للغياب حياة خاصة في كتابات محمود درويش ، فهو منبع إبداعي للصور ، و الحكايات ، و الصوت الداخلي للذات ، إنه يبعث آثار الأنا ، و المكان ، و الوعي بالعالم في مشهد كوني متجدد لا نهاية له .
الغياب عند درويش مرح لا يهتم بالنهايات ؛ لأنه يناهضها ، فدائما ما يترك مساحة فارغة للنشوء المتجدد للصور المبدعة ، و كأنه يذكرنا بزيف فكرة النهاية الحاسمة ، و من ثم فإن صوت درويش سيظل ممتدا في مرح الغياب ، و علاماته النصية – التاريخية ، و أطيافه الفاعلة داخل القصيدة ، و خارجها ؛ تلك الأطياف التي تحمل أثر درويش ، و إدراكه المبدع لقوة الغياب ، و احتفالياته الموسيقية ، و التصويرية ، و الكونية المتنوعة ، و المتداخلة ، و المضادة للحدود .
إن المتكلم في ديوان محمود درويش " كزهر اللوز أو أبعد " يكتشف الطاقة الإبداعية الكامنة في مدلول الغياب ، و هي ثراؤه اللانهائي بالصور ، و التكوينات المختلطة المتحررة من القيود ، و الحدود ، و من ثم كان الغياب فضاء حرا للصور و الأماكن ، و الأخيلة ؛ فهي تمارس فيه تحققها الذاتي / الجمالي ، ثم نراه يمارس نوعا من الذوبان في هذا الوهج الذي تولد للتو عن الغياب ، و قد تحققت حياته الجديدة بما فيها من صخب ، و لذة ، و وهج .
في نص " أحب الخريف ، و ظل المعاني " يتجسد دال الخريف في منطقة غائمة ملتبسة ، يبدأ منها الإبداع في تشكيل عوالمه الفريدة انطلاقا من زوال الحدود ، و التصنيفات .
الخريف هنا مبدأ لإدراك العالم ، و الانحياز لحركيته الإنتاجية الخفية ؛ ففيه الكتابة ، و الحياة ، و الموت ، و إعادة تسمية الأشياء .
الخريف قوة النشوء الكامنة في الغياب ، و قد كشف درويش عن تداعياته ، و مساحاته الفارغة الثرية بالأخيلة .
" أحب الخريف و ظل المعاني / و يعجبني في الخريف غموض خفيف شفيف المناديل / كالشعر غب ولادته إذ يزغلله / وهج الليل أو عتمة الضوء / يحبو و لا يجد الاسم للشيء " .
الخريف هنا رؤية للوجود ، توشك أن تبدأ في إعادة كتابته دون أسماء ، أو تكوينات حاسمة ، إنه لذة البدايات الأخرى في سياق الغياب ، و النهايات المتوهجة بحياة جديدة .
إن القصيدة تضع أسئلة الوجود ، و الحياة في الخريف الذي يتحدى النهايات في مدلوله الخاص ؛ و من ثم يكتسب الليل وهجا ، و الضوء عتمة و يظل الغياب معلقا لا يكتمل أبدا ؛ لأنه منتج لحياة خفية ملتبسة بالحضور .
و الموت مثل الخريف ، أو هو تأويل له ملتبس بفرح الحياة ، و ديناميكيتها السردية ، فالجانب السردي عند محمود درويش يؤكد فاعلية الغياب من جهة ، كما يعيد تمثيل الموت كحياة متجددة تقاوم مدلول المحو من جهة ثانية .
" في مثل هذا الخريف تقاطع موكب عرس لنا مع إحدى الجارات / فاحتفل الحي بالميت ، و الميت بالحي " .
المكان يذوب في أطياف المشهد المجازية ، و الأسطورية ، فالبشر إيحاءات مجردة ينتجها الجانب الإبداعي في المكان ، و هكذا يقبض درويش على الإيحاءات المتجددة ، و على ما تخلفه من فراغ نرى فيه الحياة ، و الموت في حالتي صخب ، و فرح .
و قد تمتزج الذات اللاواعية التي نراها في كتابات فرويد ، و كارل يونج بالأسطورة ، و حلم اليقظة ، مما يعزز من فكرة الاتساع ، و الذوبان في قوة الغياب الكونية التي تشبه الخريف أيضا .
" يعجبني أن أرى ملكا ينحني لاستعادة لؤلؤة التاج من سمك في البحيرة " .
هل هي استعادة للذات الأسطورية الكامنة في اللاوعي الجمعي ؟ أم أنه ذوبان في المادة الكونية ذات الإيحاءات الأنثوية المؤجلة ؟
الخريف انتظار للحياة .
هل كان درويش يقع في تلك الهدنة ؟ في انتظار حياة مرحة يولدها الغياب ؟
الخريف فراغ للأخيلة الصاخبة القادمة ، الحاملة لكل أطياف الحكايات ، و الأشعار ، و المعارك ، و الأساطير ، إنه انتظار للحياة يستشرفها وراء الغياب ، و القصيدة ، و الحياة نفسها .
الخريف عند درويش حياة ما بعد الحياة ، الصوت المؤجل للقصيدة ، و المعركة .
" يعجبني أنه هدنة بين جيشين ينتظران / المباراة ما بين شاعرتين تحبان فصل الخريف / و تختلفان على وجه الاستعارة / و يعجبني في الخريف التواطؤ بين الرؤى و العبارة " .
تتراوح الدوال بين التحقق ، و الانتظار ، و الانقسام ، و كأن ثمة ما هو قادم من عتمة الغياب ، و جمالياته التي لا يمكن القبض عليها رغم حضورها الاستعاري المتكرر في النص .
و يتوحد المتكلم بالطيف ليحقق حياة ما بعد الغياب في نص " مقهى ، و أنت مع الجريدة " ؛ فقد تحول إلى وعي مرح طليق خارج الحدود ، و القيود الجسدية الظاهرة ، و لكنه يملك جسدا قيد التشكل ، و النشوء المستمر الذي يشبه الحياة ، و يتحداها .. يشبه الحياة ، و يتجاوزها .. يشبه الحياة في ولادة جديدة خارج العالم بكل ما فيه من قوى ، و صراعات .. هل استشرف درويش هذه الحياة ؟ هل حققها الآن ؟
" و من خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين / و لا ترى / إحدى صفات الغيب تلك ترى ، و لا ترى .. فاصنع بنفسك ما تشاء / اخلع قميصك أو حذاءك إن أردت / فأنت منسي و حر في خيالك / ليس لاسمك أو لوجهك ها هنا عمل ضروري / تكون كما تكون " .
لقد اندمج الصوت الشخصي ، بالصوت الكوني اللاشخصي ، فالوعي يعاين التحول ، و الكينونة الجديدة ، في ولاداتها الأخرى ، و سياقاتها المنتظرة خارج الحدود القديمة رغم أنها تحمل الصوت القديم نفسه ، و قد تخلى عن قيوده لأجل الحرية .
و تظل حالة السكون التي تشبه النرفانا مسيطرة على المتكلم ؛ فهي شرط الذوبان في شعر ما بعد الموت ، و ما بعد الحالة الإنسانية.
" مقهى ، و أنت مع الجريدة جالس / في الركن منسيا / فلا أحد يهين مزاجك الصافي / و لا أحد يفكر باغتيالك / كم أنت منسي و حر في خيالك " .
هل هي لذة الوعي حين يلتحم بالمشهد في حالة غياب ؟ أم أنها قصيدة المشهد التي تحرفه في سياق حر يشبه براءة الامتلاك الأولى للعالم ؟
إن الفراغ عند محمود درويش فضاء لاختلاط الانفعالات ، و الصور ، بحالات التجسد المؤقتة التي تسمح لنفسها بالظهور ، و العودة في أشكال جديدة . يبدو هذا واضحا في نص " فراغ فسيح " .
" أفق مهمل كالحكايا الكبيرة / أرض مجعدة الوجه / صيف كثير التثاؤب كالكلب في ظل زيتونة يابس / عرق في الحجارة / شمس عمودية / لا حياة و لا موت حول المكان " .
إنه يعلق المكان في تجسدات مؤقتة ، ليؤكد أن المكان يتجدد حين تعانق المادة أخيلة القصيدة ، هل هو المكان ؟ أم أنه قصيدة المكان التي هي مستقبل المكان ، و أصله الغائب ؟
تسير القصيدة في هذا الاتجاه الذي تجف فيه الحدود ، و المطلقات ، و الحكايات الكبيرة ، بينما يبرز الإبداع في المشهد كصورة رمادية تعلق المكان ، و تحدثه مرة أخرى في نصيته الأولى .
و يجرد درويش الأخيلة الأنثوية من أي حدود ، أو تعريفات ، في نص " الجميلات هن الجميلات " ؛ فهو يستعيد التناقضات الأنثوية الممزوجة بالوحشية ، و السكون في آن من اللاوعي .
المرأة في هذه القصيدة تزدوج بانطباعات المتكلم ، و أخيلته التي تجمع الصفات ، و الأطياف المتضادة . إنها تؤول أخيلة الأنوثة دون أن تحاول القبض عليها ، أو تحديدها .
إن الإجابات المجازية التي يقدمها النص عن الجميلات ، تمزجهن بإيحاءات ذاتية ، و كونية ، و أسطورية ، مثل تجدد الحياة في الربيع ، و الإلهام الإبداعي ، و اليأس المضيء ، و القوة التي تشبه الذكورة ، و الأغاني ، و المرح ثم القتل .
" الجميلات هن الجميلات / نقش الكمنجات في الخاصرة / الجميلات هن الضعيفات / عرش طفيف بلا ذاكرة / الجميلات هن القويات / يأس يضيء و لا يحترق .. الجميلات هن الكبيرات / مانجو مقشر و نبيذ معتق / .. الجميلات كل الجميلات أنت / إذا ما اجتمعن ليخترن لي أنبل القاتلات " .
هل كانت المرأة معبرا للغياب عند درويش ؟
هل كانت مشبعة بسياق الأحلام ، و الإيحاءات التي بحث عنها وراء الذات ، و المكان ؟
لقد انفرطت دوال الأنوثة في القصيدة ، و تركت لنا هذا الفراغ المرح الصاخب الذي يؤكد حب محمود درويش للحياة الكامنة في الغياب .
msameerster@gmail.com