعر الأجمل في منتصف الكارثة تماماً وغاب، وهو الذي كان قد حدّد من قبل مواصفات قبره، قبر عاديّ كسائر القبور، بمترين من التراب: متر و75 سنتيمتر لجسده، والباقي لزهر فوضويّ اللون كما جاء في قصيدته المدهشة الجدارية .
شاعراً أعلى من زمانه كان، أكبر من مرحلته، وقد خانه كلّ شيء. حاول بكلّ ما أوتي من جسارة أن يعلّي حائط الأمل، ويفتح عيوننا الضريرة على أفق الحرية العظيم، ولهذا راح يفخّخ جسد الأرض بتلك القصائد العذبة الساحرة، ويرجّ كتفيّ العالم بقوّة. يا لها من مهمّة شاقّة وعسيرة كانت ملقاة أمام الشاعر، فالصّخرة السّوداء الكبيرة كانت تتدحرج من أقصى العالم إلى أقصاه وتدمي جسده بمزيد من الحروب والحرائق، وكانت تطحن في طريقها الأخضر واليابس. ثمّة نهايات مرّة، وغروب كاسح كان يلوح في الأفق، أمّا العالم العربي فقد ارتمى مثل جثّة هائلة مطروحة بجانب المتوسّط، فقد انقصفت الثّورات فيه، وانفتحت أبوابه لرياح الغزو مرّةً ثانية، وأصبح يعيش من جديد تجلّيات عصر ملوك الطّوائف! أمّا فلسطين الحبيبة التي نذر لها الشاعر عمره وشعره وأحلامه، وحملها معه في سفره الطويل المتواصل من بلد إلى بلد فقد شحبت شمسها، وتناوبتها السّكاكين مجزرةً وراء مجزرة وسلاماً متّسخاً وراء سلام متّسخ آخر حتى وصلت حائط البؤس. يوماً وراء يوم راح الصّهاينة يقضمون قلبها ويزرعون جسدها بالمستعمرات، أمّا الشعب الفلسطيني فقد دخل في هذه الأثناء في طقس غريب من الصّراع دار بين قطبين: الثّورة، والثّورة المضادّة. كان هناك سدنة السّلام الذين أصبحوا يتوسّلون الفتات من عدوّهم على موائد المفاوضات، وكان هناك المقهورون المتمرّدون على كلّ طروحات السلام الجوفاء. بين الطرفين اندلعت المواجهة إلى ما يشبه الحرب الأهليّة! بهذا الشّكل انمسخت القضية وتقزّمت، وانتقلت من قضية كبرى إلى فتات قضيّة تثير الشّفقة لدى العالم الذي أصبح يقترح حلولاً لها على رأسها فتح معابر قطاع غزّة وإدخال المحروقات!.
أهذا هو الوطن! أهذه هي فلسطين آخر الأمر! وما هو جدوى الشعر في مثل هذه الحالة! أسئلة غزيرة أصبحت تؤرّق الشاعر محمود درويش الذي استقرّ مؤخّراً في الوطن ، وتهرس بقوة قلبه الصّغير. في رام الله حيث أقام درويش في السنوات الأخيرة، كان يشاهد الأعاجيب تحدث أمام عينيه، حيث يرى الصّهاينة وهم لا يتورّعون في دخول المدينة متى يشاءون من أجل قتل أو اعتقال من يريدون! الخروج من الوطن أو الدّخول إليه كان لا يتم إلاّ من خلال الحواجز والانتظار الطويل! الذّهاب إلى فلسطين المحتلة في العام 48، من أجل الزّيارة أو قراءة الشعر كان لا يتمّ هو الآخر إلاّ بتصريح الحاكم العسكري، وهو نسخة مكرّرة عن التصريح القديم الذي كان يأخذه الشاعر في السّتينيّات!.
في مثل هذه الوقت العصيب الذي كان يشهد تشرذم القضية الفلسطينية وغروبها المتتابع كان درويش يمسك بدفّة الشّعر بكلّ ما أوتي من قوّة، ويسير به في تلك الشّعاب النّائية الخطرة، مقترحاً جماليّات جديدة، وهاجماً بضراوة ذلك الخواء الذي أخذ يضرب عصب الشعر. لقد تنازل عن اللقب الذي توّج به من قبل قرّائه ونقّاده على حدّ سواء حين سمّوه شاعر المقاومة . لقد وضع المدائح جانباً، وصوّب نظره على شيء مختلف تماماً. كان هذا الشّيء يتّصل بمفهوم الشّعر كمعنى ورؤيا، ليس بوصفه أي الشعر شعاراً أو ملحقاً صغيراً في كتاب السّياسي، بل بوصفه ركناً أساسيّاً في الحياة، وإضافة حضاريّة من إضافات الشعب الفلسطيني والأمّة العربية. في أحد الحوارات المجراة معه يسأله المحاور وكأنّما ليقع على جواب مدوّ: لماذا تكتب الشّعر؟ فيردّ عليه درويش بأعصاب هادئة قائلاً: أكتب الشعر من أجل أن أكتب الشعر.
هنا يمكن لنا أن نسقط على ملمحين أساسيّين من ملامح القصيدة الدرويشيّة: يتصل الأوّل ببنية هذه القصيدة التي زاوج من خلالها درويش بين روح الشّعر العربي وروح الحداثة الشعرية في العالم. ويتّصل الثاني بشعر درويش الصّعب الممزوج بالسّحر، وبتلك الروائح التي تسكر القارئ، والذي استطاع درويش أن يقدّم من خلاله فلسطين إلى العالم. على صعيد الملمح الأوّل نجد أن درويش قد استطاع أن يلخّص الثيمات الأساسية والجماليات التي تتميّز بها الشّعرية العربية منذ عصورها الأولى حتى اليوم، وأن يخرج علينا بقصيدة ذات أنفاس عربية عابقة بالغنائية والطّقوسية والإنشاد، وكما أخذ من الشعر الجاهلي عبارته الشّرسة المتورّطة بأسئلة الوجود، أخذ من المتصوّفة اغتباطهم بالعالم في ذروة تجلّي الذّات الشاعرة. عند المتنبي توقّف درويش طويلاً، وأخذ عنه روحه العلوية، فروسيّته، وقلقه الأقصى الذي كان يتلبّسه في كتابة الشعر. لقد وجد أن هناك من الشّبه الشّيء الكثير بينه وبين المتنبي، مع افتراقات في الأهداف المنشودة. بالمقابل كان لاطّلاع درويش على الشعر في العالم دور كبير في تطعيم قصيدته بمناخات وأساليب جديدة في الكتابة، كان مفتوناً بلوركا ونيرودا على وجه الخصوص، الأوّل أخذ عنه حذقه الهائل في بناء الصورة الشعرية، والثاني أخذ عنه أمميّته وشعره الصادح بأكثر من حنجرة.
على صعيد الملمح الثاني نجد أنّ درويش كان مهجوساً طوال الوقت بالمزج بين فن القصيدة العالي وبين الرّغبة في الوصول إلى القارئ. وذلك على عكس ما كان شائعاً عند الشعراء جميعاً والذين تلخّص همّهم إمّا بكتابة شعر مباشر هو في حقيقة الأمر صدى لمشاغل السّياسي، وإمّا بتطليق العلاقة مع الجمهور بشكل نهائي والكتابة من موقع الشاعر الرائي الذي يستشرف المستقبل. بالنسبة لدرويش فقد وعى هذا الجانب بعمق، في الأمسيات التي كان يحييها أمام جمهوره العظيم كثيراً ما كان يسمح لنفسه في البداية بقراءة بعض القصائد التي يطلبها الناس، كان يقول لهم بعد ذلك الآن جاء دوري لأقرأ عليكم ما أريد أنا، حيث يفاجئ الحضور بقصائده الجديدة الصّعبة التي تطرح جماليّتها المختلفة. مسألة أخرى تتعلّق بطبيعة شعره الذي يدور باستمرار في فلك الحلم الفلسطيني، والتنويعات الكثيرة التي كان الشاعر يتناول بها هذا الحلم. بما يشبه الأسطورة ظلّ شعره يصبّ في قلب فلسطين دون أن يفقد عنصر الجمال والمغامرة. من هنا استطاع درويش أن يصنع له دون سائر الشعراء ذلك الجمهور العريض المتعدّد، القادم من شرائح سياسية واجتماعية متعدّدة.
مات الشاعر الكبير ولم تمت أسطورته، مات وهو في أوج توهّجه، مات وترك مكانه فارغاً. بدمع غزير اسمح لنا أن نبكيك يا حبيبنا اليوم وفي قادم السنوات، أن نبكي شعرك العظيم الطالع كشمس الأبدية على هذه الكهوف والقيعان، وأن نبكي قلبك الصغير الذي مات من شدّة الحبّ.
شاعر أردني
Yousef_7aifa@yahoo.com
****
غبتَ لتعود مغتسلاً برنين النبوءة
إلياس فركوح - إلى محمود درويش - ما أزال على غير يقينٍ بأيٍّ من الصِفاتِ أتوّجهُ إليكَ، الآن، وليس قبل أن تخرِقَ الحُجُبَ لتكونَ ماثلاً، بكامل أُبهتكَ، في حَضرة الغياب ؟ أهي صِفةُ الصديق الذي ما كُنتُهُ أنا، وإنْ رغِبتُ فيه بصدقٍ يصحبهُ الترددُ أو عَلّهُ الحياءُ، غير أنَّ حماقة التأجيل حالت دون النَفاذ من حالة القوة إلى واقع الفعل؟ ولكن: أحقاً كان من الممكن أن نكونَ أصدقاء؟ لستُ أدري. وإني أصارحكَ القولَ وإنْ جاءت صراحتي متأخرة وخالية من أي جدوى: كنتُ أفضّلُ مسافةَ القُرْبِ أن تبقى كما هي، على أن تُكْسَر أو تُختَزَل، فيؤولُ اللقاءُ المرغوب مني إلى انقطاعٍ يخشاهُ قلبي. كنتُ، وما أزال، أحبكَ مبقياً على مسافةٍ لتظّلَ، يا شاعري يا المثقف الكبير، رديفَ النغمة التي يرفُّ لها روحي؛ إذ أنتَ صاحبها.
أنتَ لا تعرف. ليس لأنكَ صُرتَ هناك. أنتَ لا تعرف حتّى حين كنتَ هنا، لا يفصلُ بين منزلينا سوى ثلاثة شوارع، أو ربما أقلّ (وردُنا كثيرٌ، لكنه أقلّ من أن يُكَّفّنَ قصيدةً لكَ)، وكان قلبي، مثل قلبكَ المريض، قلبكَ المريض القاتل، قد تعافى للتو.. فاحتفلتُ وإيّاهُ بالإنصاتِ إلى صوتكَ يتلو مأساة النرجس وملهاة الفضّة في ليلٍ كنتَ البَرْق فيه بينما الشمعةُ الحييةُ تتآكلُ بِخَفَرٍ وتذوب. حدثَ هذا قبل سنتين، وما كنتَ لتعرفَ أنَّ احتفالَ قلبي بخروجه من الإنعاشِ جاءَ على وَقْعِ نشيد قلبكَ أنتَ!.
ما قصةُ القلب هذا؟ ما قصةُ القلب هذه؟ أيُّ هاتفٍ عَصَفَ فَرَصَفَ منكَ تلك الكلمات وأخرجها لنا:.
سأقطعُ هذا الطريقَ الطويلَ، وهذا الطريقَ الطويلَ، إلى آخره، إلى آخر القلب أقطعُ هذا الطريق الطويل الطويل، فما عدتُ أخسرُ غير الغُبار وما ماتَ مني، وصفُّ النخيلْ يَدُلُّ على ما يغيب ؟.
.. وغِبتَ! غِبتَ لتعودَ مغتسلاً برنين النبوءة التي ما ادّعيتَ يوماً قدرتكَ على ردّها، وإنْ شاغبتَ وتشاقيتَ، إذ أعلنتَ:.
فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبرٍ لا ينازعني عليه أحدٌ من غير أسلافي، بشاهدةٍ من رُخام لا يعنيني إنْ سقطَ عنها حرفٌ من حروف اسمي .
......
والآن، هل ثمة معنى لكّل ما رأيتَ؟ أنتَ الذي رأى ما أرادَ؟ ماذا أردتَ، وماذا رأيتَ؟.
لن تجيبني. أعرف. لأنكَ تعرفُ أنَّ ما رأيتَهُ لم يكن هو ما أردتَهُ.. تماماً. وأنَّ ما أردتَهُ لن تراهُ إلاّ الآن.. كاملاً! أيُّ نَقْصٍ هذا الذي نعيشهُ في الحضور! أيُّ اكتمالٍ هذا الذي نعاينهُ في الغياب! وأيُّ هَشاشةٍ، من قبل، نعايشها بافتتانٍ لا يجرؤ عليه سوى الحمقى!.
وكنتُ أحمق! أجّلتُ لقاءنا مرّتين على أمل مرّة ثالثة، لكنها لم تأتِ.
مرّة أُولى: في بير زيت: إثر اتفاق أوسلو المشؤوم: إحدى ردهات جامعتها: أنتَ وسطَ جمهرة من معجبيكَ: أنا برفقة مَن سيُهّربني إلى حيفا، فهل ألغي حيفا والكرمل لأجتمعَ بكَ؟.
قلتُ لنفسي: ثمة مناسبات أُخرى.
ومرّة ثانية: في فرانكفورت: نحن ضيوف معرضها قبل سنوات قليلة: داخل مصعد الفندق الوسيع: تصادفَ أن كُنّا وحدنا فيه: هبطنا: اتخذَ الواحدُ منا لنفسه جانباً بمواجهة الآخر: مرحبا! مرحبا! وسألتني بما يقرب الخفوت: لماذا لا نلتقي ونحن نسكن في مدينة واحدة؟ وكان مني: يبدو أنَّ المناسبة لم تحن بعد! فهززتَ رأسكَ كأنما توافق، أو تحاول، لكنكَ لم تنبس، وواصلَ المصعدُ هبوطه بنا.
لم أعد أذكرُ مَن مِنّا سبقَ الآخر في الخروج من المصعد، ذاك اليوم؛ فكلانا كان مهذباً.
غير أني لستُ بحاجةٍ لمن يذكّرني أن ليس كل مَن دخلَ المصعدَ سيغادره وفي روحه أثرُ الفراشة!.
ولم تكن ثمة مناسبة؛ إذ ربحَ الموتُ - كعادته!.
* روائي أردني
****
(انتحار المعنى) .. طرح درويشي مثقل بالأسئلة
ممدوح أبو دلهوم - أيُّ آفاقٍ هي تلك التي أرادنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش، أن نتبينها وننتبه إليها في مقالته النقدية انتحار المعنى في العالم العربي ؟!.
خلف أي سجفٍ دراميةٍ تركنا، تماماً مثلما ترك حصانه الأثير وحيداً! وغاب في ضياء الأسئلة الجميلة، المطروحة على الرائعين أمثاله من الشعراء العظام؟!.
في أي مجاهيل عصية وغياباتٍ بعيدة وضعنا، كي نبحث عن السر العظيم لهذا الانتحار / اللغز قبل الانتحار / الحل؟!.
فعن أيّ معنىً تُرى كان يتحدث بحقٍ صاحب أحد عشر كوكباً ؟!.
هل اختصر شاعرنا المسكون بثابتنا الفلسطينيّ ومُتغيرنا العربي، وفي كلمة عبر قولته التوقيعية أعلاه، كل ما يجري لنا بين هِمّةٍ وهَم في حياتنا العربية؟ في كلمة أجل هي من حروف أربعة بعد أل التعريف هي: المعنى؟!.
فما هو هذا المعنى / السؤال؟!.
هل يعيش فينا هذا المعنى، كما كائن حي هو على وشك الانتحار، كما يرى شاعرنا الأصيل مثل قهوة أمه الأصيلة؟!.
سأحاول.. قبلُ ، على سيزيفية المسعى وسوريالية العنوان، أن أدلي بدلوي في بئر المقالة / الأطروحة، على أنني لست بالضرورة قد أصبت بذلك كبد المعنى، حتى ولكأنني قد عرفت ما وراء أكمات الطرح الدرويشي المثقل بالأسئلة العصيّة!.
أقولُ.. فينا معنى.. نعم ، ولكل منا معناه الذي يعيشه أو يعيش لأجله، ونعم .. وما من أدنى شك لدي، في أن مُسطّر يوميات الحزن العادي : الرائع مثل برتقال قصيدهِ الفلسطيني، يدرك تماماً معنى مقولته في شأن تحولات الأمة وثوابت الرابضين على ذات التراب المقدس، يدرك أجل أن لكل عربي منا معناه، تماماً مثلما يعلم علم اليقين وبفلسطينيةٍ لا شيةَ فيها، بأن آخر الليل آتٍ بشمس باسمة مصحوبةٍ لا جدال بحرية قادمة.
من هنا.. فإن المعنى في صيحة محمود درويش، هو الحياة تحت دوح اليعربية التي نعرف، بل وبمعنى أدق هو سر الحرية المقدس لأي عربي، كلٌ من قاموس ما يعانيه - فكلٌ له من معناه نصيب! إذ ليس حُراً من نظر إلى خلفه كالمطارد، أو تلفت يمنة ويسرة كالملسوع، كل من حاول أن يدلي برأي أو حتى مرت بباله أطياف سؤال، وبذات القياس.. ليس حُراً أيضاً، من يقبل الضيم كما أي فارسٍ عربيٍ قديم ذات مجد عظيم، ليس حُراً نعم حتى ولو ملأ الدنيا أغاريد حرية وأشواق عروبة.
هل يُمكنني .. اتساقاً مع ما سبق، أن أجزم بفهمي للمعنى الدرويشي في المقالة المذكورة؟ أم هل أزعم -وفي ذلكم منجاتي- بالدوران الفراشي حول أنوار هذا المعنى النبيل وحسب؟ لا أدري.. كل ما أدريه.. الساعة ، هو يقيني بغياب التحليل العلمي الذي يجب أن لا يخلو، من النظر السيكولوجي أو النقد الجاد عن طرحه الرومانسي العميق، واستحضار التقميش الفلسفي السطحي بديلاً هشّاً وبارداً، بل لعله -وقد أنار ما قال ب أحد عشر كوكباً - قد وصل إلى مبنى ما وصلني من معنى، هذا المعنى الذي يتمثل في سر حياتنا الكريمة المرتجى، حتى إذا ما أشرف على سهوب هذا التأويل.. واقعاً لا تقعيداً، فإنها بالضرورة حالة جدلية تقف دون تقاطعيةِ وجودنا / سحقنا ، وهي حالة كنا نبلوها تحت معادلات ومعادلات بألاعيب وألاعيب، تُنسج لنا في الغالب بأيادٍ غريبة خارج حدودنا، المُحصّنة بكثير من الشعر وقليل من الرماح!.
من هنا ربما كان توكيد شاعرنا الكبير، على انتحار المعنى في نهاية هذا التطواف الرمادي الذي طال! فهل، حقاً، نحن في حالة انتحارٍ ما ؟!.
من ذا يملك إجابة عن هذا السؤال الفكري المهول؟!.
من ذا يستطيع أن يقولها بصراحة، أو أن يحلل عناصر هذه الإجابة المنتظرة بصراحة أيضاً، بحيث أن يكون من شأن هذه الإجابة / المعنى: أن نلفظ النرجسية، والمصلحية، والعنصرية، والانتهازية، والبالونية، والشللية، والشعاراتية، والتنازلية، والتقزيمية، والاغتيالية، والاحتكارية - وما شئت من قاموس الميكافيلية المقيت؟!.
كل أولئك.. قد أفضى بنا إلى تغريب الذات والمروق عن الهوية، وذلك بفعل ما جناه غلاة الساح من زعار الشعارات وتجار فحم الدجى العتمويين، وما جرّوهُ علينا وعلى مسألتنا المركزية قُطرياً وقومياً، من ويلاتٍ وخيباتٍ نسأل الله منها النجاة والخلاص.
على الجملة.. ختاماَ ، ويبقى للحديث صلة أكتبها مع غيري في مقبل السنين - بغية إنقاذ معنى محمود درويش الفكري المثقل بالأسئلة القومية، أقولُ . بأننا إن لم نصحُ ونتقّ الله ومن ثم حلمنا القومي العظيم، قلماً ومنجلاً.. علماً ومعولاً، فنجمع لهذا الذي يُكاد لنا آناءَ الليل وأطراف النهار، فإنه، عتمئذٍ، انتحار المعنى في العالم العربي - كما قال درويش ، وعلى الصعيدين معاً: الفردي والجمعي.
@ كاتب أردني
Abudalhoum_m@yahoo.com
****
أحسّ أنه في حضرة الغياب.. فترك أثراً جميلاً للفراشة
رفقي عساف - كان لي شرف أن تحمل نسخة كتابه الأخير التي أملكها توقيعه، ولكنها أيضاً حملت لي ما هو أجمل. حملت لي حواراً شخصياً قصيراً بفضل صديق مشترك جمع ما بين والدي رحمه الله وبين شاعر فلسطين الكبير، أخبرته أن صديقه لم يستطع الحضور لأسبابه الصحية، فأخبرني أنه -أي محمود- اتصل به في اليوم نفسه ليطمئن عليه، فأبلغته أن ذاك الصديق كان سيحمل إليه مخطوطي الشعري ليطّلع عليه، ولكن حالته الصحية منعته، فابتسم ابتسامته الجميلة وسألني: آه والله؟!.
هكذا كان آخر ظهور عام لدرويش في عمّان بالنسبة لي ظهوراً خاصاً وشخصياً وحميماً لهذا الشاعر الذي قرأته منذ طفولتي، ورأيت بعيني كيف كان يتنوع ويتنقل ويضيف إلى شعريته في كل نص شيئاً جديداً. هو شاعر ميزته أنه لم يكفّ عن التعلم، وكان يعترف بكل فخر أنه يقرأ الشعراء الشباب ويتعلم منهم إلى أين وصل الشعر، فاستطاع بذلك ان يحافظ على هالته الشعرية التي لم تخبُ..
محمود درويش لم يكن مجرد شاعر، كان نبض شعب كامل، وأرض محتلة، ورغم إغراقه في الذاتية في بعض النصوص، إلا أن ذاتيته كانت تنعكس على ذات أي فلسطيني في الداخل أو في المنفى. كان حكاية شعب أنهكت الضربات قلبه..
محمود درويش رحل، لا أحد يمكن أن يستوعب أن انتظار كتابه الجديد هو انتظار لن ينتهي، لا أحد يمكنه الآن أن يفهم بأن إطلالته البهية التي يحرص عليها في عمّان تحديداً مع كل إصدار وسط تصفيقنا وبهجتنا برؤيته هي إطلالة لن تتكرر مجدداً.
مات درويش، وقبله في هذا العام الغريب مات يوسف شاهين وعبد الوهاب المسيري. وطن يخسر أعلامه ومبدعيه الأهم في عام واحد، فهل ينجب غيرهم؟ هل من محمود درويش جديد يروي ظمأنا إلى شعر حقيقي مغزول من قلب منهك..
@ شاعر ومخرج أردني
****
الجدارية في تحولها إلى فضاء مسرحي .. تحرر روح الشاعر من الجسد والتاريخ
جمال عياد – هناك مسرحيات تُعرَض لمئات المرات ضمن مناخ معين، ولكنها تُنسى وتغيب عن البال بعد ذلك؛ وهناك مسرحيات أخرى تُقدَّم في عرض واحد أو عروض قليلة، لكنها تظل مزروعة في الذاكرة رغم ما قد يصيب حياتنا من تقلبات ومتغيرات. ومن النوع الثاني تبرز مسرحية الجدارية التي أُسّس نصها الحواري على قصيدة محمود درويش التي تحمل الاسم نفسه، وأعد حواراتها الشعرية خليفة ناطور، والتي قُدمت ضمن فعاليات مهرجان دمشق في دورته الأخيرة، ثم استضافها مهرجان قرطاج المسرحي في دورته الثالثة عشرة التي حملت شعار المسرح إرادة الحياة.. من الشابي إلى محمود درويش . إذ ذهب معظم النقاد العرب والأجانب ممن حضروا هاتين التظاهرتين، إلى فرادة هذه المسرحية وتميزها، رغم المستويات الرفيعة التي تحلت بها معظم العروض المسرحية الأخرى، وذلك بفعل جاذبية الحوار الشاعري ل الجدارية ، خصوصاً وهي ترصد مأساة الشعب الفلسطيني في التاريخ بوصفها أحداثا تراجيدية ملحمية.
هناك الكثير من الأحداث الكبرى في التاريخ، لا نعرف عنها شيئاً، أو نعرف عنها أقلّ القليل من التفاصيل، وذلك لعدم تدوينها، أو لتغيير في حقائقها.. وكما يؤكد علماء الأحافير، هناك تحولات عظمى، أو ثورات توازي ما فعله سبارتاكوس مع سلطة روما السياسية والاجتماعية، حدثت في المجتمعات البشرية، لكن لم يصلنا شيء عنها أو منها، غير أن حرب طروادة مثلاً استقرت في الذاكرة البشرية، كما رصدها الشاعر العبقري هوميروس، بينما خرجت التفاصيل الأخرى لهذه الحرب من التاريخ، عدا ما قررت ملحمتا الإلياذة و الأوذيسية الشعريتان طرحه. وعلى ما يبدو أن الجدارية بفضائها التراجيدي المأساوي، تجاوزت عما فعله هورميوس، من خلال رصدها الإبداعي لأحداث كبرى، وإعادة صوغها ضمن معمار رمزي مستمد من عوالم القصيدة المليئة بالاستعارات المجازية والصور المبهرة والتفاصيل الثرية التي تتأسس عليها الملاحم الأسطورية .
ولا بد من التنويه إلى أن شأن المسرح تعاظم في المجتمعات البشرية مع ظهور المسرح الإغريقي القديم، وارتكازه على شاعرية النصوص التي تناولت مأساة الإنسان وأظهرت روح التخطي التي تتمتع بها شخوص هذه الأحداث التراجيدية. وما تزال عظمة المسرح التراجيدي هذه تحضر في الراهن، رغم تراجع حضور المسرح بفعل شيوع النمط الاستهلاكي وثقافته المبهرة ومنظومة الميديا العولمية المستندة إلى نمطية الصورة المؤدلجة ، واتساع رقعة الرواية على حساب حيز الشعر الذي بدأ بالتراجع في الفضاء الثقافي.
ف الجدارية ، التي قدمها المسرح الوطني الفلسطيني في القدس، وعُرضت قبل ذلك في إسبانيا وسويسرا والسويد والدنمارك، وعلى مسرح بيتر بروك في باريس أيضاً، تكشف أهمية حضور التجربة الشعرية العربية الحديثة والتي تتجسد هنا بنتاج درويش، وتحيلنا في الوقت نفسه إلى أهمية استقلالية الرؤية الإخراجية في مظهرة مقترحاتها البصرية وصياغتها السمعية، دون عبثٍ في بنية النص الأدبي، بوصفه الهيكل الأساس للمسرحية، وأهمية حضور سطوة الممثل كعلامة مركزية في إنتاج الدلالة.
تطرح المسرحية مأساة الشعب الفلسطيني في التاريخ، وصراع ذات الشاعر كشخصية أرضية إنسانية (جسّدَها على خشبة المسرح الفنان مكرم خوري) مع الموت كشخصية أسطورية علوية تسعى لاجتثاث هذه الحياة. ويظهر فضاء المسرحية من حيث الشكل تراجيدياً، مصوراً الأحداث الملحمية ورسائلها المأساوية، ومُظهر.اً جماليات المسرح الإغريقي القديم، والذي من أبرز صانعيه العظامُ الثلاثة: اسخيليوس، ويوربيدس، وسوفكليس.
ومن جهة، انطرحت الشخوص الرئيسة الثلاثة؛ الشاعر محمود درويش كجسد أثناء موته السريري ودخوله مرحلة الغيبوبة في المستشفى، وذاتُ الشاعر الشعرية الحية في هذه المرحلة وجسدها خليفة ناطور، وشخصيةُ الموت؛ ومن جهة ثانية كان أداء الشخوص الأخرى بمثابة الجوقة التي تعزز وتؤكد محمولات الشخوص الرئيسية. وقد ظهرت الرسائلُ مأساويةً بامتياز مُبرزةً عظمة قيم روح التخطي وجلالها في الصراع التراجيدي بين الذات الشعرية (شخصية أرضية إنسانية) وبين الموت (شخصية علوية).
هكذا كان يندفع الحدث، بالمستوى الواقعي، إلى الأمام، بفعل الصراع بين شخصية محمود درويش (الإنسان)، وبين جسده، ليفوز بالحياة وهو على سرير المرض، إذ سعى الأطباء والممرضون لاستعادة مريضهم من براثن الموت. أما في المستوى الرمزي، فيتم رصد الصراع القيمي الشديد بين شخصية الذات الشعرية حاملة صيرورة الحياة، وبين شخصية الموت حاملة شؤم النهايات والخراب. وقد كشف تصميم الشخوص عن هواجسها بطريقة حيّة جذّابة، وذلك من خلال التداعيات الحوارية الشعرية، وحضور مستويات عالية من التوتر أنتجتها إشارات الأنساق اللسانية المنطوقة.
وقد عمّقت جمالياتُ المفردات السينوغرافية المعنى والرسائل؛ ففي المستوى الواقعي حضرت الألوان بصرياً متخذةً منحى أيقونياً طبيعياً: لون السرير، وملاءات أسرّة المستشفى، وأزياء الأطباء والممرضين، وكذلك مشاهد المرتحلين أو النازحين التي أشارت إليها حقائب السفر، بينما غلب لونُ البياض الحليبي على الفضاء الرمزي، الذي شكّل بدوره مكان الصراع بين الذات الشعرية والموت الذي تجسد بشخوص ترتدي أقنعة بيضاء، وكأنها كائنات غير إنسانية، وهي تمثل الحالة التي كان درويش يصارع فيها الموت أثناء غيبوبته. كما ظهرت في هذا المستوى الرمزي الإلهةُ عناة، التي تقمصت الفنانة ريم تلحمي دورها ببراعة، إذ كان ثوبها بذيله الطويل يملأ طرفَي المسرح بأشتال القمح الأصفر الريّان، ليحصده المزارعون في أرض كنعان.
ما يميز هذه التجربة أيضاً، قدرة الرؤية الإخراجية على التماهي مع تجسيد الحالات الزمنية بتداعياتها الدلالية، إذ لم تركن المسرحية إلى زمن إنشاء النص الأدبي متمثلاً في تأليف القصيدة، أو إلى زمن تلقي العرض، واللذين يشكّلان الزمن الخارجي للذات، وإنما اعتمدت على تعاقب الأزمنة الداخلية للفضاء الدلالي، خصوصاً زمن ما بعد خروج الروح وإطلالتها إلى الجهة الأخرى من الحياة المبهمة الصامتة بالنسبة لنا، فالزمان يصيب من الجسد ما يصيب، لكنه يقف أمام الروح ذاهلاً عاجزاً عن الإضرار بها، على حد تعبير عبد السلام المساوي.
وقد حدث الصراع في السياق البصري والسمعي للعرض بين الحياة متمثلةً بشخصية الذات من خلال روح الشاعر، من جهة، وبين الموت الذي جسدته شخوص مقنّعة، من جهة أخرى، مما قاد إلى خلخلة البنية التعاقبية للزمن، وتأسيس بنية زمنية واحدة جديدة تنصهر فيها كل الأزمنة ابتداء من الماضي منذ الوجود الأول للكنعانيين، مروراً بمختلف حقب التاريخ، وانتهاء بالعصر الراهن، إذ يتواصل الصراع في تخوم لون البياض التي شكّلت خلفيات مشاهد ولوحات الصراع الضاري المستمر، وأسست لمعادل فلسفي وفني. وبعد تفكيك هذه الأبنية الزمنية المتعارف عليها (الماضي والحاضر والمستقبل) والتي تشكل بمجملها حقيقة الوجود الإنساني في دهاليز وممرات الذاكرة التاريخية، يجد المتلقي أنه ينتشي بالوصول إلى زمن آخر مغاير؛ إنها الأبدية، حيث تواصل الروح مسارها نحو المطلق، مختزلةً شعباً ووطناً في جغرافيا شكلتها عوالم البنى العميقة لشعر درويش، حيث لا وجود للثنائيات والصراع، نحو حياة أخرى، ينشئها درويش من أبنية قصيدته التي تضج بصدى الأصوات والصور، وبعيداً عن الأزمنة التي تحضر فيها تداعيات التاريخ المدجج بالكره والأعداء، والأقنعة والأصدقاء.
تحيلنا الرسالة المحمّلة بالإشارات الدلالية إلى رحم زمني ليس خارج الواقع وحسب، وإنما أيضاً خارج الخيال المثقَل برؤى فكرية ومعرفية بشرية، ليحقق ولادة جديدة بعد التحرر المؤقت لروح الشاعر من جسده خصوصاً، ومن التاريخ عموماً، وهذا هو الزمن الذي استطاعت الرؤية الإخراجية ابتكاره من وحي النداءات العميقة الخفية للقصيدة، والتي استطاعت المقترحات الإخراجية توظيفها في السياق.
@ ناقد مسرحي أردني
*****
لماذا تركتَ الكلام وحيداً
نهلة الجمزاوي - لماذا تركت الكلام وحيدا، يا سيد الكلام حين يحتدم المعنى، لماذا تركت اللغة والأحلام والآمال وبقايا الوجع اليومي ومثلت في حضرة البياض الأبدي.
يا فارس الشعر الذي ما هادن الصمت يوما، ولا باع الحروف في سوق نخاسة، ولا أعار صوته لحنجرة آخر ذات ضجيج...
يا من علمتنا كيف نحب حياة بحجم الجرح، وكيف نحفظ أسماءنا جيدا حين تتغير الخرائط، ويشوه التاريخ وجه الجغرافيا، يا من علمتنا كيف ينتصر الجرح على حافة السكين، وكيف نسخر بالغناء من صوت القنابل حين تهددنا بالفناء.
كيف ستعدّين القهوة يا أم درويش، وقد تصالح درويش مع البياض وأسلم جسده لحضرة الغياب الذي قاومه في صولات وجولات إلى أن رفع له قبعة الفارس أخيرا. كيف، وقد صار للقهوة لون الأرض الموشح بالبياض، ورائحة التراب حين يمتزج بمطر البكاء الصباحي. كيف وللقهوة طعم الحزن ومذاق القهر حين يتشبث الموت غصة في الحلق...
كيف ستعدّين الخبز من سنابل القمح المشرعة للريح والمطر الأسود ودخان المعارك الخاسرة في لحظة نزق ومجون.
كيف وقد غاب حارس الكلام حين تصاب اللغة بعبث العابرين، ولهو المقامرين بأعقاب القصائد البالية على موائد الخراب.
كيف ووحدك القادر على طرد نفايات الشعر من جيوب الذاكرات المثقلة بأطنان الرغاء والعواء والمواء وضجيج الطبول وصليل السيوف الخشبية في ساحات العراك الدائم بين المرء وذاته.
وحدك القادر على الصراخ في أذن الجرس كلما نامت أعين المنشدين والخطباء، وكلما غرق المشهد في فوضى الفانتازيا ولجة السوريالية، بل كلما أصبحنا لا نتقن السمع والبصر والشم ولا حتى الفهم.
لماذا تركت الكلام وحيدا، وأنت من علمتنا كيف يكون للحرف سلاطة السيف وبراعة الرمح حين يصيب بدقة رأس المعنى الطالع من صدر الحدث.
من أين سيأتي زهر اللوز برائحته وقد عبأه الحزن وأذبله البكاء. من سيشيّع الأمل في أوراق الزيتون كلما اجتاحتها جرافات الموت، وكلما أريق الزيت على عتبات البيوت المثقبة بالرصاص.
يا سفير الحرية والحب والثورة والغضب، من سيحمل الحقيبة المعبأة بنشيد البقاء ليبقى، لا ليسافر. وحدهم من زرعت في قلوبهم غراس اللوز والزيتون وبساتين الزنبق والياسمين على دروب الأمل المشرعة للريح، وحدهم الأطفال، القادمون على مرمى قصيدة لم نحفظها بعد.
وحدهم وأنت. فلماذا تركت الكلام وحيدا وعلى الأرض ما يستحق القول بعد.
@ كاتبة أردنية
Jimzawi1@yahoo.com
****
درويش.. الفنّ المتطوِّر والانتشار الجماهيريّ
سعود قبيلات - محمود درويش أحد الأسماء الكبيرة التي صاغت وجدان جيل عربيّ كامل؛ وإذ هو يرحل الآن فجأة، فإنّما ينقل، برحيله، الأثر العميق، الذي رسمه في نفوسنا طوال العقود الماضية، إلى مستوىً جديد أكثر عمقاً، وليستقرّ في النهاية في الأغوار العميقة مِنْ نفوسنا، ويتغلغل في لاوعينا، متّخذاً سمة الأسطورة والحلم والخيال الرقيق المنفلت مِنْ كلّ قيد.
لقد تميّز محمود درويش عن سواه مِنْ أدباء زمانه في العالم العربيّ بأنّه تمكّن بموهبته الكبيرة وثقافته الواسعة والعميقة، وتجربته الحياتيّة الغنيّة والمتنوّعة، والتحامه القويّ والمستمرّ بقضيّة شعبه العادلة، وحسّه الإنسانيّ الرفيع، وعقله الجدليّ الأصيل.. تمكّن بكلّ ذلك مِنْ أنْ ينهي بعض الثنائيّات الإبداعيّة والثقافيّة القائمة على تناقضات مفتعلة وزائفة، والتي شاع الحديث عنها وفيها طوال العقود الماضية، ومِنْ بينها وضع الالتزام بقضيّة عادلة وكبيرة في تضاد مع الالتزام بإنتاج فنٍّ راقٍ ومتطوّر. حيث التزم محمود درويش بقضيّة شعبه إلى أبعد حدّ، بل والتحم بها بحيث يصعب الفصل الآن ما بين حياته الشخصيّة وبينها، وكرّس شعره لخدمتها، ولكنّه، في الوقت نفسه، التزم بفنّه تماماً وأخلص له وعمل على تطوير أدواته وأساليب تعبيره ولغته باستمرار. وبالمحصّلة تحوّلتْ هذه العمليّة الفنيّة الخاصّة إلى جزء عضوي مِنْ مسيرة كفاح محمود درويش في سبيل قضيّة شعبه.
ولذلك، أيضاً، فقد كان محمود درويش هو الوحيد الذي تمكّن مِنْ حلّ ثنائيّة أخرى مشهورة تقوم على تناقض زائف ومفتعل أيضاً ما بين الفنّ المتطوّر وبين الانتشار الجماهيري الواسع. فكانت كلّ لقاءاته الشعريّة بالناس حاشدة. وكان دائماً يقرأ لتلك الحشود بعضاً مِنْ أصعب قصائده، ليس مِنْ باب التعالي عليها أو الاستخفاف بها أو المناكفة لها، ولكن لأنّه لم يكن يعتقد أنَّ من اللائق أنْ يتعامل معها كما يتعامل الكبار مع طفل صغير لا يزال يلثغ بكلماته الأولى. لقد كان يفهم المقولة الشهيرة حول اللغة التي تفهمها الجماهير بصورة أخرى مختلفة عن الفهم الشائع لها. أعني بصورة أعمق وأبعد مِنْ ذلك الفهم السطحيّ الساذج الذي كان يلفّ ويدور ليقدّم نفسه بصورة لائقة ولكنّه في النهاية لا يجد سوى السطحيّة والسذاجة والمباشرة والوضوح كشروط يرى أنّها ضروريّة لمخاطبة الجماهير والتواصل معها. وهذا مع أنّ الجماهير كثيراً ما تلجأ في تخاطبها وتواصلها بعضها مع بعض إلى استخدام لغة الرموز والإيحاءات والاستعارات الغامضة. فالناس، كما هو بديهيّ، لا يستطيعون أنْ يتحدّثوا دائماً مع بعضهم بعضاً، عن كلّ شيء، بلغة واضحة وصريحة ومباشرة. وأحياناً، حتّى عندما يبدو أنّهم يتحدثون بلغة واضحة ومباشرة فإنهم كثيراً ما يقصدون غير ما يصرّحون به، ومع ذلك فهم لا يعدمون الوسيلة لفهم بعضهم البعض والردّ على بعضهم بعضاً بالطريقة نفسها. وعدا ذلك فالأدب الشعبيّ والأساطير والقصص والحكايات الخياليّة التي كانت ترويها الجدّات وتتناقلها الأجيال تنطوي جميعها على لغة مغايرة تماماً للغة العاديّة السطحيّة وتحمل أبعاداً ودلالات أكثر عمقاً وتعقيداً.
لذلك، فقد كان المهمّ بالنسبة لدرويش هو أيّ عقلٍ يخاطب.. فهناك العقل اليوميّ الآنيّ المثقل بالمواضعات والدلالات والأعراف الزائفة والذي يتخيّل أصحابه أنّه هو العقل الوحيد والنهائيّ، وهناك العقل الحقيقيّ المستند إلى مجمل الخبرات الشخصيّة والخبرات الإنسانيّة الجمعيّة وصاحب القوّة والتأثير غير المرئيين. ودرويش كان يخاطب هذا العقل الأخير بالذات، ولذلك ف اللغة التي تفهمها الجماهير كانت بالنسبة له هي اللغة التي تخاطب الأغوار العميقة من نفوس الناس ويستقرّ أثرها طويلاً في وجدانهم. ومن الطبيعيّ أنَّ الفهم الحقيقيّ للغة متطوّرة كلغة درويش لا يمكن أنْ يكون مماثلاً للفهم المتأتّي مِنْ لغة تقوم على العلاقات والرموز والأساليب اللغويّة العاديّة واليوميّة. وفي رأيي أنَّ مَنْ يظنّ أنَّ الناس البسطاء لا يملكون أيّة أدوات خاصّة بهم لاستيعاب اللغة العميقة إذا كانت نابعة من القلب، يكون مخطئاً. ولكن الناس، بالمقابل، لا يستطيعون أنْ يعبّروا عن استيعابهم لهذه اللغة بأدوات وأساليب ورموز اللغة العاديّة.
وهذا هو، برأيي، سرّ العلاقة الوطيدة والعميقة بين درويش وجمهوره الواسع. إنّهم يستوعبون رسالته إليهم من القلب وإلى القلب، مباشرة.
ودرويش كان يحترم قصيدته بالمقدار نفسه الذي كان يحترم فيه قضيّته؛ حيث أنّهما التحمتا لديه تماماً إلى حدٍّ يصعب معه الفصل بينهما منهما أو التعامل مع كلٍّ منهما بمعزلٍ عن الأخرى. لذلك فقد كان يغضب في السنوات الأخيرة إذا ما وصفه بعضهم ب شاعر المقاومة . ليس لأنّه كفّ عن أنْ يكون شاعر مقاومة، ولكن لأنَّ الظلال السياسيّة في هذا الوصف الشائع تشي بأنَّ القصيدة مجرّد مطيّة في ميدان الكفاح السياسيّ، وأنّها ليست هي نفسها قضيّة أيضاً بالنسبة للشاعر الذي يحترم شعره.
لقد غادرنا درويش، الآن، إلى الأبد، مع الأسف، ولكنّ تراثه الأدبيّ العظيم سيبقى خالداً وسيكون ملكاً لنا جميعاً في البلاد العربيّة وللأجيال المتعاقبة، بل ولكلّ محبّي الجمال والعدل والسلام والتقدّم في كلّ بقاع العالم وفي كلّ زمان.
@ كاتب أردني
qubailat@yahoo.com
*****
موهبة بحجم القضية
حميد سعيد - رحل محمود درويش، وبرحيله يحق لنا القول، إن مبدعاً كبيراً قد رحل، كان يتوفّر على حظ عبقري، ذلك إن ظرفاً تاريخياً، لا يد له فيه، جعله مرتبطاً بقضية كبيرة، وحين يرتبط مبدع كبير من خلال إبداعه، بقضية كبيرة، يتحول إلى رمز فاعل، مؤثر ومستقطب، وهذا ما كان عليه درويش، منذ بداياته الأولى.
إن مصطلحات وأوصافاً، مثل شعر المقاومة و شعراء المقاومة ، حين ينصرف الخطاب بشأنها إلى محمود درويش، فقد كان الأكثر حضوراً بين الذين شملهم وصف شعراء المقاومة والأكثر جدارة بالفعل الذي يفصح عن الوصف المذكور، وإن المتغيرات في الميدان السياسي، في التعامل مع فعل المقاومة، أو ثقافتها، وما اقترن به من تراجع لا يعد في أحسن حالاته، من قبيل العمل السياسي التعبوي، هي متغيرات، لا يجوز أن تفرض حالها، على إبداع شعب، لن يكون إلا بوعي مقاوم.
وهنا يظهر الفرق الجوهري، بين الإبداع الفاعل، الذي لا يتحقق إلاّ بالموهبة والوعي معاً، وبين الكتابة الموسمية التي تقول ما لا يضر ولا ينفع، لا يغضب ولا يزعج، لا يثير أسئلةً ولا يتورط في إجابات مختلفة، أو كما يسميها الطاهر بن جلون: الكتابة اللطيفة المهذبة !.
الكتابة التي تحاول أن لا تقول شيئاً، عبر التواطؤ حيناً، أو لأن ليس عند قائلها ما يقوله، حيناً آخر.
لا أريد أن أتحدث عن محمود درويش، من خلال معرفتي به التي تمتد إلى زمن بعيد، إلى المرحلة الأولى من مغادرته فلسطين المحتلة، ففي أولى رحلاته إلى المغرب العربي، اختار في عودته، المرور بإسبانيا في العام 1973، وكنت أيامذاك مقيماً في مدريد، فاستقبلته عند سلّم الطائرة، وكنا معاً، في معظم الوقت، وكانت رحلتنا إلى برشلونة، التي اتسمت بالكثير من المفارقات، حيث ستكون من العوامل التي رسخت علاقتنا في ما بعد. لكنني لم ألتق به خلال إقامتي الحالية في عمَّان، وكنا نتبادل التحايا والود والاحترام، عن طريق أصدقاء مشتركين، ولهذا الحديث زمن آخر، إذ طالما تحول عند الكثيرين إلى حديث عن النفس، أكثر مما هو عن الآخر، الذي يجري الحديث باسمه وتحت عنوانه!.
* شاعر عراقي يقيم في عمّان
*****
تُرك الحصان وحيداً
منيرة صالح - قبل أقل من يوم واحد سبقَ موت درويش، كنت على قمة جبل مكاور الذي يعلو علوا شديداً باتجاه السماء، وفي المكان نفسه الذي قُطع فيه رأس النبي يحيى، وحيث كان الموت سيد الرؤيا، في تلك اللحظة تحدثت وزميلي الفنان محمد بكر -الذي يشاركني فعاليات المخيم الإبداعي الذي تقيمه وزارة الثقافة في المكان- تحدثنا عن درويش الشاعر..
قلت لمحمد: دائماً، ولما انتهي من قراءة أحد كتب درويش أفكر كما يلي:
لقد كتب محمود درويش جميع ما أحلم به، وجميع الذي أفكر به، وما أحسه بين ضلوعي. إذن سوف أتوقف عن الكتابة لأن ما سأكتبه لاحقاً هو حالة مسبوقة بإبداع غير مسبوق بطله درويش.. وأمَّن محمد على كلامي.. محمد الذي ترقرق من عينيه حزن شفيف على رحيل الشاعر عند تلقينا نبأ رحيله.
وبُعيد توقيع ديوانه أثر الفراشة ، وهو آخر إصدارته، رويت أحاديث شفهية عنه: إن وعاء اللغة العربية لم يعد يتسع لترجمة أفكاره وأحاسيسه وصوره الشعرية. وحلل النقاد هذه التصريحات أنها غرور مبدع عندما يصل إلى قمة القمم.
أما أنا، فعندما طرقت أسماعي الرواية راودتني فكرة أخافتني:
هل كان تصريح درويش استشعاراً بالعدم المقبل، وأنه قد جفت صحفه، وأقلامه قد رفعت؟.
كان بين موته وتصريحاته بضعة أشهر. ولربما قصيدته عن النكبة في عامها الستين، هي آخر أعماله الشعرية، قبل أن ننكب بموته.
إذن، مات الشاعر وغدا تحت التراب وظلت مؤلفاته الكثيرة يتيمة في خزائنها.
مات الشاعر، ولسوف تبكيه اللغة، لأنها ستفتقد لمن يحتويها بلفظه وبقلبه كما درويش.
إنها اللغة التي تركت الحصان وحيداً.. وحيداً جداً.
@ كاتبة أردنية
luomntesa@yahoo.com
****
جرحنا المكابر
د. عيسى برهومة - نودِّع محمود درويش بدمعتين ووردة، لا لنرثيَه ولكن لنرسم أنشودة الخلود التي صيَّرته أيقونة في حياتنا الظمأى للكبرياء.
لا ندري من أين نبدأ نقل الخطو، أم من أين تبتدئ الحكاية؟ يا وجعنا المكابر، نشعر باليتم إذ ذهب الذين نحبهم، ذهبوا بعد أن مشوا لأجمل ضفة محمولين على الزرد، من كروم اللوز جاءوا، فانشق من جبهتهم سيف الضياء، فصارت كل أرض الله روما، فتوزعت دماؤهم في كل الجهات. آه يا درويش! يا خبزنا الموزَّع في المدائن، كنا نغرّد معك منذ هجعة الميلاد، مذ ازدردنا أبجديتنا الأولى، فسكبت في أرواحنا التمرُّد والعلاء حين بثثتنا عدواك:.
غضب يد
غضب فمي
ودماء أوردتي عصير
من غضب
يا قارئي
لا ترجُ مني الهمس
لا ترجُ الطرب
هذا عذابي
ضربة في الرمل طائشة
وأخرى في السحب..
علّمتنا
أن الليل زائل
فنيرون مات، ولم تمت روما
بعينيها
تقاتل
وحبوب سنبلة تموت
ستملأ الوادي سنابل.
فهل كان يعلم درويش أنَّ سنواته ستغدو قراطيس يخطُّ عليها يراعُ القدَر اكتنازَ الأسى، وأنَّ كل البلاد منفى، وحين يعود إلى أرضه يعود في كفن؟.
قَدَرُك يا درويش أن تظلَّ تلاحق فتنةَ الأرض تبحث عن بلد لم تجد ختمه في جواز السفر، ومع هذا عشقت الحياة ما دامت على الأرض قصائد، وما دامت على هذه الأرض سيدة الأرض، أُمُّ البدايات، أُمُّ النهايات، كانت تسمى فلسطين، صارت تسمى فلسطين، فكان على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ما تزال تحتل يا سنديانةَ الأرض بحيرةَ الذاكرة، وقد غادرتنا جسداً لا روحاً، فخيولك في دمنا مسربلةٌ برياح الشوق إلى كل حرف بذرته في أرضنا الثكلى.
فيا درويش لن نكِّرر مع الخطباء ما قالوا عن البلد الحزين، وعن صمود التين والزيتون في وجه الزمان وجيشه، ولن نضع على قبرك -كما أوصيتنا- البنفسج، فهو زهر المحبطين، ويذكِّر بموت الحب قبل أوانه، سنودِّعك بسبع سنابل خضر وبعض شقائق النعمان، فما مات فينا من كان مفتاح هذا البحر، ونقطة التكوين!.
* كاتب أردني
***
هي صورتي.. علّقتها
وحدي أرممُ هيكلي
وأذوب فيه
أقرأ الأشجانَ فيه
أتقيه وأشتهيه
أمتطي صهواتِ شعري
أرتقي فوق الجراح
أعود ثانية
أرممُ هيكلي كي لا أعيه
وأذوب وحدي في السكوت
وحدي أعودُ ضحية
في البوح تنثرني الموانئ
ليس إلاّك أغنية تلوك الحزن تلو الحزن
ترسمني خيالاً مفرط الإحساس
لكن لم تريه
لا فرق بين الموت كي تحيا
وأن تحيا وتحيا كي تموت
@@@
أسرجْ لنا يا ليلُ شمعك
كلُّ ما حولي ظلام
أسرج لنا خيلا وليلا
كي نسير إلى الأمام
إني على ثقة
بأنَّ الدرب يومئ للرحيل
وحدي أفتش في الركام
أسرج لنا يا ليلُ دربَك والسلام
@@@
هي صورتي علقتها؟!
أرأيت كيف بدوتُ دونك
حينما فارقتني؟
أرأيت كيف تركتني وحدي أفتش
ليس لي إلا الرحيل أو الرحيل
وحدي أفتش والدروبُ بعيدة
وحدي أفتشُ عن دليل
هي نبرةُ الإصرارِ في صوتي -
صمودي كي أعود
ولا أعود
هي ذي بلادي خيمةٌ تشتاق لي
ترسم الأشواقَ لي
فلما أذنت لي الرحيل
وحدي أفتش عنك وحدي
حينما أيقنت وحدي
أن لي درباً طويل
عمّانُ -قبل اليوم- كانت حلمنا
وملاذنا وطريقنا للمستحيل
هي صورتي علقتها
وتركتني وحدي أفتش عنك وحدي
حينما أيقنت وحدي
أن لي درباً طويل
@@@
لا تتركي لغتي بلا لغة
فكلُّ كلامِنا في الحبِّ كان سخافة
هم يمطرون طريقنا بالحزن
فارسمْ شمعةً أو بندقية
نحتاجُ أن نشدو بصوت واضح
كي يسمعونا
نحتاجُ أن ترسو فلا نكون الضحية
كم مرة قد يقتلوننا
لا تخفْ
كم مرةٍ ستموت فيها
توأد الأحلام فيها
تتقيك وتتقيها
هي مرة فاترك لنا لغة
تلملم حزننا
ونذوب فيها
نحتاج أن نشدو لكي لا ننحني
وحدي أعودُ محملاً بالشعرِ وحدي
حينما أيقنتُ وحدي
أن لي لغةً أعيها
@@@
لا تشعلي حزني
ففي الأحشاء آهات دفينة
أنت على شفتي أغنية
أحاول أن أذوّبها بماء العشق
أحرسها لكي تبقى
أحاول أن أبيحَ الفرحَ في لغتي
وأرسم عالماً آخر
تعبت تعبت
ضميني إليك وعلميني
كيف أشدو دون أن أبكي
كيف أسترق ابتساماتي وأنشرها
أريدك عالماً آخر
يلملمني وينثرني
يعانقني ويمسحُ عن جبيني حزنيَ الغابر
@@@
أرأيت كيف نعود ثانية
يذوبنا المساء
في الحربِ ينمو الحب
أحتاج انتصاراً لو على نفسي
لكي لا أنحني
أحتاج أن أبدو أمامك صامدا بطلا
وتهزمني عيونك واللقاء
للنصر أغنية وللأحلام أغنية
ولي أنا متعب
ما زال يثقلني العياء
أرأيت كيف تلفني هذي الهزائم
دون أن أدري
أرأيت كيف نعود ثانية
ونعشق أقوياء
@ شاعر أردني
****
عندما يكتب قصيدة
عندما يكتب قصيدة
يحرر أرضاً ولغة
يطعم الموت خبزاً وبيضاً
ليصعد على ظهر الرصاص
ويرفع راية الحرف
عندما يكتب قصيدة
يصبح السجن عرساً
والشارع مظاهرة
ويلعب الأطفال بين القنابل
ويتفكك الحصار
ويتسلل الهواء
إلى اللوز والتين
عندما يكتب قصيدة
يصعد آدم بكامل ترابه
لا يشبهنا
تمتد يده إلى شجرة الذكريات
تسقط تفاحة الخطيئة
يحس بضيق غريب
ينحني ليفتش عن غصن قلبه الضائع
عندما يكتب قصيدة
تتحرر الأصابع من حنائها
تخرج الطيور أسراباً من صوتها المخنوق
تفيض الشوارع بأقلام الرصاص والطباشير
كنا نشرب حروفك مع الماء
لكننا لم نعرف
سر القمح
أو سر النار
وبعد عشرين ديواناً
دركنا في موتنا
كم كنت غريباً
في لغتك
عندما يكتب قصيدة
يحس الغرباء بالزكام
والورد بالغناء
يهرع الغرباء إلى مساكنهم المتحركة
فيما القرى المنسية
توقظها رسل الغمام
بين قصيدة وقصيدة
تنتحر مدن الحمام
أين جمهوري؟
يسأل الشاعر خراب العواصم
وأين كنت؟
في مقهى.. صحيفة.. مطبعة
أم نائماً في بيت القصيدة
كنت أراوغ الموت
بفناجين قهوة
ليمر الأطفال إلى مدارسهم
ونسيج أرواحنا بالياسمين
وأمنح الورد أجنحة العصافير
لا أحب المراثي
فليتسلق الندى قامتي
ويبشر بالمطر
عندما يكتب قصيدة
تحتفل الجبال بالأطفال بالدحنون
تتسلق موجات البحر
عتبات البيوت
وينام السنونو
على النوافذ
في مرضه
تذبل أوراق القصيدة
فالضوء شحيح
تمد الأمهات أياديهن إلى السماء
بقلب جريح
فيبتسم الفتى ويرسل قبلاته
مع الريح
في مرضه
بكت القصيدة وسالت دموعها السود
لملمت أحرفها الحزينة
في صندوق تبغ
يحبه محمود
والشهداء؟
إنهم يأخذون من حديقتة وردا
ويصعدون
وإن مات!!
سيبذر قصيدته قمحاً،
ويعود لبيته شهيدا
@ شاعر أردني
*****
له.. بعد الغروب
(1)
أيها الموت
لم تقرأ الشعر أنت
لذلك لن تستطيع اختطاف القوافي
ولن تفرض الصمت
(2)
أ درويش
يبكي رحيلَك نايٌ وحرفْ
ياسمينٌ وصيفْ
يبكيك نهرٌ من الأغنيات
على هذه الأرض
تبقى
ستبقى
وترقى..
لأنّك في كل قلب يحبُّ الحياة
رفيفُ حياة
(3)
أَ درويش
نم في سلام
لعلّ يجيْ إليك
كما اعتاد سربُ الكلام
يحطُّ على راحتيك
ويشرب من نبعك العذب
ثمّ يطير بأرواحنا والقصيدة
بين الغمام
(4)
أيها الشاعرُ
كُلّما تنهض الشمس
من نومها في الصباح
ستلقي عليك التحيةَ
وتهمس للعاشقين.. ولي
لا بدّ من وطنٍ كي نغني
ولا بدّ من وردةٍ كي تجفّ الجراح
(5)
أوقدت نار الشعر يا درويش
فاشتعلت بنا الأرواح حبّاً وندى
خذ يا فلسطينيّ كلّ دموعنا
وشتاتنا.. ورجوعنا
واترك لنا ذكراكَ
مجداً شاهقاً بسمائنا
ومدى يفيض مدى.
@ شاعر أردني
الرأي – الجمعة 15 اغسطس 2008