حسونة المصباحي
(تونس)

-1-

أول مرة رأيت فيها محمود درويش كانت فى ربيع 1973، وكان ذلك خلال مؤتمر الأدباء العرب الذى انعقد بالعاصمة التونسية والذى حضره عدد كبير من الأسماء اللامعة فى عالم الشعر والأدب من أمثال محمد مهدى الجواهرى وعبد الوهاب البياتى ويوسف الصائغ والطيب صالح ويوسف السباعى وأحمد رامى وآخرون كثيرون.
ومثل أغلب أبناء جيلى من المغرمين بالأدب، كنت معجبا بمحمود درويش الذى كان قد تم اكتشافه آنذاك من قبل رجاء النقاش وغسان كنفاني.
ومثلهم أيضا كنت أرى فيه المعبر الأصيل عن الشعب الفلسطينى وثورته التى كنا نعتز بها، ونعتبرها أمل العرب جميعا.
وكانت قصيدته الشهيرة "سجل أنا عربي" تثير حماسنا، فننشدها بأصوات عالية فى التجمعات الطلابية. والبعض منا كانوا يعلقونها فى غرفهم بالمبيت الجامعى إلى جانب العلم الفلسطيني، وصور القادة الفلسطينيين، والثوريين العالميين الكبار الذين كانوا لنا قدوة فى ذلك الوقت، وقت الأحلام الثورية الجميلة، واللامتناهية.

قلت "رأيت محمود درويش" إذ أنى لم أتحدث إليه، صحيح أننى اقتربت منه فى قاعة "ابن رشيق" حيث انتظمت القراءات الشعرية، حتى أنه كان بإمكانى أن ألمسه، غير أنى لم أتبادل معه ولو كلمة واحدة. فقد بدا لى مفرطا فى أناقته، شرسا وعدوانيا، ومعتدا بنفسه أكثر من اللزوم، وينظر إلى الجميع من فوق كما لو أنه على قمة جبل "الأولمب". وربما لهذا السبب وصفه عبد الوهاب البياتى اللاذع اللسان، بـ"ابن الباشا التركى المدلل". ورغم أنى صدمت آنذاك بمظهره وبسلوكه، فإنى ظللت معجبا به كشاعر. وبلهفة واهتمام ظللت أتابع ما كان ينشر من قصائد ومن مجموعات شعرية.

بعد سنوات، وربما يكون ذلك فى ربيع عام 1978، وخلال المعرض الدولى للكتاب، رأيت محمود درويش فى قاعة المعرض بشارع قرطاج، فاقتربت منه. وبعد أن حييته، قلت له بجرأة بأن قصائده باتت غامضة ومستغلقة على قرائه والمعجبين به، فرد عليّ بحدة قائلا "عليك أن تجتهد لكى تفهمها!" ثم ابتعد عنى مسرعا ومستاء. أثارت ردة فعله امتعاضى فغادرت قاعة المعرض محبطا وحزينا.
وفى ما بعد قلت فى ما بينى وبين نفسى بأن عبد الوهاب البياتى كان على حق عندما وصفه بـ"ابن الباشا التركى المدلل".

-2-

عندما غزت القوات الإسرائيلية لبنان فى صيف عام 1982، وانتحر خليل حاوى كمدا ويأسا، لمع محمود درويش فى أذهاننا من جديد. ويوميا كنا نتقصى أخباره بنفس اللهفة التى نتقصى فيها أخبار الغزو، وأخبار ياسر عرفات الذى لقبه الصافى سعيد آنذاك بـ"النبى الرابع".
وكنا على يقين من أن محمود درويش سوف يخرج لنا من تلك المحنة القاسية التى ضربت شعبه، بقصائد تفوح منها رائحة البطولات الفلسطينية، وتعبق بعطر دماء الشهداء الأبرار الذين سقطوا فى بيروت المحاصرة برا وبحرا. وكان الأمر كذلك. فحال خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان، أصدر محمود درويش قصيدتيه الشهيرتين "مديح الظل العالي" و"حصار لمدائح البحر". كما أصدر كتابا نثريا بديعا سماه "ذاكرة النسيان"، وفيه رسم صورة مرعبة لأيام الحصار الطويلة، وأكد فيه أن النثر والشعر متساويان خصوصا عندما يمارسهما بنفس المهارة واحد مثله.
كل فقرة من هذا الكتاب قصيد تنبعث منه موسيقى آسرة تعكس عذابات الشاعر وهو يعيش ظلمة وفواجع الحصار. هذه الفقرة مثلا "مازال الفجر الرصاصى يتقدم من جهة البحر على أصوات لم أعرفها من قبل، البحر برمته محشو فى قذائف طائشة. البحر يبدل طبيعته ويتمعدن، أ للموت كل هذه الأسماء؟ قلنا سنخرج، فلماذا ينصب هذا المطر الأحمر- الأسود- الرمادى على من سيخرج وعلى من سيبقى من بشر وشجر وحجر؟ قلنا: سنخرج قالوا: من البحر، قلنا من البحر، فلماذا يسلحون الموج والزبد بهذه المدافع؟ ألكى نعجل الخطى نحو البحر؟ عليهم أن يفكوا الحصار عن البحر أولا.. علينا أن يخلو الطريق الأخير لخيط دمنا الأخير. وما دام الأمر كذلك، وهو كذلك.. فلن نخرج إذن، سأعد القهوة".
وتحضر القهوة بقوة فى "ذاكرة النسيان"، حتى أننا نحس فى بعض الفقرات بأنها الحبيبة الوحيدة والأخيرة للشاعر المحاصر فى بيروت المحاصرة، وها هو يكتب "أريد رائحة القهوة، لا أريد غير رائحة القهوة ولا أريد من الأيام كلها غير رائحة القهوة.
رائحة القهوة لأتماسك، لأقف على قدمي، لأتحول من زاحف إلى كائن، لأوقف حصتى من هذا الفجر على قدميه لنمضى معا، أنا وهذا النهار، إلى الشارع بحثا عن مكان آخر".
وفى فقرة أخرى، يكتب محمود درويش "أريد رائحة القهوة، أريد خمس دقائق، أريد هدنة لمدة خمس دقائق من أجل القهوة، لم يعد لى من مطلب شخصى غير إعداد فنجان القهوة.
بهذا الهوس حددت مهمتى وهدفي. توثبت حواسى كلها فى نداء واحد واشرأبت عطشى نحو غاية واحدة: القهوة. والقهوة لم أدمنها مثلي، هى مفتاح النهار".

باختصار شديد، أقول إن "ذاكرة النسيان" كان من أروع ما كتب عن حصار بيروت، إنه سيرة شعرية عذبة تقرأ من البداية إلى النهاية من دون ملل أو توقف فلكأنه تلك السمفونية الآسرة التى إذا ما توقفت عن سماعها، ضيعت سر عذوبة أنغامها، وفقدت التواصل معها! خرج محمود درويش مع المقاومة الفلسطينية من بيروت وجاء إلى تونس، كنت أراه من بعيد بين الحين والآخر، وكنت ألتقط أخباره، غير أنى لم أقترب منه إلا مرة واحدة، وكان ذلك فى مكتبه بمقر الجامعة العربية، طلب منى مواضيع لمجلة "الكرمل" فوعدته خيرا. غير أنى لم أفعل ذلك إلا عقب مرور سنوات على اللقاء المذكور. ففى ذلك الوقت، مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كنت منشغلا بأمر واحد: الهجرة، وعندما هاجرت، عشت سنوات التيه والترحال كنت خلالها أقرأ واكتب فى أماكن مختلفة ومتعددة بحيث لم يكن من السهل على التواصل مع الآخرين.
وبما أن مفهومى للكتابة والفن عموما كان قد تعمق بعد أن نزعت عنى الأقنعة الأيديولوجية، وأخذت اكتسب تجارب جديدة غاية فى الأهمية بسبب قراءاتى وتعدد أسفارى عبر أوروبا، فإنى بدأت اقترب من محمود درويش الشاعر فاصلا بين شخصه ونصه، وبالتالى لم يعد يهمنى كبرياؤه، ونرجسيته، وتعاليه، بل نصه، نصه فقط لا غير. وفى ما بينى وبين نفسى كنت أقول بأن محمود درويش كان على حق عندما نصحنى بالاجتهاد لفهم قصائده الجديدة.. أفلم أكن أريد أن يظل يراوح مكانه استجابة لرغباتى وأوهامى الإيديولوجية فى حين أن الشاعر مطالب دائما وأبدا بالارتقاء بتجربته إلى آفاق جديدة حتى يثبت أنه شاعر حقيقى وأصيل؟!

-3-

فى النصف الثانى من عقد الثمانينات، أخذ محمود درويش يتردد على بغداد لحضور فعاليات مهرجان المربد الشعري. وكان من الطبيعى أن يفعل ذلك ففى تلك الفترة كان مقربا من ياسر عرفات. وكان عضوا بارزا فى منظمة التحرير الفلسطينية التى كانت تساند النظام العراقى فى حربه ضد إيران. ورغم أن المسؤولين العراقيين الكبار فى القيادة العراقية كانوا يعاملونه
معاملة خاصة كانت تثير غيظ بعض الشعراء العرب الآخرين وحسدهم، فإن محمود درويش تجنب الخوض فى القضايا السياسية، وأبدا لم يعلن عن موقفه الواضح من الحرب الدائرة. وكان حضوره يقتصر على إلقاء قصائده أمام الجمهور. ومرة انعقد مؤتمر الأدباء العرب فى بغداد، وكان ذلك فى ربيع عام 1987 على ما أظن، وكان محمود درويش من أبرز الحاضرين، وذات مساء بغدادى جميل، عرض على الصديق شربل داغر أن نسهر معه، فأبديت ترددى مستعرضا البعض من ردود فعله السابقة، غير أن شربل نسف ترددى بضربة حقيقية على كتفى قائلا "تعال معي.. وسوف تكتشف أن محمود درويش شخص هش وطفل صغير!". وفى تلك السهرة، أمام نهر دجلة الذى كان يتدفق أمامنا محملا بتاريخ القدامى والمحدثين، اكتشفت العجب. فالشخص الذى كان أمامي، والذى كان كعادته دائما أنيقا ووسيما، لم يكن "ابن الباشا التركى المدلل"، وإنما كان طفلا ظريفا، ساخرا، يحب اللعب بالكلمات، والحديث عن النساء والخمور والمدن. وبين وقت وآخر كان يطلق ضحكة تعيد إليه طفولته الأولى التى فقدها مبكرا..
والشيء الذى لفت انتباهى فى تلك السهرة هو أن محمود درويش يولى اهتماما كبيرا بكل كلمة ينطق بها لذا كان يختار كلماته بعناية فائقة تماما مثلما هو الحال مع الكتابة. فاللغة هى معياره الأساسى فى تعامله مع نفسه، ومع الآخرين. واللغة هى الحبيبة التى لا يجوز التفريط فيها أبدا. لذا لا بد من العناية بها، وتدليلها، وصقلها، وتنظيفها من كل الشوائب التى تعلق بها.. الشوائب الإيديولوجية والسياسية والدينية وغيرها.

ورغم أن محمود درويش كان يعيش وسط محيط سياسى وإيديولوجى متلاطم الأمواج وفى حالة هيجان دائم، فإنه ظل محافظا على أناقة اللغة الشعرية، وعلى صفائها ورونقها.
انتهت السهرة البغدادية أواخر الليل فعدت إلى غرفتى بفندق "المنصور ميليا" وقد ولدت فى ذهنى صورة جديدة لمحمود درويش، صورة طفل مشاغب، عاشق للحياة، يتميز بسخرية قارسة كبرد أولى صباحات الربيع، ولا يحب شيئا آخر غير اللغة والشعر..

-4-

غير أن علاقتى بمحمود درويش الحقيقية بدأت عام 1994، ففى خريف ذلك العام ذهبت إلى باريس، وباريس فى الخريف تكون أجمل المدن، وكان خريفها عندما وصلت إليها ذهبيا مثل خصلات شعر شارون ستون عندما تخرج مبللة من الحمام لترتمى فى أحضان الحبيب المتقلب على جمر الانتظار. وكنت أعرف أن محمود درويش رجل خريفي. والخريف يحضر كثيرا فى قصائده. وهو يبهجه أكثر من كل الفصول الأخرى. حتى قصص حبه لا تكون إلا فى الخريف، وربما يكون قد كتب أجمل قصائده فى هذا الفصل. ومتحدثا عن خريف باريس فى حضرة الغياب" كتب يقول "أما الخريف هنا، خريف باريس العائدة من إجازتها الكبرى، فهو انكباب الطبيعة التى أغواها المطر على كتابة أشعارها الباذخة بكل ما أوتيت من مهارة ونبيذ يتخمر.

خريف طويل طويل كعقد زواج كاثوليكى لا يشى بما فيه من سعادة أو شقاء لعابر مثلك على المشهد، خريف طويل البال، عناق ايروسى بين الضوء والظل والأنثى والذكر، وبين سماء تنخفض باحترام على شجر يتعرى بكرامة، أمام التباس الغوايات بين قطرات ضوء يمطر، وبين قطرات ماء يشع ويشرق.. خريف يتباهى، خريف يتماهى مع أوائل فصول ثلاثة: عرى الصيف، وجماع الشتاء، وفتوة الربيع".
ومتحدثا عن نفسه فى الخريف الباريسي، يقول محمود درويش فى الكتاب المذكور وأنت، أنت تمشى خفيفا على سطح هذا النهار الخريفي، تنتعش وترتعش وتندهش أفى مثل هذا النهار يموت أحد؟"، ولا تعرف إن كنت تسكن الخريف أم هو الذى يسكنك، حتى لو تذكرت أنك الآن فى خريف العمر، حيث يتقن العقل والقلب الإنصات إلى الزمن بتناغم التواطؤ بين المتعة والحكمة. إيقاع نبيل يرفع الجسد إلى مرتبة الانتباه لما ينقص، فيزداد امتلاء بما يعد إليه من جماليات الصحو والغيم، ويستعد كمرصد جوي، لرصد المناخ المناسب لحوار عابر: هذا النهار جميل، أليس كذلك؟! إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا نحتسى القهوة معا؟ لرائحة القهوة أبواب تفيض إلى سفر آخر: إلى صداقة، أو حب، أو إلى ضياع لا يؤلم.. فتنتقل القهوة من الاستعارة إلى الملموس".

فى ذلك الوقت كان محمود درويش يسكن فى "التروكاديرو"، وذات مساء طلب منى صديق مرافقته إلى مقهى فى "الكونكورد" حيث سيلتقى بـ"شخص مهم" بحسب تعبيره، "هل أعرفه"؟ سألته، "وهل آخذك إلى شخص لا تعرفه؟" رد باسما، ولم يكن ذلك الشخص غير محمود درويش. مكثنا ساعتين فى المقهى نتحدث فى مواضيع شتى، سألنى محمود درويش عن أحوالى فى ألمانيا وقال لى "يبدو أن إقامتك هناك تلاءمت مع مزاجك.. فأنت غزير الإنتاج فى هذه الأيام". وقد لاحظت أن الصديق لعب دورا مهما فى تلميع صورتى لدى درويش المعروف بتحفظه المبالغ فيه أحيانا. لذا لم يتردد فى دعوتى والصديق إلى كأس فى بيته بـ"التروكا
ديرو" مساء اليوم التالي..

ذهب الخريف يتقاطر على نهر "السين"، وأنا فى التاكسى أفكر فى كل الشعراء الذين ساروا على ضفاف هذا النهر العظيم.. فكرت فى بودلير وفى فرلين وفى ملارميه وفى فرانسوا فيون وفى جيراردى نرفال الذى انتحر بالقرب من أحد جسوره، وفى باول تسيلان الذى ألقى بنفسه فى النهر بسبب لا يدريه أحد، وفى أبولينير الذى تغنى بالحب الخريفى تحت جسر "ميرابو".. استقبلنا محمود درويش بحفاوة، كان البيت مرتبا بأناقة شاعر له حس ارستقراطي، وكانت لوحات بعض الرسامين العرب الكبار تزين الجدران، امتدت الجلسة من الساعة السابعة إلى الساعة التاسعة، دار الحديث حول أشياء كثيرة. غير أن الشعر كان قطب حديثنا.
وعقب ذلك اللقاء الرائع، نشرت نصا عنه فى مجلة "الوسط" التى كانت تصدر فى لندن تحت عنوان "زيارة إلى محمود درويش". وقد قامت بعض الصحف العربية بإعادة نشره كاملا وكتبت لى غادة السمان تقول بأن نصى كان بمثابة قصيد عذب عن شاعر كبير.
والحقيقة أن تلك الجلسة مع محمود درويش فى بيته هى التى كسرت كل الحواجز التى كانت قائمة بينى وبينه حتى ذلك الحين. فإذا بى اقترب منه ومن روحه أكثر من أى وقت مضى لذلك انبثق النص منى كما ينبثق نبع الماء بعد انحباس طويل.

-5-

عقب لقاء خريف 1994، تعددت لقاءاتى بمحمود درويش، فقد التقيته فى برلين عام 1996، عندما جاء إليها مدعوا من "بيت ثقافات العالم" حيث ألقى قصائده، زرته فى الفندق حيث كان يقيم، فتحدث إلى كما يتحدث إلى صديق حميم، وبعد الأمسية الشعرية، التقيت به فى المطعم الذى دعته إليه السفارة الفلسطينية بألمانيا، وكان محاطا بالدبلوماسيين، أما أنا فقد جلست مع أصدقائى فى ركن بعيد، ورحنا نعربد، ضاحكين عاليا، بينما كان هو ينظر إلينا وفى ملامحه ما يدل على أنه كان "يغبطنا" على جلستنا الصاخبة الضاحكة تلك، بينما كان هو ساكنا وسط الدبلوماسيين المتخفين وراء أقنعة الصرامة والجدية.

وفى خريف عام 1998، التقيت بمحمود درويش فى الدار البيضاء، وكان ذلك خلال مؤتمر الشعر العالمى الذى نظمه "بيت الشعر" المغربى بإدارة محمد بنيس، وآنذاك كان لا يزال يعانى من تبعات العملية الجراحية الخطيرة التى أجريت عليه.
وفى غرفته بالفندق أجريت معه حوارا مطولا حدثنى فيه عن المرض، وعن الموت، وعن عدمية الوجود والحياة. كما تحدث عن تونس والقاهرة وبيروت وعن مدن أخرى أقام فيها، وكان لها تأثير على مساره الشعري.
وعن العلاقة بين النثر والشعر، قال لى محمود درويش "الشعر هو الأب الشرعى لكل فنون التعابير الأخرى، وهناك حوار دائم بين الشعر وبين بقية فنون التعابير الأخرى، خصوصا بينه وبين النثر، والنثر يتطلع دائما إلى الشعر. وعندما يحدث ذلك يسمو النثر، والشعر يصبح عظيما وأخاذا حين يتطلع إلى النثر، وتحديدا إلى بساطته متحديا تلك القواعد الصارمة التى تتحكم فيه".
وفى ذلك الحوار حدثنى أيضا عن الدواوين التى كانت حصيلة التجربة الباريسية، مركزا بالخصوص على "لماذا تركت الحصان وحيدا" قائلا عنه"اعتبر أن مجموعتى "يقصد لماذا تركت الحصان وحيدا" هى من أرقى المحاولات الجمالية. ففى هذه المجموعة كان على أن أدافع عن تاريخ منسي، وبكلام أوضح أقول إنه كان على أن أدافع عن أرض الماضى وعن ماضى الأرض، عن أرض اللغة ولغة الأرض، وهكذا ارتأيت أن أجلس حرا فى زاوية، وأن أصوغ "سفر تكويني"، أو سيرتى الذاتية بلغتى الشعرية".

-6-

فى خريف عام 2004، "لاحظوا أن أجمل لقاءاتى معه تمت فى هذا الفصل"، التقيت بمحمود درويش فى فرانكفورت، أيام المعرض الدولى للكتاب والذى كان العرب ضيوفه فى تلك السنة، كنا نسهر فى الفندق حتى ساعة متأخرة من الليل، وكان محمود درويش فى أوج حيويته، يناقش بحرارة، ويضحك عاليا للنكات والطرائف.
ومرة حاول مازحا إشعال معركة بينى وبين حسن بن عثمان غير أنه فشل فى ذلك. وخلال إحدى السهرات حدثته عن كتاب "ذكريات مع جيمس جويس" الذى كنت قد انتهيت من ترجمته للتو، فرحب بنشره فى مجلة "الكرمل". وهذا ما فعله عام 2005.
وبعد فرانكفورت، جاء محمود درويش إلى ميونيخ، ليحيى أمسية شعرية، فى "دار الأدب" وذلك بمناسبة صدور مختارات من قصائده مترجمة إلى لغة غوته. امتلأت القاعة بالجمهور، وعلى مدى ساعتين كاملتين ظل محمود درويش يقرأ أشعاره بطريقة آسرة ألهبت إعجاب الألمان حتى أنهم قاطعوه بالتصفيق أكثر من مرة حتى قبل أن يفهموا ما كان يقول، والحقيقة أنه كان فى تلك الليلة "أمير الشعر العربي" بامتياز، وكانت الأمسية التى أحياها فى نهايات الخريف البافارى ساحرة مثل الغروب على جبال الألب فى ذلك الوقت من العام.

-7-

تواصلت لقاءاتى بمحمود درويش حتى ديسمبر الماضى "2007" عندما جاء إلى تونس ليتسلم جائزة الرئيس بن علي، أقام فى فندق "أبو نواس" وعندما هتفت له، قال لى "سوف أكون سعيدا بلقائك.. لكن تعال وحدك!" غير أنى ذهبت للقائه بصحبة صديقة صحافية، جلسنا معه قرابة الساعتين، كان متعبا، لكنه كان متألقا بالشعر وبحب الحياة.
تحدثنا كثيرا خصوصا عن "فى حضرة الغياب"، وعن "أثر الفراشة". سألنى عن أحوال أولاد أحمد والمنصف المزغني.. وبعد يومين جئته مصحوبا بصديقة تونسية أخرى وبصديق ألمانى كان قد حضر أمسيته فى ميونيخ. كان متعبا أكثر من المرة السابقة، وأذكر أنه قال لى "إن أشد ما يرهقنى هو الاستجوابات والمقابلات التى يجريها معى صحافيون سطحيون، لا يتقنون شيئا آخر غير طرح الأسئلة السخيفة والمبتذلة".
بعد اللقاءين المذكورين، ظللت على اتصال بمحمود درويش حتى شهر حزيران/ يونيو الماضي، وعندما ذهبت إلى أصيلة، وجدت أهلها حزانى لأنه أبلغ إدارة مهرجانها بأنه ليس بإمكانه الحضور بسبب العملية التى سوف تجرى عليه فى الولايات المتحدة الأمريكية. وفى السهرات التى كنا نقضيها على أرصفة المدينة، كان محمود درويش يحضر فى أحاديثنا بين وقت وآخر، شاعرا وإنسانا.
ويوم السبت 9 آب/أغسطس 2008 كنت فى طريقى إلى طنجة لحضور لقاء مفتوح معى بـ"نادى البحر الأبيض المتوسط". ولما توقفت سيارة الصديق د. فروار الإدريس عند الضوء الأحمر فى قلب المدينة، جاء خبر وفاته، فأظلم بحر مضيق جبل طارق الذى كان يتلألأ قبل قليل بأضواء الصيف الحادة، وتجللت الشوارع والساحات بسواد الفراق الأخير.. وأنا أشرب كأسا فى "مقهى البريد" المقهى المحبب للصديق الراحل محمد شكري، تذكرت مقطعا من "فى حضرة الغياب" فيه يقول محمود درويش "الوداع هو الصمت الفاصل بين الصوت والصدى، أما الصوت فقد انكسر وأما الصدى فقد خفضته وديان وكهوف مرفهة السمع كآذان كونية، وضخمته صدى للصدى..".