لم يكد خبر وفاة الشاعر محمود درويش يظهر إلى العلن حتى أطلقت المواقع الإلكترونية التابعة للتيارات الأصولية الفلسطينية حملة تخوين وشماتة لم يسبق لها مثيل. فالموقع الرسمي للحركة الأصولية، والذي يطلق عليه إسم "شبكة فلسطين للحوار"، فتح النار على الشاعر المسجّى في أبده وأعلن بحماسة في سابقة غير مألوفة: "عن تقبل التهاني"، ونشر مجموعة مقالات تراوح بين الشتم والاعتراف للشاعر بأهمية شعره، مع التركيز على الهجوم على علمانيته ويساريته. العالم كله استقبل خبر رحيل الشاعر بوصفه حدثاً يصيب الضمير العالمي وبأنه خسارة إنسانية لا تعوَّض ولا تخصّ فحسب الشعب الفلسطيني. وحدها المواقع الأصولية أبت إلا أن تذكرنا بأننا لا نستحق الشعر ولا الشعراء وبأننا في مكان الإلتباس ليس فقط في ما يخص الخرائط والجغرافيا ولكن في ما يتعلق بذلك الوطن البديل القائم في اللغة.
تريد "حماس" أن تغتال اللغة وأن تضاعف المنفى وتقضي على ذلك الوطن الذي صار مقدسا، على ما يقول درويش، ليس لأنه نسخة من الفردوس ولكن لأن نبيا مرّ من هنا. النبي الذي مر من هنا جعل الأرض مقدسة بما هي عليه، وحين فُقدت الأرض كان الشعراء وخصوصاً محمود درويش، هم الذين يحافظون على قداستها بنسبتها الدائمة إلى نفسها وإلى تاريخها وإلى حاضرها المصنوع من حياة يرتفع فيها العيش البسيط اليومي دوما إلى مرتبة المعجزة. بلاد اللغة التي يحضنها الأنبياء كانت بلادا واضحة في وعي درويش ولم تدخل يوما في غموض الولاءات التي تسعى "حماس" إلى جعلها خارج نسق القداسة الذي تعرفه وترعاه، بحيث تلبسها لباس "قداسة" غريبة ذات لسان غريب.
المشكلة إذاً في اللغة العربية التي وجدت في محمود درويش منشدها فصارت جغرافيا صلبة متماسكة تتأسس على وعي سياسي نادرا ما امتلكه شاعر كبير. فالشعراء الكبار غالبا ما يكونون سذّجا في السياسة. السياب كان شاعرا كبيرا ولكنه كان ساذجا في السياسة، أما محمود درويش فكان يملك إضافة إلى شاعريته المختلفة وعيا سياسيا حادا يستطيع أن يقرأ الحوادث والتحولات التي تصيب فلسطين والعالم قراءة عميقة وصائبة. لذا كانت مواقفه مضاعفة الأثر، فمن ناحية تلك القوة الآسرة لقصائده التي تستعمل السياسة كمقدمة لإنشاء وجود يتسامى على السياسة من دون أن يتحول إلى يوتوبيا، ومن ناحية ثانية كانت مواقفه السياسية المباشرة التي تنطلق من ممارسة سياسية خاصة نجحت في تطوير النظرة إلى القضية الفلسطينية في العالم وتفعيلها بوصفها مسألة تضع الإنسانية بأسرها أمام سؤال الضمير.
كانت الممارسة المسلحة قد نمّطت العمل المقاوم وثبّتته عند حدود معينة لم يستطع تجاوزها قط، وكانت سمة الإرهابي هي السمة التي تطلق على الفدائيين لأن لا شيء يرسم صورة البلاد سوى السلاح.
السلاح حين يكون بلا بيان، يكون يتيما. ثم جاء شعر محمود درويش وشعرن المقاومة وجعل الدفاع عن التفاصيل الصغيرة وعن الشعر والورد والحق في الحب والفرح مقاومة تمشي جنبا إلى جنب مع المقاومة المسلحة التي رفض دائما أن تكون عمياء ووحشية، إذ رفض استهداف الأطفال بشدة لانه كان يريد مقاومة تتفوق أخلاقياً على الإسرائيلي. هذا التفوق الأخلاقي هو الصيغة الفنية التي تمثلت بقوة في شعر درويش، وبشكل خاص في قصائده الاخيرة. فالصراع لم يعد صراعا عسكريا بل صار صراعا على القيم وعلى شكل الوجود ونوعه.
اسرائيل التي تمتلك أعتى جيش في المنطقة، تسمّي جيشها "جيش الدفاع"، ما يعني ان الفلسطينيين هم دوما في وضعية الهجوم وأن تلك القوة الهائلة هي فقط للدفاع عن النفس. السؤال الذي شغل محمود درويش شعريا وإنسانيا، هو كيف تتحول كل هذه القوة الغاشمة من ميزة إلى عبء؟ الحل كان بالحرص على التفوق الأخلاقي للمقاومة، وهذا ما لا تتبناه "حماس" التي تجعل من ممارستها للمقاومة ذريعة لتفكيك اركان المجتمع الفلسطيني.
الامر الآخر الذي حرص عليه درويش، تحويل الصراع على المكان إلى صراع جمالي. فهو يعترف ان الكثير من الشعراء الإسرائيليين كتبوا قصائد جميلة في عشق المكان، وهذه القصائد توازي في بعض محطاتها، الشعرية الفلسطينية الخاصة بالدفاع عن المكان. للصراع إذاً وجوه كثيرة لا يمثل السلاح إلا جزءا ضئيلا منها.
لم يصدّق محمود درويش أن فلسطينيا يمكن أن يدوس العلم الفلسطيني، وعندما تأكد من ذلك راح يعلم بحدسه الذي لا يصدّق سواه ان كتبه هي الضحية التالية. فهم الحصار كما لم يفهمه احد من قبل. علم أن الحصار لن ينتهي حتى يتعلم الأعداء نماذج من شعرنا الجاهلي. هذا في صدد الحصار الأول أما الحصار الثاني، اي حصار الإخوة، فلن ينتهي حتى يتعلم الإخوة نماذج من شعر درويش ويستطيعوا أن يروا في مراياه وجوههم التي لا تستطيع المرايا الغريبة ان تعكسها أبدا.