نوافذ المستقبل- الاحد 17 اغسطس 2008

بسّام حجّار

محمود درويش ما هذا إلاّ عبور آخر.
كانت الرّحلةُ هائلةً أمّا الموتُ فهو تفصيل صغير.
لا ندري حقاً كيفَ فَعَلْتَ، لكنّك صنَعتَ لكَ بلاداً من مفردات. كلّما كتبتَ سطراً كنتَ تستردّ منها شيئاً، حتّى اجتمَعَت كلّها بين يديك، وأقامَت في قلبك المنهوك.
لا ندري حقاً كيفَ فعل؟
أنتَ المُطمَئِنُّ إلى ما يسرّ به قلبُكَ إلى أصابِعِكَ فتكتبُ الأصابعُ، في كلّ مرّة، نشيداً لأملٍ لم يبرح صدرك.
نُفِيْتَ وبَقيت في قلب فلسطين.
نُفيَتْ فلسطين وبَقيتْ في قلبك.
لا ندري حقاً كيف فَعَلتَ؟ ما العبارة التي تستخدمها لكي تأتيكَ طائعةً وتجلس بين يديكَ وتتسمّى بالأسماء والصفات التي تطلقها عليها.
لستَ ساحراً ولا هي حمامة بيضاء، ومع ذلك تُصغي إلى صمتِك العميق، وصوتك الأعمق.
الترابُ، حتّى التراب الذي سوف يهمي على جسدِكَ تسمّيه بَرداً لأنّه ترابها.
والسروات حول الحفرة أشجاناً.
والضريح ليس الضريح.
رَجُلٌ وأرض يتبادلان اسميهما بيُسرٍ كأنّما حبّ الرجل للأرض لعبة طفل.
حبّ غير مشروط.
رجلٌ وأرض،
رفيقان. غريبان على الدوام.
معاً، على الدوام.

لا ندري حقّاً كيف فَعَلْتَ غير أن تردادك اسمها أقامها مِن القَبْر.
لم تكفّ عن المناداة حتّى سمعت.
لم تكفّ عن توبيخ الموت حتّى زال عنها.
وعندما تضرّعتَ أن تصمتَ الأسلحة لأجلها، استجابت الأسلحةُ الصُمّ.

كأنّك لشدّة ما أردتَ أن تكون لكَ وحدكَ، أخفيتها كلّها، أعواماً، في أوراقك. كلّها. بلى. لا ما تشتهيه منها فحسب. ولا ما تمقت فحسب.
هي كلّها. أرضٌ وسماء. جبلٌ وهاوية.

هل كنتَ تنادي كلّما شئتَ: يا لِعازر، قُم!
ولِعازَر في لغتك قد يكون بيتاً أو شجرة؛ امرأةً أو رجلاً؛ شيخاً أو طفلاً؛
ولِعازَر قد يكون أرضاً. قد يكون أنتَ. وقد يكونُ أملاً مُلَفّقاً. لكنّك آمنتَ ولمّا دحرج الملاكُ الحجَرَ عن باب القبرِ سطعَ نورٌ.

لا ندري حقاً كيف فَعَلْتَ؟
آمنّا طويلاً بِعَتمٍ مُقيم، فلفّقتَ، بالمفردات، نوراً. وقلتَ قبلنا جميعاً: أنا أصدّق هذا النور. أنا أكذّب العَتْمَ. فصدّقنا.
فلِمَ تغادر الآن؟
قامَ لِعازَر ثمّ اختار أن يقيم في القبر.
وحدّثتنا الأسلحة مجدّداً حديثها الطويل: وكلّ صوت غير صوت الأسلحة خيانة.
وانكمشت الأرض ولم يبق منها إلاّ اتساع جلد حيّة.
وحُفِرَ قبرٌ عميق.
تحته قبرٌ عميق.
تحته قبرٌ ...

* * * * *

شاعر حماستنا الأولى... شاعر التباسنا الباقي

يوسف بزي

خمسة وعشرون عاماً أقرأه. قرأته بحماسة المراهقة، وقرأته بروية "القارئ".
قرأته بشغف المفتون بكل شعر، وقرأته بالتزام الناقد وتزمته. قرأته متعة وقرأته امتحاناً وفحصاً.
تحاشيت الكتابة عنه طوال عشرين عاماً. تحاشيت تدوين أي مقالة في أي كتاب له. وتحاشيت ابداء رأي علني في شعره. كان ذلك هو السبيل لمداراة حيرتي فيه، وإزدواجية علاقتي مع تجربته، التي أحبتتها وكرهتها واحترمتها.
كان معنا منذ أواخر السبعينات، "نشيدنا" السياسي، وكان هو أغاني فتوتنا الثورية الغاضبة والمرحة، وكان هو خيالنا المخضب بالدم والتراب.
وكانت موسيقى مارسيل خليفة تفعل أفاعيلها. لترتجف أفئدتنا بكلماته السيالة، الدافقة حرارة وصوراً وأصواتاً.
ثم أتانا الخجل. خجلنا من خطايانا وحماقاتنا وهزائمنا ومراهقتنا، وخجلنا من سذاجتنا وعاطفيتنا. فأبعدناه عنا وتنكرنا له ولـ"المرحلة" كما ينبغي للناضج أن يواري آثار طيش مراهقته.
ذهبنا إلى الكتابة، إلى سلك الصحافة، إلى امتهان قراءة الكتب، إلى تجربة الشعر. ولم يدر في خلدنا ان علاقتنا القديمة تلك برومنسيات السياسة والاشعار التي بتنا نزدريها، هي التي رسمت لنا هذا المسار، وان لوثتها التي نتحرج أن تظهر علينا، هي التي حددت هيئتنا وملامحنا ومزاجنا.
لم يدر في خلدنا أننا اذ أبعدنا محمود درويش عن خياراتنا وذوقنا، كنا هكذا نركنه داخل وجداننا المعطوب على الدوام بشيء من عاطفية المراهقة، والمشوب بالكثير من الغنائية السامة.
في الشعر، ورفضاً للمنبرية، للجماهيرية، للخطابية، للمباشرة، للصوتية المجانية ولطنين الايقاعات اللفظية... رحنا إلى قصيدة النثر، انفصالاً عن تقاليد شعرية إلتبست بأزمان الايديولوجيات ولابستها، ورحنا في انفصالنا هذا نزيح الكثيرين، ومنهم محمود درويش، عن أبصارنا وأفكارنا، ونغسل حساسيتنا من تأثيراتهم، ونجنب سطورنا الوقوع في أليف مجازاتهم وكناياتهم بل ونكتب هزءاً من صورهم وعباراتهم وثرثراتهم.
كنا محمومين ـ وما زلنا ـ بفعل القطيعة وضرورتها، ذاك ان القطيعة وحدها تعطينا "شرعيتنا". أي بمعنى آخر كنا هكذا نعلن عن آبائنا "الملعونين"، وكنا هكذا ننتسب مخاصمة الى سلالتنا.
إطمأننا الى سهولة التحقيب الزمني والشعري، واعتبرنا ان الحدود قد تثبتت، في الأفكار وفي الثقافة وفي السياسة. بدا ذلك سهلاً بالمعيار التاريخي، كأن نقول "قبل أو بعد 1982" سنة الاجتياح الاسرائيلي الذي اختتم حقبة إختتاماً مدوياً، وودعها درويش نفسه بنشيد ملحمي، "مديح الظل العالي" (1983). كنا نطوي حقبة ونطويه معها، وكنا هكذا نتشبه بالسابقين الذين توافقوا على القول "قبل أو بعد 1967"، سنة "النكسة".
لكنه عاد الينا محمود درويش مع "أحد عشر كوكباً" (1992) فقلنا ان شيئاً تغير في لغته، من غير ان نولي هذا التغير انتباهاً، ذاك ان الطاغي من انشاديته واطلاقيته، ومن زعمه الرائي، ومن همه "الاندلسي" (إذا صح التعبير) والطاغي من هاجس الهوية والمنفى... ظل كما هو كنشيد رعوي بلا خاتمة.
ثم عاد الينا بصحبة "لماذا تركت الحصان وحيداً" (1995) فارتبكنا أولاً من أنفسنا، ذلك اننا ـ باعتراف ضمني ـ اكتشفنا ان عاطفيتنا ما زالت متمكنة منا، وان صلتنا بشعر درويش، لا هي نقدية ولا تبجيلية، انها "عاطفية" فحسب، بهذه الروح قرأنا "لماذا تركت الحصان وحيداً" و"سرير الغريبة". و"لا تعتذر عما فعلت"، و"جدارية" و"حالة حصار". نسهو في قراءتنا له عن الشعر ونصغي لصوته، نصغي للشاعرية الساطعة هنا وهناك وسط السيولة التي نتحملها بقدر كبير من الغفران. كنا نخجل من حبه ونكبت تلك العاطفية. لم يكن في استطاعتنا ان ننبذه كما نبذنا الآخرين.
ربما هو الذي ساعدنا على بقاء الحميمية تلك في قراءاتنا له، فكتاباته الجديدة أوحت أن هناك محمود درويش "جديداً" اكثر جدلية وأقل صخباً، مفتوناً بالجماليات، مهجوساً بشرط الشعر. كان الخفر يتسلل الى قصيدته لتكون أقوى حضوراً.
بقيت تراجيديته الدامعة، بقيت رسوليته وملحميته المضخمة، وبقيت حنجرته في كلماته، كان هو في قديمه وجديده لكن بامتلاء أكثر، وبـ"تأليف" أثقل. الثمرة ذاتها وها هي قد نضجت.
الأمسية الشعرية الوحيدة التي حضرتها له كانت في "قاعة جمال عبدالناصر" داخل "جامعة بيروت العربية" عام 1981. إسم القاعة وإسم الجامعة يدلان على ثقافة وإيديولوجيا، كان شعر درويش فيهما كما النواة في الثمرة. منذ ذلك الوقت تحاشيت كل إمسياته البيروتية تجنباً لغواية "الجذب"، تجنبت سماعه مجدداً عندما عاد مرات الى بيروت في السنوات الأخيرة، كي لا أخاصم قصيدته حقاً، وهي التي لا تروقني تماماً، قدر ما يروقني ما هو مضادها.
إهتديت الى "الالتباس" بوصفه قيمة، في علاقتي بشعره، وفي علاقته هو مع الشعر. وعلى مستوى أرفع اهتديت الى الالتباس الذي يقيمه هو مع أناه، مع هويته، مع تاريخه، مع الآخر، مع السياسة، ومع "العدو". وفجأة أهديت أيضاً الى أن درويش نفسه في ترحاله عبر اللغة وعبر السياسة والأفكار والأمكنة.. قد ذهب من "اليقين" الى "الالتباس". باتت سمته هذه الجدلية الأخاذة مع ماضيه ومع قصيدته ومع وعيه، إذ كان يعيشها، تلك الجدلية، ناجياً بنفسه من "الابتذال" الذي أصاب "القضية" و"الهوية" و"الذاكرة"، ناجياً بنفسه من الانتهاك الفضائحي للدم وللمعنى وللغة.
بات درويش هذه المرة حقاً، منفياً، مغترباً، مؤسساً رمزياً للالتباس الكبير. قبل شهر، نبهني وضاح شرارة الى قول جان بول سارتر في اليهودي: اليهودي هو الذي ينظر إليه الآخر على أنه "يهودي".
اليهودي، رمزياً، هو المنفي الأبدي، هو المضطهد الذي لا مكان له، غير قابل لـ"الاندماج"، وغير قابل للخروج من التاريخ والجغرافيا. إنه اللاجئ، المختلف، الذي يضع على أكتافه الأنبياء والخطايا، والذي لا يني يحاول "العودة الى أرض الميعاد"، هو "المنبوذ" والضحية والأقلية، هو القتيل والمذنب.
كيف نعرّف "الفلسطيني" إذاً؟ ألهذا كتب محمود درويش "تاريخنا تاريخهم، تاريخهم تاريخنا" ("مأساة النرجس" ص17)؟ ألهذا بقيت "ريتا" هي الحب، هي العدو؟
يقول محمود درويش في حواره مع عبده وازن ("الغريب يقع على نفسه"): ثمة بين الشعر الفلسطيني والشعر الإسرائيلي حالة من الصراع، صراع في اللغة حول من يمتلك المكان واللغة، وحول من يسيطر على موضوع المكان أفضل من الآخر (...) نحن مدفوعون الى صراع ثقافي عميق. مثلاً: هناك شاعر إسرائيلي كبير أحب شعره هو يهودا عميحاي، لم يدع مكاناً في فلسطين، وهو يسميها أرض إسرائيل، إلا وكتب فيه قصائد، وبعضها جميل جداً وتحرج الشاعر الفلسطيني حقاً".
هكذا يتبدى لنا هذا الهاجس الذي يتحكم بدرويش الذي يقول "لم أغسل دمي من خبز أعدائي" ("أعراس" ص37). ومن هذا الالتباس الذي يتجسد في تبادل الأدوار الأسطورية ما بين "داوود" و"غوليات"، يذهب الشاعر بفلسطينيته الى "يهودية" تعاكس ذهاب اليهودي (عميحاي نموذجاً) الى إسرائيليته. إذ ما أن "يستوطن" اليهودي حتى يخسر هويته. ألهذا خاف درويش من "العودة"، خاف أن يخسر منفاه؟
نعود الى الالتباس ونطمئن إليه، ذاك أنه يبقي عاطفيتنا مع قصيدة درويش، ويبقيه معنا.

* * * * *

كاتب الملحمة الباحث عن صوته الخاص

حسن داوود

يحدث لنا أن نستعيض عن الشعر الذي نحبّه بشخص كاتبه. في تلك الأيام القديمة، وكنا ما نزال طلاباً في الجامعة، قَبِل بنا محمود درويش زائرين، بل ومصاحبين نخرج معاً إلى السهرات. في ذلك كان يتبع ميلاً شبابياً في نفسه كانت قد قطعته، فجأة، ملازمته لعالم الكبار. الكبار في السياسة والموقع حيث كان اتصاله سهلاً بقادة الفلسطينيين وصولاً إلى ياسر عرفات؛ والكبار في الشعر، أولئك الذين كان يروي لنا نوادر عن سهره معهم فيبدون مجايلين له مع انهم كانوا قد سبقوه عقوداً في العيش وفي الكتابة. ذاك أنه كان قد حظي بالشهرة مبكراً، بل أن الشهرة كانت تسبقه، كأن تتقدم عنه مسافة وتناديه من حيث هي قائلة له: تعال... تعال إلى هنا. ولا بد أنه ترك عمراً له لم يكمله، هناك في فلسطين التي غادرها. معنا، ونحن في أيام الشباب الأول، كان يستطيع أن يستعيد تعلقه بأغنيات عبد الحليم حافظ، وأن يرى بيروت، الجديدة عليه آنذاك، من المطارح التي كنا نذهب إليها، متفرجاً علينا، مثلاً، ونحن نناطح طاولات الفليبرز.

وكنا حافظين الكثير من شعره عن غيب. شعره الأول ذاك، الذي كان سهلاً وقريباً وخالياً من الخلافية التي عقّدتها السنوات فيما بعد، والحروب، وتغيّر صور البلدان عما كنا نعرفه منها. كنا قد حفظنا قصائد "عاشق من فلسطين" و"آخر الليل والنهار" بسهولة حفظنا الأغاني، ليس لإيقاعيتها فقط، لكن أيضاً لأن ما تقوله كان مطابقاً لما كنا نعتقده. ثم هناك تلك المزاوجة بين الحماسة والرقة، تلك التي كانت تلبّي ازدراءنا للسائد من شعر العرب وأغانيهم وخطبهم، المقتصرة على الحماسة وحدها، الحماسة الخالصة، الصارخة التي اتهمنا آنذاك المذيع المصري أحمد سعيد باختراعها محملينه قسماً وافراً من المسؤولية عن هزيمة 5 حزيران.

يحدث لنا أن نستعيض عن الشعر بشخص كاتبه. ومن مساوئ ذلك، أو من محاسنه ربما، اننا نصير أقل تعلقاً بنّص الشاعر الذي، ليكون كاملاً، عليه أن يُبقي كاتبه بعيداً. ثم أن فتنة محمود درويش تبدو أنها تغالب شعره. من أوصافها مثلاً أنه قلما يظهر مهموماً بالشعر، مع أنه قال لنا ونحن في بيته القريب من شارع الحمرا انه يجلس للكتابة كل يوم.. "في أحيان كثيرة لا أتمكن من كتابة شيء، لكن عليّ أن أجلس إلى الأوراق". أي انه كان شاعراَ وأشياء كثيرة أخرى، بينها ميله غير المتحفظ إلى الضحك، واستعداده للتكلم في السياسة والتحمس لما يقوله فيها، ومزجه الدائم للإلفة بالإستعداء ونزوعه إلى التحدي والمنازلة في مسائل من نوع ما يقوم بين طلاب الجامعة أو من كانوا في أعمارهم.

وقد أقصينا معاً، نحن وهو، وفي الوقت نفسه، قصيدته "سجل أنا عربي". صفّقنا له في قاعة الأونيسكو حين قال لطالبها، أو لطالبي سماعها: "سجل أنت". كان يعلم أن قصيدته الطويلة الأولى "سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا" قائمة على تجريب المفارقة واختبارها وتقليبها: "من أين إذن جاءه الحزن؟ من أين تقيأ؟" كان يسائل نفسه عن سرحان الذي قَتَل من أجل فلسطين التي لم يعرفها أبداً ولم تصل باخرة به إلى أي من شواطئها".
كان قد "أحّس" بذلك في قصائد سبقت، بادئاً البحث عن المفارقة بالتضاد بين التسمية ونقيضها "أجمل الفرسان ينتحرون/ والعشاق يفترقون في أوج الأنوثة والرجولة" أو "بين ما يمكن وما لا يمكن" و"رمت في آلة التصوير عشرين حديقة". أو في "ريتا"، المفاجئة في حينه والتي ما تزال مفاجئة الى الآن بالنظر إلى استمرارنا على ثقافة ينبغي فيها اعتبار ان ريتا هذه غير موجودة، وانها موجودة لكن هناك حيث لا يمكننا أن نرى أو أن نَصِف. في أوائل السبعينات من القرن الماضي جاء محمود درويش بريتا، هكذا كأنه حملها، أو حمل اسمها، معه من هناك، من فلسطين : "بين ريتا وعيوني بندقية"، قال، ثم أعاد القول بعد سنوات كثيرة على شكل محاورة: "نتزوج؟/ بلى/ متى/ حين ينمو البنفسج/ على قبّعات الجنود".

أتذكر الآن أننا أضفينا على ريتا هذه قدراً ضرورياً من الالتباس لتكون نصف حقيقية. إنها واحدة من مفاجآت محمود درويش التي مرت بسلام في بلادنا التي ما زال مثقفونا، إلى الآن، يقولون للصحافيين الأجانب "نحن لا نحاور الاسرائيليين" حتى وإن اقترح الصحافيون أن يجري ذلك بالواسطة. محمود درويش سُمح له، منذ ذلك الوقت المبكر، أن يقول ما هو ممنوع على سواه.
تلك كانت هدية له ثمينة إذ لم يجر التساؤل أبداً حول ما تلا من مسيرته الشعرية، تلك التي جرى تبنيها على الدوام كمعبرة عن كيانه الفلسطيني وماهيته (إذ، في مسيرة الدرويش تلك، هناك دائماً تلك الأنا الجامعة، أو الأنا الفلسطينية الواحدة) ولم نكن نعلم حينذاك ان هناك آخرين غيرنا، سيأتون من بعدنا، ليقولوا إن تلك الغواية كفرٌ وأن للعداوة لغة واحدة لا تتغيّر (أقصد بعض التكفير الذي أطلقته أطراف على الشاعر بعد رحيله).

يحدث لنا أن نستعيض عن الشعر بشخص كاتبه. أو أننا لم نعد نقرأ النصوص كما لو أن شعراءها الأحياء خالدون على غرار ما هم الشعراء الموتى. لم نعد نحفظ القصائد، حتى تلك الطويلة منها مثل "أحمد الزعتر" أو "سرحان يشرب القهوة في الكافيتريا" أو "الجدارية" الخ... لم نعد نحفظ القصائد عن ظهر قلب. صرنا نقرأ حاملين تلك الزجاجة المكبرة، واقفين عند الكلمة لا آخذينها كما هي، محمولة بموسيقاها وبهوائها الخفيف. صرنا نفكرها بدلاً من أن نترنم بها. ونحن نفعل ذلك ببطء وتمهل فيما القصائد تستدرجنا لكي نسرع في قراءتها.
نستعيض عن الشعر بكاتبه. ذاك انه، هو الشعر لا يُتذكر في قوة ما يُتذكر الناس. ثم اننا أكثر تسامحاً إزاءهم مما نحن إزاء نصوصهم. ومحمود درويش كان حالة خاصة في ذلك. في السهرة، أو في اللقاء العابر، أو حتى في المكالة على الهاتف، كان يترك كلمة لتبقى في ذاكرة سامعها. ربما هي ملاحظة مشاكسة، أو نكتة، أو عبارة مودة كان يظن سامعها أن السنوات الفاصلة ذهبت بها. ذلك يحدث مرة في السنة، أو مرة في السنتين يختفي بعدها محمود ليكون في مدينة أخرى أو في مدن كثيرة أخرى. لا أحد مثله قادراً على اعطاء ذلك الإنطباع المزدوج والمتناقض في كونه وحيداً لكن موجوداً بين كثيرين. ذلك يشبه بحثه الدائم عن صوته الخاص، صوته الذي لم يتوقف عن محاولة استخلاصه وإفراده منذ ستة كتب أو سبعة.

* * * * *

محمود درويش وجمهوره ونحن في الغابة المسحورة

وضاح شرارة

كان محمود درويش، شاعراً وكاتباً ربما امرءاً يومياً (ولا علم لي بالوجه الأخير)، محل إجماع "عربي". ولم يكن خلافياً، بحسب نسبة كان من أول مشيعيها، ومن أكثر مستعمليها استعمالاً لها. فاستقبله الجمهور، أينما حل أو حط استقبال الأهل المقيمين الابن العائد من السفر والرحلة. ولم تشق عودته، او زيارته بين الوقت والوقت، الأهلَ حزبين، على خلاف عودة الابن الضال. ولم تغلق عاصمة عربية، لا في المشرق ولا في المغرب، بواباتها، لا بوابات السرايات ولا بوابات "الأسواق" والأرباع والخطط، في وجهه. وعلى خلاف قوله: "يحبونني ميتاً..."، أحبه "العرب" حياً، ربما "ليقولوا: لقد كان منا، وكان لنا"، على قوله حادساً حدساً ثاقباً في أهواء الجمهور ـ وهو ممن صنعوا هذه الأهواء، وكانت له يد في صناعة الجمهور قد لا تكون قصيرة. و"كان" هذه، على ما هو جلي، نافلة. وحاضر "يحبونني" هو الصواب في محياه ومماته. ومشهد "يحبونني ميتاً" (وهي بعض "ورد اقل")، ويفترض انه يروي "اغتيال الشاعر في ختام محاكمة تحاكي محاكمة الناصري، متحول ومفتعل من ألفه الى يائه.

وهو حقاً "منا" و"لنا". ولم يحمله قول الشعر وكتابته، إذا صح ان محمود درويش "كتب" الشعر، على الهيام في واد، فكيف بالهيام في "كل واد". وواديه، إذا لا بد من واد، هو في القلب من "بلدنا" و"أرضنا"، ومقام الركن من هذه وتلك. ولا ريب في ان طرفة بن العبد، ودرويش رجا الموتَ انتظاره الى حين الفراغ من قراءته، ليس المفرد إفراد البعير المريض والمتداوي على رغمه بالزفت والقطران. فهو قرين "الوجوديين"، و"حريتهم" و"نبيذهم الفرنسي" الذي يقع عليه قارئ الشاعر، او سامعه، في مواضع كثيرة من شعره. وهو أحصى في وصيته الطويلة والمفصلة، قبل ثمانية أعوام من رحيله، "تدابير جنازته". فنص: "حبوني بحرف النون، حيث تعب روحي سورة الرحمن في القرآن". وطلب إلى مشيعيه ان "امشوا صامتين معي على خطوات أجدادي". وزعم من قبل انه لا يريد من الشمس أكثر من ذهب "سال من كلمات الآذان" ("لماذا تركت الحصان وحيداً"). ومن هذا شأنه، أو هو قال ان هذا شأنه، ليس بينه وبين طرفة بن العبد أو بينه وبين الهائمين في وديان عبقر والملعونين الضالين، نسب ولا آصرة.

فالنون وسورة الرحمن وخطوات الأجداد وذهب كلمات الآذان السائل، إلى ما لا يحصى من أفعال الانتساب في مبتدأ قوله الشعر ("سجل: أنا عربي!"، "وطني ليس حقيبة"...)، كلها لا تخرج من الإجماع ولا عليه، ولا تنكر الجماعة، ولا لغتها وأخيلتها وصورها وما توكل إليه الجماعة جلاء او اصطناع المرآة التي ترى الى نفسها فيها على أبهى صورة، وتنتشي. والإجماع على صاحب "جدارية" و"سرير الغريبة"، وصاحب "آخر الليل" من قبلهما، إجماع نشوة ومنتشين. وفي كثير من شعره يبدو الشاعر الفلسطيني مكلماً نفسه ومنصتاً إليها على نحو ما يسمع الواحد صوته حين يتكلم، من داخل ومن حنجرته، على قول اندريه مالرو في روايته "الكينة الإنسانية" ("الشرط الإنساني"، على ما يكرر بعضهم). وهو في هذا يبدو مطمئناً الى وحدة صيغة المتكلم الواحد وصيغة المتكلم الجمع، أو الجميع أو الجماعة. ويبدو مطمئناً الى وحدة الحي والإنسي والفلسطيني العربي المسلم (من طريق القرآن ولغته، على ما أحسب).

وآية هذا توالدُ الاستعارات من الاستعارات، وتحدرها منها "صليبة"، أي من صلبها مباشرة، ومن غير وسيط أو دخيل يشكك في النسب أو يستدخل سلسلة رواة الأثر وحملته أباً عن جد، أو آباء عن أجداد ("على خطوات أجدادي"). فيتماسك الكلام، أو القول، بنسبه الذي لا يفارقه، ولا ينفك صاحب "لماذا تركت الحصان وحيداً" يرد إليه، وينصب شاراته فوق مضارب القول، ويرفعه على سارياتها. وفي أحدى قصائد "لماذا تركت الحصان..."، "في يدي غيمة"، مصدق للزعم هذا. فالقصيدة تروي ولادة ملكية (أو مولداً)، ولا تفارق الخيل الولادات الملكية، ولا تفارقها السروج، ولا ترتيب الناس على عارفين ولا على من "لا يعرفون لماذا" عليهم ان يسرجوا الخيل "في السهل". والوليد الملكي يولد في "مكان معد لمولده" هو "تلة من رياحين اجداده". ورياحين الأجداد قد تكون "خطواتهم"، على ما هي الحال في "جدارية"، أي مثالاتهم وطريقتهم ومناهجهم، ووديعة داخلهم في خارجهم ("لأُوْدع داخلي في خارجي"، على قوله في "جدارية")، إذا مال التأويل الى المعنى. وقد تكون رياحينهم القمح الذي امتلأت به أرواحهم، والأرض التي امتصتهم ملحاً ونثرتهم حشيشاً للحصان والغزالة".

ويحد الرياحين، وتلفتها، أفقا الفتوح الملكية وحدّاهما: الشرق والغرب. فلله المشارق والمغارب. الاسكندر، ويترجح نسبه على بعض الروايات العربية بين أبوة دارا (الفارسي) وأبوة فيليبوس (الرومي)، وهما اصلا الملك العظيم أو الامبراطورية، الاسكندر هذا "دوّخ" المشرق والمغرب. والمواقع والحروب الكبيرة يقودها القواد العظام من أعلى تلة. وعلامة المولد الثانية أو الثالثة إذا احتسبت الخيل واحتسب إسراجها، "زيتون قرب زيتونة". والزيتونة من سورة النور بمنزلة النون من سورة الرحمن. وهي "لا شرقية ولا غربية"، وهذا من دواعي التداعي. والزيتونة من بنات اللغة العربية القرآنية. فهي "في المصاحف"، محلاً وتعريفاً. وتتولى، حيث هي، إعلاء "سطح اللغة"، ومؤاخاة التلة الملكية والمشرفة على السهل والخيل. وللزيتونة نسب بالنور "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه ناره نور على نور...". وهي كناية عن الكناية، أو التكنية والاستعارة من غير مس، على ما في الآية. ومن علامات إعداد المكان "لمولده": الدخان من اللازورد. ودخان القصيدة سماوي: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان..." (من "فصلت")، "فارتقب يوم يأتي السماء بدخان مبين" (من سورة "الدخان")، وعلوي. ولئن انتفى اللازورد من ألفاظ التنزيل، فدخان السورتين يلحقه بالألفاظ هذه، وهي معجم شاعر المولد والموت ومنجمه، ومعينه ودليله ومرشده.

ودخان اللازورد السماوي، بجوار "سطوح اللغة" العالية، والزيتونة والتلة والشرق والغرب، لا يفتأ يعلو ويرتقي الى جوار الملأ الأعلى. فهو، الدخان "يؤثث هذا النهار لمسألة لا تخص سوى الله". والحق ان صحبة محمود درويش، والعين على الكتاب وسوره وآياته اتقاء الزلل والضلال "اللغويين" والشعريين، تلتبس حين يبلغ القارئ ما يلقيه الشاعر على عاتق النهار من تأثيث لمسألة تخصه سبحانه وتعالى وحده. وأحسب ان واصل من عطاء والنظام والجبائي، ودعك من الأشعري وأصحابه، قليلو العون والأود لمن حمّل نفسه مؤونة فهم "التأثيث" هذا. ولو حمله على "التأسيس"، لفظاً أو معنى، لم يشفع له، ولم يخفف حمله. فمسألة الفهم عن خالق "ليس كمثله شيء" معضلة لم تكف عن إرهاق المتكلمين والمتصوفة والمفسرين، ولم تعف عن بينيديكتوس السادس عشر، فكيف بها اذا لبست لباس "التأثيث"، وتركت لباس الخلق والتخيير والتسيير والقدر والجبر واللوح المحفوظ المعروف والمشهور. وانعطاف الشاعر الى الإلفة اليومية في تناول المسألة الجسيمة وجه من وجوه بلاغته. فهو يتعمد الخروج عن "مصطلح" يبدو انه استقر في عموده وحضنه، وجعل همه استيفاء بنائه المتجانس والاصطلاحي، الى عمود لفظي واصطلاحي آخر يستعير حجارته من معين آخر، ومقلع مختلف. ففي "جدارية"، بعد حرف النون وسورة الرحمن والأجداد، ييمم القول من طريق الناي "الأزلي"، الى وجه رعوي وأرضي، فيروزي أو رحباني، معالمه البنفسج على القبر، وليس سعف النخيل، والسنابل على التابوت، وليس على النعش وشقائق النعمان، الفينيقية الأدونيسية والعشتروتية. ويمهد هذا الى إعداد "الحقيبة": "فرشاة أسناني، وصابوني، وماكنة الحلاقة، والكولونيا، والكباب". وينزل المتكلم من علياء النون، وسر النقطة في السماء المقلوبة، وائتلاف فعل الخلق من متحرك وساكن في "كن"، ليحط ويترجل في نثر الدعاية التلفزيونية، وفي محادثة الموت حديث دعابة: "هل المناخ هناك معتدل؟"، أو يقصد الدعابة.

ويفضي هذا الى آذار، الشهر الذي ولد فيه الشاعر. وإذا لم يقع شاعر الشهر "المدلل" على رجع قرآني لشهره، لم تعيه دعوةُ رجعِه الإنجيلي، من خبيز يستقبل الصوم، وكنيسة وامرأة تصرخ في البرية وشجر سنديان. ويقول روائي المولد: "يولد الآن طفل/ وصرخته/ في شقوق المكان". وإذا لم يقل: "يولد لنا طفل"، على ما يكتب الإنجيليون، فربما لعسر استدراج الملوك المجوس مرة أخرى، على رغم القناع الذي ألبسه صدام حسين الأعداء الجيران في "قادسيته" المكررة، من غير هزل ولا كوميديا على رغم هيغيل وتلميذه "اليساري". ويقرب القول "الشعري" المتباعدَ على نحو لا يأتلف منه وجه. فولادة الطفل وصرخته في شقوق المكان تكني عن طباق الولادة والهرم، وطباق استهلال الحياة وتآكلها واندثارها، كناية جافة وقصيرة الباع. وحمل فلسطين المولود الجديد والشاعر "الصارخ" من بعد، على مكان متشقق يطوي من غير روية، ولا رواية، استهلال القصيدة خيلاً وتلة ولازورداً وآذاراً...
ويكر الافتعال ويتداعى، ويجر بعضه بعضاً. فيعود الشاعر من الكلام الملحمي والنبوي الى ضمير متكلم فرد و"نفسي" يسرد سيرة انانية ونرجسية تؤذن بقرب نزار قباني، ونزوله ضيفاً أشعبياً على المجلس. فحذر صرخة الوليد "لا يلائم طيش النباتات". أيها الزيتونة؟ أم الرياحين؟ أم السنديان؟ أتوصف هذه بالطيش، وينكر عليها طيشها؟ والحذر يستدعي المطر: "في صرختي مطر"، على مثال كثير في قول محمود درويش، ينصب الأصوات رسماً ودليلاً (شارع واضح، حلم مالح، قمر جارح، حائط سابح... في "لحن غجري" من "حصار لمدائح البحر"). ومن المطر المقحم في الصرخة، وعليها، ينطلق القول كالسهم الى مشهد يوسفي يلح في أشعار صاحب "ورد أقل" و"أحد عشر كوكباً"، يخرجه الشاعر ويقسر السامع عليه عنوة. فمن المطر الى الأخوة والذئب، وإلى الملائكة والأسماء مراعي غزلان أو برزخ من غير وصل، لولا طيف ابن يعقوب المدلل، ورؤيا فرعون البقرات السمان في منامه، وتأويل خازن المعاني ثم خازن الحنطة المنام الملكي، الجزء الواحد من ستة وثلاثين جزءاً من النبوة. فالسمنة بنت المطر، والعجفة "بنت" الجفاف والإمساك الأقطعين والعقيمين، ويوسف ابن ابيه، وأخو إخوته. وإخوته اخوة الذئب ـ على رغم السؤال العربي الماكر: "أخوك أم الذئب؟"، كناية عن شدة اشتباه الوقت، وتلبيسه التصرف والتثبيت على الرائي الحائر بين ما يفترضان نقيضين أو ضدين.

وينتهي صاحب السيرة الى اصدقائه، بعد إخوته، وبعد الملائكة. وهؤلاء هم بعض جهاز الأنبياء الأولاد والرعاة. فإذا "رف" الأصدقاء، ليلاً أم نهاراً لا فرق، استعار لهم الشاعر آلة رفيفهم من الملائكة، ولم يتكلف مؤونة ثقيلة كتلك التي (لم يـ)تكلفها في وصلة المطر بالأخوة، أو حمّلها السامع. وأقول أن صاحب "سرير الغريبة" كلف الجمهور السامع مؤونة ثقيلة، وأرجع في قولي وظني الآثمين. فما يلفت من قول ولد البروة الجليلي الفلسطيني و"صرخته"، وفيهما، تقلبُ شعره على أوجه متفرقة من غير ان يحمل التفرق الشاعر على جمع شتات قوله، وضمه في نسيج واحد أو متصل. والحق ان الشتات لا يفضي الى تشعث ونفره، ولا الى تركيب. فالقول يسبح في ماء واحدة، أو يجري في مجرى هو وليد جريه، وصنيع الجري هذا. فهو كالماء المنسكب على صعيد رمل، أينما ذهب امتصه الرمل. ولم يقيّض له الذهاب بعيداً، ولا أتاح له حفر مجرى، فغاض قبل "الجري". وتفرق الأوجه التي يتقلب بينها القول هو (التفرق) تشبيه. فالوجه الواحد، القرآني أو الإنجيلي أو الأرضي أو اليومي التلفزيوني او النزاري (القباني)، قائم برأسه، ومنصرف الى وجهه، إذا جاز القول الهيهي، وبلاغته، أو شعريته، وهما واحد، كلاهما ناجم عن استيفاء الوجه هذا مبانيه وأصوله، وعوده على بدئها، واستنفاده أغراضه في عوده.
ففي الجزء المتبقي من القصيدة يسأل الشاعر نفسه: "هل أقول لأمي الحقيقة". وهي قولة البنت البكر في اغاني نجاة الصغيرة أو فايزة أحمد.
و"الحقيقة"، بحسب الفلسطيني "الصارخ" في أخاديد ارض النبؤات، تنطق بفم شاعر الياسمين الدمشقي ولسانه: "لي أخوة يضعون على شرفتي قمراً". وهذه واحدة من "طفولة نهد" "اخوة ينسجون بإبرتهم معطف الأقحوان". وهذه ثانية "أنت لي". فإذا سحب رجل أبيض الماء من بئره، اليوسفية واليعقوبية والذئبية والأخوية، وأخذ الولد المدلل من يده ليرى الولدُ نفسه كيف يكبر "كالفرفمينة"، ويراها قمرين: واحداً في الأعالي و"آخر في الماء يسبح". وهل يرى الولد في مرآة العالم غير نفسه ورجعها؟ ـ شهق الجمهور إعجاباً وحباً وانتشاء، وشد نفسه إلى صدره، وبكى قلباً (من جاذبية صدقي) وقالباً على رؤوس الأشهاد حقاً (وأشهادنا هي عناوين الصحف وشريط أخبار الشاشات الدائري).

فليس على الجمهور السامع، وهو غير القراء الذين قد لا يأتلف منهم جمهور، إلا ترك نفسه، الواحدة والمجتمعة، الى هدهدة المتنقل بين أغصان شجر جمعتها إدارة "ديزني لاند" من اشجار متفرقة، ويخالها الجمهور غابة ملتفة، ولا يعاند تخييلها على هذه الشاكلة. وإذا بالملاحم، من عهد عاد او بعده بقليل، تنقلب أشرطة صور متحركة يرقص فيها الدب بالو، ويناجي الفهد باغيرا، ويرعى الاثنان الولد موغلي في انتظار طرزان و"صديقته" والشامبانزي والجمهور.

* * * * *

إلى محمود درويش:
لا تَحزنْ، فقد هَزمْتَ الموتَ مراراً

بدرخان علي

- 1-

حين أتانا محمود درويش إلى الجامعة لإحياء أمسية شعرية، كانت جماهير طالبية، وسواها، غفيرة قد احتشدتْ خارج وداخل المدرّج الضّاج بالحضور من شرائح وأجيالٍ مختلفة. وكان الفضول إلى لقاء الشاعر الفلسطينيّ الشهير بادياً على الجميع. وإنْ كان الشّطر الأعظَم منّا لم يقرأ له سوى بضع قصائد في الكتب المدرسيّة أو ـ على الأرجح ـ حَفِظ تلك القصائد التي غنّاها الفنان مارسيل خليفة الذي أضفى عليها، هو الآخر، حُزناً على شَجَن و ألَماً على ألم.
وبدا لَنَا درويشٌ الشّاعر الرّقيق على هيئة جادّة وبالغة الصرامة في تلك الأمسية التي أحياها بجامعة حلب في بحر عام 2000م على ما أذكر، مُلقياً مُنتخبَاتٍ من شعره القديم وبعض الجديد. تلك التي تعكس مسيرته الشعرية الممتدّة على سيرة شخصيّة ووطنيّة وأدبيّة حافلة بالتحوّلات والمنعطفات الجمّة. نظراته من وراء النظّارة وحَمْلقته أوحَت لنا برجلٍ قاسٍ وجَسور خلاف توقعاتنا. إيماءاتُ يديه وأنامله أثناء إنشاد شعره، أشارت بنا إلى أنّ ثمة شيئاً ما ضاعَ منه ويريد منّا أن نطارده ونلاحقه إلى مكانٍ بعيد، قد يكون في انتهاء الأفق. لكنْ هيهات.
وبينما الشاعر يلقي قصائده بصوته الجهوريّ المازج للرّخامة في الوقت ذاته، ظَننّا أن كمنجاتٍ (وهي عنوان إحدى القصائد التي ألقاها على أسماعنا فاستمرّ وقعها حتى آخر اللقاء) مخبّأة في مكانٍ ما تعزف له خلفية للمشهد الشعريّ المتألّق بامتزاج صوته الأنيق وقامته المهيبة والمنتصبة في الفضاء الشعريّ الطّافح بالإنسانيّة والحبّ الذي أشاعه "اللازورد" (من قصيدة أخرى له) في الصالة المغلقة والمكتظّة.

- 2 -

ومحمود درويش، في مسيرة العقود التي أمضاها في الشعر والأدب والسياسة، نموذجٌ فذّ لـ "المثقّف العضويّ" الذي أراده إدوارد سعيد للمثقف من بعد "غرامشي". صحيحٌ أن انخراطه المباشر في السياسة، فضلاً عن نشأته تحت احتلالٍ غاشم اقتلع قريته "البروة" وشرّد أهلها، إلى جانب تجربته الغضّة، قد ألحق بعض الضرر في شعريته ابتداء مشواره الكتابيّ. لكنه سوف يستدرك الأمر فيما بعد ليحلّق بشعره إلى مصاف أدبٍ إنسانيّ راقٍ لا يتوقف عند حدود "شعر المقاومة" في صورته التبسيطيّة والحماسيّة وحسب التي ستكون السبب في إسقاط شاعرنا مجموعته الأولى "عصافير بلا أجنحة" من أعماله الشعرية لاحقاً. غير أنه يبقى وفيّاً وأميناً لحقيقته البسيطة فهو لم يكتب شعراً من أجل الشعر يوماً ما. ولا هو بقادر على تدبيج الأناشيد الحماسيّة بنفس الوقت. فكانَ مزيجاً من طيّبات كثيرة لا فكاكَ منها ولا غنى عنها.

فـ"صنعةُ الشعر" ظلّت عنده بلا رتوش أو افتعالات أو نظريات شعرية في ذروة نضجه الأدبيّ. وحتّى في رؤاه النقدية القليلة المبثوثة في حواراته ليس لديه ذاك الميل إلى الاتّكاء على قوالب جاهزة في الكتابة والقراءة. إنه هكذا إنسان طبيعيّ إلى الحدّ الأقصى،إنّما ليس لحدّ الاستسهال الأدبيّ والتبسيط الجماليّ بالتأكيد.

- 3 -

غير أن لشخصية محمود درويش وجهٌ أدبيّ وثقافيّ لا يقلّ أهميّة عن شعره ووثيق الصلة به. فقد كان الراحل مسكوناً، على ما تبدي مقالاته ونصوصه الشعرية والنثرية المتأخّرة بالخاصّة ومحاوراته وافتتاحياته في مجلة "الكرمل" التي أسّسها ورافَق ترحالها، مَسكوناً بقلق الهويّة والاستلاب والذاكرة والتاريخ والمكان والمنفى إلى حدّ الكينونة. هذا المركّب سيكوّن مصدراً ثريّاً لرؤيته الشعريّة ومنظوره الثقافيّ العام .بل الخلفية الأكثر حضوراً في شعره. وهو المركّب ذاته الذي أَلَهَبَ مُخيّلة مواطنه الآخر "إدوارد سعيد" المفكّر الفلسطينيّ الأمريكيّ المعروف. ليندرج الانتماء إلى القضية الفلسطينية، لدى كليهما، في إطارٍ رحب من رابطةٍ كونيّة جامعة ليستمدّا من هذا الانتماء الفسيح بعض عناصر الحساسية الفنيّة والأدبيّة والجماليّة فضلاً عن التصاق الذاكرة الجريحة و المهشّمة بجذور راسخة في الأرض والمكان والإنسان. كأنّ المرء أياً كانت "قضيته المركزية" لا بدّ وأن يستعين في النظر إليها بمنظارٍ شموليّ وأوسع، ويتحرّر من إسَارِها وشِبَاكها وإنْ لقليل من الوقت، كي يكتشف تجادُلها الدّائم مع قضايا التحرر والإنسانية بعامّة. وتراهُ، وهو الكاره للاحتلال وسياساته البغيضة، متحفّظاً على سياسات سَلَكتها تنظيمات فلسطينية في الأعوام الأخيرة من منطلق ما يسمّيه بضرورة "التفوّق الأخلاقيّ للضحيّة" الواجب واللازم بنظره. تفوّق الفلسطينيّ الرّازح تحت الاحتلال على الإسرائيليّ المحتلّ. وإلّا فإنّ علّةً خطيرة تَكْمنُ في الدعوى السياسة.
وفي هذا السياق، تجدُر الإشارة إلى موقفه الإنسانيّ المُرهف من القضية الكردية وأحوال الكرد. بل وتشنيعه لطرازٍ مرعبٍ من العروبة. تلك التي مرّت بأرض كردستان العراق، عروبة المجازر وسَفْك الدّماء والطّعن بالتاريخ كما وصفها درويش في قصيدته "تحيا العروبة".

- 4 -

الآن.حانَ الوقتُ لنومٍ مُستقطع من هذا الزمن الطويل والكئيب.
لا تقُل كلاماً صاخباً في الموت ولا تُنشد له.فقد التهم الموت حياتك مراراً.
والموتُ آتٍ بلا استئذان. لا ترحّب به كثيراً.لا تحسبه مضيافاً.ولا تكن مضيافاً أنت.
أتركه وشأنه. فقد هَزَمْته في حياتك مراراً.

لكَ أن تُحلّق حول أشجار اللّوز و الليمون.
أأنتَ عاجزٌ عن الحِراك واللّعب؟
أم لا أشجار باقية على قيد الحياة؟
راقدٌ أنت الآن في أحضان "الأرض".
كنتَ تقول فيها الأناشيد والملاحم.فهنيئاً.
هي التي أنشَدتَ لها حتّى انتفاخ قلبك الصغير وانفجار شرايينك.
واليوم أقربُ لنبض "الأرض" أنتَ.
في البرزخ بين حياتنا الفانية وحياتك الهادئة.أكتب لنا عن ولادتك الثانية في فلسطين.
اكتب لنا، نحن المفجوعين بك،
عن الحياة بلا تشرّد.
بلا حصار
إلى أنْ
نعثرَ على شِعرٍ يليقُ بك.
على قصيدةٍ تليقُ بك
وبفلسطين.

* * * * *

لن أرثيَك

جاك الأسوَد

سمّيتَني أميرَ الصَّحْوِ
لكثرة ما رأيتَ عطشَ اللّيل في كأسي
وكنتُ صغيرًا ولكنْ لمثلِكَ
لا صغيرَ على الإمارة
لا صَغيرَ على الصّحوِ

* * *

بل كان ينقصني شيءٌ من طفولتكَ
لأصدِّقَ وُعودَ العاصفة
وينقصني حِدادُكَ كي أتعلَّمَ أبجديّة الأرض الّتي
"تُورَث كاللُّغة"

* * *

لن أرثِيَكَ
لم ترَ في حربي سوى بحثٍ عبثيٍّ عن الشّهادة فقلتَ
لن أرثِيَكَ
مع كلّ هذا الموتِ من حولِكَ
وقد أطبقَ الحصار على أوّل عاصمةٍ عربيَّة
لن أرثِيَكَ

كنتَ تحكي عن هذه الحرب وكأنّها لن تحدث
حتّى احتمال المجزرة
أن تكونَ أو لا تكونَ في عدادِ القتلى
لا فرقَ
"ومن عادتي أن أموتَ كثيراً"
وكيف يحدثُ ما كان
"ملتحماً بالوراء الّذي يتقدّم"
كيف يحدث ما كان جوهرهُ الماضي
ولا خارجَ للماضي
ـ "لماذا تحارب؟
ـ من أجلِ يومٍ بلا أنبياء"

* * *

تحاول عَلْمَنَةَ الحرب
والشِّعرُ
حمّلكَ الصّولجانَ
لتؤمّ الجنازة الكبرى
عابقًا بالأنبياء

وعشت لتشهد
يا "زفرة العربيّ الأخيرة"
غرناطةً بعدَ أُخرى
سقوطَ عواصم العرَب

* * *

ولن أرثيَكَ
"مَنْ يرثي المراثي"
قفير الكلمات يحوِّمُ على عسل ابتعادها
لترثَ المستحيل ثورةً
أو شهوةً
ثمّ ترث المستحيل إذعانًا مُرًّا

* * *

من يستطيع أن يرثيَ
"شاهدةَ القبر الّذي يكبر"
وها قد غِبْتَ
"قالت طفلةٌ: إنّ السّماء اليومَ ناقصةٌ لأنّ السّروةَ انكسرت. وقال فتًى: ولكنّ السّماء اليومَ كاملةٌ لأنّ السّروةَ انكسرت"
ها قد غِبْتَ
والشَّمسُ الّتي لا تغيب عن جرحك
هل أكملت دورتها
أم هل سيظلّ النّهار ناقصاً؟

* * * * *

في وداع محمود درويش
ننتبه إلى حقيقة أحلامه وهشاشة زماننا

راسم المدهون

-1-

في أواخر عام 1971 وبداية عام 1972، فاجأ محمود درويش القراء والنقاد معاً بقصيدة جديدة، تختلف جذرياً عن تجربته الشعرية السابقة، سواء من حيث مضمونها وكيفية تعاطيها مع المسألة الفلسطينية، أو من حيث شكلها الفني وطريقة بنائيتها الشعرية.

كانت تلك قصيدته التي صارت علامة فارقة في تجربته الشعرية كلها: "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا".

قبلها كان محمود درويش في جليل فلسطين يواجه الاحتلال في صورة مباشرة فيكتب قصيدة مقاومة بالمعنى البسيط للكلمة. وفي تلك المواجهة المباشرة لم تكن المفردات غزيرة ومتناقضة، قدر ما كانت قليلة، محددة ومباشرة وتشير إلى بديهية الصراع.

فيما بعد، وبالتحديد حين غادر فلسطين إلى القاهرة أولاً، ومنها إلى بيروت، وجد "شاعر الأرض المحتلة" نفسه وجهاً لوجه مع العلاقة الوشيجة بين فلسطين كقضية وطنية، وبين كل قضايا العرب على تنوعها واختلافها: فلسطين في الخارج ليست قضية مواجهة طرفين محددين ها الشعب الفلسطيني والإحتلال. إنها خبز المواطنين العرب، وحقهم في التعليم والكرامة وحريتهم.

لم تعد القصيدة القديمة، الواضحة والبسيطة قادرة إذن على التعبير عن كل ذلك المزيج الوطني والاجتماعي الذي يجعل من فلسطين الاسم السري لحياة العرب والذي يلخص مجمل قضاياهم.

هي حالة تركيبية تستدعي بالضرورة مثيلها الفني الذي يتجاوز قصيدة الصوت المفرد الأقرب إلى ناي وحيد،

ينشد وجعه فيصل قلوب سامعيه.

وبمعنى ما لقد صار محمود درويش صوت الفلسطينيين في برّية عربية تعج بالألم، وتطفح بكل ما هو ضد فلسطين وضد المواطنين العرب، البسطاء والمحرومين من أبسط حقوقهم الانسانية.

في هذا التوقيت بالذات كتب الشاعر الراحل قصيدته الهامة "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا".

من يتأمل القصيدة اليوم سوف يتوقف طويلاً أمام "أنصاف الجمل" التي عبّر من خلالها الشاعر عن حالات سياسية كاملة: "هنا الأرض سجادة" (تكثيف بليغ للاستيطان ولفكرة أن الأرض الفلسطينية مهددة دوماً بأن تسحب كسجادة من تحت أقدام أصحابها)، و"سرحان نسل باخرة لم تلامس مياهك" (إشارة إلى الشتات بالمعنيين الجغرافي والاجتماعي) و"الظهور التي استندت للخناجر مضطرة للسقوط" (تعبير بليغ عن علاقة فلسطين بالأنظمة العربية)، وغيرها.

في القصيدة إطلالة محمود درويش على الموضوع الفلسطيني من نوافذ مغايرة لنوافذه القديمة.

تلك بدايات مرحلة جديدة في تجربته الشعرية كلها. كان اسم "سرحان" وقتها يشير إلى حادثة محددة، ورجل محدد، لكن شاعر القصيدة أرادها طافحة برمزيته هو الذي كان "من نسل باخرة لم تلامس مياهك"، والمفتون بشخصيته تحت الضوء "وصرح للصحافي وللعدسات جريح أنا يا رفاق".
بعد سنوات من كتابة "سرحان" يمكن رؤية التجديد الذي حملته هذه القصيدة، والذي أمكن لدرويش تطويره فنياً وموضوعياً في قصائده اللاحقة وبالذات منذ قصيدته المفصلية الثانية في تلك المرحلة "تلك صورتها وهذا انتحار العاشق"، حيث أضاف درويش إلى عالمه الشعري "لعبة" مزج عوالم فكرية متنوعة وحتى متناقضة دفعت القارئ للتأمل ومحاولة رؤية ما هو أبعد من المعاني المباشرة، خصوصا وقد جاءت القصيدة ذات ظلال وتدرجات معنى في صورة غير مسبوقة.

هي لغة شعرية نجحت في التعبير بفنيات عالية عن "مناخ" عربي بالغ التعقيد واقتضى بسبب ذلك ارتقاء القصيدة إلى أدوات فنية مماثلة، أدوات رأيناها في تعددية الصوت الذي كان واحدا ومنفردا، وأيضاً في مزج القصيدة بالتراث مرة والتاريخ والأسطورة مرات أخرى، بما يقرّبها أكثر إلى تراجيديا شعرية تنبثق من مطالعات متعددة لتفاصيل شتى مبعثرة حقاً، ولكنها ماثلة ومتجذرة في الحياة العربية.

سوف ينتبه قارئ "سرحان" لتلك الصور الخاطفة وبالغة التكثيف والحدّة التي جعلها محمود "ضربات موسيقية" افتتاحية، والتي سيعود لتفصيلها قليلا بعد ذلك في قصيدته.

في "أحمد الزعتر"، كرر محمود درويش "كلامه" الشعري عن "أحمد العربي" في الوقت الذي كان يتحدث فيه عن مخيم تل الزعتر، ولم يكن ذلك بعيدا عن عصف الحياة السياسية العربية وطغيان سوادها.

لعله كان يلامس كل ذلك في إجابته عن سؤال طرحه أحد الصحافيين حول رؤيته للفارق بين وجوده في فلسطين ووجوده في البلاد العربية. في إجابته قال محمود درويش: هناك في فلسطين كنت أهاجم من أشاء ولكنني هنا أجد نفسي في مواجهة مباشرة مع أي شرطي صغير.

نعم تختلف التفاصيل هنا، ولذا كان لا بد أن يتغير شعر محمود درويش، وهو قد فعل بامتياز.

فعل ذلك لأنه يعرف بعمق أن "التأييد" العربي لفلسطين ليس مسألة تحتاج إلى بحث، غير أن المطلوب هو ما يتجاوز ذلك: رؤية صورة فلسطين في عمق الألم والخيبات العربية الشاملة، والتي تجعل الهزيمة قابلة للتكرار كل مرة تقع فيها الحرب مع اسرائيل.

باختصار: محمود درويش بعد خروجه من فلسطين أضاف إلى دوره القديم دور الناطق بلسان ملايين العرب، الفقراء والجياع والباحثين عن حريتهم المهدورة في بلادهم.

-2

ما الذي يجعل موت الشاعر فادحاً إلى هذا الحد؟

يسأل الكثيرون اليوم بعد هذا الطوفان من الحزن فلسطينياً وعربياً لرحيل محمود درويش.

الذين يحزنون اليوم يدركون تماماً حجم التلف الذي أصاب قلب الشاعر الراحل بعد نوبتين قلبيتين شارف خلالهما على الموت.

وهم يدركون أيضاً أن تجربة درويش الشعرية غزيرة ومفعمة بالجمال والتجدد، أي أنها لم تكن تحتاج إضافات ما كي يكتمل التصاقهم بها.
لكنهم وهم يدركون ذلك يتأملون موقع موته في لحظة فلسطين الراهنة: محمود درويش تجاوز في علاقته بالشعب الفلسطيني أداءه الشعري والأدبي منذ زمن طويل. إنه أحد الذين يجتمع عليهم الناس، أي أنه بكلام أكثر وضوحاً أحد رموز التوحد في مواجهة الفرقة والانقسام والتشرذم الذي يعيشونه اليوم، ويدفعون ثمنه غالياً من قضيتهم وأمنهم ومصائرهم الفردية.
وبهذا المعنى بالذات يرى الفلسطينيون اليوم موت الشاعر دليلاً بليغاً آخر على حجم اليأس الذي بات يعصف بالنفوس ويرهق الأرواح.

أتذكر في دورة انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني التي أطلقت "إعلان الاستقلال" أن محمود درويش كان مكلفا بصياغة الإعلان. فجأة جاءنا الكاتب الصديق توفيق فياض قلقاً ومتوتراً. قال لي : إنهم يسحبون تكليف صياغة الإعلان من محمود درويش وإن علينا أن نتحرك قبل فوات الأوان.
كان توفيق بالغ الانفعال، وكان قلقا بالذات على موقع الثقافة ودورها.
في تلك اللحظة بالذات أطل محمود درويش ومعه الشاعر الراحل محمد القيسي.
حين سارعنا نسأله قال بهدوء: يا أصدقائي، لقد كلفوني بكتابة ديباجة إعلان الاستقلال وقد فعلت ذلك. أما القضايا القانونية فهي بالتأكيد من حق رجال القانون.
هو بكل المعاني لم يكن مجرد شاعر يقول كلمته ويمضي.

سألته مرة عن نكتة أطلقها حوله الكاتب الفلسطيني الساخر رسمي أبو علي قال فيها انه "الشاعر العام". ابتسم يومها وقال: لا أظن رسمي ابتعد كثيراً. وأضاف بتنهيدة: ليتني أستطيع كتابة قصيدة تتحرر من التراجيديا الفلسطينية ولكن هل يسمح العالم بذلك؟

في مجموعاته الشعرية الأخيرة، أعتقد أنه نجح بإبهار في التمرّد على العام في تجربته الشعرية وتوغل في شعاب الخاص بجمالية استثنائية تدفعني إلى القول إنها من أكثر تجاربه نضجاً فنياً وارتقاء إلى كونية شعرية تنبض بالحس الإنساني الفردي، ولكنها رغم ذلك لا تغادر مربع التراجيديا الفلسطينية كما ظن بعض خصومه السياسيين، أولئك الذين حاولوا جاهدين أن يسجنوه في خياراتهم الفنية والسياسية.

يمكن رؤية هذه المعاني في "الجدارية" كما في "حالة حصار" و"لا تعتذر عما فعلت" و"أثر الفراشة".

هنا يطل محمود درويش على العالم والحياة.

هو يفعل ذلك بقلب منهك بالأحزان، ولكن مترع بالأمل. قلب يرى ويسمع ويعيد تشكيل المشهد بريشة الروح.

لعله بتلك المجموعات أورثنا ما لم يورثنا أحد: الجمال الذي لا يخبو، والحق الناصع.
أليس الجمال إلا الحق؟

محمود درويش لن توقظك ضوضاؤنا ولكن قصائدك ستظل توقظنا أبداً.

* * * * *

محمود درويش "قتيلاً"!: شهادة كرديَّة

هوشنك أوسي

ماتَ محمود درويش!. لا، لم يمتْ محمود درويش!. وهل الشُّعراء يموتون؟!. الشُّعراءُ، يُعتقلونَ ويٌنفونَ ويُغتالونَ ويُقتلونَ، ولكن، لا يموتون.
يُقال: إنَّ قلبَ محمود درويش توَّقف عن النبضّ!. لكنَّ فلسطين، ما زالت تنبضّ!. إذن، لم يمتْ محمود درويش بعدُ. لكنَّ القُدس تقول: إنَّه اغتيل، مُذ صارت غزَّة "خمينيَّة الهوى والميل، وصارت الضفَّة، "أميركيَّة" الرؤى والكيل!. وشريانه الأبهر، الممتدُّ من "البروة" لـ"القدس"، يُرجِّح فرضيَّة اغتياله. شريانهُ الأبهر، أوشك على الانفجار، من فرطِ الطعنِ الفلسطيني في فلسطين. ومن فرطِ العبث العربيّ بفلسطين، ومن فرط عشق درويش لفلسطين. شريانه، لَهوَ شاهدٌ يعتدُّ به وبرأيهِ، في الكشف عن ملابساتِ "اغتياله". إذن، فلسطين، منْ اغتالتْ شاعرها المسكون بها عشقاً. اغتالتهُ، حين أدمته اغتراباً، وسط حربِ فلسطين على فلسطين، وتطاحن "الأخوة الأعداء".

جذورُ شجرة التجربة الدرويشيَّة، تشي بأنَّ مطالعهُا، كانت موسومة بحقنِ الكلامِ بالثورة، وحقنُ الثورةِ بالكلام. وبذا، عاضدَ درويش أترابهُ من خطباء الثورة الفلسطينيَّة، في شحذِ همَّة فلسطين، لسلكِ درب المقاومة، فأفلح. فبدت بواكير نصوصه، قانيَّة، تجيدُ الصولان بين اشتداد القنا والنبال والرصاص. وأخذت الحال القتاليَّة ـ الفدائيَّة والثورويَّة في شعر درويش، ردحاً لا بأس به من تجربته. إلى أن بدأتِ الهمَّة "الخطابيَّة التعبويَّة التبشيريَّة..." الشِّعريَّة لدرويش، تنحاز للحمائم ومفرداتِ الطبيعة والهدأة والتأمُّل والتعمُّق والغوص الداخلي، في طرح القضيَّة مجدداً، بدلاً من امتطاءِ القعقعةِ والجلجلةِ، والافتتان ببارقِ النصالِ وأزيز الرصاص، والتوهان في "عبق" الدماء ورائحة البارود. وبدا نصُّه يبتعدُ من لغة الحرب والسياسة، ليحلَّقَ أكثر في الفضاءات الداخليَّة للإنسان الفلسطيني، دون السقوط في ذاتويَّة مفرطة، تتعامى عن أهوال الحرب ومكائد السياسة في الحال الفلسطينيَّة. ولا شكَّ أنَّ رؤيته للدَّمِ الفلسطيني مسفوكاً على أيدي الصهاينة، كان يحزنهُ، أيَّما حزن. لكن، رؤيته لليدِ الفلسطينيَّة مضرَّجةً بالدِّم الفلسطيني، قد أصابتْ منه مقتلاً مريراً.
إذن، ماتَ درويش، قتيلَ أحزانه وغربته في وطنه. ماتَ، بعد أن رأت مقلتاه، ما تيسَّرَت لهما من رؤية الخرابِ الفلسطيني، وقد شبَّ عن الطوق، وصار شديدَ البأس والمقت، بمعيَّة وهمِّة آخذي فلسطين إلى عقيدتهم السوداء. ولمْ يشأ رؤية المزيد منهم، تاركاً ذلك الخراب على عواهنه!.

إذن، هكذا يموتُ الشُّعراء، حين يحسُّون بلا جدوى وجودهم وسط احتراب بني جلدتهم. الشُّعراء يحسُّون بجدوى الموت، ما ان يلامس شِغافَ خاطرهم هاجسٌ يشي بأنَّهم لم يعدْ بإمكانهم إضافة الجديد لتجاربهم. والخشيةُ على التجربة، من الاجترار، والعودِ على بدء، هي التي تقتلهم.

إذن، ماتَ درويش، لصيقَ فلسطينهِ الافتراضيَّة التي تستوطن كلامهُ وخيالهُ وأحلامهُ، وبعيداً من فلسطينهِ الممزَّقة بين جغرافيا الأحلافِ والمكائدِ القوميَّة والوطنيَّة، والأجساد المفخخة، والأفكار المفخخة، والأحلام المفخخة والخيال المفخخ، والزمن المفخخ.

إذن، ماتَ درويش، بعد أن كتبَ غزيراً عن مقاومةِ فلسطين لإسرائيل، لكنهُ لم يشأ الكتابة حرفاً، مادحاً سيلان الدِّم الفلسطيني على مذبح العراك "القومي والوطني والجهادي" الأصيل، بين "فتح" و"حماس"، في "مقاومة" فلسطين لفلسطين. ماتَ درويش، بعد أن كُتِبَ عنه غزيراً. ونذرٌ مما يُكتَبُ عن الشُّعراء، يقتلهم أيضاً. مات درويش، بعد أن جاهرَ في تضامنه مع حقوق الأكراد، وكتبَ لهم. وهذا الشعبُ يكنُّ عميقاً له ولشعبهِ وللعرب جزيلَ الودِّ والاحترام. وكمْ من الدماء الكرديَّة، أريقتْ، في الثورةِ الفلسطينيَّة؟

شاعرُ القضيَّة الفلسطينيَّة، لم يكنْ، ولن يكون، سائسها. الإحساسُ بالمرارة، هي التي تفجِّرُ الشِّعرَ أحياناً، وتقتلُ الشُّعراء أحياناً أُخَر. لم يكنْ شاعرُ فلسطين، دريئتها التي تمنع عنها قنصَ "حماة" فلسطين لفلسطين، وتفخيخَ فلسطين لفلسطين. فكيف سيكون جسدهُ المسَّجى بفلسطين، صكَّ الصلحِ والتصالحِ والتعاضد بين الفلسطينيين؟

ثمان وأربعون ساعة، من الموت السريري، كانت كافية لمراجعةِ محمود درويش لنفسه وفلسطينه منذ هزيمة 1948، التي جمَّلوها بنعتها "نكبة". وتلاحقت "النكبات" على الوطن والشعب الفلسطيني، إلى أنْ أوشكت قضيَّته لأن تصبحَ قضيَّة منكوبة، بمعيَّة حماتها والمدافعين عنها. والخشية أن يكون السُّباتُ السَّريريُّ ذاك، هي الصَّحوة الدرويشيَّةُ الحقيقيَّةُ من كلامهِ الآسر، ويكونَ درويش قد قدَّمَ "اعتذاره" من فلسطين، على ما اقترفهُ بحقِّها وحقِّ ثورتها ومقاومتها...، من شِعر وعِشق.

ماتَ سفير القضيَّة الفلسطينيَّة في ديارِ الغربة، التي منحته أوطاناً وشعوباً أحبَّته. في حين، فشلَ الوطنُ والشعبُ الفلسطيني في منحهِ وطناً، يضعُ على صدره رأسهُ المُثقَلَ بالهمِّ والغمِّ الفلسطيني!. ماتَ محمود درويش إذن!. بعد أن استنفد طاقته في مضارعةِ فلسطين بفلسطين لفلسطين. وهذه، تزدادُ انزلاقاً نحو الماضي!. ماتَ درويش بفلسطينيَّةٍ ناجزة، تجاوزت فلسطين. مات، قتيل سؤاله: أهذه هي فلسطين، التي قاتلتُ من أجلها، بكلِّ ذلك القَدَرِ من الكلام والأحلام الجسورة؟!.

وجاء في خبرٍ عاجل: إنَّ التي "كانت تسمَّى فلسطين، وصارت تسمَّى فلسطين"، قد ضُبِطَتْ متلبِّسةً في قتل شاعرها، بعد أن لمستْ منهُ عشقاً جمَّاً لها، وحزناً جمَّاً عليها. أمَّا هو، فمضى مبتسماً في محيَّا قاتلتهِ، ساقياً الجحيمَ أوجاعهُ، دافعاً فلسطينَهُ لِتُبحرَ في يمِّ كلامه إلى الأبد.

* * * *

إذن، أيُّها المارٌّ بين الكلماتِ الآبدة؛ نكِّئ قيعانَ الأبدِ بمنجلكَ الضوئي، موارياً ظلالكَ برائحة البيارات.

خطَّ لنا على فائحِ قهوتكَ تسبيح القطا، آناء تهجِّدهِ، وهدهداتِ أشجارِ الزَّيتون لفِراخِ الحَمام، آناءَ نزالها والفؤوس، كي يقتنعَ الأزلُ بأنَّك لست القتيل.
صنِّفْ قواريرَ الملائكةِ، المعبَّأةِ بكلامكَ العاصي، دالقاً في طمئنينتها شيئاً من قلقكَ الأرجواني. كي يستقيمَ التمرُّدُ في قرارِ عبوديتها، فتبدأ مزاولة لعبةَ التراشقِ بالأسئلةِ، والتصالحِ مع الشياطين من الإنسِ والجان.
أفلسطينُ معجونةٌ بكلامك، أمْ كلامُكَ معجونٌ بفلسطين؟!، هكذا ساءلت جبال قنديلَ جبالَ الجليل.
إذن، أدرْ فلسطينكَ صوب كردستاننا، فبنادقُ ثوَّارنا تشتهي كلامكَ غناءً. فتعالَ ولقِّمها، كما لقَّمتَ قصيدتُكَ موجَ البحر.

تعالَ؛ فالجوديُّ هو الأقربُ إلى أحزانكَ من أورشيلم ـ القُدس.

الجوديُّ أضناهُ النظرُ إلى دماءِ شبابِ الكُردِ تُسفَكُ على حجارتهِ.

الجوديُّ، شاعرٌ كرديٌّ، يشتهي مغادرةَ الأحزان والدماءِ، ولو لحظة.
الجوديُّ، فقيهُ الماءِ، وإمامُ الرِّيح، وتلميذُ النَّارِ، وعابدُ التُّراب، يناديكَ من حناجرِ شهداءِ الكُرد: الآن، قامشلو وآمد وعفرين ومهاباد وهولير وحلبجه...، كمْ تتوقكَ عابراً بها، واضعاً أكيلاً من كلامك المتلألئ على أضرحتنا المجهولة.
قالها غيركَ: لا أصدقاء للكرد سوى جبالهم. أمَّا أنت، فقلتها: "ليس للكرديّ إلاَّ الرِّيح". أمَّا الكردُ، فيسرُّهم أن يكون لهم جبالهم والرُّيحُ وتبغهم وبنادقهم والكثير من كلامِ محمود درويش.

* * *

أيَّها الآبدُ بين الكلمات العابرة؛ أيُّ آذارٍ من آذاراتِ الكُردِ، تليقُ بحزنك البهيّ؟
أمَّا أنهارُ الكُردِ وجبالهم، فقد بايعتكَ كرديَّاً من صُلبِ أحزانِ أشجارها. فأيُّ كلامٍ عابرٍ، يسعفُ الإحاطةَ بظلالكَ والبريق؟!
آنَ للكلامِ أن يصلّي عليكَ، بعد أن قضيتَ تصلِّي على الحرِّيَّةِ كلاماً.

دمشق 11/8/2008

المستقبل- 17 اغسطس 2008