جريدة أوان

زينب عسّاف

عن 67 عاماً رحل الشاعر الشاب محمود درويش. مصادفة كانت ستشغل باله لو عرف بها. 67 رقم النكسة العربية. 67 رمز كل نكسة وانكسار ورحيل.
وإذ أقول “الشاعر الشاب” فلديّ سبب وجيه لقول ذلك. فعلى عكس الشعراء الآخرين الذين يبدؤون شباباً في كتاباتهم الأولى ثم سرعان ما يهرمون من خلال تكرار أنفسهم واجترار استعاراتهم وصورهم ولغتهم، كان لمحمود درويش مسار تصاعدي مغاير وصل حدود أنه -وهو شاعر التفعيلة الأكبر- كَتَبَ قصيدة النثر في آخر أعماله. والمتابع لأحوال النقد العربي لا بدّ له من ملاحظة أن النقاد كانوا يترقّبون صدور كل عمل جديد له كما يترقّبون عمل شاعر شاب يعدهم بتقديم كل جديد.

شباب درويش الدائم ترافق بمحاورة دائمة مع الموت، وخصوصاً إثر موته لدقيقة ونصف الدقيقة خلال عملية قلب مفتوح في أواخر التسعينيات، كتب بعدها (بعد عودته من الموت) مشاهداته لتلك الرحلة، في قصيدة استحقّت اسمها “جدارية”:

“أيها الموتُ انتظرْني خارج الأرض،
انتظرْني في بلادكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي
قرب خيمتكَ، انتظرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد. يُغريني
الوجوديّون باستنزاف كلّ هنيهةٍ
حرّيةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ...
فيا موتُ! انتظرْني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهشّ،
حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه...”.

وفي الحقيقة لقد واظب درويش على رثاء نفسه وصنع جنازته بنفسه وعلى مزاجه، ما يذكّرنا بالرثائية الشهيرة للشاعر الجاهلي مالك بن الريب التي قام فيها برثاء نفسه، والتي اختار محمود درويش من أبياتها بيتاً رائعاً وضعه استهلالاً لكتابه ما قبل الأخير “في حضرة الغياب”:

“يقولون: لا تبعد، وهم يدفنونني
وأين مكان البعد إلا مكانيا”.
بالشعر استطاع درويش تحويل قصّة النزوح من فلسطين إلى قصّة شبيهة بقصّة الطرد من الجنّة: فلسطين هي الجنّة، والفلسطينيّ هو آدم، والزيتون هو التفّاح.
بامتزاج الألم باللذّة، والحزن بالسحر، بات للمأساة مردودها الجماليّ الخالص.
في شعر درويش ثمة سمة ضوئيّة، أو فلنقل ثمة صباح: نهوض دائم من النوم، قهوة الأمّ، والقهوة مع الحليب... إضافة إلى صفاء لغويّ لا نظير له.
وفي حين يأخذ الجسد في قصائد الآخرين منبر الكلام في الجنس، يقوم الجسد الدرويشيّ بالإصغاء. الجنس في قصائد درويش فعل إصغاء لا مرافعة.

لقد جعل درويش من الشعر وسيلته الفضلى لقول كلّ شيء: الغضب، الخيبة، الحبّ، التحيّات... حتى النقد: “كيف أنجو من مهارات اللغة؟”.
أكثر من ذلك، نستطيع، من خلال قصائد درويش، تقديم رسم بياني لبدء تحوّله، الذي أخذ طابع الحيرة الفلسفيّة، إلى كتابة قصيدة النثر.
بعد “كزهر اللوز أو أبعد” (2005) بات انتقال محمود درويش إلى كتابة قصيدة النثر أكثر سلاسة، وربما أكثر حتميّة. لقد أظهر درويش في هذا الديوان قدرة (رغبة؟) كبيرة على “تمويت” الوزن وإدخاله في غيبوبة. لقد بدا جليّاً أن ثمة حاجة ملحّة لتنويمه مغناطيسيّاً (نثريّاً)؛
محوه والإبقاء عليه في آن واحد. استفادة قصوى من تقنيات قصيدة النثر وموارد تعبيرها، وطغيان لليوميّ، مع تصميم لا يُراجَع لردّ الاعتبار النثريّ للأشياء من خلال تعريفات كرّستها، تقليداً، قصيدة النثر... بالطبع، ذلك كلّه مسبوقاً باستهلال غير بريء مقتبَس من كتاب “الإمتاع
والمؤانسة” لأبي حيّان التوحيديّ: “أحسن الكلام ما... قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم” (الديوان ينتهي باقتباس آخر، لكن للشاعر نفسه من قصيدة “طباق”، يبدو غير بريء أيضاً: “وداعاً، وداعاً لشعر الألم”).

في هذا الديوان كان ثمة تأتأة نثريّة. كان ثمة احتباس نثريّ واعٍ. كتابة محمود درويش قصيدة النثر، بعد 21 ديواناً، ليست فعل “تصابٍ”
قطعاً، بل دليل قدرة، إن لم نقل يقظة نقديّة لا تشرد. والحقّ أن هذا الشاعر كان أحسن نقّاد تجربته، وليست غاراته التنقيحيّة على شعره القديم سوى دليل على ذلك.

{ { {

“... ويا موت انتظرْ، يا موتُ،
حتّى أستعيد صفاءَ ذهني في الربيع
وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيد الظبيَ قرب النبع...”.

اليوم، مع توقف قلب محمود درويش يخسر الشعر العربي شاعراً شاباً واعداً في ستيناته، أو في 67 ـه كما شاءت المصادفة الخبيثة!

*****

ويا موت انتظر.. يا موت

رحيل محمود درويش ترك فراغاً في قلوب مثقفي الكويت. فيما يلي شهادات لبعضهم حول هذا الرحيل الأليم.

طالب الرفاعي: الدليل إلى أحلامنا وخيباتنا “ما هو أكيد أن رحيل قامة شعرية بارتفاع قامة محمود درويش هو رحيل لا يمكن تعويضه، وهو رحيل يمس ويتقاطع مع مجمل الحياة الثقافية في الوطن العربي. يخطئ من يعتقد أن محمود درويش يحسب على الشعر فهو يحسب على الأدب والفن والإبداع. وأياً كان المستمع أو القارئ لقصيدة درويش فمن المؤكد أنه سيعثر في جزء ما على قلبه وجزء آخر على خيبته وحلمه ودورة الحياة من حوله.

محمود درويش يعتبر من أهم القامات الشعرية العربية خلال الثلاثين سنة الماضية، وفي رحيله سيضطر الشعب الفلسطيني أن يفتش عن مبدعين جدد يكونوا خلفاً له، والشعب العربي ينتظر طاقة إبداعية تطل عليه من فوق كحجم موهبة محمود درويش. عزاؤنا أن عطاءاته واسعة ومتجددة ويستطيع كل قارئ ومثقف أن ينهل مما تركه، لأنها ستبقى حيّة ما بقي الإنسان، وهذا وحده ما يجعل الأدباء والمبدعين ينذرون أعمارهم للأدب والفن والثقافة. لقد عاش درويش حياة متنقلة وكان أصيلاً أينما حلّ، قيل عنه إنه لسان حال المقاومة والشعب الفلسطيني، واليوم أجدني أقول إنه كان لسان حال الأمة العربية المليء تاريخها بالخيبات، أتوجه بالعزاء الى كل من يؤمن بالكلمة المبدعة والكلمة الأصيلة. والرحمة لروح محمود درويش التي عثرت على هدأتها الأخيرة في سكونه الأخير”.

مختار عيسى : غياب هو قضية الشعراء

“لم يكن درويش شاعراً عابرا، ولم يكن شعره كذلك، فالرجل الذي صار منذ قصائده الأولى علامة على قدرة الشعر والشعراء على إحياء الذاكرة وإشعال الهوية، وتأكيد الحضور الفردي والجمعي في آن، عبر قصيدة لا تشبه إلا نفسها ولا ترتدي إلا عباءتها، لا يمكن أن يمر على الذاكرة الشعرية والنقدية العربية دون أن يحمل مروره مأساة وطن، وقيامة شعب وحضور قضية. من المؤكد أن القصيدة الدرويشية صناعة فلسطينية محض، أخذت من تراب وطنه السليب عجينتها الأولى، وارتوت بدماء شهداء دفعوا أعمارهم ثمناً لحرية هي الكون كله، عند شرفاء يدركون ما للأوطان من قيمة، وما للمقاومة من حضور. واستطاع درويش عبر دواوينه المتعددة أن يكون مدرسة شعرية ظلت تخرج -كالعفريت- لكل من حاول اللعب على أوتار المأساة الفلسطينية، بل ولمن رفعوا الغناء سلاحاً شعرياً والدراما طريقاً فنية عبر نص غني بالحضور الشعبي العالي رغم ذاتية كادت تغلقه على “الأنا” الدرويشية العالية.
كان درويش شاعراً للقضية وغيابه دون شك سيصبح -الى حين- قضية الشعراء، رحم الله الشاعر الكبير، وعزاؤنا أن قصائده ستظل على وهجها رغم انطفاءات فردية وجمعية. آملاً في غد أكثر إشراقاً وأمناً وإنسان متحرر من سيطرة الجيوبوليتيكا على مقدراته الحياتية، وفخاخ تنصبها كل يوم أبواق الرجل الثقافي والنقدي العربي الاختزالي وأصحاب الكليبات الثقافية”.

كريم الهزاع : فراشة ذهبت إلى الأثير

“لقد كتبت اليوم أن هناك فراشة تركت الشرنقة وذهبت إلى الأثير.
محمود درويش قام بنقلة نوعية حيث نظر إلى أنطولوجيا الشعر وفق مفهوم كوني. لقد هزم درويش المرض والموت، كتب في قصائده الأخيرة: “لقد هُزمت أيها الموت، ولكني أعرف أنك ستنتصر عليّ”. فهذا الموت الذي هزم بابل والحضارة الفرعونية لم يستطع القضاء على الكلمة. في الواقع، نستطيع قراءة قصيدة درويش في الكثير من الحالات والتجليات، فهي في كل مرة تسلّمك مفاتيح أخرى. وخلال مئة عام، نجد أن محمود درويش وغيره قاموا بإزاحات أخرى غير تلك التي قام بها السياب.

اليوم كل من اطلع على شعر محمود درويش حزين.. كل عاشق لهذه الموسيقى وهذه الروح وهذه الشفافية”.
نادي حافظ : تكريمه تكريم للعربية
“محمود درويش شاعر من أهم شعراء اللغة العربية في الوقت الحالي. ورحيله رحيل رمز ومجدد في جسد وروح القصيدة.

الموت حق ولا اعتراض عليه، لكن موت درويش يؤثر فينا جميعاً كشعراء جدد، فنحن تعلّمنا من هذا الشاعر كيفية إدارة القصيدة وكتابتها، لذا سيترك غيابه بالتأكيد فراغاً كبيراً فينا. نتمنى في هذا اليوم أن يعود درويش من خلال تكريمه بجائزة كبيرة على غرار “نوبل للآداب”، لذا نتمنى أن يتم تكريمه بالشكل اللائق، لأن تكريمه تكريم للغة العربية”.

آدم يوسف: ليس صمتاً بل بداية اشتعال

“محمود درويش هو القضية وهو الشعر، إنه ذاكرة شعر وذاكرة ثقافة وجزء مهم من ذاكرة الحضارة، لقد استطاع أن يحقق المعادلة الصعبة: المعادلة بين الشعر والسياسة، فلم يتخلَّ عن مبادئه حين كان في إطار السياسة، ولم يتخل يوماً عن شعره وكلمته. ذاكرة مدينته الصغيرة رافقته من فلسطين الى الولايات المتحدة، ومعها اشتعلت هموم وأحاسيس أمة كاملة تتابع قضيته. لم يكتب أبداً شعراً مبتذلاً ولم يكتب لأجل الكتابة، لقد استطاع أن يكسب جمهوراً عريضاً في الوطن العربي، ويرضي النقاد في كل مكان. لم يهبط شعره يوماً الى مستوى المباشرة أو الانفعالية التي تكون دائماً السبب في هبوط المستوى الفني في القصيدة، لقد كانت موهبته مختلفة للغاية، لغته خاصة، خياله، صوره وتشبيهاته كلها تفرد بها لوحده. إن رحيله لن يكون صمتاً بل بداية اشتعال لدراسة القصيدة، وفتح آفاق أخرى في الحداثة الشعرية”.

سامي القريني: فراغ في الخريطة

“كان خبر الوفاة صدمة بالنسبة إلينا، لأن محمود درويش قمة شعرية. لن أقول إنه من أهم الشعراء، ولكنه أكمل ما بدأه عبدالرزاق عبدالواحد والسياب والملائكة في الستنييات، فكان من الجيل الثاني.
لم يتوقف سنة عن إصدار ديوان له، بل حمل قضية فلسطين منذ “سجّل أنا عربي” وحتى “أثر الفراشة”. لقد كان مختلفاً، من حيث تقديمه حالة جديدة، ولذلك، برحيله، فقدنا الشعر تقريباً. لأن محمود درويش كان الأبرز ليس من حيث الاسم فقط، بل من حيث الحضور على خريطة الشعر. كنا ننتظر منه كتاباً جديداً في كل معرض كتاب، كيف سيكون معرض الكتاب القادم وليس لدرويش إصدار جديد؟”

*****

موت أم حياة أبدية؟

دخيل الخليفة

لأن محمود درويش شاعر استثنائي، فإنه يحتاج إلى لغة استثنائية، لا لترثيه، بل لتؤكد أنه قامة لن ينحت الزمن بديلا عنها، محمود درويش مات جسدا، لكن روحه هزمت الموت مبكرا، هزمت الموت لأنها روح فلسطينية أولا، تؤمن بأن الموت حياة أبدية، ولأنها روح شاعرة ثانيا.
درويش لم يمت، أليس هو القائل: “هزمتك ياموت الفنون جميعها؟”.
و”مجنون التراب” هذا، حي في ضمير الشعر، في حجارة كل فلسطيني كان يرى درويش صوته الذي يصدح في أرجاء العالم.
درويش موهبة فذة، بقي شعره يحتاج إلى رؤى نقدية جديدة لإعادة تقييمه فنيا، إنه رجل حوّل القصيدة إلى راقصة باليه تسحر من يضع عينيه على جسدها الشفاف.. قصيدة درويش قاومت المحتل فيما تحمله من تراث إنساني استمده من أرض كنعان، ومن جنون بابل، وهوس الفراعنة، ومن لغة فاتنة لاتخص أحدا سواه، لغة أصبحت نهرا ينهل منه الشعراء في زمان ومكان امتلكهما درويش وأنتج قصيدة عن الوجود / الجرح الفلسطيني.
قصيدة درويش هوية إنسانية بامتياز، يتجسد فيها المقدس الفلسطيني، إنه شاعر يختزن التاريخ في مفردات اللغة التي ينحتها بإزميل فنان مدهش، عبر نوستاليجيا من نوع خاص تواكب حركة الحياة المتغيرة.
إن خسارة الشعر العربي كبيرة برحيل أحد أهم أعمدته على الإطلاق، فمنذ ديوانه أغصان الزيتون الصادر العام 1964 كان محمود درويش مشروعا شعريا يتطور، ومنذ خروجه من فلسطين إلى لبنان مرورا بمصر تحول وعيه الثوري إلى وعي إنساني عام، شاعر تمحور عالمه حول الأرض والمرأة، وكلتاهما رمز للحياة التي تحتوي الإنسان في تحولاته كافة.
يرى درويش في الرسائل التي تبادلها مع سميح القاسم “أن سؤال الحياة والموت المهمين على الذات العربية، هو سؤال الوجود الذي يصوغ شكله المادي والألوهي وهو أهم من السؤال الأخلاقي عن دور الشعر والشاعر في زمن يسود فيه الموت”. ودرويش يؤمن بالحالة الفلسطينية العامة التي تولدت على مدى 60 عاما من النضال، وهي أن الموت حياة أبدية، لذا كان يكتب نصا دراميا ذا عالم فني مركّب.. وتحولت الثورة الكامنة في روحه إلى شعر.. ورغم إيمانه بالفكر كرجل مارس العمل السياسي إلا أنه لم يستبدل الأيديولوجيا بالشعر.. ولاشك أنه “ شاعر يملك حساسية ثقافية ذات صفاء استثنائي”، كما يقول عنه إدوارد سعيد.. وهو بالنهاية مدرسة متفردة في الشعر العربي الحديث.
انضم درويش مبكرا إلى الحزب الشيوعي الاسرائيلي “راكاح” الذي كان يؤمن بحق الشعبين في التعايش السلمي على أرض فلسطين، ثم ترك الحزب بعد خروجه من بلده وانضم في نهاية السبعينيات إلى منظمة التحرير الفلسطينية، إلى أن استقال من عضوية اللجنة التنفيذية للمنظمة احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو مع إسرائيل في العام 1993، ولعل ديوانه “أحد عشر كوكبا على المشهد الأندلسي” لايخلو من انتقادات حادة للاتفاق.

درويش شاعر يلتقط معاني وصورا لاتخطر على بال، سهلة وعصية على الآخرين في الوقت نفسه، شاعر يشاكس الحدث ولا يلتحم به، إلى أن تحول إلى مدرسة شعرية قائمة بذاتها. إنه لاعب كلمات من طراز خاص، جعل اللغة تنتج حياة استثنائية بكائناتها وبيوتها وسمائها المغايرة للنمط السائد.

نعم فقدنا بيرقا خفاقا.. من الصعب أن نعوضه في حالة الضياع التي نعيشها ثقافيا، فهذا الرجل كان نتاج مرحلة مريرة في الحياة السياسية العربية.. رحم الله محمود درويش، الشاعر الذي كنا نلاحقه من مكان إلى آخر لنتعلم منه كيف يُكتب النص المغاير.. ولعله الآن رأى الموت
ليعرف حقيقته.

*****

لاعب النـرد

“يربح حينا ويخسر حيناً” مثل جميع الناس أو “أقل قليلاً”.
هكذا وضع الاحتملات التي تأخذه إلى الأقدار الجديدة.. والتي تميته وتحييه. في سيرة ذاتية هي الماضي والحاضر... والمستقبل. صاعداً إلى الإبداع، فائضاً بالضوء والفتنة والشعر.
“لاعب النرد”.. آخر قصائد الشاعر الكبير الراحل محمود دوريش، مرثيته لنفسه وحرفه الأخير، قبل أن يوقد القنديل.. ويمضي.
مَنْ أَنا لأقول لكمْ ما أَقول لكمْ؟
وأَنا لم أكُنْ حجراً صَقَلَتْهُ المياهُ
فأصبح وجهاً
ولا قَصَباً ثقَبتْهُ الرياحُ
فأصبح ناياً...
أَنا لاعب النَرْدِ،
أَربح حيناً وأَخسر حيناً
أَنا مثلكمْ
أَو أَقلُّ قليلاً...
وُلدتُ إلى جانب البئرِ
والشجراتِ الثلاثِ الوحيدات كالراهباتْ
وُلدتُ بلا زَفّةٍ وبلا قابلةْ
وسُمِّيتُ باسمي مُصَادَفَةً
وانتميتُ إلى عائلةْ
مصادفَةً،
ووَرِثْتُ ملامحها والصفاتْ
وأَمراضها:

أَولاً - خَلَلاً في شرايينها
وضغطَ دمٍ مرتفعْ

ثانياً - خجلاً في مخاطبة الأمِّ والأَبِ
والجدَّة - الشجرةْ

ثالثاً - أَملاً في الشفاء من الانفلونزا
بفنجان بابونج ٍ ساخن ٍ

رابعاً - كسلاً في الحديث عن الظبي
والقُبَّرة

خامساً - مللاً في ليالي الشتاءْ

سادساً - فشلاً فادحاً في الغناءْ...
ليس لي أَيُّ دورٍ بما كنتُ
كانت مصادفةً أَن أكونْ
ذَكَراً...
ومصادفةً أَن أَرى قمراً
شاحباً مثل ليمونة يَتحرَّشُ
بالساهرات
ولم أَجتهد
كي أَجدْ
شامةً في أَشدّ مواضع جسميَ
سِرِّيةً!
كان يمكن أن لا أكونْ
كان يمكن أن لا يكون أَبي
قد تزوَّج أُمي مصادفةً
أَو أكونْ
مثل أُختي التي صرخت ثم ماتت
ولم تنتبه
إلى أَنها وُلدت ساعةً واحدةْ
ولم تعرف الوالدة ْ...
أَو: كَبَيْض حَمَامٍ تكسَّرَ
قبل انبلاج فِراخ الحمام من الكِلْسِ/
كانت مصادفة أَن أكون
أنا الحيّ في حادث الباصِ
حيث تأخَّرْتُ عن رحلتي المدرسيّة ْ
لأني نسيتُ الوجود وأَحواله
عندما كنت أَقرأ في الليل قصَّةَ حُبٍّ
تَقمَّصْتُ دور المؤلف فيها
ودورَ الحبيب-الضحيَّة ْ
فكنتُ شهيد الهوى في الروايةِ
والحيَّ في حادث السيرِ/
لا دور لي في المزاح مع البحرِ
لكنني وَلَدٌ طائشٌ
من هُواة التسكّع في جاذبيّة ماءٍ
ينادي: تعال إليّ!
ولا دور لي في النجاة من البحرِ
أَنْقَذَني نورسٌ آدميٌّ
رأى الموج يصطادني ويشلُّ يديّ
كان يمكن أَلاَّ أكون مُصاباً
بجنِّ المُعَلَّقة الجاهليّةِ
لو أَن بوَّابة الدار كانت شماليّةً
لا تطلُّ على البحرِ
لو أَن دوريّةَ الجيش لم تر نار القرى
تخبز الليلَ
لو أَن خمسة عشر شهيداً
أَعادوا بناء المتاريسِ
لو أَن ذاك المكان الزراعيَّ لم ينكسرْ
رُبَّما صرتُ زيتونةً
أو مُعَلِّم جغرافيا
أو خبيراً بمملكة النمل
أو حارساً للصدى!
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم
عند باب الكنيسةْ
ولستُ سوى رمية النرد
ما بين مُفْتَرِس وفريسةْ
ربحت مزيداً من الصحو
لا لأكون سعيداً بليلتيَ المقمرةْ
بل لكي أَشهد المجزرةْ
نجوتُ مصادفةً: كُنْتُ أَصغرَ من هَدَف عسكريّ
وأكبرَ من نحلة تتنقل بين زهور السياجْ
وخفتُ كثيراً على إخوتي وأَبي
وخفتُ على زَمَن من زجاجْ
وخفتُ على قطتي وعلى أَرنبي
وعلى قمر ساحر فوق مئذنة المسجد العاليةْ
وخفت على عِنَبِ الداليةْ
يتدلّى كأثداء كلبتنا...
ومشى الخوفُ بي ومشيت بهِ
حافياً، ناسياً ذكرياتي الصغيرة عما أُريدُ
من الغد -لا وقت للغد-
أَمشي / أهرولُ / أركضُ / أصعدُ / أنزلُ / أصرخُ / أَنبحُ / أعوي / أنادي / أولولُ / أُسرعُ / أُبطئ / أهوي / أخفُّ / أجفُّ / أسيرُ / أطيرُ / أرى / لا أرى / أتعثَّرُ / أَصفرُّ / أخضرُّ / أزرقُّ / أنشقُّ / أجهشُ / أعطشُ / أتعبُ / أسغَبُ / أسقطُ / أنهضُ / أركضُ / أنسى / أرى / لا أرى / أتذكَّرُ / أَسمعُ / أُبصرُ / أهذي / أُهَلْوِس / أهمسُ / أصرخُ / لا أستطيع / أَئنُّ / أُجنّ / أَضلّ / أقلُّ / وأكثرُ / أسقط / أعلو / وأهبط / أُدْمَي / ويغمى عليّ
ومن حسن حظّيَ أن الذئاب اختفت من هناك مُصَادفةً، أو هروباً من الجيش/
لا دور لي في حياتي
سوى أَنني،
عندما عَـلَّمتني تراتيلها،
قلتُ: هل من مزيد؟
وأَوقدتُ قنديلها
ثم حاولتُ تعديلها...
كان يمكن أن لا أكون سُنُونُوَّةً
لو أرادت لِيَ الريحُ ذلك،
والريح حظُّ المسافرِ...
شمألتُ، شرَّقتُ، غَرَّبتُ
أما الجنوب فكان قصياً عصيّاً عليَّ
لأن الجنوب بلادي
فصرتُ مجاز سُنُونُوَّةٍ لأحلِّق فوق حطامي
ربيعاً خريفاً..
أُعمِّدُ ريشي بغيم البحيرةِ
ثم أُطيل سلامي
على الناصريِّ الذي لا يموتُ
لأن به نَفَسَ الله
والله حظُّ النبيّ...
ومن حسن حظّيَ أَنيَ جارُ الأُلوهةِ...
من سوء حظّيَ أَن الصليب
هو السُلَّمُ الأزليُّ إلى غدنا!
مَنْ أَنا لأقول لكم
ما أقولُ لكم،
مَنْ أنا؟
كان يمكن ألا يحالفني الوحيُ
والوحي حظُّ الوحيدين
إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ/
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها:
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
من أَنايَ إلى غيرها
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ/
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ
والوحيُ حظُّ المهارة إذ تجتهدْ
كان يمكن ألاَّ أُحبّ الفتاة التي
سألتني: كمِ الساعةُ الآنَ؟
لو لم أَكن في طريقي إلى السينما...
كان يمكن ألاَّ تكون خلاسيّةً مثلما
هي، أو خاطراً غامقاً مبهما...
هكذا تولد الكلماتُ. أُدرِّبُ قلبي
على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ...
صوفيَّةٌ مفرداتي. وحسِّيَّةٌ رغباتي
ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ
إذا التقتِ الاثنتان:
أَنا، وأَنا الأنثويَّةُ
يا حُبّ! ما أَنت؟ كم أنتَ أنتَ
ولا أنتَ. يا حبّ! هُبَّ علينا
عواصفَ رعديّةً كي نصير إلى ما تحبّ
لنا من حلول السماويِّ في الجسديّ.
وذُبْ في مصبّ يفيض من الجانبين.
فأنت-وإن كنت تظهر أَو تَتَبطَّنُ-
لا شكل لك
ونحن نحبك حين نحبُّ مصادفةً
أَنت حظّ المساكين/
من سوء حظّيَ أَني نجوت مراراً
من الموت حبّاً
ومن حُسْن حظّي أنيَ مازلت هشاً
لأدخل في التجربةْ!
يقول المحبُّ المجرِّبُ في سرِّه:
هو الحبُّ كذبتنا الصادقةْ
فتسمعه العاشقةْ
وتقول: هو الحبّ، يأتي ويذهبُ
كالبرق والصاعقة
للحياة أقول: على مهلك، انتظريني
إلى أن تجفُّ الثُمَالَةُ في قَدَحي...
في الحديقة وردٌ مشاع، ولا يستطيع الهواءُ
الفكاكَ من الوردةِ/
انتظريني لئلاَّ تفرَّ العنادلُ مِنِّي
فاخطئ في اللحنِ/
في الساحة المنشدون يَشُدُّون أوتار آلاتهمْ
لنشيد الوداع. على مَهْلِكِ اختصريني
لئلاَّ يطول النشيد، فينقطع النبرُ بين المطالع،
وَهْيَ ثنائيَّةٌ والختامِ الأُحاديّ:
تحيا الحياة!
على رسلك احتضنيني لئلاَّ تبعثرني الريحُ/
حتى على الريح، لا أستطيع الفكاك
من الأبجدية/
لولا وقوفي على جَبَل
لفرحتُ بصومعة النسر: لا ضوء أَعلى!
ولكنَّ مجداً كهذا المُتوَّجِ بالذهب الأزرق اللانهائيِّ
صعبُ الزيارة: يبقى الوحيدُ هناك وحيداً
ولا يستطيع النزول على قدميه
فلا النسر يمشي
ولا البشريُّ يطير
فيا لك من قمَّة تشبه الهاوية
أنت يا عزلة الجبل العالية!
ليس لي أيُّ دور بما كُنْتُ
أو سأكونْ...
هو الحظُّ. والحظ لا اسم لَهُ
قد نُسَمِّيه حدَّادَ أَقدارنا
أو نُسَمِّيه ساعي بريد السماء
نُسَمِّيه نجَّارَ تَخْتِ الوليد ونعشِ الفقيد
نسمّيه خادم آلهة في أساطيرَ
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب...
فصدَّقهم باعةُ الخزف الجائعون
وكَذَّبَنا سادةُ الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعيُّ على خشبات المسارح/
خلف الكواليس يختلف الأَمرُ
ليس السؤال: متى؟
بل: لماذا؟ وكيف؟ وَمَنْ
مَنْ أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟
كان يمكن أن لا أكون
وأن تقع القافلةْ
في كمين، وأن تنقص العائلةْ
ولداً،
هو هذا الذي يكتب الآن هذي القصيدةَ
حرفاً فحرفاً، ونزفاً ونزفاً
على هذه الكنبةْ
بدمٍ أسود اللون، لا هو حبر الغراب
ولا صوتُهُ،
بل هو الليل مُعْتَصراً كُلّه
قطرةً قطرةً، بيد الحظِّ والموهبةْ
كان يمكن أن يربح الشعرُ أكثرَ لو
لم يكن هو، لا غيره، هُدْهُداً
فوق فُوَهَّة الهاويةْ
ربما قال: لو كنتُ غيري
لصرتُ أنا، مرَّةً ثانيةْ
هكذا أَتحايل: نرسيس ليس جميلاً
كما ظنّ. لكن صُنَّاعَهُ
ورَّطوهُ بمرآته. فأطال تأمُّلَهُ
في الهواء المقَطَّر بالماء...
لو كان في وسعه أن يرى غيره
لأحبَّ فتاةً تحملق فيه،
وتنسى الأيائل تركض بين الزنابق والأقحوان...
ولو كان أَذكى قليلاً
لحطَّم مرآتَهُ
ورأى كم هو الآخرون...
ولو كان حُرّاً لما صار أُسطورةً...
والسرابُ كتابُ المسافر في البيد...
لولاه، لولا السراب، لما واصل السيرَ
بحثاً عن الماء. هذا سحاب -يقول
ويحمل إبريق آماله بِيَدٍ وبأخرى
يشدُّ على خصره. ويدقُّ خطاه على الرمل ِ
كي يجمع الغيم في حُفْرةٍ. والسراب يناديه
يُغْويه، يخدعه، ثم يرفعه فوق: اقرأ
إذا ما استطعتَ القراءةَ. واكتبْ إذا
ما استطعت الكتابة. يقرأ: ماء، وماء، وماء.
ويكتب سطراً على الرمل: لولا السراب
لما كنت حيّاً إلى الآن/
من حسن حظِّ المسافر أن الأملْ
توأمُ اليأس، أو شعرُهُ المرتجل
حين تبدو السماءُ رماديّةً
وأَرى وردة نَتَأَتْ فجأةً
من شقوق جدارْ
لا أقول: السماء رماديّةٌ
بل أطيل التفرُّس في وردةٍ
وأَقول لها: يا له من نهارْ!
ولاثنين من أصدقائي أقول على مدخل الليل:
إن كان لا بُدَّ من حُلُم، فليكُنْ
مثلنا... وبسيطاً
كأنْ: نَتَعَشَّى معاً بعد يَوْمَيْنِ
نحن الثلاثة،
مُحْتَفلين بصدق النبوءة في حُلْمنا
وبأنَّ الثلاثة لم ينقصوا واحداً
منذ يومين،
فلنحتفل بسوناتا القمرْ
وتسامُحِ موت رآنا معاً سعداء
فغضَّ النظرْ!
لا أَقول: الحياة بعيداً هناك حقيقيَّةٌ
وخياليَّةُ الأمكنةْ
بل أقول: الحياة، هنا، ممكنةْ
ومصادفةً، صارت الأرض أرضاً مُقَدَّسَةً
لا لأنَّ بحيراتها ورباها وأشجارها
نسخةٌ عن فراديس علويَّةٍ
بل لأن نبيّاً تمشَّى هناك
وصلَّى على صخرة فبكتْ
وهوى التلُّ من خشية الله
مُغْميً عليه
ومصادفةً، صار منحدر الحقل في بَلَدٍ
متحفاً للهباء...
لأن ألوفاً من الجند ماتت هناك
من الجانبين، دفاعاً عن القائِدَيْنِ اللذين
يقولان: هيّا. وينتظران الغنائمَ في
خيمتين حريرَيتَين من الجهتين...
يموت الجنود مراراً ولا يعلمون
إلى الآن مَنْ كان منتصراً!
ومصادفةً، عاش بعض الرواة وقالوا:
لو انتصر الآخرون على الآخرين
لكانت لتاريخنا البشريّ عناوينُ أُخرى
أُحبك خضراءَ. يا أرضُ خضراءَ. تُفَّاحَةً
تتموَّج في الضوء والماء. خضراء. ليلُكِ
أَخضر. فجرك أَخضر. فلتزرعيني برفق...
برفق ِ يَدِ الأم، في حفنة من هواء.
أَنا بذرة من بذورك خضراء... /
تلك القصيدة ليس لها شاعر واحدٌ
كان يمكن ألا تكون غنائيَّةَ..
من أنا لأقول لكم
ما أَقول لكم؟
كان يمكن أَلاَّ أكون أَنا مَنْ أَنا
كان يمكن أَلاَّ أكون هنا...
كان يمكن أَن تسقط الطائرةْ
بي صباحاً،
ومن حسن حظّيَ أَني نَؤُوم الضحى
فتأخَّرْتُ عن موعد الطائرةْ
كان يمكن أَلاَّ أرى الشام والقاهرةْ
ولا متحف اللوفر، والمدن الساحرةْ
كان يمكن، لو كنت أَبطأَ في المشي،
أَن تقطع البندقيّةُ ظلِّي
عن الأرزة الساهرةْ
كان يمكن، لو كنتُ أَسرع في المشي،
أَن أَتشظّى
وأصبح خاطرةً عابرةْ
كان يمكن، لو كُنْتُ أَسرف في الحلم،
أَن أَفقد الذاكرة.
ومن حسن حظِّيَ أَني أنام وحيداً
فأصغي إلى جسدي
وأُصدِّقُ موهبتي في اكتشاف الألمْ
فأنادي الطبيب، قُبَيل الوفاة، بعشر دقائق
عشر دقائق تكفي لأحيا مُصَادَفَةً
وأُخيِّب ظنّ العدم
مَنْ أَنا لأخيِّب ظنَّ العدم؟
مَنْ أنا؟
مَنْ أنا؟

*****

.. والحب مثل الموت وعدٌ لا يردّ ولا يزول!

ننتخب في هذه الصفحة مختارات شاملة من معظم أعمال محمود درويش بما يرسم للقارئ “خارطة طريق” (كلمة لا يحبّها محمود درويش) للحساسية الشعرية الدرويشية، ولنقاط العلّام في مسيرة شعرية حداثية كبرى.

وهذه المختارات أخذت من أعمال مختلفة. ولا بد من القول إن المتابع لخطى درويش سيجد نفسه مضطرا إلى اقتفاء أثره في الدواوين الآتية والتي أقتطفنا منها بعضا من عبق إبداعاته:
“أوراق الزيتون” 1964، منتخب “عاشق من فلسطين” 1966، “آخر الليل” 1967، “ العصافير تموت في الجليل” 1969، “حبيبتي تنهض من نومها” 1970، “أحبّك أو لا أحبّك” 1972، “محاولة رقم 7” 1973، “ أعراس” 1977، “مديح الظلّ العالي” 1983، “حصار لمدائح البحر” 1984، “هي أغنية، هي أغنية” 1986، “ورد أقلّ” 1986، “أحد عشر كوكباً” 1992، “لماذا تركت الحصان وحيداً” 1995، “سرير الغريبة” 1995، “جداريّة” 2000، “لا تعتذر عمّا فعلت” 2004، “كزهر اللوز أو أبعد” 2005، “في حضرة الغياب” 2007.

الموعد الأوّل

شدّت على يدي
ووشوشتني كلمتين
أعزّ ما ملكته طوال يوم:
“سنلتقي غداً”
ولفّها الطريق.
حلقت ذقني مرّتين!
مسحت نعلي مرّتين
أخذت ثوب صاحبي... وليرتين...
لأشتري حلوى لها، وقهوة مع الحليب!
وحدي على المقعد
والعاشقون يبسمون...
وخافقي يقول:
ونحن سوف نبتسم!
لعلّها قادمة على الطريق...
لعلّها سهت
لعلّها... لعلّها
ولم تزل دقيقتان!
النصف بعد الرابعهْ
النصف مرّ
وساعة... وساعتان
وامتدّت الظلال
ولم تجئ من وعدت
في النصف بعد الرابعهْ.
إلى أمّي
أحنّ إلى خبز أمّي
وقهوة أمّي
ولمسة أمّي...
وتكبر فيّ الطفولةُ
يوماً على صدر يومِ
وأعشق عمري لأني
إذا متّ،
أخجل من دمع أمّي!
خذيني، إذا عدتُ يوماً
وشاحاً لهدبكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي...
بخصلة شَعر...
بخيط يلوّح في ذيل ثوبك...
عساني أصيرُ إلهاً
إلهاً أصير...
إذا ما لمست قرارة قلبكْ!
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقوداً بتنّور ناركْ...
وحبل غسيل على سطح داركْ
لأني فقدت الوقوفَ
بدون صلاة نهاركْ
هرمت، فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشاركْ
صغار العصافيرِ
درب الرجوع...
لعشّ انتظاركْ!
ريتّا والبندقية
بين ريتّا وعيوني... بندقيّهْ
والذي يعرف ريتّا، ينحني
ويصلّي
لإله في العيون العسليّهْ!
... وأنا قبّلت ريتّا
عندما كانت صغيرهْ
وأنا أذكر كيف التصقتْ
بي، وغطّت ساعدي أحلى ضفيرهْ
وأنا أذكر ريتّا
مثلما يذكر عصفور غديرهْ
آه... ريتّا
بيننا مليون عصفور وصورهْ
ومواعيدُ كثيرهْ
أطلقت ناراً عليها... بندقيّهْ
اسم ريتّا كان عيداً في فمي
جسم ريتّا كان عرساً في دمي
وأنا ضعت بريتّا... سنتين
وهي نامت فوق زندي سنتين
وتعاهدنا على أجمل كأس، واحترقنا
في نبيذ الشفتين
وولدنا مرّتين!
آه... ريتّا
أيّ شيء ردّ عن عينيك عينيَّ
سوى إغفاءتين
وغيوم عسليّهْ
قبل هذي البندقيّهْ!
كان يا ما كان
يا صمت العشيّهْ
قمري هاجر في الصبح بعيداً
في العيون العسليّهْ
والمدينة
كنست كلّ المغنين، وريتّا
بين ريتّا وعيوني... بندقيّهْ.
ضباب على المرآة
نعرف الآن جميع الأمكنهْ
نقتفي آثار موتانا
ولا نسمعهم
ونزيح الأزمنة
عن سرير الليلة الأولى، وآه...
في حصار الدم والشمسِ
يصير الانتظارْ
لغة مهزومةً...
أمّي تناديني، ولا أبصرها تحت الغبار
ويموت الماءُ في الغيم، وآه...
كنت في المستقبل الضاحكِ
جنديّين،
صرتُ الآن في الماضي وحيدْ
كلّ موت فيه وجهي
معطف فوق شهيدْ
وغطاءٌ للتوابيت،
وآه...
لست جندياً
كما يُطلب مني،
فسلاحي كلمهْ
والتي تطلبها نفسي
أعارت نفسها للملحمهْ
والحروب انتشرت كالرمل والشمس،
وآه...
بيتكِ اليومَ له عشر نوافذْ
وأنا أبحث عن باب
ولا باب لبيتك
والرياح ازدحمت مثل الصداقات التي
تكثر في موسم موتك
وأنا أبحث عن باب، وآه...
(...).

يوميّات جرح فلسطيني

(إلى فدوى طوقان)

نحن في حلٍّ من التذكار
فالكرمل فينا
وعلى أهدابنا عشب الجليلِ
لا تقولي: ليتنا نركض كالنهر إليها،
لا تقولي!
نحن في لحم بلادي... وهي فينا!
(...)
صوتك الليلة،
سكينٌ وجرح وضمادُ
ونعاس جاء من صمت الضحايا
أين أهلي؟
خرجوا من خيمة المنفى، وعادوا
مرّة أخرى سبايا!
(...)
منزل الأحباب مهجور،
ويافا تُرجمت حتى النخاع
والتي تبحث عني
لم تجد مني سوى جبهتها
اتركي لي كلّ هذا الموت، يا أخت.
اتركي هذا الضياع
فأنا أضفره نجماً على نكبتها
آه يا جرحي المكابرْ
وطني ليس حقيبهْ
وأنا لست مسافرْ
إنني العاشق، والأرض حبيبهْ!
(...)
آن لي أن أبدل اللفظة بالفعل، وآنْ
ليَ أن أثبت حبّي للثرى والقبّرهْ
فالعصا تفترس القيثار في هذا الزمانْ
وأنا أصفرُّ في المرآة،
مذ لاحت ورائي شجرهْ!

مزامير

تركتُ وجهي على منديل أمّي
وحملت الجبال في ذاكرتي
ورحلت...
كانت المدينة تكسر أبوابها
وتتكاثر فوق سطوح السفن
كما تتكاثر الخضرة في البساتين التي تبتعد...
إنني أتّكئ على الريح
يا أيتها القامة التي لا تنكسر
لماذا أترنّح؟... وأنت جداري
وتصقلني المسافة
كما يصقل الموتُ الطازج وجوهَ العشّاق
وكلّما ازددتُ اقتراباً من المزامير
ازددتُ نحولاً...
يا أيتها الممرّات المحتشدة بالفراغ
متى أصل؟...
طوبى لمن يلتفّ بجلده!
طوبى لمن يتذكّر اسمه الأصلي بلا أخطاء!
طوبى لمن يأكل تفاحة ولا يصبح شجرة
طوبى لمن يشرب من مياه الأنهار البعيدة
ولا يصبح غيماً!
طوبى للصخرة التي تعشق عبوديتها
ولا تختار حرية الريح!

(...)

أنا لست منكمشاً إلى هذا الحدّ
ولكن الأشجار هي العالية
سيّداتي، آنساتي، سادتي
أنا أحبّ العصافير
وأعرف الشجر
أنا أعرف المفاجأة
لأني لم أعرف الأكذوبة
أنا ساطع كالحقيقة والخنجر
ولهذا أسألكم:
أطلقوا النار على العصافير
لكي أصف الشجر
أوقفوا النيل
لكي أصف القاهرة
أوقفوا دجلة أو الفرات أو كليهما
لكي أصف بغداد
أوقفوا بردى
لكي أصف دمشق!
وأوقفوني عن الكلام
لكي أصف نفسي...

(...)

كان ما سوف يكون

(إلى راشد حسين)

في الشارع الخامس حيّاني.. بكى.. مال على السور
الزجاجي، ولا صفصاف في نيويورك
أبكاني.. أعاد الماءَ للنهر.. شربنا قهوة.. ثم افترقنا في
الثواني
منذ عشرين سنهْ
وأنا أعرفه في الأربعينْ
وطويلاً كنشيد ساحليّ، وحزينْ
كان يأتينا كسيف من نبيذ.. كان يمضي كنهايات
صلاهْ
كان يرمي شعره في مطعم “خريستو”
وعكّا كلّها تصحو من النومِ
وتمشي في المياه
كان أسبوعاً من الأرض، ويوماً للغزاهْ
ولأمّي أن تقول الآن: آه!
ليديه الوردُ والقيد.. ولم يجرحه خلف السور إلاّ
جرحُه السيّدُ.. عشاق يجيئون ويرمون المواعيدَ
رفعنا الساحل الممتدَّ.. دشّنا العناقيد.. اختلطنا في
صراخ الفيجن البريّ.. كسرنا الأناشيد.. انكسرنا
في العيون السود.. قاتلنا.. قُتلنا.. ثم قاتلنا.. وفرسان
يجيئون ويمضونَ
وفي كلّ فراغْ
سنرى صمت المغنّي أزرقاً حتى الغيابْ
منذ عشرين سنهْ
وهو يرمي لحمه للطير والأسماك في كلّ اتجاه
ولأمّي أن تقول الآن: آه!
ابن فلاحَيْن من ضلع فلسطينَ
جنوبيٌّ
شقيّ مثل دوريٍّ
قويّ
فاتح الصوتِ
كبير القدمين
واسع الكفّ.. فقير كفراشهْ
أسمرٌ حتى التداعي
وعريض المنكبين
ويرى أبعدَ من بوّابة السجن
يرى أقرب من أطروحة الفنّ
يرى الغيمة في خوذة جنديّ
يرانا، ويرى كرت الإعاشهْ
وبسيط... في المقاهي واللغهْ
ويحبّ الناي والبيرة
لم يأخذ من الألفاظ إلا أبسط الألفاظ
سهلاً كان كالماء
بسيطاً... كعشاء الفقراء
كان حقلاً من بطاطا وذرهْ
لا يحبّ المدرسهْ
ويحبّ النثر والشعر
لعلّ السهل نثرٌ
ولعلّ القمح شعرٌ
ويزور الأهل يوم السبتِ
يرتاح من الحبر الإلهي
ومن أسئلة البوليسِ
لم ينشر سوى جزأين من أشعاره الأولى
وأعطانا البقيّهْ
شوهدت خطوتُه فوق مطار اللد من عشر سنين
واختفى...
كان ما سوف يكونُ
فضحتني السنبلهْ
ثم أهدتني السنونو
لعيون القتلهْ

(...)

“مديح الظلّ العالي”

(...)

بيروت – لا

ظهري أمام البحر أسوار و… لا
قد أخسر الدنيا… نعم!
قد أخسر الكلمات…
لكني أقول الآن: لا
هي آخر الطلقات - لا
هي ما تبقّى من هواء الأرض - لا
هي ما تبقّى من نشيج الروح - لا
بيروت - لا
نامي قليلاً، يا ابنتي، نامي قليلا
الطائرات تعضّني. وتعضّ ما في القلب من عسلٍ
فنامي في طريق النحل، نامي
قبل أن أصحو قتيلا
الطائرات تطير من غرف مجاورة إلى الحمّام، فاضطجعي
على درجات هذا السلّم الحجري، وانتبهي إذا اقتربتْ
شظاياها كثيراً منك وارتجفي قليلا
نامي قليلا
كنّا نحبّك، يا ابنتي
كنا نعدّ على أصابع كفّك اليسرى مسيرتنا
ونُنقصها رحيلا
نامي قليلا
الطائرات تطير، والأشجار تهوي
والمباني تخبز السكانَ، فاختبئي بأغنيتي الأخيرة، أو بطلقتيَ
الأخيرة، يا ابنتي
وتوسّديني كنت فحماً أم نخيلا
نامي قليلا
وتفقّدي أزهار جسمكِ
هل أصيبتْ؟
واتركي كفّي، وكأسَيْ شاينا، ودعي الغسيلا
نامي قليلا
لو أستطيع أعدتُ ترتيب الطبيعة:
ههنا صفصافة... وهناك قلبي
ههنا قمر التردّد
ههنا عصفورة للإنتباهِ
هناك نافذة تعلّمك الهديلَ
وشارعٌ يرجوك أن تبقي قليلا
نامي قليلا
كنّا نحبّك، يا ابنتي
والآن، نعبد صمتكِ العالي
ونرفعه كنائس من بَتُولا
هل كنتِ غاضبة علينا، دون أن ندري… وندري
آه منّا… آه ماذا لو خمشنا صُرّة الأفقِ
قد يخمشُ الغرقى يداً تمتدُّ
كي تحمي من الغرقِ
(…)

جداريّة

(...)
وأريد أن أحيا...
فلي عملٌ على ظهر السفينة. لا
لأنقذ طائراً من جوعنا أو من
دُوار البحر، بل لأشاهد الطوفانَ
عن كثبٍ: وماذا بعد؟ ماذا
يفعل الناجونَ بالأرض العتيقة؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟
ما النهايةُ؟ لم يعد أحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة...
أيها الموتُ انتظرْني خارج الأرض
انتظرْني في بلادكَ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مع ما تبقّى من حياتي
قرب خيمتكَ، انتظرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد.. يُغريني
الوجوديّون باستنزاف كلّ هنيهةٍ
حرّيّةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ...
فيا موتُ! انتظرْني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهشّ
حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه.. سأقول: صُبُّوني
بحرف النون، حيث تَعُبُّ روحي
سورة الرحمن في القرآن.. وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي.. ولا
تضعوا على قبري البنفسجَ، فهوَ
زهر المُحبَطين يُذكِّر الموتى بموت
الحبِّ قبل أوانه.. وضعوا على
التابوت سبعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ
وُجِدَتْ، وبعضَ شقائق النعمان إنْ
وُجِدَتْ.. وإلاّ، فاتركوا وردَ
الكنائس للكنائس والعرائس
أيها الموت انتظر! حتى أُعِدَّ
حقيبتي: فرشاةَ أسناني، وصابوني
وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثيابَ
هل المناخ هناك معتدلٌ؟ وهل
تتبدّل الأحوال في الأبديّة البيضاء
أم تبقى كما هي في الخريف وفي
الشتاء؟ وهل كتاب واحد يكفي
لتسليتي مع اللاّ وقتِ، أم أحتاجُ
مكتبةً؟ وما لغةُ الحديث هناك
دارجةٌ لكلّ الناس أم عربيّةٌ
فُصْحى
... ويا موت انتظرْ، يا موتُ
حتّى أستعيد صفاءَ ذهني في الربيع
وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا
يصيد الظبيَ قرب النبع

(...)

لم يسألوا: ماذا وراء الموت
لم يسألوا: ماذا وراء الموت؟ كانوا
يحفظون خريطةَ الفردوس أكثر من
كتاب الأرض، يشغلهم سؤال آخر:
ماذا سنفعل قبل هذا قبل هذا الموت؟ قرب
حياتنا نحيا، ولا نحيا. كأنّ حياتنا
حِصصٌ من الصحراء مختلَفٌ عليها بين
آلهة العِقار، ونحن جيران الغبار الغابرونَ
حياتنا عبء على ليل المؤرّخ: “كلّما
أخفيتهم طلعوا عليّ من الغياب”...
حياتنا عبء على الرسّام: “أرسمهم،
فأصبح واحداً منهم، ويحجبني الضباب”
حياتنا عبء على الجنرال: “كيف يسيل
من شبحٍ دم؟” وحياتنا
هي أن نكون كما نريد.. نريد أن
نحيا قليلاً، لا لشيء... بل لنحترمَ
القيامةَ بعد هذا الموت.. واقتبسوا
بلا قصدٍ كلامَ الفيلسوف: “الموت
لا يعني لنا شيئاً.. نكونُ فلا يكونُ
الموت لا يعني لنا شيئاً.. يكونُ فلا
نكونُ”
ورتّبوا أحلامهم
بطريقة أخرى. وناموا واقفين!
هي لا تحبّك أنت
هي لا تحبّكَ أنتَ
يعجبُها مجازُكَ
أنت شاعرها
وهذا كلّ ما في الأمر
يعجبها اندفاع النهر في الإيقاعِ
كن نهراً لتعجبها!
ويعجبها جِماع البرق والأصوات
قافيةً...
تُسيلُ لعابَ نهديها
على حرفٍ
فكن أَلِفاً... لتعجبها!
ويعجبها ارتفاع الشيء
من شيءٍ إلى ضوءٍ
ومن ضوءٍ إلى جِرْسٍ
ومن جِرْسٍ إلى حسٍّ
فكن إحدى عواطفها... لتعجبها
ويعجبها صراعُ مسائها مع صدرها:
“عذّبتني يا حبُّ
يا نهراً يصبّ مجونه الوحشيّ
خارج غرفتي...
يا حبّ! إن لم تُدْمِني شبقاً
قتلتك”

(...)

في حضرة الغياب

سطراً سطراً أنثركَ أمامي بكفاءة لم أُوتَها إلاّ في المطالع
وكما أوصيتَني، أقفُ الآن باسمكَ كي أشكر مشيّعيكَ
إلى هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع،
والانصراف إلى عشاء احتفاليّ يليق بذكراك
فلتأذنْ لي بأن أراكَ، وقد خرجتَ منّي وخرجتُ منك
سالماً كالنثر المصفّى على حجر يخضرّ أو يصفرّ في
غيابك.. ولتأذن لي بأن ألُمّكَ، واسمَكَ، كما يلمّ السابلةُ
ما نسيَ قاطفو الزيتون من حبّات خبّأها الحصى.. ولنذهبنَّ
معاً أنا وأنت في مسارَيْن:
أنتَ، إلى حياةٍ ثانية، وَعَدَتْكَ بها اللغة، في قارئ قد
ينجو من سقوط نيزك على الأرض
وأنا، إلى موعد أرجأتُه أكثر من مرّة، مع موتٍ وعدتُه
بكأس نبيذٍ أحمرَ في إحدى القصائد.. فليس على الشاعر
من حَرَجٍ إن كذب.. وهو لا يكذب إلاّ في الحب، لأن
أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن
أمّا الموت، فلا شيء يهينُه كالغدر: اختصاصِهِ المُجَرَّب
فلأذهبْ إلى موعدي، فور عثوري على قبر لا ينازعني
عليه أحدٌ من غير أسلافي، بشاهدةٍ من رخام لا يعنيني إن
سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف
الياء من اسم جدّي سهواً.
ولأذهبنَّ، بلا عكّاز وقافية، على طريق سلكناه، على غير
هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب
أنذرتْنا بخلوّ الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوحٍ
لا تخلو من لهفة الترقّب لما تُوحي الثنائيّاتُ من امتنانٍ
غير معلنٍ بين الضدّ والضدّ.
لو عرفتُك لامتلكتُك، ولو
عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون (...).

*****

الاثنين, 11 أغسطس 2008