في أربعينك يقف الكلام على حافة القصيدة كأنه يهربُ من الشعر، يهربُ من رثاء نفسهِ، تهربُ الأبجدية نحو كل شيء إلا رثائك. وأنت ربّ القوافي وسمامُ الموت وغيظ المرض، كنتَ ستنجو لو أردتَ لكنّ روحكَ تواقة للأثير متلهفة لعناقِ الكواكِبِ بعدَ أن عافت الصلدَ والرماد على هذه الأرضِ المهزلة موبخة حنين الأخوة القتلة بغيابها، تنسلُّ منكَ ناعمة كالمناديل أو كندف الثلج تتصاعد منكَ لتكلل الملائكة المصطفين حولكَ الآن وكي تغمر شجر الجنةِ بالبياض، نسألك جميعا لمَ لم تؤجل موتكَ حتى نموت فتهنأ في هدوئكَ الشخصيِّ المُنقــّى من دموعنا وعويلنا؟؟؟ لمَ لم تجنبنا الحسرة والغياب؟..
في أربعينك تنحسرُ السماء والفصول أكثرَ عن جسد الأرض الخراب/ اليباب بعدكَ، يفقدُ الشعرُ هيولاهُ ويفقدُ الوحيُ نسقهُ مع قصيدتهِ ووظيفتهِ المعهودةِ منذ كهفِ حراء حتى الصالة التي تضم مكتبك وكتبك وأفكارك، كنتَ الشجرة ولازلنا الظل الذي يسقط من تدافع الضوء على قامتها التي ترضع من نجمة المستحيل، وأنت ترحلُ لا تنسَ أن تعيد نظرك للخلف ثمة أشياء ثكلى وجمادات تدب بها الروح لتستوقفك، لتبعدك خطوة تكفي لتلويحة إضافيةٍ من يدكَ المودعة عن حافة الكوكب، حيث الشهداء والانبياء متجمهرون على بوابةِ السماء في انتظار عروجك..
في أربعينك وأنت الآن السماوي بُحـَّة في السانتوري بينَ أيدينا، وترنيمة للنجوم التي تصطك تحت حوافر خيلٍ رحلتَ عليها حالما نحن صدقنا الخلود الذي لم تطمأنَّ له حين بلغت المدى فانطلقت بالرسالةِ إلى عوالم أخرى وشكلتَ بتراً لذراع الحاضر الكوني، تركت الحروف يتامى لنا نقنعهنَّ بعدكَ بأبوتنا الناقصة المفتعلة دون أن ننجح بإضافةِ مشهدٍ واحدٍ للسيناريو الذي تركته على عاتقنا ثوراً هائجاً، لمَ لم تترك قميصكَ نلقيهِ على الشعرِ فيرتدُّ بصيرا؟..
في أربعينِكَ تتسع الفاجعة وتدلقُ السماء حدادها ليلا أسودا على رؤوس الذين يشعلون مصابيح الكيروسين من قلوبهم في عمان ورام الله والقاهرة وبيروت ودمشق وسائرِ الأرض التي تتبادلُ العزاء مع بقيةِ الكواكبِ والمجرات، والتي تبكيك مع طلوع الشمس ومغيبها، تبحثُ عن رائحتكَ التي تركتها على الفخار وغبتَ عنها حياً إلى مكانٍ ما، أسألكَ بأمـِّك ودموعها أن تباغتنا ذات يومٍ محملاً بالقصائِدِ والعتابْ فما زال تنورُ أمـِّكَ مشتعلا والتحية ساخِنة كقلوبنا أو كالرغيف. سلامي لكَ في البياض سلامي لكَ في هذي الحروف التي خجلت أن ترثيكَ لكي لا تكون غزلا في نصال الموت، سلامي لك في سدرةِ الشعر والمنتهى وأنتَ تعد الورد والنبيذ لمسائِكَ المختلف، ثمة أصدقاء جدد يحيطون بك الآن مشدوهي الحواس وقد نالوا كلَّ فيضِكَ ووجودك مدركين بأنهُ لا عروج لك أعلى من سقفهم وحلقتهم الفضولية حولك، أما نحنُ الذين تركتنا في دروس كوما سوطرا لا زلنا نحاول أن ننسى موعدنا في انتظار قصيدتكَ الجديدة.