محمد حداد
(البحرين)

محمد حداديفتح قلبه للريح والأسئلة، ويتركنا في المقصلة ويذهب.. يترك الحصار وحيداً ويذهب.. ينكس أعلام ما بقي من بلادنا ويذهب.. شخص وضع الكلمة في الأسر كي يحررنا من صمتنا القديم، ونحن نصغي.. أوصانا بالبرتقال، بالرصاص والأرغفة، وتمادى في مديح الظل لعلنا نفهم، ونحن نصغي.. أسس للكتب لغة تطيش فيها رصاصات الحرف معلنة أنها الحرب.. لم يغسل دمه من خبز أعدائه كي لا نغفل نحن عن الطريق، يسجّل عروبتنا بين العواصم ويذهب.. ونحن مازلنا في الإصغاء... يسقط بسهولة القميص، مثل نجم تعب من الأفق، فقرر الرحيل بصمت. يذهب، ويترك اللغة وحيدة، والثقافة تنتظر عاصمة مؤجلة، والدفاتر مفتوحة على الصفحة العذراء.. يترك حبرنا مسكوباً على طاولته في انتظار قصيدة أخرى.. قصيدة تسعف اللغة، وتبتكر للقواميس مراياً مغايرة، يذهب بقلبه المفتوح الى مكان لا تطاله الحرب، ولا تسمع فيه خطابات السلام. فهو لا يؤمن بخريطة لطريقه المؤثث بالسفرجل وزيتون الغياب والقتل الكثير، فطريقه حرير منسل من جيب (البروة) وحتى (أحي هود).

ذهب الى الأغنية ليلبسها ثوباً لايليق إلا بالملكات، فأغرى أكثر الملحنين رزانة بكلماته المأخوذة بالموسيقى والنضال، فأصبحت قصيدته أنشودة للموتى والأحرار، للأم والفراشة، للمنفى والوطن.. غنته أكثر الأصوات التزاماً، وليس هناك بيت مريض بالصحوة لا يعرف شعره.. أثث رفوف مكتبتنا بشعره ونثره، ولم يخلو بيت من شريط كتب عليه بخط اليد (وعود من العاصفة)، شريط نسمعه في الظلمة ونتبادله في السر ونحفظه عن ظهر قلب.. تقاسم مع الثوار فن الكلام، فتراه حاضراً في خطاباتهم ونشيدهم ورسائلهم للحبيبات، فكلما فتك الحب والغياب بزنزانة، تراه يمد كلماته ليشعل فيها نارتين.. نارة للصمود، ونارة لوحشة القلب.. أشعل بأشعاره ظلمة الحبس والإختباء، وأدفأ برد المخيمات ووسائد العذارى وأجمل الأمهات في انتظارها.

يذهب.. فتترمل اللغة والثورة معاً، وتدخل الأغنية الكونية في اليتم المبكر، فما إن يقف المغنون دقيقة حداد على ذهابه المستحيل.. لا يجرؤ أحد منهم على الجلوس مرة أخرى، خوفاً من سؤال اللحن المرتبك والمخنوق بين حناجرهم.. ماذا بقي لهم بعد غياب الكلمة ؟ بعد انطفاء الجمرة في شتاء لا ينتهي، ماذا بقي للمواقد غير رماد الذاكرة ؟ بعد انتهاء النبيذ القديم من الأقبية الحكيمة، ماذا بقي للكأس غير السكرة الأولى والغصة الساهرة؟

تقمص أكثر الرموز وضوحاً، فرأى في (أحمد) زعتراً يمسح به على جرحنا فيطيب لنا النحيب، وملحمة تفضح صمودنا المزعوم، وأرصفة تتقاذفنا مثل كواكب لا يسقط على أرضها تفاح الإكتشافات.. ورأى في (محمد) درة لا يسعها ميزان، ودماً زاد عن حاجة الأنبياء، ودرساً أخيراً لم يحضره أحد، ورأى في (عبد الله) حواراً للجلادين، وموالاً يتحدى كل السيوف الخشبية، ومليون قتيل.. وكانت (ريتا) قندة مغموسة في نبيذ محرّم.. فيما تظل (جفرا) ظلاً لأنوثة الثورة البكر.. مطاردٌ مثل يوسفٍ، حاملاً قمصانه المقدودة من كل صوب، وفي أخوته شرٌ لا ذئب يطيقه ولا يسعه جب.

شخص يرى الأشياء بذائقة مختلفة، يسكن حقائب السفر، ويخاف من القمر، يعرف عازف الجيتار الذي يأتي عارياً، ويشم الدم في أوتاره، يحرس الشهداء من هواة الرثاء، ويرثي نفسه في حضرة الغياب.. يسرد الآلام كمن يرى الى الموت وتفاصيله، يستفزه وهو في سرير الشرايين، يعلق حبه على الصليب، فيبقى ضريحه رموش الرياح، له من الكبرياء ما يجعله لا ينحنى، ففي انحناءته ينحني تلٌ وتضيع سماء. يدّعي أنه مثلنا أو أقل قليلاً، شاهراً نرده في وجوهنا كي نصدق أن الخطأ احتمال جميل، يقامر بالكلمات ليمنحنا الفوز القصير، علّنا ننسى هزيمتنا الطويلة. يهذي بين العواصم منادياً الحبيبة حيناً والوطن أحيانا، صارخاً في وجه قاتله، ورافضاً الهوية الملفقة، طاردته جوازات السفر وأختامها، فلم يجد جنسية تليق بقلقه الصارخ غير قلوب الناس..

كنز نخفيه في رمالنا ونمزق الخريطة. ذهب بعد أن ترك لنا ذخيرة من اللغة المحتقنة بالغضب والحب، ذخيرة سيلعب بها أحفادنا دون أن يفقهوا، فتتفجر بينهم الدلالات ويطفر الرمز.. ونحن لا نحسن إلا الإصغاء.