مرحلة بيروت في حياة الشاعر الراحل

صقر أبو فخر

آخر تحديث: السبت ,23/08/2008

1/1

لم يجمع الفلسطينيون، طوال تاريخهم المعاصر، على أي أمر أو شأن أو فكرة أو زعيم مثلما أجمعوا على محمود درويش وعلى قصائد محمود درويش. لقد شغفوا به، وتوّجوه ملكاً عليهم. وهذا الأمر لم ينله لا الحاج أمين الحسيني ولا جورج حبش ولا حتى ياسر عرفات.

لماذا أحبه الفلسطينيون جميعهم والعرب أيضاً؟

لأن محمود درويش صنع في هذا السديم العربي أملاً، وأبدع في هذا العماء المروع وعوداً خلابة. وحوّل أغاني التيه الفلسطيني إلى ملحمة مدهشة للعودة المؤجلة.

سأقول أيضاً: لأن في شعره انسياب الماء المعمداني في منعطفات "الشريعة" عند الأردن، ونداء الرياح الجريحة في قفار بيت لحم، وصوت الأيائل المتوثبة في جبال الخليل.

قصائده سيمفونية من الألوان الراقصة والايقاعات الراعشة. وأشعاره شلال من العبارات المتوترة، تضطرب وتهدأ، تهمس وتصرخ، تغيب وتحضر مثل موج البحر أمام سطوح القرميد في يافا.كأنما كلماته ضوع البخور الهندي في معبد منعزل في أقاصي الأرض.

* * *

لقد برهن لنا محمود درويش أن القصيدة ربما تكون، في كثير من الحالات، أقوى وأوفى وأشد أثراً من البندقية.

ولعل تجربته المرة في لبنان، إبان الحرب الأهلية، وفقدانه كثيراً من الأصدقاء والأحبة، جعلته يلتفت إلى ما وراء هذا الموت المجاني، إلى المعنى في ما يختفي وراء المعنى.

في "ذاكرة للنسيان" يقول محمود درويش: "أنا لا أعرف بيروت. ولا أعرف إن كنتُ أحبها أم لا أحبها... للسياسي المهاجر كرسي لا يتغير ولا يتبدل... وللتاجر المهاجر فرصة التأكد من أن ريح الخمسينات التي وعدت فقراء العرب بشيء ما، لن تمر من هنا. وللكاتب الذي ضاقت به بلاده او ضاق بالحرية في أن يعتقد أنه حر... وللشاعر السابق امكانية الحصول على مسدس وحارس ومال، فيتحول إلى زعيم عصابة يغتال ناقداً ويرشو آخر... وللفتاة المحافظة القدرة على إخفاء الحجاب في حقيبة يدها، والاختفاء مع عشيقها في فندق، وللمهرّب أن يهرب، وللفقير أن يزداد فقراً... أَهي مدينة أم قناع؟ منفى أم نشيد؟".

لا ريب في أن تجربة محمود درويش في بيروت كانت تأسيسية بكل ما في الكلمة من معنى. إنها المدينة الرحبة التي جاء إليها من قفص الاحتلال بعد مرور سريع في موسكو والقاهرة. وفيها دشن المرحلة الثانية في مسيرته الشعرية الخلابة، هذه المسيرة التي يمكن تفصيلها على أربع مراحل:

1- ما قبل الخروج من فلسطين في سنة ،1971 وفيها كتب قصائد “سجل أنا عربي" و”أحن إلى خبر أمي" و"جندي يحلم بالزنابق البيضاء"... الخ، ودواوين "أوراق الزيتون" و"آخر الليل"، و”حبيبتي تنهض من نومها".

2- ما قبل الخروج من بيروت في سنة ،1982 وفيها كتب "أحبك أو لا أحبك” و"محاولة رقم 7" و”تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، وكانت خميرته قبل كتابة "مديح الظل العالي".

3- ما قبل الخروج من الموت في سنة ،1998 وفيها كتب "مديح الظل العالي" و"ورد أقل" و"أرى ما أريد" و"أحد عشر كوكباً"، و"لماذا تركت الحصان وحيداً؟".

4- ما قبل الخروج من الحياة في سنة ،2008 وهي أبهى مراحله الشعرية، وفيها كتب "سرير الغريبة" و"جدارية" و"حالة حصار" و"لا تعتذر عما فعلت” و"كزهر اللوز أو أبعد".

جاء محمود درويش إلى لبنان في زمانين متنافرين: الزمان الأول حينما لجأ مع عائلته في سنة ،1948 فقطع الطريق ماشياً من البروة إلى رميش، ونام عند البركة القذرة قرب الخنازير والأبقار، وقطف التوت في صور، ثم إلى جزين. وفي جزين رأى الثلج للمرة الأولى، ورأى الشلال للمرة الأولى، ورأى التفاح يتدلى من أغصان الشجر أول مرة، فقبل ذلك لم يكن يعرف أن التفاح يتدلى من الاغصان، بل كان يعتقد أنه ينبت في الصناديق. ومن جزين إلى الدامور التي لا يتذكر منها إلا البحر وبساتين الموز. وفي بيروت ركب الترام أول مرة، وضاع فيه إلى أن عاد الترام إلى المحطة الأولى فاحتضنه جده بلهفة. أما الزمان الثاني ففي سنة 1972 حينما جاء بيروت شاعراً تسبقه أشعاره، وكان أول ما فعله بعد أن علّق ثيابه في الفندق هو أنه نزل إلى الشارع، وأوقف سيارة أجرة، وقال للسائق: خذني إلى الدامور.

* * *

منحته بيروت فضائياً معرفياً لم يكن متاحاً في القاهرة أو دمشق، ففيها كانت المعارك ناشبة بين قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة، ومع ان مجلة "شعر" كانت توقفت في تلك الأثناء، الا ان أدونيس كان ما يزال يهز الثقافة العربية هزاً، ولا سيما بعد صدور كتابه “الثابت والمتحول”. وكانت بيروت آنذاك تحتضن نزار قباني وبلند الحيدري ومحمد الفيتوري، علاوة على خليل حاوي وأنسي الحاج ويوسف الخال وشوقي أبو شقرا وغيرهم، وفي بيروت بدأت رحلته الشعرية التي تجاوز فيها "سجل انا عربي" وغنائيتها إلى آفاق شعرية جديدة، كانت قصيدته "سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا" قصيدة باهرة في ذلك الزمن، ولعلها القصيدة التي وضعت أقدامه بقوة على خط التجديد الشعري.

عاش محمود درويش في لبنان عشر سنوات كاملة، لعلها الاغنى في مسيرة عمره، لم يغادرها مع المقاتلين في سنة ،1982 بل أصر على وداعها بطريقته الخاصة،فغادرها وحده "بمساعدة صديق" إلى طرابلس، ومنها إلى دمشق، وقد كرس لبيروت كتابه "ذاكرة للنسيان"، وأهداها واحدة من أجمل قصائده وأكثرها شهرة هي "مديح الظل العالي" التي يقول فيها:

بيروت من تعب ومن ذهب

واندلس وشام.

بيروت خيمتنا

بيروت نجمتنا

بيروت زنبقة الحطام.

* * *

عاد محمود درويش ثانية إلى بيروت في سنة ،1999 حينما كانت الحرب الأهلية قد طوت تقريباً جميع عقابيلها ومنذ ذلك الوقت لم ينفك عنها في زيارات متلاحقة. وفيها أعاد صديقه الدمشقي رياض نجيب الريس نشر جميع اعماله. وفي أرجائها استقبلته بيروت بالحب وأمسيات الشعر وأماسي الأحبة، والعواطف التي تفور من العيون الوالهة. وقد هيأت له بيروت هدأة وبعض السكينة، ومنحته ألقاً يليق بواحد من أعظم شعراء العربية. لكن الحياة أخلفت وعودها معه، فأورثته قلقاً ووجيف قلب. وظل الموت يلاعبه وهو يلعب به بمهارة "لاعب النرد"، حتى أراح ركابه أخيراً، وغادرنا إلى حيث لا يزور أو يُزار.ُ