محمود درويش‮:‬ أثر الشاعر

محمد شعير‮ ‬
(مصر)

محمود درويش‮ظل حلم محمود درويش مؤجلا‮. ‬
الرواية،‮ ‬حلمه الذي طارده منذ بداياته،‮ ‬وحتي الرحيل‮. ‬كان موضوع الرواية المؤجلة‮: ‬البيوت‮.‬
‮ ‬البيوت التي سكنها الشاعر،‮ ‬وتنقل بينها،‮ ‬ربما باعتبارها وطنه الأصغر في المنافي المتعددة التي مر عليها‮. ‬بيته الأول في البروة هدمه الاحتلال،‮ ‬غرفة صغيرة في حيفا حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها،‮ ‬ولم يكن يغادرها بعد‮ ‬غروب الشمس‮.‬

غرفة أخري في مدينة جامعية في موسكو،‮ ‬في القاهرة سكن في جاردن سيتي،‮ ‬وفي بيروت سكن شارع جان دراك في الحمرا،‮ ‬وفي باريس سكن‮ "‬7‮ ‬ميدان الولايات المتحدة‮" ‬في الطرف الثاني للميدان يقع بيت السفير المصري‮. ‬وعندما تركها اختار عمان العاصمة الأردنية لأنها كما يقول في واحد من حواراته‮: "‬مدينة هادئة،‮ ‬شعبها طيب،‮ ‬وقريبة من فلسطين وفيها أستطيع أن أعيش حياتي‮. ‬وعندما أريد أن‮ ‬أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان‮ ".‬
في عمان لم يستأجر الشاعر،‮ ‬كما فعل في المدن التي سكنها من قبل،‮ ‬وإنما امتلك بيتا للمرة الأولي‮. ‬أراد أحد‮ ‬المقاولين عندما علم أن محمود درويش يبحث عن بيت يستأجره،‮ ‬أراد أن يهديه له،‮ ‬ولكن الشاعر رفض الأمر بقوة،‮ ‬ومع تدخلات الأصدقاء،‮ ‬اشتري محمود البيت بسعر التكلفة‮.‬
البيت في‮ ‬الطابق الرابع لشارع هادئ‮ ( ‬الطرة‮ ) ‬بمنطقة عبدون في وسط المدينة،‮ ‬وكان محمود يسكن حيا متوسطا،‮ ‬لا كما يتردد عنه في قصر فاخر في مناطق الأثرياء،‮ ‬حارس العقار مصري،‮ ‬قرر أن يغادر البيت بعد موت محمود‮ ‬_‮ ‬كما قال للمقربين منه‮_ ‬لم يعد لي أحد هنا،‮ ‬وسأرحل‮. ‬

شقة محمود بسيطة،‮ ‬بمجرد الدخول ستجد نفسك في صالون متسع لاستقبال الضيوف،‮ ‬أمام المكتبة بجوار الباب مصحف فاخر،‮ ‬أهداه له أحد الشخصيات العربية البارزة،‮ ‬يعشق محمود حسب الأصدقاء‮- ‬صوت عبد الباسط عبد الصمد،‮ ‬ويقرأ كثيرا سورة الرحمن،‮ ‬هذه السورة أخذت محمود كما كتب‮ " ‬في حضرة الغياب‮" : "‬ستأخذك إلي الإيمان المصحوب بالطرب،‮ ‬فتحب الله وتشقي من قلق السؤال الأول‮: ‬من خلق الله؟‮".‬

بجوار المدخل‮ ‬مرآة دمشقية،‮ ‬وكرسي عربي،‮ ‬وهما،‮ ‬مع المكتب،‮ ‬الأشياء الوحيدة‮ ‬التي حرص أن ينقلها معه من شقة باريس،‮ ‬بالإضافة إلي الكتب‮. ‬إضاءة الشقة اشتراها محمود من خان الخليلي بالقاهرة،‮ ‬وتتوزع عشرات الوسائد العربية في الشقة،‮ ‬خاصة أسفل المرآة‮. ‬تضم الشقة أيضا بعض اللوحات التشكيلية البسيطة،‮ ‬المرتبة بعناية،‮ ‬أمامه مكتبة ليست بالضخامة،‮ ‬ولكنه احتفظ فيها بالكتب التي لا يستطيع الاستغناء عنها‮. ‬وكان قد تبرع قبل رحيله مباشرة للمكتبات‮ ‬الأردنية بأكثر من ألفي كتاب بعد أن قرأها،‮ ‬عرض علي الأصدقاء في البداية اختيار ما يريدون منها،‮ ‬ثم تبرع لأحد المكتبات بما تبقي‮. ‬

في الرف الأعلي من المكتبة،‮ ‬عدة مصاحف،‮ ‬وكتب خاصة بألفاظ القرآن،‮ ‬بجوارها الأعمال الكاملة لطه حسين‮ " ‬يراه أهم عقل عربي في العصر الحديث‮"‬،‮ ‬علي الرفوف الأخري نقرأ العديد من العناوين‮: ‬المثنوي لجلال الدين الرومي‮ (‬المجلدان اللذان ترجمهما‮ ‬محمدعبدالسلام كفافي‮) ‬تفسير القرآن لابن عربي،‮ ‬وله أيضا كتب التجليات الإلهية،‮ ‬رسائل ابن عربي،‮ ‬وكتاب ابن عربي حياته ومذهبه المستشرق ا لأسباني أسين بلاثيوس وبجوارهما مذكرات بابلو نيرودا‮". ‬في رف آخر نجد هذه الكتب‮: ‬ديوان ابن عربي،‮ ‬كليلة ودمنة،‮ ‬الشاهنامة،‮ ‬ثم ألف ليلة وليلة،‮ ‬التي توجد لها أكثر من طبعة في مكتبة درويش‮. ‬ثم كتاب وليد خالدي‮ " ‬Before Their Diaspora: A Photographic History of the Palestinians " والذي يمكن ترجمته‮ " ‬قبل الشتات‮ : ‬تاريخ مصور للفلسطينيين‮. ‬

في رف ثالث نجد طبعة أخري لألف ليلة وليلة،‮ ‬ثم‮ " ‬رسائل ابن حزم الأندلسي‮" ‬في ثلاثة مجلدات،‮ ‬وكتابي ابن قتيبة‮: " ‬أدب الكاتب والشعر والشعراء‮". ‬
لن يغيب ابن عربي،‮ ‬في رف آخر من أرفف المكتبة،‮ ‬نجد كتابه‮ "‬فصوص الحكم‮" ‬بهوامش وتعليقات أبو العلا عفيفي.بجواره‮ " ‬المواقف والمخاطبات‮" ‬للنفري،‮ ‬ثم كتابا أبو حيان التوحيدي‮: " ‬الإمتاع والموانسة‮"‬،‮ ‬الإشارات الإلهية‮"‬،‮ ‬وفي الرف نفسه نجد كتاب‮ " ‬رسائل الجاحظ‮" ‬في أربعة مجلدات تحقيق عبد السلام هارون،‮ ‬ثم نسخة من كتاب قاسم حداد‮ " ‬أخبار مجنون ليلي‮" ‬بلوحات ضياء العزاوي‮.‬
وسط المكتبة تصدرت أجزاء عديدة من سلسلة‮ " ‬ذخائر العرب‮" ‬الشهيرة التي كانت تصدر عن دار المعارف،‮ ‬خاصة دواوين القدماء،‮ ‬سنجد أيضا ديوان المتنبي،‮ ‬وأيضا شرح ديوان المتنبي،‮ ‬و"رسالة الغفران‮" ‬للمعري،‮ ‬جزء من ديوان أبو نواس الصادر في سلسلة‮ " ‬الذخائر‮"‬،‮ ‬وكتاب‮ " ‬جمهرة الشعراء العرب‮"‬،‮ ‬وكتاب‮ " ‬مصارع العشاق‮"‬،‮ ‬ويجاوره دواوين كثير عزة،‮ ‬زهير ابن ابي سلمي،‮ ‬طرفة بن العبد،‮ ‬حسان بن ثابت،‮ ‬ابن سهل الأندلسي،‮ ‬الخنساء،‮ ‬حاتم الطائي،‮ ‬عمر بن ابي ربيعة،‮ ‬الحطيئة،‮ ‬ابن قزمان القرطبي،‮ ‬الحلاج،‮ ‬وكتابا‮ " ‬من الشعر المنسوب للأمام علي‮" ‬لعبد العزيز سيد الأهل،‮ "‬الأدب الصغير والأدب الكبير"لابن المقفع،‮ ‬وأمام هذا الرف توجد عدة كتب حديثة من بينها‮ " ‬الاستشراق وما بعده‮ " ‬لإدوارد سعيد وإعجاز أحمد ترجمة ثائر ديب،‮ ‬مرايا العابرات في المنام لجمانة حداد،‮ ‬وعددان من مجلة‮ "‬نقد‮ " ‬خصص الأول منهما لنازك الملائكة،‮ ‬والثاني عن محمود درويش نفسه،‮ ‬وهناك بعض الكتب بالإنجليزية منها‮ " ‬الأمة والدولة‮" ‬لتميم البرغوتي‮.‬
ثمة مكان آخر خصصه درويش لكتابات التصوف،‮ ‬والأدب الأندلسي‮: ‬نجد ديوان الموشحات الأندلسية،‮ ‬تاريخ الأدب الأندلسي للدكتور إحسان عباس،‮ ‬شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي،‮ ‬معجم ألفاظ الصوفية،‮ ‬العقلية الصوفية،‮ ‬مجموعة مصنفات شيخ إشراق‮ ( ‬سلسلة الذخائر‮)... ‬كما نجد المجلدات التسع لكتاب أبوحيان التوحيدي‮ " ‬البصائر والذخائر‮".‬
ولن نعدم الكتب الحديثة،‮ ‬أيضا سنجد‮: ‬كتاب سوزان برنار‮ " ‬قصيدة النثر‮"‬،‮ "‬الغائب‮" ‬عبدالفتاح كليطو،‮ "‬حرقة الأسئلة‮" ‬عبد اللطيف اللعبي،‮ ‬تاريخ الثورة الروسية،‮ ‬فضلا عن أجزاء كتاب‮ " ‬النبي المسلح‮ : ‬تروتسكي‮"‬،‮ ‬وعدة نسخ من ترجمة صبحي حديدي لكتاب‮ " ‬تعقيبات علي الاستشراق‮" ‬لإدوارد سعيد‮. ‬موسوعة أساطير العرب محمد عجينة،‮ ‬ويجاوره أيضا كتاب‮ " ‬حفريات في الأدب والأساطير‮" ‬للمؤلف ذاته‮.‬

أعمال محمد حسنين هيكل،‮ ‬جميعها متراصة في أحد أرفف المكتبة،‮ ‬ويبدو أنها مهداة لدرويش من هيكل نفسه إذ جمعتهما علاقة صداقة عميقة منذ أن جاء درويش للقاهرة للمرة الأولي في بداية السبعينيات‮. ‬ويحكي أحمد درويش أنه كان في زيارة لأخيه في باريس في نهاية الثمانينيات،‮ ‬وتلقي محمود مكالمة من هيكل يدعوه فيها علي الغذاء،‮ ‬وعندما سأل محمود أين المطعم ؟ أجابه هيكل‮: ‬في لندن‮..‬وبالفعل سافر درويش من باريس إلي لندن للقاء هيكل وتناول الغذاء معه‮. ‬

كتب هيكل تتجاور مع إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية‮: ‬مذكرات عوني عبد الهادي،‮ ‬وكتابات محمد عابد الجابري‮: ‬بنية العقل العربي،‮ ‬وتكوين العقل العربي‮... ‬ويجاورهما كتب‮: ‬الشيخ والمريد لعبد الله حمودي،‮ " ‬نظرية الرواية والرواية الغربية‮" ‬لفيصل دراج،‮ ‬الحرية والطوفان لجبرا إبراهيم جبرا،‮ ‬وبعض إصدارات دار توبقال لمحمد بنيس،‮ ‬عبد الفتاح كليطو،‮ ‬هشام شرابي،‮ ‬فضلا عن كتاب الطيب تزيني‮ " ‬من التراث إلي الثورة‮"‬،‮ ‬وسنجد أيضا رواية‮ " ‬التلصص‮" ‬لصنع الله إبراهيم بجوار السيرة الذاتية لإدوارد سعيد‮ " ‬خارج المكان‮"‬،‮ ‬وكتاب‮ " ‬أسير عاشق‮" ‬لجان جنية‮. ‬
رف كامل خصصه درويش لدواوين الشعراء العرب الكبار،‮ ‬وحرص علي تجليد هذه الأعمال بلون واحد الرصاصي ويضم‮ : ‬لزوميات أبو العلا،‮ ‬دواوين الشريف الرضي،‮ ‬أبي تمام،‮ ‬البحتري،‮ ‬ابن حمديس،‮ ‬ديك الجن،‮ ‬العباس ابن الأحنف‮. ‬

أما الأعمال الشعرية للشعراء الأجانب الذين حرص درويش علي الاحتفاظ بأعمالهم‮ ‬بالإنجليزية حسبما رتبهم‮: ‬سنجد‮ " ‬أوراق العشب‮" ‬لوالت وايتمان،‮ ‬ييتس،‮ ‬الأعمال الشعرية الكاملة لشكسبير،‮ ‬وأوكتافيوباث،‮ ‬يانيس ريتسوس،‮ ‬ت‮. ‬س‮. ‬إليوت،‮ ‬الشاعر البولندي ميلوش،‮ ‬لوركا،‮ ‬ديريك والكوت‮. ‬وفي رف آخر سنجد أعمال إيزرا باوند كاملة،‮ ‬ثم كفافي،‮ ‬أودن،‮ ‬يانيس ريتسوس،‮ ‬جورج سيفيريس،‮ ‬بول تسيلان،‮ ‬أوديسيوس إيليتس،‮ ‬ثم أعمل بابلو نيرودا بالإنجليزية والإسبانية أيضا،‮ ‬وثمة قصائد مختارة لتوني هاريسون،‮ ‬جورج باركر،‮ ‬تشيموس هيني،‮ ‬شيمبوريسكا‮. ‬
ويحتفظ درويش بالترجمة العربية لنيرودا أيضا،‮ ‬وأعمال توماس ترانسترومر المترجمة،‮ ‬والخشخاش والذاكرة لباول تسيلان،توقيعات لسيوران،‮ ‬فضلا عن الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط،‮ ‬يوسف الخال،‮ ‬وكثير من أعمال سعدي يوسف وبول شاوول،‮ ‬وعباس بيضون،‮ ‬وجمانة سلوم حداد،‮ ‬وديوان واحد لأدونيس‮" ‬مفرد
بصيغة الجمع‮"‬،‮ ‬وأعمال متفرقة لكل من‮: ‬شربل داغر،‮ ‬علي جعفر العلاق،‮ ‬غسان زقطان،‮ ‬طاهر رياض،‮ ‬محمد بنيس،‮ ‬سيف الرحبي،‮ ‬سامر أبو هواش،‮ ‬سليم بركات،‮ ‬أحمد دحبور،‮ ‬عبد الكريم قاصد،‮ ‬حسن عبد الله،‮ ‬ويكسر إيقاع هذه المجموعة المتناسقة كتاب‮ " ‬سعد الشيرازي أشعاره العربية‮". ‬
تحتل الأعمال الكاملة لديستوفيسكي رفا كاملا في مكتبة درويش،‮ ‬بينما يستأثر إدوارد سعيد وحده برفين من رفوف المكتبة التي تضم كل ما كتبه‮ " ‬صاحب الاستشراق‮" ‬من كتب بالإنجليزية التي كان درويش يجيدها إجادة تامة،‮ ‬وهو ما ينطبق علي أغلب ما كان يقرأ من روايات،‮ ‬يحتفظ برواية‮ " ‬عوليس‮ " ‬لجيمس جويس،‮ ‬وكثير من الروايات الإنجليزية‮. ‬
أعمال صلاح عبد الصبور،‮ ‬وأمل دنقل،‮ ‬ومعظم الدواوين الشعرية التي صدرت مؤخرا في دار النهضة العربية تحتل مكانا بارزا في المكتبة،‮ ‬كما تحتل كتب الفن التشكيلي مكانة كبري أيضا هناك أعمال‮: ‬سلفادور دالي،‮ ‬ماتيس‮ ( ‬لهما أكثر من كتاب يضم أعمالهما‮)‬،‮ ‬رودان،‮ ‬كليمت،‮ ‬جوجان،‮ ‬مختارات من الفن الصيني الحديث،‮ ‬بيوت سيدي بوسعيد،‮ ‬التطريز الفلسطيني‮. ‬ونجد أيضا نسخا من كتاب‮ " ‬الكاماسوترا‮"‬،‮ ‬والأوديسا،‮ "‬حياة الحيوان‮" ‬والعديد من الكتب عن الفن الأندلسي‮: " ‬مسجد قرطبة وقصر الحمراء،‮ ‬أعمال فاتح المدرس،‮ ‬عبد الرحمن منيف ومراون قصاب‮ " ‬رحلة الحب والحياة‮"‬،‮ ‬عبقرية الحضارة العربية،‮ ‬يافا عطر مدينة‮. ‬

في‮ ‬الحجرة المواجهة يضع محمود درويش مكتبه‮: ‬مكتب أنيق،‮ ‬وصغير،‮ ‬من الأشياء القليلة التي حرص أن ينقلها معه من باريس،‮ ‬كتب عليه معظم أعماله،‮ ‬ربما منذ مديح الظل العالي،‮ ‬وحتي ديوانه الأخير الذي لم يصدر حتي الآن‮. ‬
في الحجرة يضع محمود لوحات خطية لعمله‮: "‬أحمد الزعتر‮" ‬أسفله مكتبته الموسيقية وجميعها أسطوانات ممغنطة،‮ ‬وقليل من شرائط الكاسيت‮. ‬أم كلثوم في المقدمة،‮ ‬يسميها‮ " ‬إدمان الوحيد‮"‬،‮ ‬ثم أسطوانات محمد عبد الوهاب،‮ ‬ومارسيل خليفة،‮ ‬وخالد الشيخ وأمل مرقص من الأسماء الجديدة،‮ ‬وعشرات من الأسطوانات للموسيقي الكلاسيكية‮ (‬يعشق موزارت‮)‬،‮ ‬وكان مندهشا أن شارون أيضا كان يسمعه،‮ ‬وكثيرا ما كان يردد أمام أصدقائه بسخرية‮: " ‬نسمع المقطوعة نفسها أنا وشارون‮.. ‬وربما أيضا نحب‮ ‬الشاعرنفسه‮".‬
بجوار المكتب،‮ ‬مكتبة أخري،‮ ‬تضم الموسوعات والقواميس،‮ ‬لسان العرب في مقدمتها،‮ ‬أول كتاب يفتحها صباح كل يوم‮ " ‬عشوائيا علي كلمة ما تجري عليها تدريباتك الذهنية،‮ ‬ويفرحك أن لا تعرف أنك لا تعرف‮".‬،‮ ‬ويعود إليه مرة أخري بعد أن يتناول قهوته الصباحية،‮ "‬ليحفظ أبياتا من الشعر مصاحبة لتنوع استخدام الكلمة‮" ‬كما يقول في كتابه‮ " ‬في حضرة الغياب‮". ‬
وتضم المكتبة أيضا مجلدات‮ : " ‬قصة الحضارة‮" ‬لويل ديورانت،‮ ‬البداية والنهاية لابن كثير،‮ " ‬تاج العروس‮"‬،‮ ‬الأغاني للأصفهاني،‮ ‬الموسوعة البريطانية،‮ ‬تاريخ الطبري،‮ ‬فضلا عن قاموس لاروس الفرنسي،‮ ‬المنهل،‮ ‬وقواميس للعبرية التي كان يجيدها إجادة تامة حديثا وكتابة‮. ‬كما يضع نسخا من أعماله الأخيرة الصادرة عن دار رياض الريس‮.‬
ليست هذه كل المكتبة،‮ ‬في بيته في رام الله مكتبة شبيهة بتلك،‮ ‬وأيضا كتبه الأولي القديمة ماتزال والدته تحتفظ بها‮. ‬
وعلي مكتبه دواية حبر،‮ ‬لم يكن يكتب سوي بأقلام الحبر،‮ ‬وأوراق عديدة ومتناثرة،‮ ‬وجرائد،‮ ‬بعض الأوراق الشخصية،‮ ‬ومسودات لأعمال‮. ‬ولكن حسب الأصدقاء ليس لدي محمود أوراق شخصية كثيرة،‮ ‬كانت هوايته تمزيق كل ما لم يكتمل حتي لا يطلع أحد علي أسرار عملية الإبداع لديه،‮ ‬ولا يحتفظ بأي من الحوارات الشخصية التي أجريت معه،‮ ‬أو المقالات النقدية التي كتبت عنه،‮ ‬بل لا يحتفظ أو يعلق أية صورة شخصية له،‮ ‬ورغم وسامته كان يكره أن يشاهد نفسه في التلفزيون،‮ ‬عندما يظهر في برنامج أو تنقل له أمسية شعرية مسجلة،‮ ‬وإذا أصر الأصدقاء علي مشاهدته،‮ ‬كان يترك لهم‮ ‬غرفة المكتب التي احتفظ فيها بالتلفزيون إلي أية‮ ‬غرفة مجاورة‮. ‬في التلفزيون كان متابعا جيدا للأخبار،‮ ‬باللغات التي يجيدها،‮ ‬كان يحرص علي الاستماع إلي نشرات الأخبار العبرية،‮ ‬مثلا،‮ ‬لأن ما يقال فيها يختلف كثيرا عما يقال في نشرات العربية،‮ ‬وهو حريص علي معرفة‮ " ‬ما يقوله العدو‮" ‬او‮ " ‬طريقة تفكيره‮"‬،‮ ‬وكان درويش أيضا عاشقا لأفلام الأبيض والأسود،‮ ‬ومباريات كرة القدم التي كان يتتبعها في القنوات المختلفة‮.‬
في الشقة أيضا يحتفظ درويش بالأوسمة والنياشين والجوائز التي حصل عليها،‮ ‬جمعها شقيقه أحمد في كراتين بعد الرحيل،‮ ‬حفاظا عليها،‮ ‬وحتي يتم إقرار إنشاء متحفه‮. ‬
والمتحف قصة اخري مهمة،‮ ‬السلطة الفلسطينية،‮ ‬قررت إنشاء متحف لدرويش في رام الله،‮ ‬وتريد أن تنقل كل مقتنيات الشقة إليه،‮ ‬بينما يريد أصدقاؤه الأردنيون تحويل هذه الشقة إلي متحف تماما مثل متحف كفافيس في الإسكندرية‮.. ‬ويقول خازن أسراره‮ ‬غانم زريقات لا يستطيع كل عشاق محمود زيارة متحفه في رام الله،‮ ‬بينما بإمكانهم أن يزوروا متحفه في عمان‮" ‬ويتفق أحمد درويش علي أن شقة محمود في رام الله تضم عشرات الجوائز ومكتبته،‮ ‬وبإمكان السلطة أن تكتفي بما ترك محمود برام الله،‮ ‬ويكون له متحفان‮. ‬حتي الآن لم يتم إقرار ما الذي سيتم في قصة المتحف،‮ ‬ولكن الأهم‮ ‬أن السلطة،‮ ‬أيه سلطة‮ ‬ليس من حقها‮ " ‬مصادرة الشاعر بعد وفاته‮" ‬ليصبح تابعا لها،‮ ‬وهو الهارب منها دائما‮!‬

***

‮.. ‬والنيل‮ ‬ينسي‮!‬
العالم كله احتفل بمحمود درويش،‮ ‬حتي تايوان التي لم نعرف عنها في يوم من الأيام‮ ‬أية علاقة بالثقافة والأدب خصصت الأسبوع الماضي حفل افتتاح مهرجان‮ "‬الموسيقي المهاجرة‮" ‬لتكريم درويش‮. ‬وحدها مصر،‮ ‬حتي الآن‮ ‬،‮ ‬بمؤسساتها الثقافية،‮ ‬المنشغلة بأمور أخري لم تقدم ما يدل علي أنها تنوي الاحتفال بأكبر شعراء العربية في العصر الحديث‮. ‬
ويبدو أيضا أن لجنة الشعر عاقدة العزم علي ذلك لا في مؤتمرها الذي سيقام في مارس،ولا في‮ ‬غير مارس،‮ ‬فقط كما أشار البعض إلي رغبة بعض أعضائها في تخصيص‮ " ‬صالون الأربعاء الشعري‮" ‬الذي لا يسمع به أحد،‮ ‬لمحمود درويش‮. ‬ربما تكون أسباب كراهية لجنة الشعر لمحمود درويش معروفة للجميع،‮ ‬ولا احد يلوم اللجنة أو أعضاءها علي ذلك،‮ ‬فالضعف الإنساني مبرر في أحيان كثيرة‮. ‬
‮ ‬ولكن كان أولي بالناقد علي أبو شادي أن يترك‮ ‬لجنة الشعر لخلافاتها الجانبية،‮ ‬والتفرغ‮ ‬لمؤتمراتها التي تنتهي دائما بالفشل،‮ ‬ويعلن عن إقامة مؤتمر دولي كبير تكريما لصاحب‮ "‬جدارية‮" ‬يخلو ممن يحملون الضغينة لشعر محمود،‮ ‬أو يشعرون بالغيرة من نجوميته،‮ ‬علي الأقل فهو صاحب جائزة‮ ‬القاهرة‮ ‬للإبداع الشعري في دورتها الأولي‮. ‬‮ ‬

***

الديوان‮ ‬الأخير‮ .. ‬قريبا
انهار أحمد درويش.كانت المرة الأولي التي يخطو فيها إلي شقة شقيقه الراحل محمود درويش في‮ ‬غيابه‮.‬
جلس يلتقط أنفاسه،‮ ‬ويغالب حزنه علي أقرب مقعد‮. ‬لم يكن وحده،‮ ‬كان بصحبته،‮ ‬الروائي إلياس خوري،‮ ‬والفنان مارسيل خليفة،‮ ‬وصديقه الأردني‮ ‬غانم زريقات،‮ ‬وصديقه الآخر علي حليله الذي صحبه في رحلة أمريكا‮. ‬كان الجميع يبحثون عن القصائد الأخيرة التي تركها محمود،‮ ‬ولم يقرأها أحد‮.‬
وبالفعل‮ ‬،‮ ‬ترك درويش ديوانه مكتملا،‮ ‬وكأنه كان يشعر بالغياب،‮ ‬كان يشعر بالفعل أنه راحل،‮ ‬رتب قصائد ديوانه كما أراد‮: " ‬لاعب النرد‮ " ‬،‮ " ‬إلي محطة‮ ‬قطار سقط عن الخريطة‮" ‬،‮ " ‬سيناريو أخير‮" ... ‬هذه هي القصائد التي نشرها درويش في شهوره الأخيرة،‮ ‬هناك أيضا قصائد أخري لم تنشر ولم يطلع عليها أحد‮: " ‬في بيت نزار قباني‮" ‬،‮ " ‬إميل حبيبي‮" ‬،‮ ‬مجموعة من الغزليات القصيرة،‮ ‬ومخطوط لقصيدة أخيرة تركها‮ ...‬
غانم زريقات العارف‮ ‬بمحمود أصر‮: ‬لابد أن يكون محمود قد كتبها ونسقها كما اعتاد‮"..‬في الأدراج بالفعل القصيدة مكتوبة،‮ ‬ومنسقة‮ ‬كما اعتاد صاحب‮ " ‬لماذا تركت الحصان وحيدا‮" ... ‬من خمس وعشرين صفحة،‮ ‬تفوق جمالا‮ " ‬لاعب النرد‮" ‬حسب تعبير من قرأها‮ ..‬ولكنها‮ ‬غير مكتملة‮. ‬في صفحتها الأخيرة كتب درويش‮: " ‬لا أريد لهذه القصيدة أن تكتمل‮.. ‬وأتمني أن يأتي شاعر شاب من بعدي ليكملها‮"... ‬هذه مفاجأة محمود في‮ " ‬غيابه‮"..... ‬
أخذ إلياس الديوان ليعطيه لدار رياض الريس،‮ ‬وعندما علمت شخصيات من السلطة الفلسطينية‮ ‬طلبت تأجيل نشر الديوان إلي الذكري الأولي للشاعر،‮ ‬في مفارقة‮ ‬غريبة ومثيرة للنقاش،‮ ‬ولكن أمام إصرار الأصدقاء علي استعجال نشر الديوان تقرر أن ينشر خلال الأيام القادمة‮..‬ويتبقي فقط‮ ‬عنوانه‮. ‬البعض اقترح أن يكون العنوان‮ " ‬لاعب النرد‮" ..‬ولكن آخرون يرون أن آخر ما كتب درويش من قصائد هي الأجمل علي الإطلاق‮..‬ولأنه لم يضع لها عنوانا فيجب تسميه الديوان‮ : " ‬قصيدة‮ ‬غير مكتملة‮"...‬
جمع أحمد في زيارته لشقة شقيقه كل ما ترك من أوراق ومخطوطات سيعمل علي فرزها الأيام القادمة،‮ ‬لتحديد ما يصلح منها للنشر،‮ ‬كما جمع أيضا ما حصل عليه درويش من جوائز ونياشين استعدادا‮ ‬لإقامة متحف يضم مقتنياته الشخصية،‮ ‬واغلق عليها الشقة.