مها بكر
(سوريا)

إلى محمود درويش

1

دثريني يابيروت بليلٍ منكِ، ثم زمّليني بشهقة شيماء بائعة الشاي، كلما غفوتُ، سمعتُ حفيف روحها، وهي تبحث عن أصابع طفلتها "وان" بين نصوصي؛ إزرعي خطوها في طريقي، وانثري رنين الخلخالين يصحو على إخضراره زنبق الشرفات والقمر.
لاتخافيها، العتمة يامريم، واقرعيهِ الباب برفقٍ، بأصابع خصبةٍ، معك ِ الريحُ وشالٌ من الشام، يزيحُ بردَ سُهادي، إقتربي ولاتصدقي الموت أني متُّ، اعصبي جرحي بمنديلك ِ الأحمر، وأناملي بخاتمٍ من أيلول.
هل أنت بيروتُ يامريم..؟
ومن أنا أيها الموت..؟ ومن أنت تكون؟.
لاتخافيها العتمة يامريم.
مرّري يديكِ على قلبي،
يُضاءُ كل ماحولنا.
لاتأخذي أصابعكِ من بين كتبي، ولاتتركي ظلالي وحيدةً دون يمام، لاتهملي حروفي ولا الأحمر اليانع دوّنته لكِ ذات غيابٍٍ دامسٍ،
ذات شعرٍ وحنين،
وذات قوافل غمام
إقتربي واسندي روحي بظلال شَعركِ،
اتكئي على كفيَّ، وعرّي ليل قلبي، ودعي دمي يغسل مراياكِ.
هل أنتِ بيروتُ يامريم..؟!
ومن أنا أيها الموت..؟!
ومن أنت تكون..؟!
"لا أحبكِ"، أقولُ
ولماذا في غفلة الموت لم يردد صوتي إلاّ صداكِ.
"كم أحبكِ"..؟!
أنت ذهب الحكاية وخاتمة الرحيق؛ أنت الأرض أنجبتها السماء،
أنتِ الأسود موشحٌ بي،
وأنا الأبيض من أجلكِ يقايضُ القمحَ بالزنبق.
أنتِ أنا، نرتعشُ في أوجِ الحب، وفي عتمةِ الغياب.
أحملكِِ نجمة المسافر، وإلى حيث يحطُّ المنفى بقلبي، وأقيم،
في بنفسج الرحيل، في زرقة حريركِ يبحث عن وطنٍ لي بين السطور.

* * *

ضمّديه يافلسطين قلبي برعشة يديكِ، بالحناء ممزوجاً بدمعينا، ثم أغلقيه البابَ، واقتربي، ولاتخبري الموت إني راحلٌ، حتى يضيء قلبكِ قلبي، ويجيء الحمام ُ رَفين، رَفين من حيفا، من اللدِّ، من يافا ومن الجليل، ميلي عليَّ وترنّحي ونوحي، وزيِّني شاهدة قبري بجديلتيكِ يأويان نصوصي وجراح يمام، واكثري من الرندِ والمسكِ والكافور، علّني أستيقظ من سبع وستين جرحاً وحريقاً، وحكاية ومنفى، وعانقيني حتى ينهض الغيمُ من قميصي الجريح، وينزُّ الشِعر من زهر ثوبكِ، ومن قمرٍ هو لي،
وليس لي.
إلى أين يامحمود..؟!
إلى الشِعر
إلى أين أناملكَ..؟!
تلمُّ الرُطبَ لمريم من النخل
والحزن من الدروب
إلى أين يامريم..؟!
ذاهبةٌ لأوزع الغيث على الصحارى
والقمر على الفقراء
والريح على التلال.

2

سِفر الوردِ
سِفر الريح
وأنا الدمعُ بين سطور سِفريهما، أسجِّلُ إلتفاتة الغيم الكسير وهو يغيب خلف أشواقَ النهر حاملاً رسائل الضفاف للماء وللغريب.
افتحيه الباب لي يامريم ولاتخافي،
أنا محمود..!!
ما الطين إلا الأرض عندما ترِقُّ تحت قدميكِ،
وما الزنبقُ الأبيض إلاّ قصيدة حبٍ للياسمين ولكِ.
افتحيه الباب لي يامريم ولاتخافي
أنا محمود..!!.

3

في الحلم رأيتُ مريم
تعيرني ثوبها ياأبتي
كان بلون السماء، حينما يغيب عنها القمر، تخلعُ أبابتها علينا، في يسراها ضَوعُ الوجد، وفي مقلتيها تتلألأ رؤانا، توقدها الملائكةُ من رنّة ِ جمرة،ٍ تتدحرج من أرواحنا إليها، جلبتها من خيالات يوحنا المعمدان وهو يوزعُ النورَ والهواء على تلاميذ الوَردِ في طبقٍ غسلته مريم
مرةً بماء الذهبِ،
مرةً بماء الزهرِ،
ومرةً بماء زمزم، وبدمع الأناجيلِ يسيل من كبدِ شجيرات الخرنوبِ، وهي تتعربشُ جدران الألم ليصطفي لهم ولك، من النهر برودته، ومن الأرضِِ جوارح العشبِِ والنخلِ.
هرعتُ أخبئُ الحلمَ في عينيكَ، لكنكَ، نَسيتَ وبَكَيتَ، وبكيتُ معكَ، فسالَ الحلمُ يجرحُ كلينا.
هرعتُ إلى القبرِ، قبركَ يا أبتي،
وكان أوسعُ من صدري لسرّي، بكيتُ حتى شممتُ رائحة كفيَكَ،
على الشاهدة، ِووجدتُ الضوءَ طالعاً، والرخامُ يكتم ُضلالة الموتى وأماناتهم من الريحان والكرى،
رأيتها ـ مريم ـ، تتبتلُ خاشعة كصلاة العصافير عندما تكون ُمن أجل اللهِ، ومن أجلِ ِعاشقين يهدران الوقتَ والبنفسجَ والنجوم.
رأيتُ القمرَ تتدلى منه عناقيدُ النور،
يحومُ حولَ عرائشه، ملاكانِ، يَريانِِ ولا يُريان، حينها مدَّ رجلٌ أعمى يده إلى خيط النور العالقِ بثوب مريم ، فأبصرت يداه وعميت بصيرةُ الظلام.
مُذ غادرتَ يا أبتي، وأنا أخافُ من الليلِ وأحاييله، أخبئُ لكَ أرضاً ذي زرعٍ بينَ الغيوم، مخافة َ هيفٍ هابّ عليك،
وأطفئُ رنةَ الباب ِقدّام الليل، أشعلُ النافذة بأناملكَ الحرير،
أطفئُ الريحَ كي لا يتسللَ الموتُ ويعبثُ بمزاميريَ ومزاميركَ،
أغفو وأتركُ للنحلِ جفاء الزهرِ عليه، وللروضِِ ِمشتهاه من الدمع والنجوم،
أضمٌّ قلبكَ، وأتركُ للحلمِ ِأصصاً للفرحِِ فيها يسافر.

إنه الله يا مريم جلَّ جلاله، ينصفني برؤياكِ، وأنتِ تَملينَ على الجرحِ الكلامَ المليحِ ،توزعينَ الرَوحَ، وأصيرُ أنا للغيثِ الراحُ، أهاجرُ حيثُ تهاجرينَ، وأتركُ لشجرِ الرمان وجنتيكِِ، تنفلقُ عن حبات لؤلؤٍ تُسِّرُ وتُسهد، رأيتكِ تصبينَ الضوءَ على يد العُليِّق لتتوضأ وتُضيء، لتبوحَ ونبكي وننطفئُ على مطارحَ يطويها الشوقُ لآلِ عمران، ورأيتكِ تجلسينَ على حافة القلب، تقرأين عناوين الغرباء، وعناءَ رحلةَ الشتاءَ الطويلةِ مع المطر؛ كانَ صوتي يتقطرُ من أكمامِ ثوبكِ، وأنتِ تلجينَ نفحات النسيمِ وتبتلات النبعِ العليلِ للحصى، تدندنينَ فتنةَ العشبِ بالحجر، والماءُ يحملُ رسائلكِ من سماءٍ إلى سماء، ومن أرضٍ إلى أرض، ومن بلادٍ إلى بلاد، ترنمينَ وترنِّم الريحُ خلفكِ هواها، تسترخي العصافيرُ من وله المروجِ بكِ وأنتِ تغزلين َبالدمعِ سجادة َ صلاةٍ للغياب وثوباً أزرقَ سماوياًً لنذور العذرواتِ وآخرَ باللوِنِ ِالبنيِّ المحروقِ ِلنذورِ النساءِ، ِيا مريم، يسرينَ تحت َمثاقيل الأسحارِ، والفجرُ يُغدِقُ على باب السعد الحبَّ دونهن.
رأيتك ِتعلمينَ الغابة الضوع َ والضياء، تتسائلينَ ويسألكِ الحورُ، والسروُ، والتين، والنخلُ الزيتون....

ما النار ُ:؟! تجيبين هي زيارة الحطب الطويلة للوهج.
الريح: ثمرة غابتين اقتتلتا من أجل وردة.
الجبل: حارس الأرض وغلالها، شجاع ٌ أمين، صدوقٌ، صديق، كليم الله وهو يشقُّ عباب البحر ويستخرج منه اللؤلؤ والأسماك ذكراً وأنثى.
القمرُ: رسول الكواكب لليلِ حينما تتعبُ من النطرة والسهر.
الندى: دموع العشبِ.
القُبَلُ: نياشين الحب.
العنبُ: عناقيد اللؤلؤ وفي الكروم سرُّ الخالق بما خلق.
الغروب: تجيب الريحُ الكفيفة من البكاء، هو وجه الغياب الحزين عليكِ.
الرماد: تقول النار هو حزنُ الجمر على نفسه وعليكِ.
الشموع: يقول الكهنةُ هي أصابعكِ عندما تذوي من أجل الله وأجلنا.
ماالمرآة. .؟! قالت الفضّةُ: هي أمُّ تنجب الصور.
أنا محمود يا مريم، يامهجة خصلات الضوء تسيل على كتف القمر، يارهافة الشمعِ في كانون، يكتم شهقة الليلك الحنون، والحبُّ يتضاءل بين عاشقين، تذوب خطاهم في الجفاء.
مريم: وقلّما تزورين أرضاً ولاتستيقظ أشجارها، أنهارها، بحارها وكواكبها!.

4

رأيتكِ تمتطين خيول المروجِ، تؤرقين سروجها، وأنتِ تشدِّين زنّار الريح، تشعلين أرواحنا من هفّةِ حُبٍ، وتطفئين بأصابعكِ خطايانا. تناديني، وتفرطين على قبري، عقداً صنعته السماء لكِ من غيماتٍ زيّنتها بوريقات التوتِ والأحجية.

رأيتكِ، توقظين الفجرَ وتكسرين أهداب الموتِ، بقوس شِعرٍ وقزح، تقرأ لكِ الأرض، ماءاً ينبع من عينيكِ ويصبّ في نهرِ كوثر، وكان الليل لتوهِ يستريح، والسماء تمطر، وتخلع على ركبتيك ِ الرعدَ والبرقَ والغيوم والحبق.
رأيتكِ تحفرين الظلمة، وتلقين بها حجارة يأسي،
رأيتك كلما غسلتِ جدائلكِِ، فاضتِ الكروم بالأعنابِ.

5

تلك زهورك،
وهذه أصصي،
لاتخافيها العتمة يامريم،
مرّري يديكِ على قلبي،
يُضاءُ كل ماحولنا.
هذه أصابعي وتلك يداكِ، توقظان الوقت، وساعي الموت يوزع الرأفة على بابٍ، دون أبواب الجميع يغدق الرحمة على أصابع ذابت من الحنين إلى رنة قدومكِ.

دون القبور كلها، سيئنُ الليلُ عند شاهدة قبركَ.
هذا مارأيته في الحلم وما قالته مريم لمحمود.


11ـ 8 ـ 2008