إياد كنعان

ما ان جف حبر محمود درويش الأخير الذي لن يجف (في المجاز)، هذا الحبر الذي خضب قلوبنا بكل الجمال والأسى، الذي يليق بقامة شعرية إمتدت على مساحة وطن غائر فينا مثل جرح مكابر يأبى الشفاء، وروح تأبى الموت، حتى تحولت دواوين هذا الشاعر الذي بكاه ونعاه الشرق والغرب، الى مادة تجارية بأيدي بعض التجار من أصحاب المصالح المادية البحتة، من الذين يتاجرون حتى برفاة أمهاتهم تحقيقا للربح السريع المضمون، كيف لا وما أن يموت المبدع حتى يتحول لدى البعض إلى رزمة من الدنانير والدولارات، وحدث تجاري يحقق أعلى العائدات. هذا ما حصل للأسف الشديد في العاصمة الأردنية عمَان، حيث كان مصابنا في درويش مثل طعنة في القلب والروح، ففجيعة رحيل درويش عن عمَان التي سكنها، وكان لها نصيب كبير من شعره ولياليه، ليس أقل فجائعية من رحيله عن رام الله، عمَان بالنسبة لدرويش ليست محطة عابرة، بل مكان إقامة، وأكاد أحدس أنه رمى فيها حجارة نرده الاخير، مثلما إحتسى فيها قهوته، ووقع دواوينه الاخيرة التي شفَّت عن روحه (العادية)، روح مليئة باليومي والإنساني البسيط، روح ترجلت عن حصانها المقاتل الجموح، لتعيش سكينتها وهدوئها.

لم يكد حبر محمود درويش الاخير يجف، حتى شاهدنا على أرصفة مدينة عمَان التي بكته ونعته كما تنعي أم إبنها، وحالها في ذلك حال سائر المدن العربية، دواوينه الاخيرة المنشورة عن دار رياض الريس، مقرصنة مستنسخة بكل المجانية وكل الانتهاك الذي يتنافى مع أبسط مبادىء وفائنا للشاعر الكبير، بل و وفائنا لروح الشعر، في مشهد يتنافى مع ماقيل في رحيله، وكل ما قيل في الألم والعذاب لخسارته، ها أنت ترجلت أخيرا يا درويش، ترجلت وقبض عليك الموت بزنده الغليظ متلبَّسا بتهمة الحياة والشعر، موت ينصب شراكه في منعرجات الروح وشرايين الجسد، فكان لنا نصيب كبير من رثائك، فهل يكون لنا نفس النصيب من الوفاء لك؟ في ظل صور علقت للشاعر، حملت مقاطع من شعره، ما زال ينصب تجار ومرتزقة فخاخهم، أكشاك (ثقافية) وغير ثقافية تبيع نسخا مقرصنة هزيلة في مشهد مقزز، من فرط إنتهاكه لجلال القصيدة، وهيبة الموت وعظمة الفقد، ألم ينتظر هؤلاء قليلا حتى تحط روح الشاعر رحالها، ألم ينتظروا قليلا حتى يذبل جسده ويتحد بالتراب، ويأخذ الموت حقه منه ومنا، لو أنا نعلم أن مراد هؤلاء يتجوز فكرة الكسب والربح، لوجدنا لهم عذرا، لكن أن يتحول الموت إلى وسيلة للتكسب وتحقيق الارباح، فهذا ما يتنافى والله مع كل كلام الوفاء الذي قلناه أو سنقوله في رحيل درويش.

ما أن رحل درويش حتى تبارى الكل في نعيه، بينما إصطف الكثيرون يتقبلون العزاء عنه، فمن أوجب من هؤلاء في الدفاع عن منجز هذا الشاعر من التجار والقراصنة، كيف لي أن أقف لأتقبل العزاء في موت شاعر، ثم أقول لا دخل لي في حماية دواوينه من القراصنة، أو حتى أيصال تلك الصورة إلى الجهات المعنية لتتخذ الاجراء القانوني المناسب، فكأن حال هؤلاء يقول: أنا أخذت العزاء حتى (أتصور) أمام الصحفيين، أو تكتب الجرائد رثائي لدرويش، هذا كل ما في الامر، لا دخل بأكثر من ذلك! ها هو محمود درويش، الذي شيعه شعبه وكل الشعوب العربية، ولم يحتج إلى أي جهة رسمية لتفتح له بيت عزاء، فكانت قلوبنا بيوت عزاء، قد مات وبموته طويت صفحة ناصعة من الصمود والثبات، وانضم إلى قافلة طويلة من شهداء الحرية: غسان كنفاني، ناجي العلي، إدوارد سعيد، إسماعيل شموط، وغيرهم الكثير، محمود درويش يا أصدقاء يستحق منا الوفاء أكثر مما يستحق من كلمات الرثاء والعزاء، هو الذي إنتصر لكل ما هو حي فينا، يستحق منا أن نحمي وصاياه ودواوينه من القرصنة على أرصفة مدن نعته وبكته شاعرا وشهيدا! ناقد من الاردن

iyadkanan@hotmail.com

25/08/2008