ظل حلم محمود درويش مؤجلا.
الرواية، حلمه الذي طارده منذ بداياته، وحتي الرحيل. كان موضوع الرواية المؤجلة: البيوت.
البيوت التي سكنها الشاعر، وتنقل بينها، ربما باعتبارها وطنه الأصغر في المنافي المتعددة التي مر عليها. بيته الأول في البروة هدمه الاحتلال، غرفة صغيرة في حيفا حيث فرضت عليه الإقامة الجبرية فيها، ولم يكن يغادرها بعد غروب الشمس.
غرفة أخري في مدينة جامعية في موسكو، في القاهرة سكن في جاردن سيتي، وفي بيروت سكن شارع جان دراك في الحمرا، وفي باريس سكن "7 ميدان الولايات المتحدة" في الطرف الثاني للميدان يقع بيت السفير المصري. وعندما تركها اختار عمان العاصمة الأردنية لأنها كما يقول في واحد من حواراته: "مدينة هادئة، شعبها طيب، وقريبة من فلسطين وفيها أستطيع أن أعيش حياتي. وعندما أريد أن أكتب أخرج من رام الله لأستفيد من عزلتي في عمان ".
في عمان لم يستأجر الشاعر، كما فعل في المدن التي سكنها من قبل، وإنما امتلك بيتا للمرة الأولي. أراد أحد المقاولين عندما علم أن محمود درويش يبحث عن بيت يستأجره، أراد أن يهديه له، ولكن الشاعر رفض الأمر بقوة، ومع تدخلات الأصدقاء، اشتري محمود البيت بسعر التكلفة.
البيت في الطابق الرابع لشارع هادئ ( الطرة ) بمنطقة عبدون في وسط المدينة، وكان محمود يسكن حيا متوسطا، لا كما يتردد عنه في قصر فاخر في مناطق الأثرياء، حارس العقار مصري، قرر أن يغادر البيت بعد موت محمود _ كما قال للمقربين منه_ لم يعد لي أحد هنا، وسأرحل.
شقة محمود بسيطة، بمجرد الدخول ستجد نفسك في صالون متسع لاستقبال الضيوف، أمام المكتبة بجوار الباب مصحف فاخر، أهداه له أحد الشخصيات العربية البارزة، يعشق محمود حسب الأصدقاء- صوت عبد الباسط عبد الصمد، ويقرأ كثيرا سورة الرحمن، هذه السورة أخذت محمود كما كتب " في حضرة الغياب" : "ستأخذك إلي الإيمان المصحوب بالطرب، فتحب الله وتشقي من قلق السؤال الأول: من خلق الله؟".
بجوار المدخل مرآة دمشقية، وكرسي عربي، وهما، مع المكتب، الأشياء الوحيدة التي حرص أن ينقلها معه من شقة باريس، بالإضافة إلي الكتب. إضاءة الشقة اشتراها محمود من خان الخليلي بالقاهرة، وتتوزع عشرات الوسائد العربية في الشقة، خاصة أسفل المرآة. تضم الشقة أيضا بعض اللوحات التشكيلية البسيطة، المرتبة بعناية، أمامه مكتبة ليست بالضخامة، ولكنه احتفظ فيها بالكتب التي لا يستطيع الاستغناء عنها. وكان قد تبرع قبل رحيله مباشرة للمكتبات الأردنية بأكثر من ألفي كتاب بعد أن قرأها، عرض علي الأصدقاء في البداية اختيار ما يريدون منها، ثم تبرع لأحد المكتبات بما تبقي.
في الرف الأعلي من المكتبة، عدة مصاحف، وكتب خاصة بألفاظ القرآن، بجوارها الأعمال الكاملة لطه حسين " يراه أهم عقل عربي في العصر الحديث"، علي الرفوف الأخري نقرأ العديد من العناوين: المثنوي لجلال الدين الرومي (المجلدان اللذان ترجمهما محمدعبدالسلام كفافي) تفسير القرآن لابن عربي، وله أيضا كتب التجليات الإلهية، رسائل ابن عربي، وكتاب ابن عربي حياته ومذهبه المستشرق ا لأسباني أسين بلاثيوس وبجوارهما مذكرات بابلو نيرودا". في رف آخر نجد هذه الكتب: ديوان ابن عربي، كليلة ودمنة، الشاهنامة، ثم ألف ليلة وليلة، التي توجد لها أكثر من طبعة في مكتبة درويش. ثم كتاب وليد خالدي " Before Their Diaspora: A Photographic History of the Palestinians " والذي يمكن ترجمته " قبل الشتات : تاريخ مصور للفلسطينيين.
في رف ثالث نجد طبعة أخري لألف ليلة وليلة، ثم " رسائل ابن حزم الأندلسي" في ثلاثة مجلدات، وكتابي ابن قتيبة: " أدب الكاتب والشعر والشعراء".
لن يغيب ابن عربي، في رف آخر من أرفف المكتبة، نجد كتابه "فصوص الحكم" بهوامش وتعليقات أبو العلا عفيفي.بجواره " المواقف والمخاطبات" للنفري، ثم كتابا أبو حيان التوحيدي: " الإمتاع والموانسة"، الإشارات الإلهية"، وفي الرف نفسه نجد كتاب " رسائل الجاحظ" في أربعة مجلدات تحقيق عبد السلام هارون، ثم نسخة من كتاب قاسم حداد " أخبار مجنون ليلي" بلوحات ضياء العزاوي.
وسط المكتبة تصدرت أجزاء عديدة من سلسلة " ذخائر العرب" الشهيرة التي كانت تصدر عن دار المعارف، خاصة دواوين القدماء، سنجد أيضا ديوان المتنبي، وأيضا شرح ديوان المتنبي، و"رسالة الغفران" للمعري، جزء من ديوان أبو نواس الصادر في سلسلة " الذخائر"، وكتاب " جمهرة الشعراء العرب"، وكتاب " مصارع العشاق"، ويجاوره دواوين كثير عزة، زهير ابن ابي سلمي، طرفة بن العبد، حسان بن ثابت، ابن سهل الأندلسي، الخنساء، حاتم الطائي، عمر بن ابي ربيعة، الحطيئة، ابن قزمان القرطبي، الحلاج، وكتابا " من الشعر المنسوب للأمام علي" لعبد العزيز سيد الأهل، "الأدب الصغير والأدب الكبير"لابن المقفع، وأمام هذا الرف توجد عدة كتب حديثة من بينها " الاستشراق وما بعده " لإدوارد سعيد وإعجاز أحمد ترجمة ثائر ديب، مرايا العابرات في المنام لجمانة حداد، وعددان من مجلة "نقد " خصص الأول منهما لنازك الملائكة، والثاني عن محمود درويش نفسه، وهناك بعض الكتب بالإنجليزية منها " الأمة والدولة" لتميم البرغوتي.
ثمة مكان آخر خصصه درويش لكتابات التصوف، والأدب الأندلسي: نجد ديوان الموشحات الأندلسية، تاريخ الأدب الأندلسي للدكتور إحسان عباس، شطحات الصوفية لعبد الرحمن بدوي، معجم ألفاظ الصوفية، العقلية الصوفية، مجموعة مصنفات شيخ إشراق ( سلسلة الذخائر)... كما نجد المجلدات التسع لكتاب أبوحيان التوحيدي " البصائر والذخائر".
ولن نعدم الكتب الحديثة، أيضا سنجد: كتاب سوزان برنار " قصيدة النثر"، "الغائب" عبدالفتاح كليطو، "حرقة الأسئلة" عبد اللطيف اللعبي، تاريخ الثورة الروسية، فضلا عن أجزاء كتاب " النبي المسلح : تروتسكي"، وعدة نسخ من ترجمة صبحي حديدي لكتاب " تعقيبات علي الاستشراق" لإدوارد سعيد. موسوعة أساطير العرب محمد عجينة، ويجاوره أيضا كتاب " حفريات في الأدب والأساطير" للمؤلف ذاته.
أعمال محمد حسنين هيكل، جميعها متراصة في أحد أرفف المكتبة، ويبدو أنها مهداة لدرويش من هيكل نفسه إذ جمعتهما علاقة صداقة عميقة منذ أن جاء درويش للقاهرة للمرة الأولي في بداية السبعينيات. ويحكي أحمد درويش أنه كان في زيارة لأخيه في باريس في نهاية الثمانينيات، وتلقي محمود مكالمة من هيكل يدعوه فيها علي الغذاء، وعندما سأل محمود أين المطعم ؟ أجابه هيكل: في لندن..وبالفعل سافر درويش من باريس إلي لندن للقاء هيكل وتناول الغذاء معه.
كتب هيكل تتجاور مع إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية: مذكرات عوني عبد الهادي، وكتابات محمد عابد الجابري: بنية العقل العربي، وتكوين العقل العربي... ويجاورهما كتب: الشيخ والمريد لعبد الله حمودي، " نظرية الرواية والرواية الغربية" لفيصل دراج، الحرية والطوفان لجبرا إبراهيم جبرا، وبعض إصدارات دار توبقال لمحمد بنيس، عبد الفتاح كليطو، هشام شرابي، فضلا عن كتاب الطيب تزيني " من التراث إلي الثورة"، وسنجد أيضا رواية " التلصص" لصنع الله إبراهيم بجوار السيرة الذاتية لإدوارد سعيد " خارج المكان"، وكتاب " أسير عاشق" لجان جنية.
رف كامل خصصه درويش لدواوين الشعراء العرب الكبار، وحرص علي تجليد هذه الأعمال بلون واحد الرصاصي ويضم : لزوميات أبو العلا، دواوين الشريف الرضي، أبي تمام، البحتري، ابن حمديس، ديك الجن، العباس ابن الأحنف.
أما الأعمال الشعرية للشعراء الأجانب الذين حرص درويش علي الاحتفاظ بأعمالهم بالإنجليزية حسبما رتبهم: سنجد " أوراق العشب" لوالت وايتمان، ييتس، الأعمال الشعرية الكاملة لشكسبير، وأوكتافيوباث، يانيس ريتسوس، ت. س. إليوت، الشاعر البولندي ميلوش، لوركا، ديريك والكوت. وفي رف آخر سنجد أعمال إيزرا باوند كاملة، ثم كفافي، أودن، يانيس ريتسوس، جورج سيفيريس، بول تسيلان، أوديسيوس إيليتس، ثم أعمل بابلو نيرودا بالإنجليزية والإسبانية أيضا، وثمة قصائد مختارة لتوني هاريسون، جورج باركر، تشيموس هيني، شيمبوريسكا.
ويحتفظ درويش بالترجمة العربية لنيرودا أيضا، وأعمال توماس ترانسترومر المترجمة، والخشخاش والذاكرة لباول تسيلان،توقيعات لسيوران، فضلا عن الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط، يوسف الخال، وكثير من أعمال سعدي يوسف وبول شاوول، وعباس بيضون، وجمانة سلوم حداد، وديوان واحد لأدونيس" مفرد
بصيغة الجمع"، وأعمال متفرقة لكل من: شربل داغر، علي جعفر العلاق، غسان زقطان، طاهر رياض، محمد بنيس، سيف الرحبي، سامر أبو هواش، سليم بركات، أحمد دحبور، عبد الكريم قاصد، حسن عبد الله، ويكسر إيقاع هذه المجموعة المتناسقة كتاب " سعد الشيرازي أشعاره العربية".
تحتل الأعمال الكاملة لديستوفيسكي رفا كاملا في مكتبة درويش، بينما يستأثر إدوارد سعيد وحده برفين من رفوف المكتبة التي تضم كل ما كتبه " صاحب الاستشراق" من كتب بالإنجليزية التي كان درويش يجيدها إجادة تامة، وهو ما ينطبق علي أغلب ما كان يقرأ من روايات، يحتفظ برواية " عوليس " لجيمس جويس، وكثير من الروايات الإنجليزية.
أعمال صلاح عبد الصبور، وأمل دنقل، ومعظم الدواوين الشعرية التي صدرت مؤخرا في دار النهضة العربية تحتل مكانا بارزا في المكتبة، كما تحتل كتب الفن التشكيلي مكانة كبري أيضا هناك أعمال: سلفادور دالي، ماتيس ( لهما أكثر من كتاب يضم أعمالهما)، رودان، كليمت، جوجان، مختارات من الفن الصيني الحديث، بيوت سيدي بوسعيد، التطريز الفلسطيني. ونجد أيضا نسخا من كتاب " الكاماسوترا"، والأوديسا، "حياة الحيوان" والعديد من الكتب عن الفن الأندلسي: " مسجد قرطبة وقصر الحمراء، أعمال فاتح المدرس، عبد الرحمن منيف ومراون قصاب " رحلة الحب والحياة"، عبقرية الحضارة العربية، يافا عطر مدينة.
في الحجرة المواجهة يضع محمود درويش مكتبه: مكتب أنيق، وصغير، من الأشياء القليلة التي حرص أن ينقلها معه من باريس، كتب عليه معظم أعماله، ربما منذ مديح الظل العالي، وحتي ديوانه الأخير الذي لم يصدر حتي الآن.
في الحجرة يضع محمود لوحات خطية لعمله: "أحمد الزعتر" أسفله مكتبته الموسيقية وجميعها أسطوانات ممغنطة، وقليل من شرائط الكاسيت. أم كلثوم في المقدمة، يسميها " إدمان الوحيد"، ثم أسطوانات محمد عبد الوهاب، ومارسيل خليفة، وخالد الشيخ وأمل مرقص من الأسماء الجديدة، وعشرات من الأسطوانات للموسيقي الكلاسيكية (يعشق موزارت)، وكان مندهشا أن شارون أيضا كان يسمعه، وكثيرا ما كان يردد أمام أصدقائه بسخرية: " نسمع المقطوعة نفسها أنا وشارون.. وربما أيضا نحب الشاعرنفسه".
بجوار المكتب، مكتبة أخري، تضم الموسوعات والقواميس، لسان العرب في مقدمتها، أول كتاب يفتحها صباح كل يوم " عشوائيا علي كلمة ما تجري عليها تدريباتك الذهنية، ويفرحك أن لا تعرف أنك لا تعرف".، ويعود إليه مرة أخري بعد أن يتناول قهوته الصباحية، "ليحفظ أبياتا من الشعر مصاحبة لتنوع استخدام الكلمة" كما يقول في كتابه " في حضرة الغياب".
وتضم المكتبة أيضا مجلدات : " قصة الحضارة" لويل ديورانت، البداية والنهاية لابن كثير، " تاج العروس"، الأغاني للأصفهاني، الموسوعة البريطانية، تاريخ الطبري، فضلا عن قاموس لاروس الفرنسي، المنهل، وقواميس للعبرية التي كان يجيدها إجادة تامة حديثا وكتابة. كما يضع نسخا من أعماله الأخيرة الصادرة عن دار رياض الريس.
ليست هذه كل المكتبة، في بيته في رام الله مكتبة شبيهة بتلك، وأيضا كتبه الأولي القديمة ماتزال والدته تحتفظ بها.
وعلي مكتبه دواية حبر، لم يكن يكتب سوي بأقلام الحبر، وأوراق عديدة ومتناثرة، وجرائد، بعض الأوراق الشخصية، ومسودات لأعمال. ولكن حسب الأصدقاء ليس لدي محمود أوراق شخصية كثيرة، كانت هوايته تمزيق كل ما لم يكتمل حتي لا يطلع أحد علي أسرار عملية الإبداع لديه، ولا يحتفظ بأي من الحوارات الشخصية التي أجريت معه، أو المقالات النقدية التي كتبت عنه، بل لا يحتفظ أو يعلق أية صورة شخصية له، ورغم وسامته كان يكره أن يشاهد نفسه في التلفزيون، عندما يظهر في برنامج أو تنقل له أمسية شعرية مسجلة، وإذا أصر الأصدقاء علي مشاهدته، كان يترك لهم غرفة المكتب التي احتفظ فيها بالتلفزيون إلي أية غرفة مجاورة. في التلفزيون كان متابعا جيدا للأخبار، باللغات التي يجيدها، كان يحرص علي الاستماع إلي نشرات الأخبار العبرية، مثلا، لأن ما يقال فيها يختلف كثيرا عما يقال في نشرات العربية، وهو حريص علي معرفة " ما يقوله العدو" او " طريقة تفكيره"، وكان درويش أيضا عاشقا لأفلام الأبيض والأسود، ومباريات كرة القدم التي كان يتتبعها في القنوات المختلفة.
في الشقة أيضا يحتفظ درويش بالأوسمة والنياشين والجوائز التي حصل عليها، جمعها شقيقه أحمد في كراتين بعد الرحيل، حفاظا عليها، وحتي يتم إقرار إنشاء متحفه.
والمتحف قصة اخري مهمة، السلطة الفلسطينية، قررت إنشاء متحف لدرويش في رام الله، وتريد أن تنقل كل مقتنيات الشقة إليه، بينما يريد أصدقاؤه الأردنيون تحويل هذه الشقة إلي متحف تماما مثل متحف كفافيس في الإسكندرية.. ويقول خازن أسراره غانم زريقات لا يستطيع كل عشاق محمود زيارة متحفه في رام الله، بينما بإمكانهم أن يزوروا متحفه في عمان" ويتفق أحمد درويش علي أن شقة محمود في رام الله تضم عشرات الجوائز ومكتبته، وبإمكان السلطة أن تكتفي بما ترك محمود برام الله، ويكون له متحفان. حتي الآن لم يتم إقرار ما الذي سيتم في قصة المتحف، ولكن الأهم أن السلطة، أيه سلطة ليس من حقها " مصادرة الشاعر بعد وفاته" ليصبح تابعا لها، وهو الهارب منها دائما!
***
.. والنيل ينسي!
العالم كله احتفل بمحمود درويش، حتي تايوان التي لم نعرف عنها في يوم من الأيام أية علاقة بالثقافة والأدب خصصت الأسبوع الماضي حفل افتتاح مهرجان "الموسيقي المهاجرة" لتكريم درويش. وحدها مصر، حتي الآن ، بمؤسساتها الثقافية، المنشغلة بأمور أخري لم تقدم ما يدل علي أنها تنوي الاحتفال بأكبر شعراء العربية في العصر الحديث.
ويبدو أيضا أن لجنة الشعر عاقدة العزم علي ذلك لا في مؤتمرها الذي سيقام في مارس،ولا في غير مارس، فقط كما أشار البعض إلي رغبة بعض أعضائها في تخصيص " صالون الأربعاء الشعري" الذي لا يسمع به أحد، لمحمود درويش. ربما تكون أسباب كراهية لجنة الشعر لمحمود درويش معروفة للجميع، ولا احد يلوم اللجنة أو أعضاءها علي ذلك، فالضعف الإنساني مبرر في أحيان كثيرة.
ولكن كان أولي بالناقد علي أبو شادي أن يترك لجنة الشعر لخلافاتها الجانبية، والتفرغ لمؤتمراتها التي تنتهي دائما بالفشل، ويعلن عن إقامة مؤتمر دولي كبير تكريما لصاحب "جدارية" يخلو ممن يحملون الضغينة لشعر محمود، أو يشعرون بالغيرة من نجوميته، علي الأقل فهو صاحب جائزة القاهرة للإبداع الشعري في دورتها الأولي.
***
الديوان الأخير .. قريبا
انهار أحمد درويش.كانت المرة الأولي التي يخطو فيها إلي شقة شقيقه الراحل محمود درويش في غيابه.
جلس يلتقط أنفاسه، ويغالب حزنه علي أقرب مقعد. لم يكن وحده، كان بصحبته، الروائي إلياس خوري، والفنان مارسيل خليفة، وصديقه الأردني غانم زريقات، وصديقه الآخر علي حليله الذي صحبه في رحلة أمريكا. كان الجميع يبحثون عن القصائد الأخيرة التي تركها محمود، ولم يقرأها أحد.
وبالفعل ، ترك درويش ديوانه مكتملا، وكأنه كان يشعر بالغياب، كان يشعر بالفعل أنه راحل، رتب قصائد ديوانه كما أراد: " لاعب النرد " ، " إلي محطة قطار سقط عن الخريطة" ، " سيناريو أخير" ... هذه هي القصائد التي نشرها درويش في شهوره الأخيرة، هناك أيضا قصائد أخري لم تنشر ولم يطلع عليها أحد: " في بيت نزار قباني" ، " إميل حبيبي" ، مجموعة من الغزليات القصيرة، ومخطوط لقصيدة أخيرة تركها ...
غانم زريقات العارف بمحمود أصر: لابد أن يكون محمود قد كتبها ونسقها كما اعتاد"..في الأدراج بالفعل القصيدة مكتوبة، ومنسقة كما اعتاد صاحب " لماذا تركت الحصان وحيدا" ... من خمس وعشرين صفحة، تفوق جمالا " لاعب النرد" حسب تعبير من قرأها ..ولكنها غير مكتملة. في صفحتها الأخيرة كتب درويش: " لا أريد لهذه القصيدة أن تكتمل.. وأتمني أن يأتي شاعر شاب من بعدي ليكملها"... هذه مفاجأة محمود في " غيابه".....
أخذ إلياس الديوان ليعطيه لدار رياض الريس، وعندما علمت شخصيات من السلطة الفلسطينية طلبت تأجيل نشر الديوان إلي الذكري الأولي للشاعر، في مفارقة غريبة ومثيرة للنقاش، ولكن أمام إصرار الأصدقاء علي استعجال نشر الديوان تقرر أن ينشر خلال الأيام القادمة..ويتبقي فقط عنوانه. البعض اقترح أن يكون العنوان " لاعب النرد" ..ولكن آخرون يرون أن آخر ما كتب درويش من قصائد هي الأجمل علي الإطلاق..ولأنه لم يضع لها عنوانا فيجب تسميه الديوان : " قصيدة غير مكتملة"...
جمع أحمد في زيارته لشقة شقيقه كل ما ترك من أوراق ومخطوطات سيعمل علي فرزها الأيام القادمة، لتحديد ما يصلح منها للنشر، كما جمع أيضا ما حصل عليه درويش من جوائز ونياشين استعدادا لإقامة متحف يضم مقتنياته الشخصية، واغلق عليها الشقة.