حسن خضر
(فلسطين/برلين)

-1

هاتفني محمود قبل رحلته الأخيرة. سأل في البداية، كعادته، عن نورا ونينا، ثم تكلّم عن العملية. نورا القطة التي واكب سيرتها منذ دخولها إلى بيتنا في حي البالوع في رام الله، وحتى انتقالها للعيش معنا في حي شونبيرغ في برلين. ونينا التي كان أحد اثنين وقعّا كشاهدين على عقد اقتراني بها. أما العملية فهي التسمية الأليفة والمألوفة لأمر يعني الحياة والموت في آن واحد معا.
سأل، وتكلّم، بطريقته المعهودة: صيّاد ماهر للمفارقات لغوية كانت أم ظرفية، محايد بلا برود، ودافئ بلا ابتذال، ساخر بلا فجاجة، وساحر لا يمكّن الصمت من قطع حبل الكلام.
كانت "العملية" موضوعا لأحاديث متصلة منذ عودته من باريس قبل ما يزيد عن العامين. فقد ذهب إلى العاصمة الفرنسية لاستشارة طبيبه، وإجراء فحوصات روتينية، وعاد بأخبار مفزعة: الكوليسترول في ازدياد، وأحد شرايين القلب يتسع على نحو يهدد بانفجاره في كل لحظة، إجراء عملية جراحية محفوف بالمخاطر، فالقلب الذي تعرّض لعمليتين جراحيتين من قبل لا يحتمل جراحة ثالثة، وحتى في حال القيام بمجازفة كهذه، وفي حال نجاحها، ثمة احتمال الإصابة بالشلل.
وافق محمود على إجراء العملية شريطة ألا يبقى على قيد الحياة إذا أصيب بالشلل. كان الكوليسترول الذي تراكم في شرايين قلبه، وتسبب في انسداد بعضها، من النوع الزجاجي، وهو نوع نادر، يتحوّل بعد تفتيته إلى شظايا مسنونة، ومجنونة، تجري مع الدم في الشرايين، متسببة بتكوين جلطات في أطراف مختلفة من الجسم.
وهذا ما حدث في العملية الثانية قبل عشر سنوات، عندما اضطر الأطباء لتخديره لمدة يومين لمعالجة الجلطات المتلاحقة في الساقين، والحيلولة دون وقوع جلطات جديدة. ومن حسن الحظ أنهم نجحوا في ذلك. سيكتب محمود بعد قليل في "الجدارية" عن تجربة العيش لمدة يومين سابحا في فضاء ما بين الحياة والموت:

"الوقت صفرُ. لم أفكر بالولادة
حين طار الموت بي نحو السديم،
فلم أكن حيّا ولا ميتا،
ولا عدم هناك ولا وجود".

رفض الطبيب الفرنسي التعهّد بإنهاء حياته إذا أصيب بالشلل، في حال صعود شظايا الكوليتسرول المسنونة إلى الدماغ، أو تلف بعض الأعصاب الحيوية لسبب أو آخر. فالقانون في فرنسا يمنع "الموت الرحيم"، ونصحه بإجراء العملية في بلدان مثل سويسرا وهولندا سنّت تشريعات خاصة بهذا الأمر.
عاد محمود، إذاً، يحمل لغما في قلبه. العبارة التي لم يكف عن ترديدها. لكن الأمر لم يخل من مفارقات تحولت بفضل ميله المدهش للسخرية إلى موضوع للتندر. ففي طريق عودته من باريس ألقى نظرة على التقارير الطبية، التي أصبح قادرا نوعا ما على فك رموزها، بفضل خبرة طويلة في عيادات الأطباء، فاكتشف أن القلب سليم، بينما توجد بوادر لمشكلة في البروتستاتا.

شغله الاكتشاف المربك، والمفاجئ لعدة أيام. من ناحية يريد تصديق معجزة القلب السليم، رغم ما سمعه من الطبيب، ومن ناحية أخرى يحاول التعامل مع مشكلة جديدة، ظهرت من حيث لا يدري ولا يحتسب، اسمها سرطان البروتستاتا. لذا، عرض التقارير الطبية على أحد معارفه من الأطباء في عمّان. ولم يستغرق الأمر سوى برهة اكتشف خلالها الأخير أن التقارير تخص شخصا آخر. أخطأ الطبيب الفرنسي عندما سلّمه ملفا لمريض آخر، ونسي محمود، في حماسة تجد مبررها في استراق النظر إلى أسرار قلبه على الورق، قراءة اسم المريض على الغلاف.

-2-

بيد أن التندر على هذه المفارقة لم يحل دون تغييب حقيقة أكبر وأكثر ديمومة: لم يعد لديه الكثير من الوقت، فالموت، كما كتب ساخرا، لا يحب الانتظار.
لن يتمكن أحد في الكون من إدراك ما يجول في مخيّلة شخص ينتظر موتا أصبح في حكم المؤكد، لكنه لا يعرف متى سينقض عليه، خاصة بعدما أفرغت الحياة ما في جعبتها من معجزات ومفاجآت. فلا مجال، هنا، للموازنة بين تفاؤل الإرادة وتشاؤم الذكاء. كل ما يبقى هو طريقة الوقوف بقامة منتصبة، وعينين مفتوحين، أمام حائط الإعدام، أو الاستسلام لغواية الذعر، والرثاء الذاتي، واستجداء الشفقة.
وقد وقف محمود، على امتداد عامين، هما الأصعب والأغنى في حياته، أمام حائط الإعدام، بكرم وكرامة نادرين. كرم المحب الذي يهب الحياة ما تستحق من مديح، وكرامة المحارب إذ يحدق في عدوه الموت بعينين مفتوحتين:

"إذا قيل لي: ستموت هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقى من الوقت؟
أنظر في ساعة اليد
أشرب كأس عصير
وأقضم تفاحة
و"أطيل التأمل في نملة وجدت رزقها..

ثم أنظر في ساعة اليد:

ما زال ثمة وقت لأحلق ذقني".
في نهاية هذه القصيدة التي نشرها في كتابه الأخير "أثر الفراشة"، يقول محمود:
"ثم ماذا؟
-أمشط شعري
وأرمي القصيدة: هذي القصيدة
في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا
وأشيّع نفسي بحاشية من كمنجات إسبانيا
ثم
أمشي
إلى المقبرة".

-3-

وما فعله، على امتداد عامين شيّع فيهما نفسه، يشبه النشيد الختامي الطويل. لم يكن النشيد جنائزيا، بل كان مرافعة عن الحب والحياة، وفي المتن منهما كانت فلسطين، التي حضرت في سلسلة متلاحقة من التداعيات والصور والتفاصيل الأوتوبيوغرافية إلى حد يبرر النظر إلى "حضرة الغياب" و"أثر الفراشة" كفصول ختامية في سيرة ذاتية بدأت في "لماذا تركت الحصان وحيدا"، ووجدت تعبيرها الأخير في "لاعب النرد" إحدى آخر القصائد، التي كانت، ضمن أمور أخرى، كشف حساب في ربع الساعة الأخير.
سأعود إلى هذه الأعمال في وقت لاحق، فكل ما ينبغي التأكيد عليه في الوقت الحاضر، يتمثل في حقيقة أن سيّد الكلام، واجه قدره الشخصي بشجاعة وبراعة وأناقة ولياقة تليق به وتدل عليه بقدر ما يدل عليها. لم يفكر بالمكابرة ولا الاستسلام، بل بما يمكن العثور عليه في ربع الساعة الأخير، أمام حائط الإعدام، من شعر، وبما في الشعر من مديح للحياة، وبما في الحياة من ضوء يشع على، أو من، أرض كانت تُسمى فلسطين، وصارت تُسمى فلسطين:

"يا أرض خضراء. تفاحة. أحبك خضراء
تتموج في الضوء والماء. خضراء. ليلك
أخضر. فجرك أخضر. فلتزرعيني برفق
برفق يد الأم، في حفنة من هواء
أنا بذرة من بذورك خضراء".

***

حسن خضر:
محمود، صورة أولى لسيد الكلام! (2-6)

-1-

في آب، قبل سبع سنوات، جاؤوا بجثمان سليمان النجّاب من الولايات المتحدة. وضعوا النعش في قاعة لإحدى النقابات، وذهبتُ مع محمود لإلقاء نظرة الوداع.
كان محمود يحب سليمان (أبو فراس)، الذي كانت أقصر زياراته إلى السكاكيني، عندما يكون مشغولا بأمور أخرى، تنتهي بعد ثلاث ساعات، أما العادية منها فكانت تبدأ من العاشرة والنصف صباحا، وتنتهي مع انتهاء وقت الدوام، أي في حدود الثانية والنصف.
عندما يحضر أبو فراس، يرمقني محمود بنظرة ماكرة، تختزل عبارة "راح يومنا"، التي يرددها كلما اتصل أبو فراس معلنا قدومه، أو جاء فجأة بلا إنذار.
ومع ذلك، لم في يكن تلك العبارة، حتى وإن اتشحت بدعابة المكر الخفيف، ما ينم عن الشكوى، بقدر ما فيها من الاعتراف الضمني بأن النهار مفتوح على احتمال البهجة. ففي جعبة ذلك الرجل الأسمر الطويل من النوادر والحكايات والشعر الجاهلي، وفي قلبه من الدفء والمحبة ما يحوّل الزيارة إلى موضوع دائم للاحتفاء.
وقد روى في أكثر من زيارة مقاطع من حكاية الغزال الصغير، الذي وجده متعبا وجائعا بين الأشجار في القرية، فأرضعه الحليب بيديه من زجاجة كتلك التي يستخدمونها لرضاعة الأطفال، لكن الغزال فارق ـ في نهاية الأمر ـ الحياة، وانتهى به المطاف في قبر بالحديقة.
الحكاية التي تحوّلت بعد رحيل سليمان إلى قصيدة بعنوان "رجل وخشف في الحديقة" نشرها محمود في ديوان "لا تعتذر عمّا فعلت":
"لم أقل شيئا لصاحبي الحزين. ولم يودعني كعادته بأبيات
من الشعر القديم. مشى إلى قبر الغزال الأبيض.
احتضن التراب وأجهش: "انهض
كي ينام أبوك، يا ابني، في سريرك.
ها هنا أجد السكينة".

-2-

عندما ذهبنا لإلقاء النظرة الأخيرة على أبي فراس، درنا مع آخرين حول النعش الذي وضع فوق منصة مرتفعة، وقفنا أمامه برهة من الوقت وخرجنا من القاعة. وهنا سأل محمود كمن يحدّث نفسه: هل يشعر الآن بشيء؟
كان جوابي بالنفي. وليس هذا هو المهم، بل طريقة محمود في طرح السؤال: بدا وكأن السؤال أفلت منه، أو خرج من مكان بعيد في القلب، مثقلا بالحيرة والتردد. حيرة الحي أمام لغز اسمه الموت. وتردد من ينتظر موتا تأجل أكثر من مرّة، لن يطلب منه سوى فروسية القوي إذ يسدد الضربة القاضية، لكنه لا يعرف، بالضبط، كيف سيعبر الجسر القصير بين ضفتي الوجود والعدم. فالموت، كما كتب في رثاء إبراهيم أبو لغد "مفاجئ، صاعق، غير معروف، وغير مألوف".
في السنة الأخيرة من حياته، عندما وصل توّسع الشريان إلى حد الخطر، سأل الطبيب عن الوقت الفاصل ما بين انفجار الشريان، والوصول إلى الضفة الأخرى. كان الجواب من سبع دقائق إلى عشرين دقيقة. وهذا زمن من الألم، غير المعروف والمألوف، طويل جدا، لا يُقاس بما نعرف من حساب الزمن.
محمود الإنسان شجاع، لكنه شديد التطيّر، ويكره الألم. ومحمود الشاعر مغامر لا يرتاح إلى مُنجز، ولا تردعه أسوار. وهما اثنان أصبح لزاما عليهما التواطؤ، وانتظار الضربة القاضية متحدين. الأوّل يعين الثاني بما في رصيده من حياة على استكمال ما تبقى من كلام في القصيدة، والثاني يأخذ بيد الأوّل: هيا، يا صاحبي، حتى في النهايات ثمة ما يشبه الإيقاع الخفيف والوزن والقافية. فليكن نشيد النهايات أخضر، ولنكن ساخرين وطيبين. يكتب في "أثر الفراشة":

"يرنو إلى أعلى
فيبصر نجمة
ترنو إليه
يرنو إلى الوادي
فيبصر قبره
يرنو إليه
يرنو إلى امرأة،
تعذبه وتعجبه
ولا ترنو إليه
يرنو إلى مرآته
فيرى غريبا مثله
يرنو إليه!".

ثمة تجليات يصعب حصرها لهذه الثنائية في ما كتبه محمود شعرا ونثرا بعد العام 1998، بعدما تحرّش به الموت في باريس، ثم نهض ليكتب "الجدارية" التي تملكه إحساس بأنه لن يكتب شيئا بعدها.

-3-

رحل إبراهيم أبو لغد قبل سليمان النجّاب بثلاثة أشهر. وهي الأشهر التي واظب خلالها محمود على زيارة إبراهيم، أحيانا على مدار أيام متلاحقة في الأسابيع الأخيرة. قبل رحيله بيومين، شربنا القهوة معه، كان يضع جهازا لضخ الأوكسجين إلى رئتيه التالفتين، ويتكلّم بحماسته المعهودة عن تقصير مراكز الأبحاث في العالم العربي، وفي الوقت نفسه يتكلّم بسعادة غامرة عن زيارة إدوارد سعيد، الذي سيصل بعد يومين.
تأتي من الخارج أصوات انفجارات متلاحقة، فيهتز زجاج النافذة. الإسرائيليون يقصفون أهدافا من الجو في رام الله. ينتقل إبراهيم من مقعد قرب النافذة إلى مكان أكثر أمنا. ولا يكف عن الكلام، كأن ضجيج الطائرات جملة اعتراضية في كلام أهم.
بعد يومين اتصل محمود في التاسعة، وهذا وقت مبكّر لمن يصحو على مهل، ولا يستعجل النهار. قال: إبراهيم في وضع صعب، سأذهب حالا إلى بيته. واتفقنا على اللقاء هناك.
وهناك كان بقية الأصدقاء: على الجرباوي، وفؤاد المغربي، وسعيد زيداني. جلسنا، كما يُقال، وكأن على رؤوسنا الطير. لا نجرؤ على الكلام، إلا ما أفلت منه همسا، في ما يشبه الاعتذار عن خلخلة الهواء. إبراهيم الغارق في غيبوبة منذ ساعات الصباح الأولى، في حجرة نومه، ترعاه شقيقته، وزوجة سعيد، ونحن في الصالون.
في البيت موسيقى كلاسيكية خافتة تنبعث من سمّاعات للصوت كأننا ـ لو كان الحال غير الحال ـ على كف سحابة من الريش. وهذا بعض من سحر إبراهيم، الذي وضع سماعات خاصة في أماكن مختلفة من البيت، لتنساب الموسيقى في المطبخ والحمّام والصالون والشرفة وغرفة النوم. إبراهيم الذي طلب أن يُدفن في يافا إلى جوار أبيه (المدفون هناك قبل العام 1948) أو أن يُحرق الجثمان، إذا رفض الإسرائيليون، ويُذر رماده هناك.
كنّا نخرج إلى الشرفة للتدخين، ونعود إلى مقاعدنا في الصالون، بأقل قدر ممكن من الكلام والضوضاء. عند منتصف النهار رحل إبراهيم. ذهب البعض إلى حجرة النوم لإلقاء نظرة عليه. محمود الذي ظل صامتا أغلب الوقت، لا يغادر مقعده، رفض أن يرى قناع الموت على وجه إبراهيم.
بعد الظهر وصل إدوارد، لكن جثمان إبراهيم كان في طريقه إلى مستشفى المقاصد في القدس، وكنّا ما نزال على حالنا في الصالون. لم نعرف ما إذا كان علينا الذهاب أم البقاء.
في حفل التأبين قال محمود كلاما نشره لاحقا في "حير العائد":
"كنتُ في الحجرة المجاورة عندما توقف إبراهيم عن الانتظار. سالت دموع كثيرة على الرغم من أننا كنّا نعرف هذه النهاية. لكن الموت هو دائما موت أوّل. هل الزمن الفاصل بين الحياة والموت قصير ووهمي إلى هذا الحد؟ وحدها صورة يافا على الجدار منعتنا من القول: باطل، باطل الأباطيل..".
وما لم يقله إنه وقف أمام طاولة المطبخ ـ التي اجتمعنا حولها في مناسبات أفضل من هذه ـ أخرج القلم من جيب سترته، وطلب ورقة بيضاء، ليكتب بيان النعي الذي ستنشره الصحف في صبيحة اليوم التالي، بعدها خرج إلى الشرفة، أزاح نظارته، مسح دمعا بلل العينين، وطلب سيجارة، وهو الذي كف ـ بقدر ما استطاع ـ عن التدخين منذ سنوات.

-4-

رحل إدوارد بعد إبراهيم بعامين وأربعة أشهر. وعندما سمع محمود أن إدوارد طلب أن يُحرق جثمانه، وأن يُدفن الرماد في منطقة من لبنان، اعتاد في زمن بعيد أن يقضي فيها أشهر الصيف مع عائلته، علّق بكلمتين: إدوارد جبّار.
يضيء هذا التعليق المقطع الأخير في قصيدة "طباق" المهداة إلى إدوارد سعيد، التي نشرها محمود في ديوان "كزهر اللوز أو أبعد":

"نسر يودّع قمته عاليا
عاليا،
فالإقامة فوق الأولمب
وفوق القمم
قد تثير السأم
وداعا،
وداعا لشعر الألم!".

لم يكن "جبروت" إدوارد، في نظر محمود، مُنجزه الفكري الضخم، وثقافته الواسعة، وتأثيره الكبير على مناهج الدراسات الإنسانية في الغرب، بل كان إضافة إلى هذه الأشياء كلها إصراره على الحياة، والكتابة، والتفكير، والسفر، والسجال، في ربع الساعة الأخير، وأخيرا علاقته الخاصة بجسده، الذي حكم عليه بالحرق، وهي طريقة غير مألوفة في العالم العربي والإسلامي، وأسكن ما تبقى منه مكانا غير فلسطين. وهذا موقف غير مألوف في التقاليد الرومانسية للوطنية الفلسطينية.

وقد تساءل في مناسبات كثيرة: كيف يملك الوقت لكتابة كل هذه الأشياء؟ وعندما أرسل إدوارد مقالته عن "فرويد وغير الأوروبيين" للنشر في "الكرمل" تكلّم عنها محمود على مدار أيام، لا من جانب ما فيها من ثقافة موسوعية وحسب، بل وبما فيها من الحدس المعرفي، الذي يمكّن مخيّلة نادرة من اكتشاف علاقات بين دلالات متباعدة، أيضا.

كان محمود الشاعر يرى في إدوارد ندا بالمعنى الإبداعي، أما محمود الإنسان فيستلهم من إدوارد شجاعة وبراعة النسر في استثمار آخر ما تبقى في الجناحين من بأس، وفي المكان من هواء.

وفي ذروة هذا التصعيد الدرامي للمصائر الفردية، يبدو شعر الألم، كما الخلود، فائضين عن الحاجة. هنا، في المقطع الأخير من "طباق"، بكلمات قليلة، بلا جماليات، وبنبرة خطابية مباشرة وإيقاع سريع، لا يكتب محمود عن إدوارد بقدر ما يكتب عن نفسه. فطباق، الترجمة العربية للكلمة الإنكليزية التي حوّلها إدوارد إلى مفتاح لطريقته النقدية في رؤية العالم، تعني تآلف أكثر من صوت لتوليف نغم جديد. وعلى هذا قام التعدد الصوتي والسردي والحواري في قصيدة محمود. اثنان في واحد. أو العكس.

-5-

ما بين حدين لكليهما دلالة مغايرة، لكنهما متلازمان: "هل يشعر الآن بشيء؟"، و"إدوارد جبّار" عاش محمود ربع الساعة الأخير.لم ينشغل بالمعنى الميتافيزيقي للموت، بل بالأحياء الذين يجابهون أقدراهم. عاد المرضى، وشارك في جنازات، أكثر من أي وقت مضى. وشاءت الصدف أن أشهد الكثير منها. نصف "حيرة العائد" تقريبا نصوص كتبها في تأبين آخرين: ممدوح نوافل، ياسر عرفات، محمد الماغوط، سمير قصير، ممدوح عدوان، وغيرهم.

سأشعر، دائما، بامتياز لأنني اطلعت على جانب من نصوص محمود، شعرا ونثرا، على مدار السنوات العشر الماضية، قبل نشرها، وأحيانا بصوته على الهاتف ـ كما كان يفعل في الآونة الأخيرة ـ وقد كنتُ صادقا معه في التعبير عن انطباعاتي، لكنني تجنبت دائما الكلام عن الموت، كما أفعل الآن.

لم يكن مهتما ولا مهموما بالخلود، وقد سمعتُ منه في أكثر من مناسبة كلاما ساخرا عن شخصين على الأقل، يُعدّان قبرين لنفسيهما، ويجمعان القصائد، والمخطوطات، والصور، وكل ما يُنشر هناك أو هناك، حتى وإن كان خبرا في جريدة، لتمكين الباحثين في مستقبل لا يعلمه أحد من تثمين ما أنجزوه في الحياة. وهذا ما عبّر عنه بسخرية معهودة في نص بعنوان "فكاهة الخلود":
"الذين يشرفون على تشييد قبورهم، وتأثيثها بصورهم، لا يفكرون براحة النوم قريبا من صداقة الأحياء، إنما يفكرون بتدريب التاريخ على القراءة. ويفكرون بما هو أصعب: برشوة الخلود. دون أن يعلموا أن الخلود لا يزور القبور، وأنه يحب الفكاهة!".

كان مدركا لقيمته الشعرية في المشهد الفلسطيني والعربي والعالم، وقيمته الرمزية، معا. وكان مهتما ومهموما بما ينتاب المسافر عند الانزلاق على برزخ يفصل الوجود عن العدم، لكنه كان جبارا على طريقته: ترك للآخرين (يمكن القول، أيضا، لشعبه) بناء على حدس القلب، أن يختاروا كيف وأين يسكن العائدُ، في آخر البيوت.

فمنذ "الجدارية" التي اختتمها بما يشبه البوح التراجيدي الحزين: "أنا لستُ لي"، كان مدركا لحقيقة أن حقوق الآخرين فيه تتجاوز حتى حقه الشخصي حتى في البحث عن مكان آمن، سواء في الوجود أم العدم.

لم يكن ذاك هما من همومه، بل كان همه الرئيس كيف يودّع النسر قمته في الأعالي، عاليا، عاليا، حرا ومتحررا من شعر الألم.

وذاك ما سكن أفكاره، ومشاعره، وخياله، في ربع الساعة الأخير. كان عليه أن يكتب أفضل مما كتب من قبل. شغله سؤال الشعر: كيف تصبح الكلمات، إذا ازداد ما فيها من ملح، أو نقص، شعرا؟ وما الفرق بين لغة الشعر والنثر، لماذا نسمي هذا النص شعرا، وذاك نثرا؟

لم يكن، وهو القارئ النهم، المطل بحكم المهنة والشغف، على التجارب الشعرية العربية والعالمية، مهتما بالتنظير للشعر، لكنه أنشأ في "أثر الفراشة" نوعا من التوازن بين نصوص نثرية، يرمي في ثناياها أسئلة، وعلامات استفهام، وفواصل، وإشارات ماكرة، وبين قصائد تمارس، ضمن أمور أخرى، دور وسيلة الإيضاح، في عرض أخير للمهارة.

يكتب في نص بعنوان "كلمة واحدة":
"هسيس الكلمة في اللامرئي هو موسيقى المعنى، يتجدد في قصيدة يظن قارئها، من فرط ما هي سرية، أنه كاتبها! كلمة واحدة، كلمة واحدة فقط، تشع كماسة أو يراعة في ليل الأجناس، هي ما يجعل النثر شعرا! وكلمة عادية يقولها لا مبال للا مبال آخر، على مفترق طرق أو في السوق، هي ما يجعل القصيدة ممكنة! وجملة نثرية، لا وزن فيها ولا إيقاع، إذا أحسن الشاعر استضافتها في سياق ملائم، ساعدته على ضبط الإيقاع، وأضاءت له طريق المعنى في غبش الكلمات".

-6-

لم يكن انحياز محمود إلى الإيقاع، واعتباره شرطا من شروط الشعر، سرا. ولستُ، هنا، بصدد العودة إلى سجالات طويلة حول قصيدة النثر..الخ بل الإشارة إلى أن الإيقاع في ما جاء في "أثر الفراشة" من قصائد، والذي أرى فيه أصفى وأجمل ما كتب محمود، كان أيضا محاولة من جانب معلّم متمرّس لتقديم برهان أخير، في سجال سابق، وطويل. فالشعر، محمولا على الإيقاع، كما الفراشة محمولة في الريح:

"هو جاذبية غامض
يستدرج المعنى، ويرحل
حين يتضح السبيلُ
هو خفة الأبدي في اليومي
أشواقٌ إلى أعلى
وإشراقٌ جميلُ
هو شامة في الضوء تومئ
حين يرشدنا إلى الكلمات
باطننا الدليلُ
هو مثل أغنية تحاول
أن تقول، وتكتفي بالاقتباس من الظلال
ولا تقولُ..
أثر الفراشة لا يُرى
أثر الفراشة لا يزولُ!".

كان في ربع الساعة الأخير مهتما ومهموما بما لا يُرى ولا يزول، لا بشعر الألم. في نصوصه الأخيرة. نساء. ونبيذ. وطيور. وشجر. وحيفا. وحياة توشك على المغيب، لكنها خضراء. حتى في يومها الأخير لا يكف صاحبها عن رمي النرد: "يا له من نهار".

بعد عودته قال أكرم هنية، الذي رافق محمود في رحلته الأخيرة، كلاما خرج من قلب يطفو على بحيرة من دموع: حتى اللحظة الأخيرة ظل محتفظا بكامل ألقه وأناقته. متألقا وأنيقا رحل. هذا كلام يعجب محمود الإنسان والشاعر معا. ويفسر كيف يودّع النسر قمته عاليا، فلا يقبل من الحياة الفتات، أو يرشو الخلود.

حسن خضر:
محمود، صورة أولى لسيد الكلام (3-6)

-1-

ذات يوم قطع محمود المترين الفاصلين بين غرفتينا في السكاكيني. دخل وفي يده جريدة، قائلا: اسمع.
وقد كان ذلك مألوفا، إذا ما ألحت عليه خاطرة، ولم يطق صبرا، للتعليق على شيء ما (ربما كان خبرا، أو فكرة في مقالة) إما بطريقة ساخرة، بلغة لا يملك أحد مفاتيحها سواه، أو للتعبير عن إعجاب بفكرة وردت في نص كتبه شخص ربما لم يسمع به أحد من قبل.
أزاح نظارته، وشرع في القراءة بصوت عميق، ويد تعلو وتهبط مع الإيقاع. أصغيت بانتباه إلى نص تبرق فيه مفردات وأخيلة لا تجعل من انتسابه إلى الشعر بالأمر العسير. قلت بالعامية: "في شِعر"، دون أن أدرى ما إذا كان النص منشورا في صفحة البالغين، أو في ملحق الناشئين. فرد: هل تصدّق أن هذا النص لبنت في الخامسة عشرة من العمر، كيف بدنا نشوفها؟
ما لا يُعرف عن محمود أن من بين هواياته قراءة بريد القرّاء في الجرائد، ونصوص الناشئين. وقد أصدرت جريدة الأيام، منذ سنوات، بالتعاون مع مؤسسة تربوية في رام الله، ملحقا لكتابات تلاميذ المدارس، بعنوان يراعات، أشرف على تحريره الشاعر وسيم الكردي. وكان محمود من قرّائه المواظبين.
وإذا جاز تفسير هذا الأمر بأثر رجعي، فقد كان، على الأرجح، مفتونا بفعل الكتابة، وبما في اللغة من قابلية لتوليد مفردات ومجازات لا تنضب، حتى وإن تجلت في محاولات أولى لم تزل، كما صغار العصافير، عاجزة عن الطيران.
ولعله يستعيد، أيضا، في نصوص الناشئين صورة الولد الذي اكتشف، كما كتب في "في حضرة الغياب"، أن: "كل ما لا تبلغه يداك الصغيرتان ملك يديك الصغيرتين، إذا أتقنت التدوين بلا أخطاء. من يكتب شيئا يملكه. ستشم رائحة الورد من حرف التاء المربوطة كبرعم يتفتح. ستتذوّق طعم التوت من جهتين: من التاء المتصلة، ومن التاء المفتوحة كراحة اليد".
وقد شعر، بالتأكيد، منذ سنوات، بمسؤولية أخلاقية تجاه أصوات تعدُ، إذا ما وجدت عناية واهتمام، بوافر الثمر.
ثمة الكثير مما يروى في هذا الجانب، والبعض منه يتصل بأسماء أصبحت معروفة في الأوساط الأدبية. المهم أن النص الذي قرأه محمود كان لبنت اسمها داليا طه. وقد حصلنا على هاتف بيتها، واتضح أنها ابنة مدير دائرة الآثار في السلطة الفلسطينية، وبيتهم في رام الله. اتصل محمود هاتفيا بالأب والابنة، داعيا الاثنين لزيارته في السكاكيني.

-2-

كان محمود شغوفا باللغة والمفردات. أحيانا، ترد إلى ذهنه مفردة معيّنة، فيبحث عن أصلها في "لسان العرب"، مرددا عبارة تحوّلت إلى ما يشبه اللازمة، كلما فتح المعجم باحثا عن شيء ما: إذا دخلنا في امتحان للغة العربية فلن ينجح أحد.
وأذكر، في هذا الصدد، كيف أنفق أياما في البحث عن مذكّر بعوضة، وعندما فشل في العثور عليه، اكتفى بالإعلان في نص قصير بعنوان "البعوضة" في "أثر الفراشة"، عن فشله في العثور على مذكرها: "البعوضة، ولا أعرف اسم مذكرها، أشد فتكا من النميمة".
البعوضة، هنا، كما ذكر في النص نفسه "ليست استعارة، ولا كناية، ولا تورية" بل هي البعوضة بالفعل: الحشرة التافهة، غير المبررة، والفائضة عن الحاجة. وقد كانت أكثر كائنات الكون خسّة في نظره، لأنها تنجح في حرمانه من النوم، كلما نسي وضع أقراص صغيرة في الجهاز الكهربائي، قرب السرير، لطرد البعوض.
كان في اليوم التالي لا يكف عن الشكوى، لأن دم البعض يجذب البعوض. والبعوض (يقول حانقا، وفي ما يشبه كراهية خالصة، وإن تكن مؤقتة، للنفس) يحب دمه. يمكن العثور في نصوص محمود على نماذج مشابهة لتجارب واقعية، تتعرّض أحيانا لإفراط في التأويل من جانب النقّاد.
مهما يكن من أمر، كان اهتمام محمود باللغة يتجلى بطرق أخرى، منا التفرّغ بطريقة شبه كاملة "للكرمل" في الأسابيع القليلة التي تسبق صدورها. لم يكن يكتفي بمطاردة الكتّاب، الذين وعدوا بإرسال مساهمات وتأخروا، بل ويقرأ ما توّفر من مواد، يحرر، ويصحح الأخطاء النحوية والإملائية، ويراجع البروفات بعد عودتها من المطبعة، ثم يُسهم في اختيار الغلاف. وهذا يعني زيارة زميلنا الفنان خالد الحوراني في بيته، حيث يعرض علينا عددا من الخيارات والتصاميم، وفي الأثناء يستطرد في تحليل مطوّل لآخر المستجدات السياسية. وكلما ذهبنا لزيارة خالد، يقول محمود مازحا: سنعود بالغلاف، والتحليل السياسي معا.

قبل النسخة الورقية من "لسان العرب" كانت ثمة نسخة إلكترونية. ورغم محاولات من جانبي نجحت أحيانا، وأخفقت في معظم الأحيان، ظل محمود حذرا في التعامل مع الكومبيوتر. كان يقف على مسافة نصف متر من الشاشة، على الأقل، ويرنو إلى الحروف على صفحة سائلة: ماذا سيحدث إذا أصيب جهاز كهذا في طائرة، أو محطة لتوليد الكهرباء في مدينة كبيرة، بالجنون.

-3-

وتبقى، في هذا السياق، مسألة تتعلّق بموقف محمود من المواد المنشورة في "الكرمل". كان حريصا على عدم نشر ما يمثل إساءة شخصية، أو تصفية حساب، أو تجريحا للآخرين. وفي الوقت نفسه كان حريصا على عدم تحويل المجلة إلى منبر للكلام عنه، أو الترويج لأعماله.
لذلك، لم تجد بعض المقالات والدراسات التي كُتبت عنه، وبعضها بأقلام كتّاب مرموقين من أصدقائه، طريقها إلى النشر. وقد استدعى إعادة نشر بعض المقابلات التي أجريت معه، ونُشرت في جرائد عربية ( مثل المقابلات التي أجراها حسن نجمي، وعباس بيضون، وعبده وازن) بذل جهد خاص لإقناعه بأن نشرها في "الكرمل" لا يعني، بالضرورة، تحويل المجلة إلى منبر للكلام عنه.
بيد أن صرامته الشخصية كانت تتجلى في علاقته بما يكتب، إذ كان يشطب نصف وربما أكثر ما يكتبه من قصائد، في مرحلة التصفية، والمراجعة، التي قد تمتد إلى أسابيع، أو أشهر، بعد الكتابة. في مقابلته مع عبده وازن يقول: "كل ديوان لي أعيد قراءته قبل طباعته عشرات المرات، وأنقحه عشرات المرات، إلى أن أشعر بأنه أصبح قابلا للنشر".
في سياق القراءة والتنقيح، وبعد الوصول إلى قدر من قناعة تبدو دائما عصية، يصوّر محمود النص شبه النهائي، ويرسله بالبريد إلى عدد محدود من الأصدقاء، آملا الحصول على ملاحظات، ربما يسهم بعضها، بطرق مختلفة، وغير مباشرة بالضرورة، في التأثير على البنية النهائية للكتاب، قبل وصوله إلى الناشر .

كان اختيار عناوين الكتب عملية معقدة، تحتاج أيضا إلى أسابيع، يدوّن خلالها ثلاثة عناوين مقترحة، ثم يعرضها على الأشخاص الذين اطلعوا على النص شبه النهائي، طالبا إبداء الرأي، ولا يندر أن يتقدّم أحدهم بعنوان جديد. وقد كانت لديه ثقة خاصة بقدرة رياض نجيب الريّس، ناشر كتبه، على اختيار أفضل العناوين.

ومع ذلك، كانت ثمة عملية معقدة أخرى، تتمثل في عرض قصائد أو نصوص منتخبة، من النص شبه النهائي للكتاب، على أصدقاء لا يمتهنون حرفة الكتابة. فهؤلاء، في نظره، يمثلون ذائقة وحساسية القارئ العادي. ولا قيمة لنص إذا أحبه متمرسون في فنون الكتابة، وفشل في إنشاء علاقة متبادلة مع قارئ لا يحتاج إلى نظريات جمالية، وأدوات نقدية، لفهم وتذوّق الأدب.
سأشعر، دائما، بامتنان خاص للمقادير، ولكرم محمود الأنيق والباذخ، الذي أتاح لي على مدار السنوات العشر الماضية، وشرفني، بالاطلاع عن كثب على آليات العمل في ما يشبه معملا لصقل الماس، وقراءة نصوص أينعت بين يدي صانع ماهر، في أيامها الأولى، ومراقبة مصائرها، واكتسابها لحياة خاصة بعد النشر.

عندما قدّم لي محمود في المرّة الأولى النص شبه النهائي لأحد الكتب شعرت بالذعر، لا من حجم ما ينطوي عليه عمل كهذا من كرم وتكريم وحسب، بل ومما تستدعيه القراءة من حيادية تبدو عصية المنال، وشجاعة القلب.

وهذا ما حدث، أيضا، عندما سحب من ملف على الطاولة أوراقا محبّرة بخط اليد، وقرأ للمرّة الأولى في صباح متأخر بعيد، من صباحات السكاكيني، قصيدة جديدة. فإلى جانب ما يثيره امتياز كهذا من استنفار للحواس، وما يشبه إعلان حالة الطوارئ في الدماغ، كانت نظرة محمود الباحثة عمّا تركته الكلمات من أثر محتمل على ملامح الوجه، شهادة إضافية، شخصية تماما، خاصة وخصوصية، حول مدى ما يسم علاقته بالشعر من جدية وتوتر دائمين.

وهذا ما تجلى في مناسبات كثيرة، قبل أمسياته الشعرية، في مناطق مختلفة من العالم: يحتار في أمر القصائد، يستشير المقرّبين، يشطب قصائد، ويضيف غيرها، مفعما بالتردد والقلق، كأنه يجرّب الوقوف أمام الناس للمرّة الأولى في حياته. وعند صعوده إلى المنصة في قاعات تغص بالحاضرين، يركّز انتباهه على وجوه مألوفة بينهم. الألفة تعفي من الخجل (وللخجل قصة يطول شرحها) وتختزل مساحة الإحساس بالوحدة، قبل أن تحمله المفردات، ويطير.

كان الشعر سر وجوده. والحروف، كما كتب في "في حضرة الغياب": "قلقة، جائعة إلى صورة، والصورة عطشى إلى معنى. الحروف أواني فخار فارغة فاملأها بسهر الغزو الأوّل. والحروف نداء أخرس في حصى متناثر على قارعة المعنى. حك حرفا بحرف تولد نجمة، قرّب حرفا من حرف تسمع صوت المطر، ضع حرفا على حرف تجد اسمك مرسوما كسلّم قليل الدرج".
هكذا كان اسمه "محمود"، يشبه سلما قليل الدرج. الحروف لعبته، وطيوره، بعضها يشرب الماء من راحتيه، والبعض الآخر ينقض عليه، في الليل، متوّحدا ووحيدا، باحثا في عتمة الكون، عن ضوء الشعر.

ذات يوم، في جلسة من الجلسات المعتادة في السكاكيني، تكلّم شخص كلاما كثيرا في السياسة، وكان كلامه خليطا من الأوهام، والاستيهامات البلاغية. قلت للتدليل على ما في الكلام من أحلام صعبة المنال: هذا شعر. انتفض محمود كالملدوغ، قائلا بصوت غاضب ومجروح: ما لو الشعر يا سيّد حسن؟
وهاأنذا أقدّمُ، اليوم، اعتذارا جديدا يا سيّد محمود.

khaderhas1@hotmail.com

حسن خضر:

محمود، صورة أولى لسيد الكلام (4-6)

محمود درويش
محمود درويش - تصوير صموئيل شمعون

قالت امرأة لمحمود، ذات يوم، لم أشبعك، فأصيب بالذعر.
سأل: شو يعني لم أشبعك.
قلتُ: لم تشبع منك.

فزم شفتيه، بطريقة تطبق فيها العليا على السفلى، التي تنحني قليلا إلى الخارج. وهذا ما يحدث، عادة، إذا لم يعجبه العجب. وفي حالات من نوع أن يتلقى اتصالا هاتفيا من شخص (لا يعرفه في أغلب الأحيان) يستطرد في الكلام بلا مبرر، فيضطر للاستماع، مبعدا سماعة الهاتف عن أذنه، كأنها توشك على قضمها، وقد ارتسمت على وجهه علامات بؤس شديد.

أما التي لم تشبع فكانت سيدة لم "تترك الأربعين بكامل مشمشها" وحسب، بل واحتفظت، أيضا، بفواكه مدارية تبرر مديح الحدائق، وما يسكنها من ضلال وظلال. دخلت غرفتي، ذات يوم، وقد كانت أوّل ما يراه القادم، بعد صعود الدرج الحجري إلى الطابق الأوّل في السكاكيني. سألت بعربية تشوبها لكنة من أنفقوا سنوات طويلة في الغرب (واتضح أنها من بلد عربي، عاشت وتعلّمت في الغرب، وجاءت إلى فلسطين بفضل جوازها الأجنبي): هنا مجلة الكرمل؟

قلت: نعم.
قالت: وهنا مكتب الأستاذ محمود درويش؟
قلت: نعم، أوّل باب ترينه بعد مغادرة الغرفة.

ومع ذلك ترددت في الذهاب. اعتذرت لأنها لم تحدد موعدا من قبل. وسألت ما إذا كانت ثمة ضرورة للذهاب إلى غرفة السكرتيرة أولا، ثم استجمعت قواها، بعدما اتضح أن مقابلة محمود لا تستدعي كل هذه التعقيدات، وذهبت بهمة من يغتنم فرصة قد تفلت من يديه بعد قليل.

كان باب محمود مفتوحا أمام الجميع. المعارف والأصدقاء يمرون بلا إنذار. ولدى الكثير من الفلسطينيين قناعة راسخة بأن حقهم في محمود يبرر زيارته بلا استئذان. ومن هؤلاء أشخاص لا يريدون سوى إلقاء التحية والسلام، وآخرون حملوا كتاباتهم وكتبهم لعرضها عليه، أو للكلام في قضايا سياسية وأدبية، وأحيانا شخصية من نوع أن أقاربهم درسوا معه في المدرسة الابتدائية، مثلا، وغالبا ما تُصيبهم خيبة أمل لا يجتهدون في إخفائها، إذا فشل في تذكّر أسماء وأحداث ترجع إلى عقود مضت.

كان محمود، بهذا المعنى، ضحية مثالية لطريقة الآخرين في تعريف حقهم فيه، والوقت الكافي لتحصيله. فهو لا يجد الكثير مما يُقال في حضرة أشخاص لا يعرفهم. المجاملات تتبخّر بعد برهة من الوقت، ومغادرة الغرفة لجلب كوب من الماء، أو الذهاب إلى الحمّام، مسألة لا تبرر الغياب لأكثر من دقائق معدودات، يعود بعدها للجلوس أمام ضيف لا يندر، إذا استطاب المقام، أن يكون ثقيل الظل.

-2-

المهم، سأل محمود عن معنى "لم أشبعك"، آخر جملة قالتها السيدة، وهي تغادر غرفته موّدعة. ولا أعتقد أنها تصرفت بطريقة امرأة تعرض نفسها على رجل، أو أن في سلوكها ما ينم عن ابتذال من نوع ما. كانت تحاول، على الأرجح، التعبير عن حب عميق سكن قلوب العديد من الفلسطينيين والعرب، لمن ملأ الدنيا وشغل الناس، على امتداد أربعة عقود من الزمن.

ومع ذلك، كان ذعر محمود حقيقيا، أيضا. لم يكن عاجزا عن إدراك ما في الجملة الأخيرة من محبة صافية، لكنه استنكف عن تأويلها بطريقة تفتح كلام المجاملات على احتمال الغزوات. فالاستيهامات الذكورية قد تكون طريقا ملكيا تعبره القصائد، لكنها مرغمة في الحياة اليومية على اجتياز أربع عقبات:

الخجل، الذي يكاد يكون عضويا، ربما في الجينات (كما ذكر في لاعب النرد)، والحذر من علاقات تفتش فيها النساء فيه عن اسمه، تدلل الاسم على ركبتيها، وتنسى صاحبه، وتعفف الرفيع البديع الذي لا يثق بما يُعلّق الكم من أوسمة على صدر العاشق، وأخيرا صعوبة النفاد إلى عالم شديد الخصوصية، نسجه بأناقة ولياقة، من تفاصيل صغيرة، ومنمنمات، وأقواس، وما يمليه مزاج صعب المراس، مثل سجّادة فارسية نادرة.

محمود متعفف وعفيف، رغم وبفضل ما في حياته من ضوء، ومدن، وأسفار، ونساء. حتى في سنواته الأولى عندما كتب عن الحبيبة، مثلا، فاكتشف الفلسطينيون والعرب صورة البلاد، أو كتب عن البلاد، فأطلت من تحت أهدابها العاشقة، كان ما يفعله، في الواقع، محاولة لتخليص معنى البلاد من بلادة الأيقونة، والعاشقة ـ وقد أصبحت أكثر من امرأة في جسد ـ من شهوة عابرة.

ثمة ما يشبه خيطا من الحرير يربط بين قصائد الحب الأولى، التي كتبها في العشرينات، أي في أوّل العمر والصبوات، وآخر ما كتب، أي في القطرة الأخيرة من نبيذ الحياة. في الحالتين تتجلى في النص باعتباره سيرة ذاتية لصاحبه، خصوصية في السيرة العاطفية لابن البروة، هذا، لم تبدلها الأيام.

كتب قبل أربعة وأربعين عاما عن الموعد الأوّل، وعن خيبة العاشق بعد طول انتظار "في أوراق الزيتون"، فبعدما حلق ذقنه مرتين، ومسح نعله مرتين، واستعار قميصا من صاحبه، واستدان ليرتين "لأشتري لها حلوى وقهوة مع الحليب"، يعلل النفس، وحيدا على مقعد في الحديقة، بقدوم العاشقة:

"وحدي على المقعد،
والعاشقون يبسمون..
وخافقي يقول:
ونحن سوف نبتسم"

وقبل الرابعة والنصف بدقيقتين، لا يفشل في العثور على ما في دقيقتين من أمل يبدد يأس العاشق، ويمنح البنت رفاهية الشك:

"لعلها قادمة على الطريق..
لعلها سهت.
لعلها.. لعلها
ولم تزل دقيقتان".

استطالت الدقيقتان. وأصبح العاشق أكثر أريحية في حساب الوقت، حتى حلول المساء:

"النصف بعد الرابعة
النصف مر
وساعة.. وساعتان
وامتدت الظلال
ولم تجئ من وعدت في النصف بعد الرابعة".

-3-

سيجلس محمود، دائما، على مقعد في الحديقة، البيت، القطار، الطائرة، المطار، المقهى الجانبي، وفي القصيدة أولا وأخيرا، في انتظار المرأة المشتهاة، التي تأتي ولا تأتي. في كل ما كتب بعد الموعد الأوّل: انتظار، وأريحية في حساب الوقت، ورفاهية باذخة في ابتكار الأعذار، ويأس حوّلته الأيام إلى سخرية رفيعة.

بعد أربعين عاما يعيد محمود صياغة المشهد القديم مرّة أخرى. يكتب عن الانتظار في قصيدة تحمل العنوان نفسه، في "لا تعتذر عمّا فعلت"، لكنه يستطرد في الكلام عن هواجس ذاتية أفلتت من كلام العاشق في الموعد الأوّل، أو اكتسبت هذه المرّة فما ولغة وشفتين بعد مراس طويل في فن الانتظار:

"في الانتظار، يصيبني هوس برصد
الاحتمالات الكثيرة: ربما نسيت حقيبتها
الصغيرة في القطار، فضاع عنواني
وضاع الهاتف المحمول، فانقطعت شهيتها
وقالت: لا نصيب له من المطر الخفيف".

وربما انشغلت بأمر طارئ، أو رحلة مفاجئة، أو تشاجرت مع الزوج القديم، فخافت من ذكريات محتملة مع آخرين، أو ربما تعرّضت لحادثة سير، أو:

"وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها
من نفسها، وتحسست أجاصتين كبيرتين
تموّجان حريرها، فتنهدت وترددت:
هل يستحق أنوثتي أحد سواي".

الاحتمالات كثيرة، ومحمود الذي لا يطيق الانتظار، ينتظر بالفعل، في الحياة، كما في النص، امرأة تأتي ولا تأتي. وأحيانا، يعالج الانتظار بالسخرية، كما في قصيدة بعنوان "لم تأتِ" في "كزهر اللوز أو أبعد":

"لم تأتِ. قلت: ولن..إذا
سأعيد ترتيب المساء بما يليق بخيبتي

وغيابها:
أطفأت نار شموعها،
أشعلت نور الكهرباء،
شربت كأس نبيذها وكسرته
أبدلت موسيقى الكمنجات السريعة
بالأغاني الفارسية".

يحضر الانتظار في كل ما كتب محمود، ويتحوّل في قصائد كثيرة إلى درس أوّل في فن الهوى، كما في "درس من كاما سوطرا" التي تشبه لوحة بألوان مائية زاهية، والتي يتكرر فيها فعل الأمر: انتظرها، حتى وإن حضرت، لتمكين مجاز الانتظار من اكتساب دلالات تتجاوز فعل الحضور الجسدي نفسه. ثمة ما هو أعلى وأبعد. على حجر الانتظار يصقل العاشق كلامه وهيامه:

"ولا تتعجل، فإن أقبلت بعد موعدها
فانتظرها،
وإن أقبلت قبل موعدها،
فانتظرها".

-4-

ينبغي تفسير دلالة الانتظار على أكثر من وجه، ولكن قبل محاولة كهذه ثمة ما يبرر الكلام عن سمة إضافية تمتد، أيضا، كخيط الحرير من الموعد الأوّل إلى الأخير، وتسهم بدورها في خصوصية السيرة العاطفية لابن البروة، هذا، الأمير الرفيع البديع.

عبّرت، في مناسبات كثيرة لمحمود عن إعجابي بمقطع ورد في قصيدة بعنوان "رسالة من المنفى" نشرها في "أوراق الزيتون"، وكان رده، في أغلب الأحيان، ابتسامة ماكرة، وعبارة تشبه اللازمة: "أيام الشباب". وأعتقد أن ما كان في "أيام الشباب"، تجلى أيضا في أيام كثيرة بعدها.

يتكوّن المقطع المعني من كلمات قليلة، متقشفة، خالية من البلاغة، بسيطة، وحارة، لأنها خرجت من القلب، وهذا مصدر سحرها، يقول الفتى:

"يا أخوتي، ما أطيب البنات،
تصوروا كم مرّة هي الحياة
بدونهن. مرّة هي الحياة".

أعاد محمود صياغة، وتشكيل، وتلوين، واستكشاف، ومساءلة، علاقة الفتى بكلماته الأولى على امتداد أربعة عقود تلت. فما من شيء في الكون أطيب من البنات، اللائي لم يكبرن في الواقع، ولا كبر الفتى، كل ما في الأمر أن مساحة الكلام ازدادت، والمفردات أورقت، والمشاعر تعتقت، والظلال اتسعت، والنصوص أينعت. وهن الجميلات اللائي حضرن في "كزهر اللوز أو ابعد" في قصيدة بعنوان "الجميلات هن الجميلات": الضعيفات، القويات، الأميرات، القريبات، البعيدات، الفقيرات، الوحيدات، الطويلات، القصيرات، الكبيرات، الصغيرات.

"الجميلات، كل الجميلات، أنت

إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبل القاتلات".

سيعود، حتى في آخر الأيام، في كتابه الأخير أثر الفراشة" وفي نص بعنوان "جار الصغيرات الجميلات"، إلى تأمل العلاقة بتلك الكائنات التي تبدد مرارة الحياة:

"ينظر إليهن بلا اشتهاء، وينظرن إليه بفضول، ويقلن له مساء الخير يا عم! يحبهن بلا غصة سفرجلية، ويحتفي بجمال نضارتهن، وبنضارة آمالهن، كما يحتفي بموسيقى، وبلوحة مائية. وبطائر أزرق الذيل. هن يستعجلن الزمن ليصبغن أظافرهن بالأحمر المتحرّش بثيران خفية، ولينتعلن الكعب العالي لكسر ثمار الجوز، وإيقاظ النائم، وهو يستمهل الزمن، ليطيل متعة المرور بينهن، جارا لجمال مستقل".

على خلفية الانتظار، ومديح الجمال، يمكن إدراك الكثير من خصوصية السيرة العاطفية لمحمود، كما تجلت في نصوصه. لم يكن نموذجا للدون جوان. فالدون جوان يحب الحب، ويعلل نجاحه بعدد فتوحاته، ويغويه الكم على حساب الكيف. وتلك صفات يصعب العثور عليها في نصوص محمود، كما في حياته.

لم تكن في حياته امرأة بعينها. يقول في مقابلته مع عبد وازن: "كل ما أكتبه في الحب أم في سواه ناجم عن تجارب حيّة". وعندما يسأله عن امرأة بعينها كتب عنها أو لها، يقول: "ربما"، لكنه يسارع إلى نفي وجود امرأة في حياته كما كانت إلسا في حياة وشعر أرغوان، مثلا.

حضرت نساء في حياته، لكن ما حضر منهن في القصائد، كان توليفا من عناصر، وتجارب مختلفة، بما في ذلك ريتا، التي اجتهد كثيرون في منحها تأويلات ليس في الواقع ما يحيل إليها، أو يدل عليها. لذا، أعتقد أن الطريقة المثلى لقراءة محمود كشاعر حب، لا تتمثل في البحث عن امرأة بعينها، بل في تحليل مجاز الحب نفسه.

الحب الذي كتب عنه في "أثر الفراشة":

"هو الحيوان/الملاك
بقوة ألف حصان، وخفة طيف
وملتبس، شرس، سلس،
كلما فر كر،
ويحسن صنعا بنا.. ويسيء
يفاجئنا حين ننسى عواطفنا
ويجيء،".

-5-

ومع ذلك، ورغم علاقات مختلفة، وما يشبه ضربة الشمس من حين إلى آخر، لم يعثر محمود على حب كبير. وبقدر ما يتصل الأمر بمجاز الحب، يمكن الاستعانة بحوار بين الفتى والشيخ في رواية ذائعة الصيت لباولو كويلهو، بعنوان "الخيميائي" كوسيلة إيضاح.

سأل الفتى الشيخ عن حلم يعيش من أجله، ويود تحقيقه. فقال الأخير: أداء فريضة الحج. وعندها سأل الأوّل: لماذا لا تفعل ذلك الآن، طالما تملك الوقت، والصحة، والمال. ورد عليه الثاني: إذا تحقق ذلك الحلم، فلن يبقى لدى ما أحلم به، وأعيش من أجله. الاستمرار في العيش يقتضي بقاء الحلم.

بهذا المعنى يجدد الحب نفسه، باعتباره واقعا يقبل ولا يقبل التحقيق. فإذا تحقق أخفق. وإذا تم نقص. وقد عاش محمود بين هذين الحدين. ولم يكن من النادر، أن تقع مفارقات كثيرة.

ذات يوم، في فندق بعاصمة عربية، اتصل به عامل الاستقبال، قائلا: "المدام تنتظر في اللوبي". لم يفهم محمود من تكون المدام، وعندما ألح في السؤال، قال له: "مدام حضرتك"، فهبط إلى اللوبي، في ضربة استباقية، لئلا تقتحم عليه المدام غرفته. هناك، وجد امرأة لم يرها من قبل، ولم تتعطف عليها الطبيعة بجمال يخفف، قليلا، من فداحة مزاعم من نوع أنها زوجته، وأنهما على موعد للعشاء.

أدرك محمود بأنها مصابة بخلل ما. تصرّف بكل ما لديه من براعة، وقد كان بارعا، وبعدما تخلّص منها، صعد إلى غرفته، وبكي.

كانت في تجربة العيش، على مدار عقود طويلة، تحت ضوء ساطع، مباهج كثيرة، ومصادفات تحرّض أحيانا على البكاء، وفي أحيان أخرى تثير الذعر، إذا خلطت امرأة ما بين الشوق والشبع.

***

محمود، صورة أولى لسيد الكلام (5-6)

حسن خضر

-1-

سافر محمود إلى عمّان، قبل الاجتياح الإسرائيلي الكبير للمدن في نيسان 2002، بأيام قليلة. مساء يوم الاجتياح اتصل للاطمئنان. وفي اليوم التالي اتصل قائلا بأنه يريد العودة إلى رام الله، ولم يقتنع بما أبديت من أسباب لا تجعل من عودة كهذه مبررة أو مفيدة. وليس هذا هو المهم، على أية حال، بل العبارة التي اختتم بها حديثه، قال: سأعود حتى على خشبة.
سيعود محمود، بالفعل، على خشبة بعد ست سنوات. لكن مجاز الخشبة، آنذاك، وبالرغم من انفتاحه على احتمال قائم، كان اختزالا لعلاقة معقّدة بينه وبين رام الله المدينة، ورام الله المكان الذي يحيل، ضمن أشياء أخرى، إلى فلسطين.
كان يقضي أيامه منذ أواسط التسعينات بين رام الله وعمّان. الأولى للحياة، وفيها أغلب الوقت، والثانية للكتابة، والتأمل، أو كمحطة في الطريق إلى بلد ما والعودة منه. المسافة بين رام الله وعمّان لا تزيد عن تسعين دقيقة بالسيارة، لكن الفلسطيني يحتاج إلى نصف نهار، على الأقل، للعبور بين ضفتي النهر.
ولم تكن من بين مقتنيات محمود، المسافر، رفاهية اجتياز النهر من البوابة الإسرائيلية دون تفتيش، وتحقيق، وانتظار. يكتب بما يشبه المناجاة الذاتية في "حضرة الغياب" عن معنى الوقوف على الجسر: "وقفتَ على جسر اللنبي كأسير محترم، بين جنود ينظرون إليك بفضول ثقيل، وينتظرون أوامر أخرى من أجهزة أخرى للتأكد من أنك أنتَ أنتَ، لا آخر يتقمصك، وينتحل اسمك ليجرب هذا الذل".
كان بوسعه البقاء في عمّان، أو أي مكان آخر، وتفادي مهانة العبور من وإلى البوابة الإسرائيلية، وكان بوسعه إدعاء وتمثيل دور الوطني، الذي لا يطيق الذُل، ومهانة الوصول إلى بلاده بإذن من المُحتل. لكن في علاقة محمود ببلاده ما يتجاوز أوسمة متوّهمة تضعها شطارة في التمثيل على الصدر.
ورغم أنني تجاهلت معظم ما كُتب عن محمود بعد رحيله، إلا أنني أجد صعوبة بالغة في التغاضي عن كلام شخص حاول تفسير عودة محمود إلى فلسطين، بعجزه عن تدبير أسباب معيشته في الخارج. ففي كلام كهذا يتجلى إخفاق واضح وفادح وفاضح في فهم ما بين ابن البروة، هذا، وفلسطين.
على أية حال، عبر محمود ضفتي النهر، في الاتجاهين، بمعدل مرّة كل شهرين، وأحيانا أقل. ولم يكن من النادر تكرار المشهد التالي، الذي صوّره في "حضرة الغياب":
"على هذا الجسر لا يكون المرء من كانه منذ قليل: متلهفا إلى موعده مع أرض الحكايات الكبرى والصغرى، ملتفا على ذاته كملفوفة أو بصلة لم تُقشر. هناك يقشره الجندي أو الجندية بلا كياسة. فلهما عليه حق الأمر والنهي: اخلع حذاءك، انزع ساعتك. فك حزامك. وانزع نظارتك، وادخل في الجهاز. يرن الجهاز. وتعيد الكرّة، ويرن الجهاز، فتخضع للتفتيش اليدوي، ويعثرون على مصدر الرنين: إنه قلم الحبر الفاخر. يفككونه ولا يجدون فيه غير الحبر الأسود: في المرّة القادمة اخرج قلم الحبر من جيبك. فتقول في المرّة القادمة لن أحمل قلما من هذا النوع".
خلع محمود حذاءه، ونـزع ساعته، وفك حزامه، ودخل في جهاز فحص المعادن. وما لم يذكره في هذا النص الجهاز الجديد الذي استخدمه الإسرائيليون منذ سنوات، وهو يشبه كابينة التليفون، وينبعث منه دخان أبيض، لفحص ما لا أدري.
عاد محمود، بعد التجربة الأولى مع ذلك الجهاز، متوترا، شاحب الوجه، ومتسائلا عن سر ذلك الدخان الأبيض. وما لم يرد يذكره في النص السابق أنهم استدعوه للتحقيق ذات يوم، وأن المحققين طلبوا منهم بصفاقة أن يقرأ لهم من أشعاره. يومها رد عليهم: السجين لا يقرأ شعرا للسجّان.
ذات يوم، في سياق الكلام عن الأشياء الحميمة التي يحب الناس الاحتفاظ بها، قال محمود إن أحد المسؤولين العرب أهداه سيفا عربيا متقن الصنعة، تزخرفه حروف وأشكال مدهشة في بساطتها وجمالها. قلت بعفوية: لماذا لا تحضره في المرّة القادمة إلى رام الله. فرد بسخريته المعهودة: سيعتبرونه على الجسر سلاحا غير تقليدي.

- 2-

قبل سفره، عشية الاجتياح الكبير، أنفق معظم الوقت مع وفد من الكتّاب العالميين، جاء لزيارته في رام الله، وتعبيرا عن التضامن مع الشعب الفلسطيني. وقد ضم الوفد عددا من كبار الكتّاب في العالم، وكان بينهم اثنان من الحائزين على جائزة نوبل للآداب، هما البرتغالي جوزيه ساراماغو، والنيجيري وول سوينكا (يُلفظ شوينكا، هذا ما قاله صاحب الاسم لمحمود عندما سأله عن الطريقة الصحيحة للفظ اسمه).
وأذكر، هنا، ما أصاب الضيوف من دهشة، عندما اصطحبهم محمود في زيارة لجامعة بير زيت، ورأوا بأم أعينهم كيف سرت أخبار حضوره في الجامعة بين الطلاب، الذين تدافعوا بالمناكب للسلام عليه، والتقاط صور تذكارية معه، أو حتى لرؤيته من مكان قريب.
وقد تكررت الدهشة في المساء، عندما حضروا أمسية شعرية في مسرح القصبة برام الله، شارك فيها محمود، إلى جانب عدد من الضيوف، الذين أسهموا بقصائد ونصوص نثرية، ألقوها بلغات مختلفة كالبرتغالية والفرنسية والإنكليزية.
كانت رم الله، في تلك الأيام، تعيش هاجس الاجتياح الكبير. في الجو إيروسية عالية، مبعثها إحساس بفناء محتمل، وقدرية ـ كما في كل الحروب ـ تستخرج أفضل ما في الذات من كفاءة السخرية، إلى جانب طيف خفيف، لكنه يكاد يُلمس باليدين، ليأس يضفي عليه الحصار شبهة البطولة والاستثناء.
في ذلك المساء غمر الفلسطينيون ـ الذين ضاقت عليهم قاعة المسرح، فجلسوا على الأرض، أو احتشدوا في الخارج ـ محمودا بكثير من الحب. كانت بينه وبينهم كيمياء خاصة، وكان في المناسبة نفسها في ظل حصار قائم، واجتياح قادم، ما يشبه طقسا من طقوس القيامة الآن.
الضيوف لا يعرفون العربية، لذا لم يفهموا القصائد، لكنهم فهموا، ولمسوا لمس اليدين، الحبل السري الذي يربط ما بين الشاعر وشعبه. في ذلك المساء، ختم محمود بالمقطع التالي: "سقطت ذراعك فالتقطها، واضرب عدوك بي، فأنت الآن حر، وحر، وحرُ". وعلى سلّم المجاز صعد الحاضرون.
قرأت، قبل أيام، كلمات كتبها الروائي الأميركي راسل بانكس، الذي ترأس وفد الكتّاب العالميين في تلك الزيارة، في رثاء محمود. وقد استوقفتني عبارة يقول فيها بأنه عندما شاهد تفاعل الناس مع محمود في فلسطين، فكّر بأن هذا الشاعر سيحصل على نوبل للآداب.
من غير المجدي، في الوقت الحاضر، التفكير في أمر كهذا. المهم أن علاقات صداقة وزمالة ربطت ما بين محمود والعديد من كبار الكتّاب والشعراء في العالم. لكن تلك العلاقات، التي نشأت على امتداد أربعة عقود من الحضور في المشهدين العربي والدولي، لم تكن مدعاة للتباهي من جانبه، ونادرا ما تكلّم عنها، أو اجتهد في تعزيزها بطريقة استثنائية. لم يكن رجل علاقات عامة، أو مغرما بصورة الشخص الذي يعرف كثيرا من المشاهير. كانت الشهرة، كما كتب: "فضيحة الكائن المحروم من الأسرار.. سجن كثير النوافذ، حسن الإضاءة والمراقبة".
كان يتلقى الكثير من الدعوات للمشاركة في مهرجانات عالمية، وندوات، ولقاءات، وغالبا ما يحاول الإفلات منها بطريقة لبقة، من نوع الارتباط بمواعيد سابقة، أو نوبات البرد المفاجئة. وبالقدر نفسه، كان حذرا في قبول الجوائز، التي تكاثرت في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق.
تملكته حيرة حقيقية عندما تلقى رسالة من مؤسسة لانان الأميركية الشهيرة، بشأن منحه جائزة باسم المؤسسة. اتصل بالعديد من الأصدقاء، من بينهم إدوارد سعيد، الذي طمأنه وحضه على قبولها، كما أنفق الكثير من الوقت، في قراءة المنشور على الإنترنت عن المؤسسة ونشاطها وأسماء الفائزين بجوائزها في سنوات سابقة. وبعد تردد، لم تحسمه للوهلة الأولى مكانة المؤسسة، ولا قيمة الجائزة، أرسل رده بالموافقة، في كلمات مقتضبة، ولغة محايدة.
مقابل التدقيق في طبيعة المهرجانات والجوائز بميزان دقيق، والعزوف عن استثمار علاقات في أماكن مختلفة من العالم، كان حريصا على قراءة ما يُنشر في العالم من شعر في المقام الأول، علاوة على أجناس أدبية وفكرية مختلفة.
ذات مساء، قرأت مصادفة على الإنترنت قصائد لشاعر كندي اسمه مارك ستراند. فاتصلت بمحمود، وسألته ما إذا كان قد قرأ لستراند من قبل. فأجاب بأنه يعرف الشخص والنص.
وقد كتب عنه في "أثر الفراشة" وعن سؤال طرحه عليه: "ما هي الحدود الواضحة بين الشعر والنثر؟ يرد ستراند "الإيقاع، الشعر يعرّف بالإيقاع"، ويختم محمود، البارع في اجتراح المفارقات، خاطرته السريعة تلك، باقتباس من نيتشه: "الحكمة هي المعنى محروما من الغناء".
في النص نفسه يتكلّم عن لقاء بحفيدة لوركا: "عانقتها لأشم ما تسرّب من ذراعيه إليها". في لقاء آخر، لم يتحوّل إلى نص، للأسف، سيبحث عمّا علق من رذاذ الذهب على يدين. فعندما التقى بالكاتب والمسرحي الأميركي آرثر ميللر في نيويورك، أطال النظر إلى يديه. يقول محمود بابتسامة ماكرة: بهاتين اليدين لمس جسد مارلين مونرو.

- 3-

عاد محمود، أخيرا، إلى رام الله. وسيبقى هناك. وقد نشأت علاقة معقّدة بينه وبينها. يغيب عنها بنية البقاء في الخارج لمدة شهر أو أكثر، ثم يبدأ في التذمر والكلام عن العودة بعد أيام. يتكلّم، في العادة، كمن يفشي سرا دفينا، بطريقة يمتزج فيها حس الدعابة بالمكر: صرت أشتاق لرام الله.
ومن الصعب، بالتأكيد، التفكير في خصوصية تلك العلاقة، دون إحالتها إلى موقف محمود من العودة، بعد أوسلو، إلى فلسطين. كتب في "حضرة الغياب": "أتيت ولكنني لم أصل. جئت ولكنني لم أعد".
في هاتين العبارتين ما يختزل خيارات وجودية كثيرة، وما يحتمل التأويل بمفردات السياسة. فالجليل مشهده الطبيعي، الثدي الذي أرضع الذاكرة البصرية، والصفحة الأولى التي خط عليها أولى كلماته.
ومع ذلك، تمكنت منه رام الله، المدينة المرفوعة على أكف التلال، بقليل من الغواية، والمباهج الصغيرة، لا لتصبح بديلا عن الكرمل، موطن القلب، بل لإقناعه بما ينفتح في المتاح من استعارة كونية اسمها فلسطين على احتمال الوصول. فخيط الهواء من رام الله إلى حيفا، أقصر من أي مكان آخر خارج فلسطين.
أراه، الآن، بكامل أناقته ولياقته، واقفا على باب أحد المطاعم في رام الله، وخصلة من شعره يموّجها الهواء. وقفنا في انتظار السيارة. كانت الساعة تقترب من الرابعة، وموجات من هواء التلال تطارد آخر ما تبقى من حرارة ذلك النهار، والضوء ما زال فتيا، وصافيا كالعسل.

نظر محمود إلى السماء، ارتعشت شفتاه بحسيّة من تصطك أسنانه من الشهوة، كأن الهواء جسد، والضوء يد، وقال كمن يخاطب نفسه: لا أحد يموت في مثل هذا البهاء.
يستنجد بالطبيعة لتغمره بالمزيد من الوقت للعيش في حضرة ذلك البهاء. بهاء يستنفر في الجسد ما يشبه ارتعاش الشهوة.
وهذا ما تكرر في حالات يصعب حصرها. كان مفتونا بشقائق النعمان، وكانت نافذة غرفتي تطل على جانب في الحديقة تسكنه شقائق النعمان. يطيل محمود الوقوف أمام النافذة، صامتا في حضرة الأرض، وقد أينعت بأزهار قصيرة، حمراء، وصفراء، تتماوج في الريح برعونة حيوانات صغيرة، فتية ومفتونة بنفسها، لاهية عن البشر، وعمّا يخبئ غد من ذبول أكيد.
شقائق النعمان ذبلت في الحديقة، لكنها احتفظت بكامل النضارة، في نصوص تكتسب الآن حياة مستقلة ومديدة. والمشهد الطبيعي، حيفا ورام الله على حد سواء، تحوّل إلى مجاز أعلى من هامة التل، وأكثر شفافية من صفحة الماء تحت قدمي الكرمل.
يسأل محمود، والسؤال هو الجواب: "هل قال أحدهم: إن سيد الكلمات هو سيّد المكان؟ ليس هذا زهوا ولا لهوا. إنه أسلوب الشاعر في الدفاع عن جدوى الكلمات، وعن ثبات المكان في لغة متحركة!".

في طريق والذهاب والإياب بين ضفتي النهر، كان شغل محمود تنقيح وتوضيح سند لملكية المكان، تثبيته في لغة متحركة، وبين هذا وذاك، وفي صميم هذا وذاك، مديح البهاء. وهل ثمة ما هو أبهى وأشهى من بلادك يا محمود؟