شتيفان فايدنر
(ألمانيا)

يقوم الكاتب والمترجــم الألماني المعــروف شتيفـان فايدنر: Stefan Weidner بزيارة الى عدد من المدن الفلسطينية مثل القدس ورام الله وغزة يتحدث فيها عن صورة الشاعر الراحل محمود درويش في ألمانيا. كيكا تنشر هنا نص المحاضرة بالاتفاق مع المؤلف..

سيداتي سادتي، أعزائي هواة الشعر ومحبو القصيد،

لقد أحزننا وحز في قلوبنا رحيل محمود درويش المفاجئ قبل بضعة أسابيع. وشاءت الصدفة أن التقي به في باريس قبل رحيله بأسبوعين. وكنا، نحن الاثنين، هناك للاستماع إلى الشاعر العراقي يوسف سعدي وهو يقرأ شيئاً من شعره. وحضوره هذا الحفل الشعري أمر لا يحتاج إلى تفسير. فمحمود درويش كان في نشاط متواصل. ولذا لا عجب أن أكابد صدمة عظيمة بعدما بلغ سمعي، بعد برهة وجيزة من هذا اللقاء، نبأ رحيله.

إنكم جميعاً تعرفون محمود درويش، تعرفون سيرة حياته وعطاءه الشعري. من هنا، فإني لن أتحدث إليكم هاهنا عن شخص الشاعر، بل سأروي عليكم كيف ذاع صيت محمود درويش في ألمانيا وما يستطيع قراؤه الألمان فهمه من قصائده.

ومنذ صدور ديوانه الشعري الموسوم "أوراق الزيتون" في عام 1964، هذا الديوان الذي ذاعت به شهرة محمود درويش، طرأت تحولات على نتاجه الأدبي. فهو تحول من شاعر ناشط سياسياً إلى صوفي؛ تحول من ثائر إلى شاعر غزلي. إلا أن هذه التحولات لا يجوز أن تحجب عنا أن موضوعه الأصلي، أعني مصير الفلسطينيين، قد ظل دائم الحضور في إنتاجه الشعري. إن محمود درويش مكن آمال الفلسطينيين وآلامهم من أن تتسلل إلى الأدب العالمي. وحالفه النجاح في هذا المسعى وذلك لأن قصائده ما كانت تتحدث عن الفلسطينيين فقط، بل كانت تتحدث عن الإنسانية جمعاء. وهكذا، ولأن محمود درويش كان يترجم آمال وآلام الفلسطينيين خاصة والإنسانية عامة، لأنه كان شاعر الفلسطينيين وشاعر عالمي المنظور، لذا تراه يُقرأ في كل أنحاء المعمورة.

وتراه طبعاً يُقرأ في ألمانيا أيضاً. بيد أن ثمة أسباباً عديدة جعلت استقبال قصائد درويش في ألمانيا يختلف عن استقبالها في باقي العالم. وكان أحد الأسباب يكمن في انقسام ألمانيا إلى شطرين في الحقبة بين الواقعة بين عام 1949 وعام 1990. ففيما كانت الساحة الأدبية في ألمانيا الغربية تفتح صدرها على الأدب الأمريكي، كانت الساحة الأدبية في ألمانيا الشرقية شديدة الانفتاح على الأدب الروسي. وكان هذا الانقسام قد انعكس على أدب الشرق الوسط أيضاً: ففيما كان الأدب الإسرائيلي يحظى بالاهتمام في ألمانيا الغربية، كان الأدب العربي، والأدب العربي القادم من البلدان العربية ذات النزعات الاشتراكية، أعني على سبيل المثال وليس الحصر، الأدب القادم من الجزائر ومصر الناصرية وسوريا والعراق، يحظى بالاهتمام في ألمانيا الشرقية. وتسري وجهة النظر هذه على الفلسطينيين أيضاً، فهم أيضاً كانوا يجسدون بالنسبة للمعسكر الشرقي حلفاءً اشتراكيين.

وكانت أول مؤلفات محمود درويش المترجمة إلى ألمانيا قد تولت نشرها، في وقت واحد تقريباً، دار نشر في ألمانيا الغربية وأخرى في ألمانيا الشرقية. ففي بادئ الأمر، في عام 1978 على وجه التحديد، صدر في برلين الغربية مؤلفه "يوميات الحزن العادي" بترجمة فاروق بيضون. وهنا أيضاً لعبت العوامل السياسية دوراً مميزاً في نشر هذا الكتاب، فدار النشر الألمانية الغربية كانت اشتراكية النزعة وتكن العداء للكولونيالية والاستعمار وتتطلع لتعريف القراء الألمان بآداب العالم الثالث. وصدر في برلين الشرقية بعد عام من ذلك، أي في عام 1979 على وجه التحديد، ديوان محمود درويش الموسوم "عاشق من فلسطين". وكان هذا الديوان بترجمة السيدة يوهانا وقرينها مصطفى هيكل.

والأمر الملفت للانتباه هو أن مترجمي أول مُؤَلَفين يصدران لمحمود درويش باللغة الألمانية قد كانوا ينحدرون من أصول عربية. ومعنى هذا هو أولاً: أن تعريف الألمان بالأدب العربي لم ينهض به ألمان، بل كان قد نهض به عرب أرادوا تعريف وطنهم الجديد بثقافة أوطانهم الأم. وثانياً: أن الترجمة لم يقم بها أفرادٌ الألمانية هي لغتهم الأم. وغني عن البيان أن أغلب الأدب العالمي، الذي نقرأه في اليوم الراهن، كان قد نهض بترجمته أفراد من صفاتهم أن اللغة التي يُترجمون إليها هي لغتهم الأم، وليس أفراد يترجمون من لغتهم الأم إلى لغة أجنبية بالنسبة لهم.

وهناك أسباب معقولة جداً لهذا المنحى: فأقلية محدودة جداً من المترجمين تمتلك ناصية اللغة الأجنبية بالنحو الذي يجعل بمستطاعها ترجمة النص الشعري (نعم النص الشعري على وجه الخصوص!) من لغتها الأم إلى اللغة الأجنبية بأسلوب شعري. إلا أن هذا المنحى لا غبار عليه حينما يحظى النص الأدبي باهتمام أبناء اللغة الأجنبية لأسباب سياسية في المقام الأول، لأسباب تتعلق بمضامينه ورسالته السياسية بالدرجة الأولى. وعموماً نجيز لأنفسنا القول بأن الاهتمام الذي حظي به محمود درويش في ألمانيا ما كان يكمن - في الوهلة الأولى - في شخصه كشاعر، بل كان يكمن في مواقفه السياسية. ومع أن مثل هذه الحفاوة السياسية أمر لا ضير فيه طبعاً، إلا أنها تنطوي بالرغم من ذلك على أمر سلبي: فعندما لا يحظ الموضوع السياسي بالأهمية المناسبة لدى القراء، فإن هؤلاء لن يعيروا اهتماماً يذكر لهذا الأدب.

إن هذا بالذات هو الأمر الذي صادفه، وللأسف، أدب محمود درويش في ألمانيا. فبعدما صدر أول كتابين له في العامين 1978 و1979، فتر الاهتمام بنتاجه الأدبي في الثمانينات. وهكذا، لم يُنشر بالألمانية كتاب أخر لمحمود درويش إلا عام 1996، أي بعد مضي ستة أعوام على إعادة توحيد ألمانيا. وتفسير هذا التأخير يكمن في أن الاشتراكية كانت قد فقدت في ألمانيا الكثير من بريقها في حقبة الثمانينات. وعلى خلفية هذه الحقيقة فَقَدَ، أيضاً، الأدبُ الذي يُصنف ضمن الأدب الاشتراكي الكثير من بريقه، أعني ذلك الأدب الشبيه بشعر محمود درويش المنشور في دور نشر اشتراكية النزعة. ومن نافلة القول التأكيد هنا على أن اتخاذ هذا الموقف إزاء أدب محمود درويش قد انطوى على سوء فهم لحقيقة الأمور، فمحمود درويش لا يعطيه المرء حق قدره إذا نظر إليه من خلال عقيدته السياسية فقط .

وهناك سببان آخران يفسران لنا سبب عدم ظهور كتاب لمحمود درويش مترجماً إلى الألمانية طيلة الفترة الواقعة بين عام 1979 وعام 1996. السبب الأول غاية في البساطة: فقلة من الأفراد، وقلة من الألمان على وجه الخصوص، كانوا يعرفون من هو محمود درويش. وحتى التسعينات لم تعر إلا فئة محدودة العدد من المستشرقين اهتماماً يذكر للأدب العربي الحديث. علماً بأن هذا العدد المحدود من المستشرقين نادراً ما كان يترجم نصوصاً من هذا الأدب إلى الألمانية. وكانت المستشرقة المشهورة آنا ماري شمل حالة استثنائية في هذا المجال. فمع أن اهتمامها الرئيسي انصب على التصوف الإسلامي والثقافة الإسلامية-الهندية، إلا أن هذا لم يمنعها من أن تعير اهتماماً معتبراً للشعر أيضاً. فبقلمها ظهرت أول ترجمة ألمانية لبعض قصائد محمود درويش. فحينما انتخبت آنا ماري شمل القصائد التي اشتمل عليها مؤلفها الموسوم "شعر وجداني عربي معاصر"، فإنها اختارت لكتابها هذا أربعة قصائد لمحمود درويش.

إلا أنه لا يجوز لنا أن نحزن كثيراً على قلة الاهتمام بمحمود درويش: فكثير من الكتاب العرب ما كان معروفاً في ألمانيا وقتذاك. من ناحية أخرى، فإن أول الأدباء العرب الذين تعرف عليهم القارئ الألماني، هم أولئك الأدباء الذين كتبوا بالفرنسية وحققوا نجاحاً معتبراً في فرنسا، أعني أدباء من قبيل طاهر بن جلون وآسيا جبار. ونجيب محفوظ أيضاً لم تظهر له أول رواية مترجمة إلى الألمانية إلا في عام 1979؛ وحتى بعد حصوله على جائزة نوبل في عام 1989، لم يكن بمستطاع القراء الألمان قراءة أكثر من ثلاث روايات من رواياته (ولحسن الحظ أن هذا العدد قد زاد على العشرين رواية في اليوم الراهن).

وثمة سبب آخر للاستقبال المتردد الذي واجهه محمود درويش في ألمانيا، سبب لا نريد أن نتستر عليه ونخفيه أبداً: فالألمان يخيم عليهم الشعور بالذنب حيال إسرائيل. فألمانيا النازية تتحمل مسئولية قتل وتشريد ملايين عديدة من اليهود. وكانت هذه الحقيقة قد أدت إلى أن يتخذ المرء في ألمانيا موقفاً متحيزاً في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وربما فزع الألمان بنحو ما من محمود درويش. فلو قرءوا مؤلفاته فعلاً، لأصبح لزاماً عليهم الاعتراف بحقيقة الوضع السائد في فلسطين – أي لتعين عليهم أن يتشجعوا وينتقدوا إسرائيل.

عقب إعادة توحيد ألمانيا تغيرت الصورة. فمن ناحية، بهت صدى السنين الغابرة من التاريخ الألماني، ومن ناحية أخرى كانت نهاية الصراع مع المعسكر الشرقي قد مكنت الألمان من أن يكونوا أكثر انفتاحاً على العالم. وهكذا، وبخطوات وئيدة بدأت دور النشر الألمانية تترجم وتنشر الأدب العربي. وفي خضم هذا التوجه الجديد اكتشف المرء في ألمانيا محمود درويش ثانية. وفي عام 1996 أصدرت دار نشر صغيرة تقيم في برلين، ومتخصصة بنشر الأدب العربي، ترجمة ألمانية لديوان محمود درويش الموسوم "ورد أقل". وهذه الترجمة أيضاً نهض بها عربي، أعني الناشر والشاعر العراقي خالد المعالي.

وفي عام 1998 أصدرت دار نشر صغيرة تقيم في مدينة هايدلبرغ ومتخصصة أيضاً بمسائل الشرق الأوسط سلسلة أحاديث أُجريت مع درويش. وكانت هذه الأحاديث قد نُشرت بالفرنسية من قبل بعنوان: فلسطين كصورة مجازية. وفي عام 2001 صدرت قصة محمود درويش الدائرة أحداثها حول الحصار الإسرائيلي لبيروت، أعني كتابه "ذاكرة للنسيان". وكان هذا الكتاب قد صدر هذه المرة عن دار النشر السويسرية لَينوس، الدار المتخصصة أيضاً بنشر الأدب العربي. وكانت ابنة لايبزيغ، المستشرقة كرستا شتوك، هي التي تولت ترجمة هذا المُؤَلَف إلى الألمانية. وفي عام 2002 نشرت دار النشر السويسرية آمان ترجمتي لقصائد كنتُ قد انتخبتها من إنتاج محمود درويش الشعري. ودار "آمان" هي ثاني أكبر ناشري المؤلفات الأدبية في سويسرا، علماً بأن هذه الدار متخصصة بالأدب العالمي عامة وأعظم شهرة من كافة دور النشر الأخرى التي تولت إصدار مؤلفات محمود درويش.

والأمر الذي يجلب انتباهنا هو أن مؤلفات محمود درويش لم تصدر في ألمانيا حتى الوقت الراهن إلا عن دور نشر صغيرة وغير مشهورة. فمؤلفات درويش، التي تحظى بأكبر عدد من القراء، صدرت في سويسرا. ورب سائل يسأل عن سبب هذه الظاهرة. وبالنسبة لي، فإني أعتقد أن تفسير هذه الظاهرة لا يكمن في أسباب ذات طبيعة سياسية. إن المشكل يكمن في أن محمود درويش يكتب الشعر أولاً، أي يدبج مادة لا تُقرأ كثيراً في ألمانيا. فأغلب الدواوين الشعرية الصادرة في ألمانيا لا تتجاوز النسخ المطبوعة منها على ألف نسخة. هذا في حين أن طبع هذا المُؤَلَف أو ذاك لا يحقق المردود المالي الذي تتطلع إليه دور النشر الكبيرة إلا بعد بيع ثلاث آلاف نسخة وأكثر منه.

وبوسعي أن أستشهد هنا بالديوان الذي كنتُ قد ترجمته أنا شخصياً. في عام 2002 طبع الناشر ألفين نسخة منه. في صيف عام 2008 بلغ عدد النسخ المباعة 1750 نسخة. ومع أن تصريف ديوان شعري بهذا العدد أمر لا بأس به بالنسبة لألمانيا، إلا أن هذه الإشارة لا تغير طبعاً شيئاً من حقيقة تواضع عدد النسخ المطبوعة من هذا الديوان. وبعدما تناقلت وسائل الإعلام نبأ رحيل محمود درويش، صَرَّف الناشرُ المتبقي من النسخ، أي أن نسخ الديوان قد نفدت في الأسواق بالكامل حالياً.

إلا أن ثمة أخباراً جيدة أيضاً. ففي الألمانية توجد لمحمود درويش حالياً سبعة كتب. وكانت هذه المؤلفات قد تولى نقلها إلى الألمانية مترجمون مختلفون وأصدرتها خمس دور نشر مختلفة. من هنا، فإن بوسعنا أن نقول الآن بأن محمود درويش قد أمسى معروفاً لدى المهتمين بالأدب في ألمانيا. وتشهد على هذه الحقيقة مشاركة محمود درويش في العديد من المؤتمرات التي التأم شملها في ألمانيا والأمسيات المختلفة التي قرأ فيها بعضاً من قصائده أمام الجمهور الألماني في السنوات الأخيرة. وربما كان حضوره في الأكاديمية الألمانية للغة والشعر في دارمشتات عام 2003 أهم هذه الأحداث قاطبة.
فهذه الفرصة أتاحت له الالتقاء بأهم كتاب ونقاد الأدب في ألمانيا وذلك للإصغاء إلى محمود درويش وشعراء عرب آخرين. ومن حقنا أن نقول بأن محمود درويش قد صار منذ هذا اللقاء شاعراً معترفاً به في ألمانيا.

وربما فكرتم وأنتم تستمعون إلى محاضرتي هذه: إن محمود درويش لم ينل الشهرة في ألمانيا إلا ببطء وعلى مهل وذلك لأن ثمة معضلات غير هينة تكتنف ترجمة شعره. إن الحق كل الحق معكم في هذا الاعتقاد، إن ترجمة شعره عمل ينطوي على مصاعب لا يستهان بها فعلاً! إلا أن الترجمة إلى الألمانية تنطوي على نفس المصاعب التي تعاني منها الترجمة إلى كافة اللغات الأخرى.

وتعود هذه المصاعب إلى سببين: من ناحية إلى الاختلافات الثقافية؛ فقصائد محمود درويش تنطلق من سياق ثقافي يجهله القراء الأوربيون في أغلب الأحيان – تنطلق من الإسلام والقرآن والتصوف ومن الأدب العربي، أو من الأدب الشرقي عامة. من هنا، لا مندوحة للمترجم، في مثل هذه الحالات، من أن يشرح في هوامش وتعليقات كثيرة، أو في كلمة ختامية، المعاني والصور الواردة في هذا الشعر. ويمكننا إن نستشهد في هذا السياق بقصيدة "ونحن نحب الحياة" الواردة في الديوان الموسوم "ورد أقل". ففي هذه القصيدة يتكرر الشطر التالي عدة مرات:

نحب الحياة إذا ما استطعنا للحياة سبيلا.

فمحمود درويش يستوحي هنا آية من آيات القرآن يعرفها أغلب القراء المسلمين بكل تأكيد. أعني الآية رقم 97 في سورة آل عمران:

"وَللَّه عَلَى النَاس حِجُّ البَيِتِ مَنِ استَطَاعَ إِلَيهِ سَبِيلا"

ومع أن القارئ يستطيع فهم الشطر الوارد في قصيدة محمود درويش من غير معرفة مسبقة بالنصوص القرآنية – إلا أن الأمر الأكيد هو أن معرفة القارئ بان درويش يستوحي هنا آية قرآنية، يزيد القصيدة قوة بكل تأكيد. فالنص القرآني – مَنِ استطاع إليه سبيلاً – يدور حول الحج، هذا في حين يتحدث شطر درويش عن الحياة أو بتعبير أدق عن حب الحياة.

واشتملت القصيدة المسماة "الهدهد" في الديوان الموسوم "أرى ما أريد" (1990) على مثال آخر ينوه برمز لا يمكن الإحاطة بمغزاه إلا في سياق ثقافي معين. إن النص المشتمل على عشرين صفحة متأثر بديوان ذائع الصيت، أعني ديوان "منطق الطير" للصوفي الفارسي فريد الدين العطار (1136-1220). ففي هذه الملحمة الشعرية يقود الهدهد الطيور في رحلتها للحصول على الكشف الصوفي. إن رحلة الطيور الشاقة ترمز عند درويش إلى الوطن وحياة التشرد التي يعاني منها الفلسطينيون. إلا أن محمود درويش لا يستعير من مؤلف فريد الدين العطار فقط رمز الهدهد، بل هو يستعيره من مؤلفات أخرى تحدثت أيضاً عن الهدهد: أعني أنه استعاره من القرآن وابن سيناء والسهروردي المقتول. إن هذا كله لا مندوحة من شرحه للقارئ الأوربي.

وتكمن المعضلة الأخرى، التي تواجهها الترجمة، في الناحية اللغوية. فلزاماً على المترجم أن يتخذ قراراً بشأن ما إذا كان عليه أن يقدم ترجمة شعرية تشتمل على قافية وتفعيلة أو لا. وغني عن البيان أن أغلب مترجمي قصائد درويش قد استغنوا عن الالتزام بالقافية والتفعيلة. فبالنسبة للمترجمين الذين يترجمون الشعر إلى لغة هي ليست لغتهم الأم تنطوي الترجمة المقفاة، الملتزمة بالتفعيلة، على معضلات لا قدرة لهم على حلها إلا بالكاد. بالإضافة إلى هذا، يتخذ الألمان حيال الشعر المقفى الملتزم بالتفعيلة موقفاً مغيراً للموقف الذي يتخذه العرب منه؛ فهذا الشعر يبدو في الألمانية كلاسيكياً، لا بل يبدو، في بعض الأحايين، أسلوباً شعرياً أكل الدهر عليه وشرب. فحينما يُترجم المرء قصيدة من الشعر العربي الحر (أي قصيدة مدبجة بقافية متغيرة وبتفعيلات مختلفة العدد) إلى الألمانية ترجمة شعرية تلتزم بوحدة القافية، فإن هذه القصيدة تبدو في الألمانية، في كثير من الأحيان، كما لو كانت قصيدة من صدى القرن التاسع عشر. ومن نافلة القول التأكيد هنا على أن هذا الأمر لا يجوز أن يمنى به الشعر المُتَرجم؛ فحدث من هذا القبيل يعطي انطباعاً زائفاً عن حقيقة الشعر العربي الحديث. وبقدر تعلق الأمر بي، فإني حاولت دائماً اتخاذ الحل الوسط: فمع أن ترجماتي لا تستغني أبداً عن القافية والإيقاع، إلا أنها، مع هذا، لا ترن رنين قصائد الطراز العتيق.

وتكمن المعضلة الأخرى في الصعوبات اللغوية الناشئة عن المعاني الكثيرة التي تنطوي عليها المفردات العربية نفسها. ولأن المرادف الألماني لا ينطوي على هذه المعاني المختلفة، لذا لا مندوحة للمترجم من الإشارة إلى مغزى هذه المفردات في التعليقات والهوامش. ولعل عنوان ديوان محمود درويش الموسوم "سرير الغريبة" خير شاهد على ما نقول. فللوهلة الأولى يوحي العنوان بمغزى جنسي مثله في ذلك مثل المغزى الذي يعبر عنه المرادف الألماني. إلا أن هذا العنوان ينطوي على معاني أخرى لا يفكر بها القارئ الألماني أبداً. وكمثال على هذه المعضلة اسمحوا لي أن أقرأ عليكم نص التعليق الذي كتبته عند ترجمة هذا العنوان:

"إن عبارة غريبة هي مؤنث الغريب، وهي تعني بنحو ما الشخص الغريب عنا. وتتردد هذه العبارة كثيراً في شعر درويش. وجذر هذه العبارة هو "غ ر ب". وعن هذا الجذر تنشأ عبارات الغربة والاغتراب والتغريب ومعاني أخرى مشابهة في المغزى. ومن هذا الجذر تنشأ أيضاً العبارة المشيرة إلى "الغرب" (بالمعنيين الجغرافي والسياسي). وكان التصوف الإسلامي قد ربط بين كِلا المعنيين. فالسهروردي المقتول، هذا الصوفي العربي الذي عاش في العصر الوسيط، صنف، على سبيل المثال، مقالة عنوانها "قصة الغربة الغربية". في هذه المقالة يجري الحديث عن الغرب بنحو مجازي، باعتباره مكان غربة الإنسان عن موطنه الكائن في العالم العلوي، الكائن بجوار الله. بهذا المعنى، نظر الصوفيون إلى العالم الدنيوي على أنه "الغربة الغربية للروح".

كما يجري اشتقاق العبارة المشيرة إلى تواري الشمس خلف الأفق من هذا الجذر أيضاً: الغروب. وشاءت الصدفة أن تشتمل عبارة غراب على حروف هذا الجذر أيضاً. إن كافة هذه الكلمات عبارات مألوفة في شعر درويش. وربما يعثر المرء مستقبلاً في شعر محمود درويش على معاني أخرى لها علاقة بهذا الجذر.

وينطبق الأمر ذاته على عبارة "سرير". وعبارة السِّر واحدة من المعاني الرئيسية المشتقة من الجذر "س ر ر". وتعني صيغة سَريرة السر الذي يُكْتَم، أي الأمر الباطني، الخفي؛ وبهذا المعنى فإنها صيغة أخرى لعبارة سِر. ومن خلال هذا الاشتقاق يجري التلميح بالمعنى الصوفي للعنوان. وإذا ما انطلق المرء من هذا المعنى للعنوان، يتبين بجلاء أن "سرير الغريبة" لا يراد منه الإشارة إلى سرير المرأة الغريبة فقط، بل يراد منه أيضاً الإشارة إلى معنى آخر غامض: سر الغرباء، أو أيضاً: "سر الغربة (الذي ترمز إليه المرأة الغريبة)".

لقد كانت هذه السطور هي التعليق الذي حاولت من خلاله شرح المغزى الذي ينطوي عليه عنوان ديوان درويش، فمن خلال هذا الشرح فقط يحيط القراء الألمان علماً بأنهم هاهنا ليسوا إزاء قصائد غرامية، جنسية، لا غير.

وأود أن أختتم محاضرتي هذه بقراءة قصيدة لمحمود درويش كنت قد ترجمتها أنا شخصياً إلى الألمانية، أعني القصيدة المنشورة بالعربية بعنوان سوناتا. وكان هذا العنوان قد أثار غضب بعض النقاد العرب. فالكلمة العربية سوناتا تنطوي على معنيين مختلفين. فمن ناحية تعني هذه الكلمة مقطوعة موسيقية أوربية كلاسيكية، أي Sonata [سُناتَة]. ومن ناحية أخرى يمكن أن يكون المقصود منها Sonett [السّونيتة]، أي القصيدة الغنائية التي تتألف من 14 بيتاً، والتي هي إحدى الصيغ المتعارف عليها في الشعر الأوربي الكلاسيكي. والأمر البين هو أن هذه العبارة تعني عند درويش الأسلوب الشعري في المقام الأول، فقصائده المنشورة بعنوان سوناتا تحذو حذو الأسلوب الأوربي بكل دقة – أي أن درويش اختار هاهنا أسلوباً شعرياً غير متداول في العربية من الناحية العملية. ومع أن المعنى الموسيقي للكلمة العربية سوناتا موجود أيضاً في قصيدة درويش، إلا أن هذا المعنى يحتل مرتبة ثانية في الواقع. إن إدراك هذه الحقيقة أمر مهم حقاً، ففي سياق ترجمتي لهذه القصائد تعين علي أن اختار عند ترجمة سوناتا بين الكلمة الألمانية المشيرة إلى المقطوعة الموسيقية وبين اعتبارها، أي عبارة سوناتا، عنواناً يشير إلى أن القصيدة منظومة بأسلوب الشعر الأوربي الكلاسيكي.

ولأن درويش قد حذا، صراحة، حذو هذا الأسلوب القديم من أساليب الشعر الأوربي، لذا حاولت، بصفتي مترجماً، أن أحذو حذو النص الأصلي وأن أقدم ترجمة شعرية مقفاة تأخذ بالأسلوب الأوربي القديم. وأود أن اقرأ عليكم هذه الترجمة وذلك لكي تأخذوا انطباعاً عن إيقاع قصيدة لمحمود درويش في سمع الألمان.

هذا وسأكون شاكراً كثيراً لو تفضل أحد الحاضرين الكرام وقرأ علينا النص العربي من قبل أن أقرأ النص الألماني.

ولا يفوتني طبعاً أن أعرب لكم عن جزيل شكري على إصغائكم إلى محاضرتي.

كاتب ومترجم ألماني، رئيس تحرير مجلة "فكر وفن" الالمانية

StWeid@aol.com

عن "كيكا"