مات محمود درويش مساء بتوقيت المشرق العربي، وظهرا بتوقيت مدينة هيوستن، حيث اجريت له جراحة في الشريان الأبهر. الجراحة اجريت يوم الأربعاء، ومات الشاعر يوم السبت في التاسع من آب (اغسطس). لحظة موته، سمعنا صوته يخاطبنا من ديوانه 'اثر الفراشة'، قائلا: 'صدقت اني مت يوم السبت/ قلت عليّ ان اوصي بشيء ما/ فلم اعثر على شيئ/ وقلت عليّ ان ادعو صديقا ما/ لأخبره بأني مت/ لكن لم اجد احدا/ وقلت عليّ ان امضي الى قبري لأملأه/ فلم اجد الطريق/ وظل قبري خاليا مني...' وبعد المأتم المهيب الذي اقيم في رام الله، دفن الشاعر قرب المجمع الثقافي، ولم يدفن في الجليل، حيث القبر المشتهى الذي بقي فارغا. وبدأ سيل الكتابة. سمعت صوته من جديد آتيا من 'ورد اقل'، حيث اعلن 'يحبونني ميتا'.
رأينا سيول الحب للميت تتدفق من كل مكان. 'يحبونني ميتا ليقولوا كان منا وكان لنا/ سمعت الخطى ذاتها منذ عشرين عاما/ تدقّ على حائط الليل/ تأتي ولا تفتح الباب/ لكنها تدخل الآن/...فقالوا لماذا تحب النبيذ الفرنسي/ قلت لأني جدير بأجمل امرأة/ كيف تطلب موتك؟/ ازرق مثل نجوم تسيل من السقف- هل/ تطلبون المزيد من الخمر؟/ قالوا سنشرب/ قلت سأسألكم ان تكونوا بطئين، ان/ تقتلوني رويدا رويدا لأكتب شعرا'.
كانت مصادفة يوم السبت اشبه بالرؤيا التي تأتي في المنام. فالشعر لا يشبه سوى المنام الصاحي اذا صح التعبير. يستطيع الشاعر ان يحلم بأنه يحلم، مطوعا الحلم في القصيدة. اما الحكاية فتولد من ارتطام الحلم بالحقيقة، لتبني عالمها الجديد المصنوع من تدفق الخيالي من شقوق الواقعي. منذ جدنا الملك الضليل لم يكتب الشعراء قصصهم، بل تركوا ذلك للرواة. فولدت الحكاية على ضفاف الشعر، هكذا بدأ السرد العربي الكلاسيكي، كحكاية لم يكتبها الشعراء. حكاية امرئ القيس او سيرة عنترة او موت طرفة، لا نجدها في اشعارهم، بل نجد اشعارهم في الحكاية التي لم يكتبوها. لذا بقي الشعر في السرد، وهذا ما يفسر في رأيي الابيات الشعرية في 'الف ليلة وليلة'، التي تأتي كي تقذف السرد الى المعنى.
الموت يوم السبت، والقمر الكامل البهي الذي توشح بالبرتقالي في ليل بيروت يوم السبت الذي تلاه، هما بداية الحكاية الدرويشية، وهي حكاية علاقة خاصة لا مثيل لها في الشعر العربي الحديث بين شاعر وقرائه. لقد كتب الشاعر في 'اثر الفراشة'، بداية محتملة لحكايته، اما حكايته التي صارت اسما آخر لفسلطين، اما فلسطين التي صارت احد اسماء الشعر العربي، فتلك حكاية مفتوحة على الاحتمالات كلها.
في 'ورد اقل'، الذي كان الاشارة الأبرز على التحول نحو مزج الغنائية الذاتية بملحمية جديدة، طلب الشاعر من الذين يحبونه ميتا ان يتمهلوا في قتله، دعاهم الى شرب النبيذ الفرنسي على مائدة موته، واستعار حكاية طرفة، الذي اراد لنفسه الموت وهو يشرب وينزف ويقول الشعر.
القبيلة استعادت شاعرها لحظة موته. انا لا اتكلم هنا عن فلسطين، فشعردرويش صار احد اسماء الوطن الصغير 'كحبة سمسم'، لأنه اكتشــــف كيف يبني حجرمن ارضنا سقف السماء. بل اتكلم عن قبيلة الشعراء والمثقفين، الذين تحلقوا حول المائدة الأخيرة التي صنعها الشاعر. هكذا صار درويش ملكا للجميع كي لا يكون ملكا لأحد، ودخلت حكايته في حكايات الجميع.
قد يجد البعض في هذا استكمالا لمأتم رام الله، الذي كان بديلا من مأتم مفترض في الجليل. وعلى الرغم من مشاركتي مع اصدقاء الشاعر في اصدار نداء من اجل مواراته في الجليل، فانني لم اجد في المأتم ما يثير الغضب. رغم ان الخطب لم تلتزم بوصية الجدارية قال انه سيمنع الخطباء من تكرار ما قالوه عن البلد الحزين وعن صمود التين والزيتون، كما لم يلتزم المشيعون بالمشي صامتين على ايقاع الناي، فأنني وجدت في المأتم شيئا من الالتباس الدرويشي الدائم، وقرأت فيه كيف فرض الشاعر نفسه اميرا للكلام، فأقيم له اكبر مأتم اقيم لشاعر. لقد فرض درويش الشعر والأدب، جاعلا منهما اولوية وطنية.
لم اجد في المراثي المتدفقة ما يثير الحنق، صحيح انه كان يجب التروي قليلا، كي لا يقع البعض في اخطاء عابرة، لكن الأخطاء ليست المسألة، ويجب ان لا تحجب حقيقة ان الموت ادخل الشاعر في حكاية متشعبة، لن تكتمل فصولها.
حتى الهجمات الجارحة، التي نشرتها بعض مواقع الاسلاميين عن شاعر فلسطين والعرب، يجب ان لا تثير الغضب، فهي آتية من موقع من يغار من الثقافة ولا يغار عليها، وهي دليل على تجذر الثقافة الوطنية، وقدرتها على قولبة البنيان الثقافي بلغة النهضة والحداثة. والمضحك ان بعضهم حاول ان يعطي شاعر المقاومة درسا في المقاومة! القبيلة الثقافية اجتمعت حول الشاعر، كي تعيد تأويل حكايتها. وحده درويش، من بين كل شعراء العربية، من يستدعي تأويله، تأويلا لثقافة العرب الحديثة. ان تكون فلسطين، التي صارت اليوم جسد الشعر والشاعر، هي مكان هذا التأويل، فهذه هي البداية في النهاية
القدس العربي
19/08/2008