صحوت من النوم مفزوعا (محمود درويش مات)
انفجر الشريان الأبهر ذلك الذي يحتل وسط الصدر ويغذي العقل والنفس والوجدان بالدم، وكأنه الرمزلانفجار شريان الوطن. لم يمنع هذا التفسير من الحزن المكتوم علي الرجل الذي صحوت علي شعره وأنا بعد 19 سنة أتعلم وأئن وأرتاح علي صدر كلماته كلما زاد عليٌ حمل السنوات، التقيته في مكتبه بالأهرام والتقيته في لندن في أمسية عزف فيها الإنجليز ألحانا خلف إلقائه لأشعاره المحكمة، واحتفظت بكل أوراقه المطبوعة نثرا وشعرا وسادة أتكيء عليها في وحدتي وغربتي
ولكن كما تعودت الفقدان تلقيت الخبر الفاجعة بالصمت. نعم كثير من الشعراء يصابون بأمراض القلب والأوعية الدموية ويموتون بها. لكن محمود درويش حالة خاصة. المسألة بالفعل عند الرجل أكبر من حالة اكتئاب تسبب مرضا في نسيج الوعاء الضخم (الأورطي) حالة فتحته علي مصراعيه وأفقدته صلابته ليفشل في تنظيم تدفق الدم. لكن الحزن الدفين المؤثر علي هرمونات الجسم وكيماء المخ العصبية المتعكرة باشر تأثيره السلبي علي محطات الوجدان في قلب المخ الذي سري بهمومه عبر النهايات العصبية للقلب وأوعيته الدموية الضخمة فأصابها بالفشل ثم الانفجار.
لكن لابد من تأمل آخر نص كتبه محمود درويش ولم ينشر في كتاب وهو يتحدث عن المنفي، ويذكرني تصنيفه للمنفي بالداخلي والخارجي بسيدة مصرية عادت من منفاها الاختياري بأمريكا إلي مصر وهي تئن تحت سطوة هجرتها الداخلية القاسية فهي كما يقول درويش (كانت غريبة عن مجتمعها وثقافتها، وشعورها بأنها مختلفة) وعرفها بل شخٌّص حالتها الاكتئابية الجسيمة ولا نقول (اكتئابها كتشخيص لمرض يعالجه المعالج) _ بأن المنفي مقيم في الذات المحرومة من حريتها الشخصية في التفكير.
وإذا تأملنا درويش من خلال كلماته التي تصف نفسه قبل وفاته ربما سنوات كثيرة (المنفي الخارجي انفصال المرء عن جغرافيته العاطفية، انقطاع حادٌ في السيرة، وشرخ عميق في الإيقاع(.
عودة إلي الناس في حياتهم اليومية وهمومهم المزمنة نجدهم يقولون في تعبيراتهم العادية (لقد كدت أموت من الخوف) أو (قتلتني الوحدة) أو (كاد قلبي يتوقف من الرعب)، تنويعات مختلفة علي ألحان الموت والقلب تكاد تتمحور حول ذلك الخوف القابع في أنسجتنا متحولا إلي كيمياء غريبة تسري وتنتشر ولاندري بتراكماتها الفظيعة إلا بعدما تذهب الروح إلي بارئها، تدور حول ذلك الكمد والهم النائم في الجروح الداخلية للذاكرة والوطن والأماكن وذلك الغضب المكظوم لما حصل وما نحن عليه وما هو قادم فالعلم المقدم بالدليل والبرهان يثبت لنا أن مشاعرالغضب المزمنة، التوتر، القلق، إجهاد الانتظار وإجهاد الترحال، عدم اليقين، الوحدة وسوداوية المزاج تكون قاتلة للقلب وشرايينه وكأنها كلها حالات عامة وخاصة داخلية وخارجية في ذلك الانسان المخلوق المركب تهيئه لخشبة الموت والاختفاء تماما ونهائيا فلقد تعب الفارس
اخبار الأدب- 24 اعسطس 2008