جزعت لرحيل محمود درويش. كنت في الولايات المتحدة، وكان يرقد مريضاً في احد مستشفياتها، وما علمت، حتى جاءني خبر غيابه الأخير، رغبة منه في تذوّق سكون الموت، فعرفت سرّ كوابيسي التي أثقلت لياليّ الأميركية. موت شاعر وسيم، مشدود جسده كرمح صعقني. شعرت بالحرج من رحيله المباغت، وداهمني حداد زائغ، منعزل، متفكك. تمرنّا على الموت، نتحمله بسكون في كثافة هذا العالم، لكننا نصعق ما زلنا، تتقطع أنفاسنا ونرسل صرخات مكتومة حين يغادر شاعر. مات محمود درويش وانفتحت ثانية، ستائر قلبي كاملة على جسامة غيابه، فالموت تطاول كثيراً وتحدانا في عقر دارنا وقصائدنا، ودّك أساس الكلمات.
لم أكن بالضرورة، قارئة مثالية لشعر درويش، ولم أكن أعرف أيّ المشاعر أبذلها له، وكنت مذنبة قطعاً في فوضى تذوقّي الخاص للشعر، لكنه درويش كان يكمل دورانه، رقصه، وحوله يدور بريق الأنوار، كأنما الأنوار كلها لم تسطع إلا لهدف واحد: التمهيد لغياب عجائبي مخيف، يردم الهواء المتحرك بين الحياة والموت، تلك الهوة الجنونية التي تركتها وراء درويش ذراته المختفية
ماذا ذهب يكتب في العتمة الكاملة! الرجل كثير الشعر، كثير الحب، كثير فلسطين، كثير الأسفار. المتقلبة فتنته في المدن والمنافي. لمن ترك فلسطين كتلاً مزرقّة، بطيء نبضها، منتفخ قلبها ويملأ السواد شوارعها.
ماذا ذهب يفعل وحيداً، من دون فرضية صغيرة جداً، استثناء وحيد، امكانية عودة ما، معلقة في الهواء، أو مطمورة في »البروة« أو في »رام الله«.
موته هجوم إرادة خشنة فظة، تدفقت كريح جليدية على قامته الفارعة، على قصائده وفلسطينه، لا أدري من أيّ شريان اخترقته، أو من أية سماء، ومن أية غفلة، ومنعته من أن يكون، الى أبد الآبدين، شاعراً وسيماً تنساب كلماته بلا انقطاع بين ذرات عالمنا المُضجر.
السفير 20 اغسطس 2008