جهاد هديب

آخر تحديث: السبت ,23/08/2008

1/1

في القلب النابض للعاصمة الأردنية عمان، حيث تكثر المقاهي والمطاعم الشعبية وكذلك الفنادق الرخيصة وسواها، ثمة بائع وطابخ عريق للسمك هو رجل كهل وطيب علّق في مكان بارز من دكانه سطرين من شعر محمود درويش يمكن قراءتهما بسهولة. كان أول مَنْ انتبه للأمر الشاعر طاهر رياض الصديق اللصيق إلى حدّ كبير بالراحل محمود درويش ويراه يوميا غالبا.

روى طاهر أنه نقل حكاية هذه الدكان وصاحبها وسطري الشعر الى محمود درويش الذي اكتفى بأن ابتسم، ربما للطريقة المُحبّة التي كان يروي بها طاهر الحكاية ولعينيه الطيبتين.

أكمل طاهر رياض الحكاية في مبنى رابطة الكتّاب الأردنيين، بعدما عدنا من تلك الصبيحة الحزينة والمهيبة معا التي وصل فيها جثمان محمود درويش إلى عمان من الولايات المتحدة الأمريكية على متن طائرة إماراتية، حيث كان بوسع المرء أن يكتشف أصدقاء الراحل كما كان بوسعه أن يكتشف ذلك القَدْر كله من الزيف.

والحال أن درويش، في نهاية الأمر وفي ما يخص سيرة المرض، كان يشعر بضجر حقيقي تختلط فيه المعرفة، بسيرة الشخص وبموقفه من العالم ومن المعرفة بل ومن العائلة وماض قديم، كان الرجل صافيا تماما، وواضحا تماما حيث أمكن التقاؤه من أصدقائه في عمان التي أقام فيها أياما قبل رحيله الأخير صحبة عدد من أصدقائه الشعراء في عمان في منزل خاص وطلب سيجارة أو أكثر وأكل بوظة وتناول ما طالت يده وداعب أطفالا كأنما هو "لاعب النرد" الذي يستعد لغياب، لا شك، قد حان.

قال طاهر رياض، فيما يكمل الحكاية، في تلك الظهيرة إن محمود درويش قد ملّ شقته التي يقيم فيها منذ العام 1994 في عمان بالتزامن تقريبا مع شقته في رام الله، كان الرجل فعلاً قد ملّ لون الستائر والطريقة التي تتوزع فيها أشياء البيت على نحو ما هي عليه من عشر سنين. فيقترح طاهر رياض على صديقه ذي النزق الأشبه بنزق طفل أن يذهبا إلى بائع السمك بحثا عن وجبة أخرى كي يخرج من بيت لم يغادره لأيام ثلاثة متوالية لأي غرض. "لا بدّ أنك مجنون. هل بوسعي أن أمشي طليقا في أي شارع في عمان. فما بالك بالبلد" (أي قلب عمان).

ربما تشير حكاية طاهر هذه إلى توق محمود درويش إلى أن يفلت من براثن "نجوميته" القاهرة التي سجنه بها الناس فلم يكن بوسعه أن يتسوق مثلاً. لم يكن الرجل حراً أبداً في علاقته بالشارع، لم يكن يستطيع أن يتجول هكذا في أي مدينة عربية كما كان يفعل في أي مدينة غير عربية، ما يفسر لأي شخص قريب منه هذا الولع لديه بالسفر.

لقد قال محمود درويش مرة إنه كان يسهر بصحبة عدد من أصدقائه من خارج الوسط الأدبي والسياسي في أحد مطاعم فندق الأردن كونتننتال في عمان فتفاجأ بالنادل يدنو منه ويخبره بأن الملكة رانيا العبدالله ترغب في السلام عليه، فبادر هو بالذهاب إلى الطاولة الملكية والسلام عليها.

بالمقابل عانى محمود درويش من وحدة وجودية عميقة بسبب إحساسه الأكيد من اقتراب الموت منه إلى هذا الحدّ. كان يدري أنه يحمل في جسده ما هو أشبه بقنبلة موقوتة. قبل عملية القلب المفتوح الأخيرة العام 1998 أجريت له عملية أخرى في العام 1984. وفي هذه الأخيرة، نبهه طبيبه إلى أن هذه هي العملية الأخيرة التي من الممكن إجراؤها. وهذا بالفعل ما حدث، فاتسع الشريان الأورطي إلى حدّ لم يعد قادرا على ضخّ الكمية الكافية من الدم إلى القلب ذلك بالإضافة إلى أن، وبسبب من، إنتاج الجسد لمادة الكوليسترول لدى محمود درويش كان مبالغا به بالنسبة لأشخاص آخرين عاديين. كان يقول: "جسدي يؤلف الكوليسترول". على نحو ما يؤلف هو الشعر، أي أنه قاتله.

أردنيا، نُصح الرجل بأن لا يجري العملية التي أجراها وهذا ما فعله الفرنسيون من قبلهم. لكن ذلك الرعب العميق من الموت المفاجئ أو الهبوط الاضطراري إلى العجز، وبالتالي عدم المقدرة على الاستغناء عن الآخرين في الحاجات اليومية أقلّها، جعله يصدق تقرير الطبيب الأمريكي من أصل عراقي. وبالفعل نجحت العملية لكن القلب لم يكن ليحتمل عملية أخرى سايقة عليها جرى خلالها فتح شريان قد انغلق بنسبة مائة في المائة وآخر بنسبة 70 في المائة. لذلك انقطع، حقا، الخيط فمال الجسد.

من جهة أخرى، وفي آخر أمسياته في رام الله، قام محمود درويش بذرّ الورود على جمهور كان يحبه هو بعمق. وعمليا فقد قام بتوديعه بعدما قرأ قصائد يؤبن هو نفسه فيها. ذلك الجمهور الذي أحبه درويش وأهداه وروده لم يكن بوسعه أن يذهب إلى السوق من دون أن ينظر أحد في سلته كما هو شأن أي شخص آخر، الأمر الذي كان يسبب إزعاجا حقيقيا له.

ومع شدة وطأة المرض عليه في السنتين الأخيرتين على وجه التحديد، بدا محمود درويش أقلّ نزقا وأكثر قربا من الناس إلى حدّ احتمال ما قد يعرضه لإرهاق شديد. ففي آخر حفل توقيع لكتاب له: "أثر الفراشة"، مكث محمود درويش قرابة الساعات الخمس يوقع بقلمه للناس ولمحبيه.

لم يكن جمهور درويش في عمان في ذلك المساء من صنف واحد، ليسوا قالباً متشابهاً. إنهم عالم بأكمله وفيه نبض، وليس جمهورا فتيا فحسب، بل هو مجتمع علماني شديد الغنى والتنوع إذا جاز التوصيف لمتابع من قرب، بهذا المعنى يكون درويش هو التئام هذا الاجتماع الأهلي كله على أمر واحد؛ عدا أنه "ضرورة شعرية"، أي أنه ضرورة لتواصل الناس كلهم مع الشعر العربي في حداثته الراهنة فضلا عن موقعه الرمزي ثقافياً وسياسياً. لقد كان الرجل رئيساً رمزيا لفلسطين فيما كان الراحل أبو عمار رئيساً فعلياً. وذلك بالنسبة للناس، حتى أولئك الذين اختلفوا معه إلى حدّ الشتيمة الشخصية.

تلك الليلة لم يمكنني الاقتراب لولا مدير مسرح البلد المخرج المسرحي رائد عصفور، والقريب إلى رجل الأعمال علاء أبو حليلة الذي كان يزور درويش في شقته ويصحبه في زيارات شخصية وغير شخصية إلى أكثر من مكان، ولزائر درويش كان الرجل يبدو لأصدقاء درويش من الشعراء محِبّا ودافئاً باستمرار وقد رافقه في رحلته الأخيرة إلى هيوستن مع القاص أكرم هنية، لكنه لم يعد على الطائرة نفسها. لم يحتمل ذلك.

عندما اقتربت منه كثيرا قادما إليه من خلفية المسرح، كان إلى يساره طاهر رياض وإلى يمينه زهير أبو شايب الذي قام بفعل التقديم وكانت أم وصغيراتها الثلاث يتقدمن منه من جهة الجمهور. كما لو أنّ الأم كانت تقدم محمود درويش لبناتها ليتعرفن إليه منذ هذا العمر الغض وربما كي يحفظن وجهه الوسيم والكريم بعينين خضراوين عن ظهر قلب.

عندها خجلت، خجلت من أن أكسر هذا الإيقاع بين الشاعر وناسه. كنا قد اتفقنا قبل يومين أنني في زيارة تخصّ شخصين بمفردهما، “لكن اقترب مني واسأل ما شئت عندها” أثناء ما يقوم بالتوقيع، تذكرت، فابتعدت.

بيت الشاعر

لم يكن محمود درويش يغادر بيته في عمان إلا لماما، ومن الشعراء لم يكن إلا بصحبة طاهر رياض وفي أجواء عائلية غالبا أو يصحبان معهما الشاعر خيري منصور إلى أحد الأمكنة. أما الكاتب غانم زريقات رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين سابقا فكان أشبه بحارس نفسه بالنسبة إليه، على ما يبدو الأمر لأي شخص يقترب من محمود درويش. كان في يده مفتاح باب شقته وكذلك طاهر رياض اللذين يتصلان به إن لم يذهبا إليه يوميا. كان محمود درويش يخشى مصير صديقه معين بسيسو: انهض أيها المتماوت.