آخر تحديث: السبت ,23/08/2008
"أثر الفراشة" هو آخر ما صدر للشاعر محمود درويش قبل وفاته، صدَرَ في بيروت مطلعَ العام الحالي عن رياض الريس للكُتُب والنشر. وقد جاء في مستهل الكتاب أنه “صفحاتٌ مختارةٌ من يومياتٍ كُتبت بين صيف 2006 وصيف 2007”. وإذا كانت اليوميات، من حيث المبدأ، نوعاً من التسجيل الانطباعي، الذي لا يتطلّب الكثير من التبصر أو التأنق أو الذهاب بعيداً ما وراءَ العابر أو العارض، فإنّ يوميات درويش تختلف عن هذا التعريف المبدئي اختلافاً كبيراً، لأنها تنطوي على هواجسَ لا تمر مروراً خفيفاً بالعابر اليومي، وإنما تعملُ - اذا مرّت به - على اختراقه بحثاً عمّا يُناقضه أو يتعارض معه. يوميات درويش تنطلق أحياناً من حوادث معينة، عامة أو خاصة، ولكنّها تُفضي دائماً إلى تأملاتٍ عميقةٍ في الحياة والموت والتاريخ والحبّ والحرب.. وخصوصاً في شؤون الكتابة نفسها، وبالأخصّ في شؤون الشعر وأشكاله وتقنياته وتجلياته على أنواعها.
"أثر الفراشة" كتابٌ شيقٌ عذبٌ سلِس، وأبرزُ ما فيه أنه متنوعٌ تنوعاً كبيراً وجذّاباً. ومع أنّ القارئ يمكنه أن يستشف خطةً وراء الكتاب، أو بالأحرى سابقةً له، فإنّ المقطوعات فيه تصدر عن عفوية وبداهة هما أبعد ما يكون عن الافتعال. وهذه المقطوعاتُ قصيرةٌ كلها، تقعُ الواحدةُ منها في صفحة واحدة، أو صفحة ونصْف الصفحة، ونادراً ما تتجاوز الصفحتين.
أبرز ما في الخطة الخفيّة المشار إليها أنْ يتجاور الكلام الموزون والكلام المنثور. فالمقطوعات التي يحتويها الكتاب يمكن توزيعُها على ثلاث فئات: فئة المقطوعات النثرية، الخالية من الوزن. فئة المقطوعات الموزونة، التي تنتمي إلى شعر التفعيلة. فئة المقطوعات الموزونة، التي تنتمي إلى الشعر العمودي. تختلف الفئاتُ الثلاث في أمور كثيرة، وتشترك في أمور كثيرة.
تختلف في أمور تقنية - بنائية، في مستوى العبارة، أو الفقرة، أو القطعة.
وأهمّ ما تشترك فيه هو الشعر، أو الشعرية. كأني بِمحمود درويش قد أراد العمل على "تحقيق" الشعر في أي شكل من الأشكال المعروفة في شعرنا العربي الحديث. وهذه هي المرّة الأولى التي يقوم فيها درويش بِمثل هذا العمل. فهو، في دواوينه السابقة، لم يكتبْ سوى الشعر الموزون. أما نثْرُهُ الأدبي فقد ظهر في بعض كُتُب له احتوتْ على ما يشبه الشذرات أو الصور من سيرته الذاتية. ولكنّ الشاعر كان قد عبر في بعض مقابلاته الصحافية التي أُجريتْ معه في خلال السنوات القليلة المنصرمة عن ميْل، ولو نظرياً، إلى النثر. هل أراد في كتابه الأخير “أثر الفراشة”، أو بالأحرى ما قبل الأخير، إذْ قيل إنه ترك مخطوطةً لم تُدفعْ بعد إلى الطبع، هل أراد الذهاب إلى الشعر بشتّى الطرُق! مع أنه اختار أنْ يضع على غلاف الكتاب عنواناً فرعياً هو "يوميات"؟
والعنوان هذا، هل فيه ما يوضح أو ما يوهم؟ هل أراد الشاعر أنْ يوحي لقارئه بأنه لم يعُدْ يُفرق بين أشكال الكتابة الشعرية، موزونةً كانت أو غيرَ موزونة؟ هل أحب التجريب أو التفنن، أم أراد أنْ يُثبتَ لأصحاب الاتجاهات المختلفة في كتابة الشعر أنّ الشعر أسمى بكثير من اختلافاتهم، وأنّ الشعر لا يُحَد بأي واحد من اتجاهاتهم؟
مهما يكن الأمر، ومهما تكن الخطّةُ التي نفترضُ أنّ الشاعر انطلق منها في تأليف كتابه (وقد يصح الافتراضُ أن الشاعر لم ينطلقْ من أية خطّة)، فإنّ القارئ يجدُ نفسه حيال كتابٍ ممتع جذّاب. وقد يكون من أكثر كُتُب درويش تنوعاً وجاذبية.
في هذا الكتاب، استطاع درويش أنْ يطرح أسئلته العميقة، وأنْ يجعل من الكتابة سؤالاً دائماً، سؤالاً قادراً على التجدد إلى ما لا نهاية. وذلك من دون أنْ يُفرط بنكهته الخاصة، بلغته الشعرية المميزة، بنبرته التي عُرفَ بِها منذ بداياته، والتي رسمتْ خطاً بيانياً فريداً في شعرنا العربي الحديث.
"أثر الفراشة" كتابٌ يحققُ الشعرَ ويكثفه ويحرره. إنه كتابٌ يضعُ الشعرَ في منأى عن المقولات النظرية المغلَقة أو المتعسفة. إنه كتابٌ يتألق فيه ماءُ الرقّة والسلاسة والحيوية والشفافية. إنه كتابٌ يدغدغُ الكتابةَ نفسَها، ويُغري بِها أنْ تكون المغامرةَ والسكينةَ في آن.