التاريخ شاهد عادل على المواقف بجانبيها الايجابي و السلبي، و في مقدمة ما يبقى لاصحاب اي عمل هو مدى قدرته على خدمة الانسانية و التقدم البشري من كافة النواحي السياسية و الثقافية و الاقتصادية والاجتماعية و اتخاذ المواقف الصحيحة بعقلية متفتحة . غير قليلين من ابدعوا و على الجميع ان يتذكرهم و يجب ان يُذكروا على الدوام و هم خالدون و ان وروا الثرى، النخبة المثقفة في الصف الذي يمكنهم ان يؤثروا وان يبدوا ارائا مؤثرة على الواقع في زمانهم ، و يُنظر الى كلامهم و اعمالهم على انه الحاسم في بيان التعبير الصحيح الحقيقي في القضايا او ما يمس الانسان ، و هناك من يمكن ان يكتب ارائه و مواقفه بذهب ليتعلم منه الاجيال و يتعضوا و يستفيدوا في دنياهم، ومن بينهم الشاعر الانساني محمود درويش .
كلنا على علم بان هناك قضيتان انسانيتان رئيستان قبل ان يكونتا اي شيء في الشرق الاوسط، هما قضيتا فلسطين و كوردستان ، و هما تتشابهان في كثير من الاوجه، و هما قضيتا شعبين اللذين اغتصب ارضيهما و ظلما طوال التاريخ وكانتا ضحية الصراعات و المصالح الدولية و غير واقعهما دون ان يؤخذ رايهما ، ولم يفدهما اي كان الا ابناء جلدتهما و برز من هذين الشعبين المضحيين مبدعين كبار والجهابذة الخيرين من العلماء والادباء والشعراء و المثقفين بشكل عام، و لكون قضيتهما ذات خصوصية انسانية فتخرج من رحم معاناتهما مجموعة كبيرة من الشعراء والادباء والعلماء، و منهم من يشهد له القاصي و الداني ، وعلى راسهم محمود درويش الذي ابدع منذ نعومة اظفاره و نظر الى الحياة من خلال روحه الانسانية الطيبة المؤمنة بالحقوق الانسانية بعيدا عن التحيز و الحقد والتعصب الايديولوجي، و تغنى لشعبه و الشعوب المغدورة الاخرى من خلال نظرته الانسانية و تلهف الى اظهار مواقفه بعيدا عن اي اعتبار لمصالحه الشخصية و كان لمواقفه السياسية و الثقافية اثر كبير على الجميع وبمختلف القوميات و الافكار و الاراء، حقا ان روحه النظيفة و ألهامه الباهر فرضت عليه ان ينصف الكل بارائه و مواقفه ، و لم يأبه بما يحول بينه و بين السلطات ،و ربما غدر به بعض السلطات المتنفذة من جراء انتقاء اشعاره وابعاد بعض منها عن عيني القاريء.
عاش في وقت عصيب و راى ما جرى في المنطقة ، و ناضل بعقله وانامله و قلمه و افكاره من اجل الحرية،و الحكومات الدكتاتورية المتفردة بالحكم ظلموه و جنوا على اشعاره عندما لم ينصفوا في بيان اشعاره و تضليل مضامينها و لم يعدلوا في بيان ارائه و حتى دواوينه لم تسلم من مقص و ابعاد اشعار حسب ما اشتهت الحكومات المتسلطة و المتعصبة، و كانت رصانة احساسه جلية لنا و جمال تعابيره و احسانه و اختياراته المواضيع لا يضاهيه احد في التعبير و الدقة ، انه شاعر الحب و الحرية و اانسانية، شاعر المواقف و الانصاف بحق الجميع.
مَن مِن الكورد لم يتذكر انصاف هذا الشاعر العظيم في شعره تجاههم وبيان مواقفه و ارائه ازائهم:
يا شهرزاد الليل يفترس الصباح
و حقول كردستان موسمها جراح
الحب ممنوع و همس الجار..........لاشيء مباح
الا دم الاكراد......نفط الموقدين
مصباح عارهم بموت الاخرين
ان للشاعر الانسانية الكبير درويش دَين كبير على اعناق الكورد من خلال قصيدته ( معكم) و الذي ندد بالعدوان الظالم على الشعب الكوردي في العراق، و كان ينتقد حزب البعث عندما اشعل حربه ضد الكورد منذ عام 1963.
يا شهرزاد
الليل يفترس الصباح و الحب ممنوع و مخدعك الوثير
ملقى على اقدام سيدك الحقير
و دماء كردستان تغرق سافحيها
و اللعب المامون بالثيران سوف يموت فيها
انه الشاعر الذي لفظ كلمة كوردستان و حتى اليوم لم ينطقها القوميين الشوفينيين المتعصبين، بيًن موقفه في الوقت الذي شاركت اكثرية الحكومات العربية الحزب البعث الظالم في ظلمه و غدره للكورد و لم ينبسوا ببنت شفة تجاه مآسيه و ويلاته من حملات الانفال و القصف الكيميائي، نطق الحق و هو شاعر مبدئي حساس و الحكومات العربية المتنفذة المتسلطة انكروا ما حل بالكورد و كوردستان ، انه احساس شاعر بكل مافيه من رهافته و ايمانه المبدئي بالتساوي و حق الجميع في العيش بسلام و هو شاعر يعبد الانسان و يموت من اجل الحق، يقول:
هل خر مهدك يا صلاح الدين
هل هوت البيارق
هل صار سيفك.......صار مارق
في ارض كردستان حيث الرعب يسهر و الحرائق
الموت للعمال ان قالوا (( لنا نحن العذاب))
الموت للزراع ان قالوا ((لنا نور الكتاب))
الموت للاكراد ان قالوا ((لنا حق التنفس و الحياة))
نعم انه شعر و من صميم قلبه،و وصف ما حل بالكورد و كوردستان حيث الرعب و الحرائق و حتى سرقة حق التنفس و العيش، و وفىٌ لمُحرر القدس و شعر كأنه الكوردي المزارع العامل الكادح، و ترجم ما في اعماقه من الحب للانسانية بعيدا عن ما جلبته الايديولوجيات، و المتاجرين بالشعارات و بالقضايا المصيرية للشعوب، كره الظلم ولو كان على ايدي اخوته ضد اي عدو له و لقضيته ايضا و احب الحق و ترجل و وقف شامخا امام المغريات و ملذات الحياة ، ونكر ما يحدث باسم العروبة و قال:
وهل نقول بعد الان تحيا العروبة
مري في ارض كردستان مري يا عروبة
هذا حصاد الصيف ها تبصرين
لن تبصري ان كنت من ثقب المدافعين تنظرين
بعث لمزبلة الزمان اخس ما عرف الزمان من الرفاة
باسم العروبة يطعن التاريخ في شيطان دجلة و الفرات
و آخر ما ابدع فيه هو قصيدة كردستان بين ما يربط القضيتين بالرابط الوثيق و التلازم بين قضايا الشعوب المغدورة و المضطهدة، و بيًن في هذه القصيدة مدى تشابه القضيتين و اوضح بشكل مبدع و رهيف مستوى مساندة الشعب الفلسطيني و الكردي لبعضهما و مشاركة الشعب الفلسطيني لمحنة الكورد قائلا:
معكم قلوب الناس لولا طارت قذائف في الجبال
معكم عيون الناس فوق الشوك تمشي لا تبال
معكم عبيد الارض من خضر المحيط الى الشمال
معكم انا معكم ابي و اخي و زيتوني و عطر البرتقال
معكم عواطفنا قصائدنا جنود في القتال
يا حارسين الشمس من احقاد اشباه الرجال
ما فرقنا الريح ان نضال امتكم نضالي
ان خر منكم فارس شدت على عنقي حبالي
و صف الدرويش الواقع دون ان يزوره ، قيًم الوضع و احسه، و احس الحياة باجمل احساس و هو تمنى ما يجب ان يكون و عبًر بما جال في نفسه، و عبًر عن موقفه و دافع عن الكورد بعين الانسان و الانسانية و صاحب القضية، حاول ابعاد كل التراكمات و الموروثات التعصبية من عقل بني جيله و صاح بما يجب ان يصرخ به و ما تكون عليه الانسانية، انه الكبير العظيم المبدع انه حقا انصف ضميره و الكورد بما يستحق و تبقى كوردستان وفية له.
لابد ان يفتخر العالم باجمعه بشاعر كان دائما يحس بالاخر و ليس في ذهنه ما يريده لنفسه دون الاخر، انه درويش كما احس بما عليه الكون و كانه عاش كل يوم في كوكب و عاش في كل دقيقة في قرية من ركن مهمش من بقاع العالم ،انه قمة الانسانية و اتصف حقا بالشفافية و الايمان بالتحاور مع الاخر و عدم الغاء الغير، و بموته خسره العالم و الانسانية اجمع و فقده الحب و الحياة و العدالة الجتماعية.
الحوار المتمدن
العدد: 2377 - 2008 / 8 / 18