جريدة الوقت
الوقت - خالد الرويعي:
''لماذا تركت الحصان وحيداً؟''.. سيبدو هذا العنوان الذي سطره الشاعر محمود درويش أكثر قرباً لحالة الهلع التي أصيبت بها الأوساط الثقافية حال تأكيد خبر وفاته يوم أمس بالولايات المتحدة.. إثر عملية قلب مفتوح سيبدو هذا العنوان أقرب للكثيرين ممن عاصروا درويش وتعلموا منه.
ففي لحظات مختلفة وعسيرة على الجميع سيبدو واضحاً أن المشهد العربي والعالمي خسر أحد أعمدة الشعر العربي، أحد الذين هندسوا بالشعر روائع النضال وتأسست على اثرهم مدرسة اسمها (شعراء المقاومة). وبالأمس ودع العالم درويش (67 مارس 1941 - 9 أغسطس ,2008 أحد أهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. وأحد أهم الذين ارتبط اسمهم بتطوير الشعر العربي الحديث. لكن درويش لم يمت.. بهذه العبارات قد يتأسى البعض وهم يفقدونه وينعونه، فالشاعر الذي ترجمت أشعاره إلى 22 لغة أصبحت قصائده بمثابة شعارات شعبية وأغانٍ من الذاكرة الفلسطينية. البحرين نعت درويش، فأسرة الأدباء والكتاب ذكرت بأن ''الحرب والحصار التي قتلت بعض الشعراء جسدا وقتلت البعض الآخر شعرا فجعلت منهم محاربين بالشعر، حتى هذه الحرب، واجهها درويش بحب الحياة وحياة الحب''.
****
تضاربت الأنباء والموت واحد.. والدقائق بحساب الشعراء مختلفة
أخيراً.. محمود درويش يستقر في وطن بلا حقائب
''لماذا تركت الحصان وحيداً؟''.. سيبدو هذا العنوان الذي سطره الشاعر محمود درويش أكثر قرباً لحالة الهلع التي أصيبت بها الأوساط الثقافية حال تأكيد خبر وفاته يوم أمس بالولايات المتحدة.. سيبدو هذا العنوان أقرب للكثيرين ممن عاصروا درويش وتعلموا منه.
ففي لحظات مختلفة وعسيرة على الجميع سيبدو واضحاً أن المشهد العربي والعالمي خسر أحد أعمدة الشعر العربي، أحد الذين هندسوا بالشعر روائع النضال وتأسست على اثرهم مدرسة اسمها «شعراء المقاومة».
وبالأمس ودع العالم درويش «31 مارس 1941 - 9 أغسطس 2008»، أحد هم الشعراء الفلسطينين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن. وأحد أهم الذين ارتبط اسمهم بتطوير الشعر العربي الحديث.
لكن درويش لم يمت.. بهذه العبارات قد يتأسى البعض وهم يفقدونه وينعونه، فالشاعر الذي ترجمت أشعاره إلى 22 لغة أصبحت قصائده بمثابة شعارات شعبية وأغانٍ من الذاكرة الفلسطينية. البحرين نعت درويش، فأسرة الأدباء والكتاب ذكرت بأن ''الحرب والحصار التي قتلت بعض الشعراء جسدا وقتلت البعض الآخر شعرا فجعلت منهم محاربين بالشعر، حتى هذه الحرب، واجهها درويش بحب الحياة وحياة الحب''.
عاشت الأوساط الإعلامية والأدبية يوم أمس حالة من القلق والترقب إثر إعلان خبر وفاة الشاعر محمود درويش على قناة الجزيرة الذي وافته المنية في الولايات المتحدة بعد اجرائه جراحة في القلب.
ويأتي هذا الترقب وسط تضارب الأخبار والتصريحات الإعلامية، فقناة الجزيرة انفردت بالخبر العاجل على شريط الأخبار، وأعلنته رسميا في نشرة الثامنة، ولم تمض سوى دقائق حتى انهالت الرسائل النصية والبريدية لتؤكد الخبر، لكن ذلك ليس كل شيء.
فوزيرة الثقافة الفلسطينية نفت ما أعلنته (الجزيرة) وقالت تهاني أبو دقة في اتصال مع رويترز'' انه ما زال يرقد في المستشفى وان وضعه حرج للغاية''، وهو ما أكده مصدر في وزارة الثقافة لـ''الوقت'' بفلسطين.
وأضاف المصدر ''أن شؤون الرئاسة الفلسطينية نفت رسمياً خبر الوفاة ولا تأكيدات نهائية''، لكن المصدر أكد أن درويش ''قد أصيب بانتكاسة بعد إجراء العملية، ومن المرجح أنه قد دخل في غيبوبة أو موت سريري ولكن ليست هناك تأكيدات بشأن الوفاة''.
من ناحية أخرى أفاد المصدر غادر مساء أمس الأراضي الفلسطينية كل من رفيق الحسيني رئيس ديوان الرئاسة وياسر عبدربه أمين السر إلى مدينة ولاية تكساس بالولايات المتحدة للوقوف على أية تطورات قد تحدث.
لكن بحلول الساعة التاسعة مساء وفيما الكل يترقب، لم تورد قناة الجزيرة في ملخصها قبل النشرة أية أخبار جديدة. ولم تمضى سوى دقائق حتى أكدته مرة أخرى مستضيفة الشاعر فاروق جويده ناعياً درويش لتستمر موجة القلق مرة أخرى.
قناة الـ (BBC) نقلت عن إدارة مستشفى ميموريال هيرمان بتكساس ''أن وضع درويش دقيق بعد خضوعه للعملية، لكنه لا يزال على قيد الحياة''.. طبيب متابع لحالة محمود درويش يؤكد نبأ وفاته
وما هي إلا دقائق معدودة حتي أفاد عبد العزيز الشيباني، الطبيب المتابع لحالة درويش، إنه فارق الحياة بعد نزع أجهزة الإنعاش التي كانت تدعم مؤشراته الحيوية السبت، في الساعة السادسة و33 دقيقة تقريباً بتوقيت غرينتش. وقال شيباني، الذي كان يتحدث إلى محطة ''العربية'' الفضائية إن درويش شعر باقتراب أجله، وكان يدرك أن العملية قد ترتب له مضاعفات خطرة.
لكن كل هذا التضارب لم يعد ممكناً الآن.. لقد تأكد الخبر بالفعل.
****
المبدعون يقتفون «أثر الفراشة»
وطن لا يشبهه وطن
هل استقر أخيراً محمود درويش، الشاعر الذي كلما آخى عاصمة رمته بالحقائب؟
وهل الموت مقر يستقر فيه المرء؟ هل الموت وطن؟
سنوات طويلة وهذا الشاعر الكوني يعاشر السفر، زاده ريح ورغيف، دليله قصيدة لا نهاية لها.. باحثاً عن بيت يشبه بيته المحتل، وعن وطن لا يشبهه وطن.
أخيراً ذهب محمود درويش.. وحيداً مرة أخرى، مبتسماً ووسيما كعادته، تاركاً لنا عبأ كتابة حزننا على الفقد.
لكن أياً يكن حجم الفقد، لا ينبغي أن نرثيه. بل ينبغي أن نقنع أنفسنا بانه لايزال بيننا.. يهيئ حقيبته لرحلة أخرى نحو قصيدة جديدة.
أمين صالح
حرف فلسطين
صعب الحديث أمام الموت
والأصعب أمام شاعر لا يغادر أرواحنا أبدا
طيلة تاريخنا كانت روحه المحفورة بحروفه تهدهد احلامنا بعطايا الحكمة
وتشعل رؤانا بالأمل الصعب
محمود حرف فلسطين الناهض ضد الغياب وضد النسيان
محمود درويش في رحمة الله
وفي محبة الحياة الى الأبد..
فوزية السندي
وطنٌ ينزفُ شعبًا ينزفُ
هل حقًّا مات الذي قال: ''ولنا ما ليس فيكم/ وطنٌ ينزفُ شعبًا ينزفُ وطنًا يصلحُ للنسيان أو للذاكرة''؟ كيف تركه هذا الوطنُ يرحلُ؟ الوطنُ الذي حملَ شعبا بأسره، شعبا ينزفُ أوطانا؟ هذا الوطنُ كيف يعجزُ عن حمل درويش كما حمل ملايين الأرواح والقلوب؟ وكيف سمح درويش للموت أن يهزمَه هذه المرةَ؟ وهو الذي هزمَ الموتَ قبل أعوام مرتين. أليس هو القائل في جداريته: ''هزمتُك يا موتُ/ الفنونُ الجميلةُ جميعُها هزمتك/ سوف أكونُ ما سأصيرُ في الفلك الأخيرِ/ وكلُّ شيء أبيضُ/ البحرُ المعلَّق فوق سقف غمامةٍ بيضاءَ/ واللا شيءُ أبيضُ في سماء المُطلق البيضاء/ كُنتُ/ ولم أكُن/ فأنا وحيدٌ في نواحي هذه الأبديّة البيضاء/ جئتُ قُبيَل ميعادي:/ فلم يظهرْ ملاكٌ واحدٌ ليقولَ لي:/ ''ماذا فعلتَ/ هناك/ في الدنيا؟''
لو كان محمود درويش يدركُ كمْ قلبا عربيا، من مثقفين وشعراء وقراء ومناضلين وقوميين، يتعلّق بقلبه الآن، وهو راقد بمستشفاه ميموريال هيرمان في هيوستن بولاية تكساس بالجنوب الأميركي بين يدي أطبائه، ما مات. لو كان يدري كم روحا تتوجه للسماء تصلي من أجله وتدعوه للعودة فارسا للشعر النبيل، لهزمَ الموتَ مثلما هزمه من قبل في أواخر التسعينيات في عملية قلب مفتوح مشابهة لما يمرُّ بها الآن.
لكنه يعرف! وماتَ رغم هذا! يعرفُ مكانتَه ومكانَه. يعرفُ قامتَه في مدوّنةِ الشِّعر العربيّ، ومُقامَه في قلوب الشعراء. يعرف كيف هزّت كلمتُه أركانَ الكنيست والمجتمع الصهيوني على نحو أشرسَ مما فعلتِ الرصاصاتُ والمدافع. يعرفُ أن قصائدَه شحنتِ المناضلين بالطاقة وغذّت جيوبَهم بالذخيرة. فلماذا مات؟ كيف لم يهزمِ الموتَ هذه المرةَ أيضا؟ كيف سمحَ للموت أن يخطفَه من بيننا فيما ما نزال نحتاجُ إليه احتياجَنا الشعرَ والهواءَ وجلاءَ المحتّل وعودةَ القدس؟ كيف للرجلِ أن يلملمَ أوراقَه ويرحلَ هكذا سريعا قبل أن يرى العابرين بين الكلمات العابرة يحملون أسماءهم وينصرفون كما أمرهم أن يحملوا أسماءهم وينصرفوا؟
وهذه الأرضُ قد أطلعته على أسرارِها. ''قالتْ لنا الأرضُ أسرارَها الدمويةَ/ في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمسُ بنات/ وقفن على باب مدرسة ابتدائية/ واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ/ افتتحن نشيدَ التراب/ دخلن العناق النهائيّ/ آذارُ يأتي إلى الأرض/ من باطنِ الأرض يأتي/ ومن رقصة الفتيات/ البنفسجُ مال قليلاً ليعبرَ صوتُ البنات/ العصافيرُ مدّت مناقيرَها في اتّجاه النشيد وقلبي/ أنا الأرض/ والأرض أنا/ خديجة! لا تغلقي الباب/ لا تدخلي في الغياب/ سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل/ سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل/ سنطردهم من هواء الجليل''. فكيف يموتُ دون أن يطلعنا على أسرار الأرض؟
وكيف يخونُ وعدا قطعه على نفسه ألا يموت قبل أمه كيلا يفجعَها فيه؟ كيف سيواجه ثكلَها ودموعَها الحارقةَ تسيلُ فوق وجنتيها مع دموع ملايين ممن أحبوه وحفظوه في عقولهم قلوبهم شعرا وإنسانا ومقاتلا أبيضَ اليدين؟ قال إنه يعشق عمرَه لأنه لو مات سيخجل من دمع أمه؟:
''أحنُّ إلى خبزِ أمي/ وقهوة أمي/ ولمسةِ أمي/ وتكبرُ فيَّ الطفولةُ/ يوماً على صدرِ يومٍ/ وأعشقُ عمري لأني إذا مِتُّ أخجلُ من دمعِ أمي/ خذيني أمي إذا عدتُ يوماً وشاحاً لهُدبِك/ وغطي عظامي بعشبٍ/ تعمّدَ من طُهْرِ كعبكِ/ وشُدّي وثاقي/ بخصلة شعرٍ/ بخيطٍ يلوِّحُ في ذيلِ ثوبكِ/ عساني أصيرُ إلهاً/ إلهاً أصيرْ/ إذا ما لمستُ قرارة قلبكِ/ ضعيني إذا ما رجعتُ/ وقوداً بتنّور ناركِ/ وحبلَ غسيلٍ على سطحِ داركِ/
لأني فقدتُ الوقوفَ/ بدون صلاةِ نهارك/ هَرِمتُ فردّي نجومَ الطفولة/ حتى أُشاركَ صغارَ العصافير دربَ الرجوع/ لعُشِّ انتظارِك''.
سلامٌ عليك أيها الفارسُ النبيل.
فاطمة ناعوت
مثل شهاب يخترق الظلمة.. حياتك أيها الشاعر!
الموت، نعم الموت! هذا المتربص الذي يكمن في كل شيء، في الجسد، في الكلام، في زجاج الزمن، في الروح وظلالها، وفي صمت الغيوم، وفي ألوان الفراشة!
وعلى دوائر نظرات وزفير الموت المتعدد الصور والمراوغات يتحرك الشاعر في محاورة الحياة العميقة، متحولاً إلى الضوء الروحي، إلى ينبوع الكشف للذي لا يرى عند مستوى الزمن وجريانه!
والشاعر كائن مفرط في استهلاك روحه وطاقته، في الاحتراق المستمر لأحاسيسه ورؤاه، حيث لا يتوقف عن تكثيف حياته وأحلامه وضغطها لتنفجر وتتشظى في كل هواء ووقت!
وربما هذا الإفراط الشديد في الاحتراق الذاتي، وفي عدم التوقف عن التفتيش عن الحب والحرية والأمل، و محاولة إشعال كل أيقونات الحياة هو ما يجعله طريدة مصطفاة للموت، وعرضة لانقضاضاته المتواصلة؛ فالشعراء بعمر الفراشات!
وما الشعر العميق إلا فضح لصيغ الموت وتماهياته، وانتصار عليه أيضاً، وهذا ما أنجزه الشاعر محمود درويش، في ملاحقته للموت الذي يتسلل في الروح، الموت الذي يفكك الأحلام. فهو شاعر قاوم بشعره أشد طقوس الموت؛ من قتل، وإبادة، وتشريد، ونفي، وتجويع، وتنكيل، واعتقال، وتصفية، ومصادرة، وتجريف، وطمس للهوية والثقافة!
لقد قاوم موت الشعر!
ولعل هذا الانحياز لشعر محمود درويش صوب الحياة الحرة وصوب الضوء والجمال، هو ما أغاض الموت دائما وسرّع بانقضاضه على جسده الهش، ليوقف دقات قلبه إلى الأبد!
نعم أنت أيها الموت الذي لا فرار من قسوتك، وخاصة في لحظة المباغتة، انتصرت أخيراً على جسد الشاعر، بعد أكثر من محاولة، ولكنك كنت دائماّ مهزوماً، ومفضوحاً بكشفه ورؤاه الشعرية.
لقد سقط جسد الشاعر على الأرض، لينشر الحزن في قلوبنا، وفي المياه، ولكننا نعلم، كما تعلم الطيور، وشجر الزيتون، بأن صوته الذي يمجد الحياة، سيبقى مدوياً فوق قمم الزمن يعلن انتصارات الروح، وخلود الشعر.
أحمد العجمي
قال «إن الليل زائل» .. وتركنا ننتظر الغد
تركنا محمود درويش في ظلمة الليل التي تخيم على الوطن، كل الوطن الكبير من شرقه إلى غربه. ذهب وترك لنا حلم زوال الليل الدامس الجاثم على صدورنا.
قال ''إن الليل زائل'' وذهب قبل أن يرى زواله، ولكنه حتما سيراه يوما ما كما سيراه أولادنا أو أحفادنا، لا أقول سنراه نحن حتى لا أتهم بالتفاؤل الممزوج بالسذاجة، فأحوال الوطن لا تنبئ بقرب زوال، ولكنه حتما سيزول يوما ما، عندما نفيق، عندما ننصت بجد إلى حديث شعرائنا المتفائلين بالغد المشرق الذي يرونه في الأفق البعيد.
شاعرنا الراحل، كيف يزول الليل والأخوة يتقاتلون، والعدو يتفرج ويقهقه على قوم يتقاتلون على لا شيء. علام يتقاتلون والوطن ليس في أيديهم، المؤكد إن سألتهم، هل هذا القتال هو الذي يعيد لهم الوطن؟.
اعذرني راحلنا الكبير، كنت أود أن أرثيك بتفاؤل من يرى تحقيق الحلم الذي جاهد من أجله، ولكن أحوال الوطن الكبير من المحيط إلى الخليج لا تبشر بهذا التفاؤل. اعذرني فالجرح يتسع وها أنت تتركنا وقد عاينت بعينيك وبأحاسيسك ما وصلنا إليه. اعذرني فالحيرة تضعني في موقف صعب، هل أرثيك أم أرثي حالنا؟ هل أبكيك أم أبكي وطنا حاد عن الطريق الذي كان ملكه يوما فتركه يفر من يديه بفعل أبنائه المغيبين عن الوعي، المتمسكين بالوهم. وهم السلطة ووهم الحكم. وهم نفي الآخر الذي هو جزء مني، فاذا نفيته نفيت نفسي في ذات اللحظة. العدو يراقب سذاجتنا القاتلة ويقهقه منتظرا أن نحقق نيابة عنه ما لم يستطع تحقيقه حتى الآن. أن ننتهي فتنتهي القضية.
درويش شاعرنا الراحل الكبير المناضل في سبيل الحرية الغالية، اعذرني في يوم موتك فكيف أرثيك وانت تعرف حالنا. وما صرنا إليه. عفوا فنحن من يحتاج الرثاء. اذكرنا حيث أنت وادع لنا بحسن توجيه السلاح. أما نحن فسنظل نذكر تفاؤلك بالغد إلى أن نلقاك، لا أعرف إن كان قبل تحقق الحلم أم بعده، أما المؤكد فإن الحلم سيتحقق يوما ما. فنم هانئا، فكلماتك ستظل معنا نورا في هذا الظلام، الست القائل:
إذا كان ماضيكَ تجربةً
فاجعل الغَدَ معنى ورؤيا!
لنذهبْ
لنذهبْ إلى غدنا واثقين
بِصدْق الخيال، ومُعْجزةِ العُشْبِ.
لويس جرجس
لتمت كما ينبغي.. دون تضارب أنباء
لتمت جيداً أو كما ينبغي، لتمت مثل كل الذين تركوا الحصان وحيدا، واصعد سلّم الغيب ولا تلتفت لنا، لأننا مشغولون الآن، أو فغادر في يوم آخر، أجّل موتك قليلا، وإذا أصررت فلا تمت كثيرا كعادتنا في الحياة، أذكرُ خفيفا حين التقيتُ بك، بدوت نحيفا كأطراف أصابعك، ببذلة خضراء وعينين خضراوين ونظارة سميكة، وحين وجدتك غارقا في عزلتك قلت لك: ألم يحن أن تنتصر بالشعر على الموت.
أيها الوعل البري يبدو أن المدنية تضع نصلها على قمصانك، وغزالتك تقفز من نص إلى نص، أيها النازل أبيض كماء كلامك، أبيض كفرح يتسلل من مساماتك، أبيض كحنطة وقضمة زيتون، أيها النبي لا تضع لنا فرحا نستيقظ من حزنه، سدَّ المنافذ علينا وعبئ شحنة الموت بشك يحطُّ على راحتي رتا.
لن أقول لك اذهب أنت ومرضك إلى الجحيم، بل أقول أمرضنا بمرض طفيف، أو مت طفيفا كما يقول الجميل أمين، أو يمكنك أن تتأخر قليلا لنحزم حقائبنا وندخل معك طيبين إلى جحيمك. درويش أيها الشاهق النبيل، أو المغرور الشاعر المشاع، لا تعتذر عما فعلت، لأننا جاهزون للاعتذار عنك.
علي الجلاوي
أشك أن يكون قد تأتَّى ذلك لأحد غيره
كلمنا رمزاً... في جل نصوصه انحاز محمود درويش إلى المرهق من التأويل. ليس عن سبق إصرار وترصد ولكن عن سبق محاولة للارتقاء بذائقة مصابة وموعوكة بحرس المباشرة. ليس لأنه ''لم يعتذر'' عما فعل، ولكنه كان حاضراً في تحريضه لصد أي اعتذار عما فعله أو لم يفعله الآخرون. في ''الورد الأقل'' يتيح لك درويش فضاء من المكان لن يتاح لك خارج النص، ثمة فضاءات في النصوص تقوم بدور وفعل التعويض عن مصادرة فضاءات خارج النص. هل تأتى لشاعر أن يقوم بذلك الدور وبقدرة عجيبة وملفتة كدرويش. أشك في ذلك!.
جعفر الجمري
صدَّقت أني متُّ يوم السبت!!
أعتقد أن محمود درويش كشاعر يمثل نقطة خلافية في تحولاته الشعرية عبر مراحل حياته وبقي بتنوعه هذا وتنقلاته مثار ارتباك في ذهنية القارئ العربي له. فقد عرفه شاعر الأرض، وشاعر القضية الفلسطينية، وهز الشارع العربي وضميره بأشعاره هنا وهناك، أعطى مرحلة كبيرة من نتاجه في توصيل مفاهيم القضية إلى العالم، ولم يبخس مع ذلك الصورة الشعرية الرقيقة واللحظة الشعرية حقها، واهتز معه القارئ، وتبنى ما يقوله (وهنا لا أقف اعتراضا بل تقريرا) ومن منا حتى إن لم يقرأ لم يعرف الدرويش في أغاني الفنان مارسيل خليفة وغيره من الفنانين الذين التزموا في مرحلة من مراحلهم بهذه الأشعار وبالفن الملتزم.
ومابين ريتا وعيونه بندقية، وبين عصافيره التي تموت في الجليل وغيرها من الأشعار التي غذت ذهن وقلوب قارئيه؛ جاءت مرحلة الدرويش الإنسانية الخاصة، والبوح الحميمي، وعلو الخصوصية التي لا تخفي طبعا خصوصية درويش، بقدر ما تتيح لقارئه الجديد فهما مغايرا جديدا لمحمود الشاعر والإنسان، بل رأينا تأزم محمود درويش حتى في اسمه الذي بات مبهرا للعالمين كاسم له تاريخ خاص، وحينما يخاطب الآخر أنه هو الإنسان المحمود الخطّاء، محمود العظم واللحم والحب يبدو الآخر غير مكترث... هذا ما جاء كمعنى في إحدى قصائده في ديوانه(لا تعتذر عما فعلت) وبذلك خلق لشريحة من قارئه القديم ارتباكا، ورفضا أحيانا أخرى، بينما أسس لنفسه قارئا جديدا على الصعيدين النقدي والتذوقي.
ولن أحاكم هذه التحولات، لكن فقط أعطي إشارة أنه من الشعراء الذين امتلكوا وعيا وجرأة في التغيير وفهما لمتغيرات الشعر والحياة، ولم يتنكر لقناعاته الجديدة، هذا الوعي والتجديد لم يكن سهلا على من لحقه أو سبقه من الشعراء.
ولنقرأ نبوءة الشاعر الأخيرة عبر قصيدة إجازة قصيرة :
صدَّقت أني متُّ يوم السبت
قلتُ: عليّ أن أوصي بشيء ما
فلم أعثر على شيء ...
وقلتُ عليًّ أن أدعو صديقا ما
لأخبره بأني متُّ
لكن لم أجد أحدا ...
ليلى السيد
نحن يتامى بعدك يا محمود
حزينة عمان هذا المساء، حزينة رام الله والبروة والجديدة وحيفا، وفلسطين هي الأكثر حزنا لانها ستنام لأول مرة بدون عريسها الفتي والوسيم وبدون شاعرها الأجمل.
حزينة عمان لأنها ستنام أيضا بلا رائحة درويش وقد اختارها سكنا ومنزلا وحمل جواز سفرها مؤكدا ما كان يقوله دائما إن الأردن وفلسطين رئة واحدة أو شقان لذات الرئة وقلب واحد وشعب واحد وقد صدقت نبوءته فنحن الأكثر حزنا وبكاء عليه وخسارة له.
نحن يتامى اليوم بعد رحيلك يا محمود فقد كنت الجدار الذي نستند عليه والأخ الأكبر الذي نطاول به عنان السماء والمعلم الذي مهد لنا طريق الشعر وحب فلسطين وعشقها.
لك الخلود أيها الشاعر فالشعر بعدك حزين يلبس ثياب الحداد، ويقيم في دمعة العمر الطازجة، ويستقر في قلب المراثي.
لكم كنا عاجزين عن حبك كما يليق بالنجوم، لكم نحن ضعفاء ومتردين امام خسارتك الكبرى، خسارة سماء سقطت في قلب الحقيقة القاسية.
لكم نحن عاجزون عن قول الحقيقة، لكم قهرنا الموت برحيلك، لكم حطم فينا الكثير، لكننا مؤمنون أنك لم تمت، بل رحلت من بيت الحجر إلى بيت الخلود.
نحن عشاقك يا محمود
نحبك حياً وخالداً
نحبك كما أحببناك صغارا واطفالا وشبابا ونحبك حتى نموت ونحن نردد قصائدك ونسمع صوتك الجميل الجميل، ونمشي بقامتك الباسقة والشامخة.
موسى حوامدة
البحرين ودرويش.. لقاء واحد يتيم لكنه استثنائي
الوقت:
قصة البحرين ومحمود درويش مثيرة للانتباه. فقد زارها بعد لأي وتردد طويلين. في الواقع، الأمر ينطبق على جميع دول الخليج العربي.
وحتى وفاته يوم أمس (السبت) فإن هذا التردد لم تكسر صلابته سوى أمسيات قلائل أحياها في دولة الإمارات وأمسية واحدة يتيمة في البحرين.
كانت تلك التي أحياها في الصالة الثقافية مارس/ آذار من العام الماضي 2007 في إطار ربيع الثقافة. يومها، لم يجد بداً من التقديم لأمسيته بالقول ''أظن أنني مدين لأهل البحرين باعتذار لأنني تأخرت في هذه الزيارة كثيرا''.
لم يقل درويش لماذا تأخر. ولماذا رفض عشرات الدعوات التي وجهت له لإحياء أمسيات، من البحرين وسائر الدول الخليجية.
كما لم يقل ذلك أحدٌ بدلاً عنه. من دون أن يحول ذلك دون رواج عشرات الحكايات. يقع على رأسها تلك المتعلقة بموقف بعض الدول الخليجية من العوائل الفلسطينية التي لجأت مضطرة إليها تحت ظروف الشتات القاسية التي تعرض لها المجتمع الفلسطيني في إثر الاحتلال الإسرائيلي. كما تحدثت حكاية أخرى عن الموقف من دعم بعض الفصائل الفلسطينية ذات التوجه الإسلامي على حساب منظمة التحرير الفلسطينية. من دون أن يتسنى التأكد من ذلك. بقيت القصة قصة شائعات. وقد رحل حاملاً السر بين زوايا صدره المعذب.
بعيداً عن ذلك، سيظل البحرينيون يستذكرون بمزيج من المرارة ونوستالوجيا الحنين اللحظات القلائل التي قضوها برفقة درويش. يتذكرون الحضور الاستثنائي الذي غصت به الصالة الثقافية. من البحرين، ناسها وأشقاءهم العرب، إضافة إلى الجارة السعودية.
بوحه المتأخر جداً من أنه يعرف البحرين عبر شعريتيّ قاسم حداد وأمين صالح، كما صرح لـ''الوقت'' قبل الأمسية بأيام. وفوق كل ذلك، يتذكرون صوت درويش الحزين مردداً قصائد غنوها وحفظوها عن قلب: ''حاصر حصارك'' و''حالة حصار'' و''إلى قاتلي'' و''أحد عشر كوكبا''. وداعاَ محمود درويش.
****
في يومياته:
أنت منذ الآن غيرك
محمود درويش
هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟
وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟
كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!
أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك!
أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!
أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك!
أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟
وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف.
أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!
الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة!
تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما ؟
لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد!
ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا!
أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين: إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!
مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة!
قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ عني، دون أن يصبح حجراً.
هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: (الله أكبر) أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟
أخفى السجينُ، الطامحُ إلى وراثة السجن، ابتسامةَ النصر عن الكاميرا. لكنه لم يفلح في كبح السعادة السائلة من عينيه.
رُبَّما لأن النصّ المتعجِّل كان أَقوى من المُمثِّل.
ما حاجتنا للنرجس، ما دمنا فلسطينيين.
وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي واحد، فما حاجتنا للدولة... ما دامت هي والأيام إلى مصير واحد ؟.
لافتة كبيرة على باب نادٍ ليليٍّ: نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. الدخول مجاناً ! وخمرتنا... لا تُسْكِر!.
لا أستطيع الدفاع عن حقي في العمل، ماسحَ أحذيةٍ على الأرصفة.
لأن من حقّ زبائني أن يعتبروني لصَّ أحذية - هكذا قال لي أستاذ جامعة!.
أنا والغريب على ابن عمِّي. وأنا وابن عمِّي على أَخي. وأَناوشيخي عليَّ. هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام.
من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟
بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!.
لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!.
سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية.. لا فرق؟
قُلْتُ: لا يدافع!.
وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟
قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد!.
لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون.
أنت، منذ الآن، غيرك
****
أسرة الأدباء: أبعد من زهر اللوز أقرب من صورة العاشق
سنبكي نحن والموت سيضحك. ذلك أن محمود درويش قد مات أخيرا. فبالنسبة للموت وملاكه لا أجمل من استقبال شاعر خصوصا إذا ما كان محمود درويش. هذا الخفيف الروح كالنسمة، حتى إن الموت لن يعالجه بعنفه المعتاد.
إن كان هناك ما يمكن أن نصف به محمود درويش فهو هذه القدرة الاستثنائية على أن يكون مقنِعا حيثما كتب. قدرته على إقناعنا يوم كان عالي النبرة قليل الاكتراث بالجمال، ثم يوم أن عاد في انكساره الجميل خفيض الصوت عالي الإحساس بجمال مفردة الحياة.
كثيرون من الشعراء لم يستطيعوا الصمود على حبل التوازن الصعب بين الغنائية وتشظي الدلالات، بين الجمالية والدرامية، بين حب الوطن ونقد مفهوم الوطنية، بين مديح الثورة ورثائها. كأن محمود درويش وهو يتحول في أقاليم الروح الشاعرة ثائرا، فخاسرا. رومانسيا حالما، فواقعيا حكيما. كأنه في تحولاته تلك كان يحولنا نحن أيضا معه. وبحيث إننا الذين قد كان لنا حصة من الولع بماضيه، سيكون لنا قدر أكبر من هذا الولع بحاضره أيضا. هذا مع أن فينا من لم يعرف درويش إلا في نسخته الأخيرة.
حتى الحرب والحصار التي قتلت بعض الشعراء جسدا وقتلت البعض الآخر شعرا فجعلت منهم محاربين بالشعر، حتى هذه الحرب، واجهها درويش بحب الحياة وحياة الحب.
ويوم كانت الأناشيد الحماسية تطلب من الناس في بيروت الغزو والحصار أن يكونوا طعاما لحديد الدبابات ونار القاذفات، كان درويش يغني للمقاومين ''سنة أخرى سنة''. طالبا منهم أن يتريثوا بموتهم لئلا يفوتهم شذى زهرة، أو قبلة على خد حسناء.
وهو الآن إذ يتقدم لموته غير نادم على الحياة، ''وغير معتذر عما فعل''، سيغني للموت أيضا حتى يملأ فراغه الأسود بالحياة، ''وأعشق عمري لأني إذا مت أخجل من دمع أمي''.
خذه إذن أيها الموت، سيان إن ذهبت إليه أم ذهب إليك. أنت لن تمس منه سوى جسد أثقله الأسى والاغتراب. لن تغير من كونه ساحرا أحيا اللغة بالشعر والغناء والدراما فجعل من الحروف شمسا وعسلا وموسيقى.
الأقرب إلى التحقق أيها الموت، أن درويشنا هو الذي يغيرك فيجعل منك دلالة على عمر جديد من السفر في فضاء المعنى والناس وحيث الشعر سيستمر في هطوله إلى الأعلى نابعا من قلوبنا ونحن نردد مع الغريب محمود درويش ''سمائي على كتفي وأرضي لكم''.
أسرة الأدباء والكتاب- البحرين
****
فلسطين: طوبى لكلامه العالي بحجم البلاد
وداعاً ... أيها الشاعر
بقلوب دامعة نودّع الشاعر الكوني محمود درويش، الصائغ الأمهر، والمبدع الاستثنائي.. صاحب النشيد الهوميري، على هذه الأرض... الذي منح بلادنا فضاء الحياة... فأينعت كلماته على ترابنا سياقاً معرفياً تجاوز الأقاصي والأمداء... ليحمل صوت شعبنا إلى حيث يكون العدل والحرية والإبداع....
بسيرته ومسيرته.. استحق محمود درويش وسام الشعرية الفلسطينية باقتدار.. واستحق كذلك أن يكون المنشد الأعتى من بين الأصوات الشعرية العربية.. محققاً بذلك انتصاراً لقضيتنا العادلة ووجع البلاد العميم في حمل قضيتنا الوطنية إلى الكون...إذ كيف للوداع أن يكون له بلاغة المراثي وقد ترجل الحرف عن صهوة المعنى.. فارتفع النشيج إلى سماوة البكاء والنزف... وارتفع الرثاء إلى سقف النحيب.
لاعب النرد.. الذي رأى موته مراراً... وحاوره وداوره، بعناد الشاعر وبصيرة الرائي الفذّ والبليغ الكفّ.. ليؤكد قوة الإبداع في منازلة الطاغي الرجيم- الموت الناهب.. ولكنها لحظة الغياب والسفر في مرايا البياض... اقتران البداية وشتول الربيع الطافحة بالخضرة.. بالنهاية وتساقط الورق الأصفر من شجرة العمر.. لكنها البذور النداهة بالغد ووعد الشعر وما فيه من خير أرض القصيدة التي ترفع الأرواح الكسيرة... وتمنح الصغار ترداد ما تركه الشاعر من طاقة القول واجتراح الغناء الصلب في الزمن الصعب.
كيف نودّع الشاعر الكبير وقد قال كلمته الأخيرة مدركاً أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض... وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة.
فطوبى للشاعر الذي كابد وعاند وشفّ وشاف..
وطوبى لكلامه العالي بحجم البلاد
وطوبى له وقد كان رأسمالنا المعرفي..
دولة فلسطين- وزارة الثقافة
****