اعداد وتقديم: د. كامل صالح

(25 شاعرا وشاعرة من عشر دول عربية)

عندما أخرج أفلاطون الشعراء من جمهوريته المثالية، لأنهم يحاكون محاكاة العالم الواقعي للعالم المثالي عبر مرآتهم، كان لا يرى الروح المتغلغلة في العالمين معاً. أراد عبر محاوراته الفلسفية أن يقصي الشعر عن الحياة بحجج وتعليلات، كانت الأيام تسقطها كل يوم، بل كل لحظة.
هل يمكن العيش بلا شعر؛ بلا ذاك التعبير الذي يجهد ليفسّر حركة الدورة الدموية عندما نرى وجه المحبوب؟ أو تلك الكلمات التي تسقط عاجزة أمام حضن أمهاتنا؟
ليركد أفلاطون في قلق. لقد عاش الشعر من بعده إلى اليوم، وسيظل يتنفس إلى يوم القيامة.
في عددها الجديد، تحتفي "الحداثة" بالشعر مجددا، عبر نصوص لخمسة وعشرين شاعرا وشاعرة من عشر دول عربية، تأتي نصوصهم متكئة على عوالم من دهشة الأسطورة، وعبق السحر اليومي لتفاصيل تبدو كأنها لن تتكرر، أو لغة مبللة بالحنين والحب والعشق.. ولعل أجمل ما كتب هو ما يحلّ فجأة، برغم ما نراه في الأفق من مشاهد وصور وأطياف مدن تصحو على همّها ودمعتها، وأخرى ترقص كدجاجة مذبوحة عبر دورتها اليومية الروتينية المملة.
الاحتفاء بالشعر حالة راسخة للحضور الإنساني طوال بروز وعيه على الأرض، فمن خلاله واجه الإنسان الخوف من الموت ومن الحياة أيضا، ومن خلاله عبّر عن حزنه وعشقه وفرحه وقلقه ووطنيته وحقده.
عبر هذه النصوص، يجوز استعادة الأسئلة كأنها لم تطرح من قبل: ما مصير الشعر في ظل ما تشهده البشرية من قفزات هائلة في المجالات العلمية والتقنية؟ كأن هذا التقاطع الحاد المفترض في السؤال، يرى حتمية موت الشعر في مواجهة الحديد، ولا يرى إمكانية التعايش والاستمرارية بين الطرفين: الشعر أو الحديد.
هذه الفرضية أثبتت فشلها وسقوطها المدوي، فما حدث جرى عكس المتوقع، فبرز الشعر في الشبكة العنكبوتية شاسعا، وباتت له البيوت الالكترونية والمواقع الخاصة والمنتديات، فضلا عن اتجاه كثير من الشعراء إلى بناء مواقع شخصية لهم في الانترنت.
لكن هل هذا يكفي لتأكيد عدم التصادم بين الجانبين؟
المتابعون يعتبرون أن المسألة لا تقف عند هذا الحيز البسيط والساذج، إنما تتداخل في مسارات أشد تعقيدا وفلسفة، فالمسألة هي أزمة الإنسان الكلي في عصر الحديد، ولا تقتصر على الجانب العاطفي أو الابداعي فيه. من هنا يتفرع الإشكال، ويصعب تالياً، تأخيره في سؤال عابر أو مسألة يمكن معالجتها بسهولة.
الشعر لا زال يتوهج هنا وهناك، فالإنسان الذي هزم الخرافات، وتمكن عبر اختراعاته أن يمدّ جسورا للتواصل، ولجعل الحياة أسهل، هو نفسه لا زال يتفنن ويتباهى في بناء قدراته العسكرية التدميرية، وكأن امتلاك المقدرة على قتل الآخرين، أصبح مدعاة للفخر والاعتزاز والكرامة، وليس مدعاة للعار والقرف والاشمئزاز.
الشعر سيظل النور في وجه سواد الحروب، ولا يموت إلا بموت الإنسان نفسه. فهل من أحد يتحدث عن ذلك؟
"ملاحظة: النصوص نشرت حسب ورودها إلى المجلة"

◘ كالبدو الرعاة


انعام فقيه*
(1)
كالبدو الرعاة ألكز ما تأخر من نعاج نعاسك بقلقي، نايي وعصاي، وتأخر عن قطعان نومك، بها أهش ما يباغت أسراب أحلامك من رفوف الكوابيس الكاسرة. وعند باب السرير، أشعل حطب الرغبات لتدفأ حارسة الأحلام وتجفل بعيدا ذئاب الغواية.
(2)
الرغبات قليلة، ما ان اشتعلت احترقت، وما ان هم الدفء برؤوس أصابعها، بردت، كيف؟
والطقس: حب، والوقت: متأخر، والبرد والخوف رائحة تشتمها وحوش اقاصي استدارات وقباب وأودية الجسد... كيف لحارسة الأحلام أن تنجو بقطعان نومك.
(3)
صوب أي جهات نومك أسوق القطيع؟ صوب جهة أحلامك المشيدة بمدن من نساء مهيئات بكل تفاصيلهن للحب، جهة لغتك؟ جهة أصابعك؟ جهة كفك، أسوق القطيع وأترك في سريرك جرس الكراز يقعي في أعماق نومك- موصولا إلى حبل النجاة- ونعاج لا وعيك المريضة... لتصدق ذئاب الغواية خدعتي كأنني لا زلت مسجاة إلى جانبك.
(4)
صوب جهة لغتك،
صوب الايجاز في اللغة،
الايجاز في الطريق اختصار المسافة.
الايجاز في الهدف انجازه،
والنجاة بالقطيع هدف،
الخوف: خوف من الذئب والعتم،
الايجاز في الخوف، خوف من الذئب
العدو، إما ذئب جائع أو ذئب خائف،
الايجاز في تضخيم الفكرة عن العدو،
جائع صيره الجوع ذئبا،
خائف صيره الخوف أسدا،
إذا جاع القطيع، إذا برد القطيع، إذا القطيع خاف مات، مات مات مات،
إذا برد الرعاة، لهم من صوف القطيع رداء، إذا خاف الرعاة ضحوا بقطعانهم، وإذا ما جاع
الرعاة، افترسوا قطعانهم.
(5)
في الطريق صوب اللغة يتبدد الخوف، جرس الخديعة، موصول إلى حبل النجاة ما زال يدق، والراعية تغني: عما قليل، تبلغ الذئاب الجائعة النعاج المريضة، تصدق أنها فريسة، بينما تلتهم طعما، وكلما دقّ الجرس، يسيل لعابها على راع شهي، وما من رعاة في الديار، تلك هي ذئاب التجربة يا بافلوف.
(6)
عما قليل، يبدد النور العتم، ويشيع الغناء الدفء في المراعي، وينتشر القطيع في الحقول، كالمفردات في المعاجم تجتر المعاني، والراعية، بعد خوف طويل وليل طويل، "تفترش العشب وتلتحف السماء" لتدخل في أحلامك.
(7)
جهة أحلامك تؤدي إلى النيل، نساء أحلامك عاريات، يتحدرن من أهوار العراق، يمضين إلى الماء في البحر الأسود ومستنقعات القصب، ويبقين مشدودات بشعرهن الطويل إلى خشب صلبهن في شرق الجهات والراعية واحدة منهن.
(8)
ردني من أحلامك راعية، کيس زوادتي فارغ من خبز يديك، وأسمال شهوتي بالية، سأرجع إلی أصلي وأهلي، أتنفس ملء رئتي، أشرب ماء النبع وأغسل يدي. ردّ لي من أحلامك عصاة الشك نايا وبساط ريح، وبساط الريح ردّه حصير الخيال، واتخذ لك دوني ساحرات وحواري، ردّني حيث الوقت بکرا، هناك أسکن روح المتصوفة، أغزل بياض الحاجة ليلامس زرقة الألوهة، لحظة سمو النفس بالنقاء، ساعة التجلي، سأرجع إلی أصلي وأهلي.
(9)
في دربي الترابي إليك، أتعثر بخطاياي ونزواتي، كالحصى الناتئ تتكوم أدعيتي وتتكدس في الدرب صلواتي، أتعثر فتتشظى روحي، لتلمني أصابعك السود، مقشبة الجلد كزنجي، إلهي وخادمي، ذرني بقناديلك العشر صوب جهة أصابعك، كالنايات، كالأعواد، كالكمنجات، أنا الآلة ولك أصابع العازف، راع أنت وتسرح بقطعانك إلى مراعي الارتجال.
(10 )
لم أعد من جهة أصابعك، وقد غسلتني كفّك بماء كفّك، وكفّك كل كفّ هدهدتني، ربّت على كتفي، تغلغلت في شعري ومسّدتني، فكّت عقدتي وكفّت حاجتي وكفّنتني، كفّ الحبيب الأول، الحاضر، الدائم، المتأهب، ولم تبقي مني غير سيرة كفيّ، تقطر من مناقير الملائكة، كالبرد كالنار على عتم الروح في القبر، أو تذكرني أن جمالي الداشر كغناء البدو الرعاة، منك واليك.
(5 شباط 2012)
* شاعرة من لبنان

************

◘ أسبوع من العنبر

غسان جواد*

♦ في غيابك ترتمي السماء في حضن الأرض

في غيابك ترتمي السماء في حضن الأرض
والزنابق تميل على جنبها
تفقد بعض عطرها
وتخشى على البقية

الليل والنهار يسريان
ضوءا اثر عتمة
عتمة إثر ضوء
البحار تلوذ بصمت عميق
وتنسى الكائنات ما كانت تبحث عنه.

في غيابك..
أتحسس قطرات الندى على جبهتي وحياتي
رجلٌ يجلس بالقرب من قلبه.
***

♦ في السماء سربٌ من النجوم يحدثني عنك

عيناك تلمعان كعنب الليل المضيء
وفي السماء سربٌ من النجوم يحدثني عنك،
أنت أوضح شروقا في شتاء غائم وكئيب
أشهى من رغيف الخبز الخجول
ومن وجه الصباح حين ينزع عنه ما تبقّى من الليل
عندما أفكر بك
أشعر أن على الريح أن تصمت
وأن البرق والرعد مفرقعات فرحتي..
لقد عرفتك...
***
♦ الغرفة شبه مظلمة الآن

الغرفة شبه مظلمة الآن، لكنّ بقعة ضوء تلتصق بأعلى السقف مثل ندبة قوية على جسد غامق، عيناي نحو السقف أيضا، وتنسرب نحوي الصور الملوّنة في كل اتجاه. فكرة واحدة تستقر طويلا، تقيم على مدى روحي، تمسكني من يديّ وأحلامي نحو الأعلى المظلم، نحو الفكرة التي جلست أتأملها كعينين جميلتين.
غرفتي مظلمة وعيناك في كل مكان.
من أين أمرّ نحوك وكيف أكتب جملة جديدة عنك؟
لم يبق رجلٌ إلا وكنت مطلع أحلامه والختام. كتبوا عنك أجمل الأغنيات. انسكبوا على أوراقهم أمامك، مثلما ينسكب الماء في كأس دافئ. غازلوك كثيرا وطرزوا وجهك وضحكتك بكل ما في اللغة من شوق وحب ورغبة وأحلام.
يحبونك أكثر من كل الجنون المتوفر في هذا العالم.
يحبونك ويبدعون.
أنا أحبك أيضا، أقف رغم تعبي، أراقبك من بعيد أيضا. أمسح عن جبيني أشواق المسافة. أضع يدي على الورقة البيضاء، أستعين بها على الاقتراب منك، وأكاد أسقط نحوك نائما على الورقة.
***

♦ أحبك

أحبك
وترقصين حولي مثلما ترقص الأضواء في ساحة الاحتفال
مثلما تقفز طفلة في البراري
ترقصين وترقصين
وأمد لك يديّ وقلبي
وأدعوك إلى الرقص مجددا
نرقص معا
رقصة الحب والنشوة والسكينة
***

♦ أحلّق مثل اعصار نحوك

أحلّق مثل اعصار نحوك
أكسو حياتك بالحبّ والنظرات الحنونة
أهبط مثل ليل مقمر حول عينيك
ألامسك من بعيد
وأعرف أن أنفاسك شهية
وأنك اللغة التي تثير حواس القصائد
وأنك الرمل والبحر والأيام
وأن حبّي هذا قليلٌ
ليقطع حقلا تتمددين فيه
مثل أسبوع من العنبر.
* شاعر من لبنان

************

◘ لفحات من نوبة الغياب


ثريا وقاص*

-1-
يرن الصمت كامتداد لغيابك فتستقر اللغة على صوت يشبهك ويستعصى علي وعلى دفاتر حزني حين أقول "حزني" فلا أقصد به ذلك الحزن المطلق، ولا الحزن العادي، ولا حتى الحزن الموجع، وإنما هو حزن ملازم للذات ومكمل للحظات الفرح، حزن يحملك للحياة ويبتدعها معك بطريقته الشفافة والشبه المحايدة.
أقرأ ما كتبته عن أمكنتنا، أقصد عنّا بين أمكنتنا فتبدو لي هذه الأمكنة غريبة
أظل أعدو بين الفواصل، أقطع السطور، وأقطع الكلمات، وأنبش عن رائحة ياسمين بيتنا التي طالما أحبتك فتشغلك قليلا عندما، عند سور الحديقة، كنت تنتظرني طويلا، أبحث عن تنفسي اللاهث وهو يقطع مسافة ما بين منزلنا ومنزلكم حاملة لأمّك كعكة من أمي، كعكة كنت تعشقها أنت ساخنة وأكون أنا قد صدعت بها رأس أمي كثيرا. أبحث عن نسائم البحر وهي تلاعب بشغف ملمس رجلينا في الماء، أعدو وأعدو، فأكتشف أن الكتابة عن أمكنة القلب عملية مبتورة وموجعة كغيابك أنت.
أنا الآن بلا قلبي، أو هذا ما يخيّل إلي حين تتبدى لي الأشياء في عريها الأول دون بلاغة، فأحاول تأملها دونك أنت، دون نظرتك أنت فقد نكشف لي منذ رحيلك أن أبلغ أساليب البلاغة كانت أن أرى العالم بعينيك أنت فيبدو لي جميلا.
قلت "بلا قلبي"، لأن قلبي اعتاد على جمال أساليب اللغة التي لم تكن إلا أنت.
أنا لست حزينة ولكنني أعيد لذاكرتي أمكنة صفائها فلا هي تصفو، أي الذاكرة، ولا الأمكنة تتضح إذ كيف يمكن رصف الوقت؟
أتذكر بشكل غائم قولة قد تكون لبروست عن أن الذاكرة لا تتموقع داخلنا، ولكنها في نسمة الوقت الماطرة. من هنا تصبح الذكرى هبوبا للزمن وروائحه، مطرا زاحفا على النفس يأخذ شكل قميص، لون فستان، عطرا عابرا أو نغمة أغنية هادئة.
أفشل في إعادة ترتيب الأشياء عندما أتعسف في محاولة استعادتها كما كانت، حين أحاول ضبطها بحالتي هنا والآن فأعمد إلى الصور وأتأملها بشراسة إلى حد فقدان كل تفكير حيالها، منتظرة منها أن تكشف لي كل شيء بنفسها أو أن أتقمص مرة أخرى جسدي الذي في الصورة فأحسّ من خلاله بكل ما قد استعصى عن الذاكرة، فأحسّ بمن كان يحيطني في الصور من أحبة العمر وكانوا لي يبتسمون.
أعرف أنني جرحت حتى صميم الروح، جرحت رغما عني وعنك فلا أنا ولا أنت نستطيع اختيار موتنا حين يأتي في عنفوان الحياة وتأججها الصارخ.
وأعرف أن الحياة مثل الأرض تحملك وتضعك في حيز دافئ ومستمر كزاوية قريبة، كفرح مؤجل، كصباح يتكرر، يعبر كل يوم ولا يرحل أبدا.
-2-
أتذكر جيدا كيف كنا نصرخ بأعلى صوتنا فوق قمة "البحري" جبلنا، نصرخ دون توقف بحبنا المطل على البحر والمترامي هناك في المدى تحت المرتفع ونظرتنا اللاهية.
نصرخ أنا وأنت فيجيبنا الصدى، أقول: "خالد" ويقول هو: "ليلى".
ثم نضحك ونضحك كطفلين مجنونين في المسافة الـ ما بين القلب والرابية.
"البحري" المجنون مثلنا، كان ينتشي بنسائم البحر المنعشة، يذوب في رائحة اليود والطحالب القريبة ويحلق مع النوارس الحائمة عليه وحولنا كقبلات بيضاء من ريش ناعمة، كقبلات جد نورانية.
"البحري" كان مجنونا بأصواتنا، كان يعشقها فيمسكها بكل حنان وغيرة، ويرددها كطفل يتعلم النطق لأول مرة بكثير من بطء وتثاقل ومتعة.
كنا من "البحري" الغيور نضحك، وكلما صرخت أنا "خالد" يجيبني هو"ليلى".
وكنت أنت غيورا مثله فتخفي غيرتك منه جيدا، تخفيها في ضفيرتي، وأنت تستنشق معها نسائم البحر الذي قبالتك.
كان "البحري" لعبتنا المفضلة، نناوشه ويناوشنا، نشاكسه ويغضب، نلاطفه فيثور ويكف عن حمايتنا من الأعين الفضولية.
كان بغيرته يكشفنا بشكل ساطع فنكتفي نحن بالصراخ وشدّ الضفيرتين المحكومتين بحب مؤجل فاضح.
"البحري" كان مكان الصمت الذي يكره الصمت، كان مكان التأمل الذي يكره التأمل.
وفي الطرف المقابل، كان البحر الذي تعب من الغوص في ذاته يرنو إلينا حالما بالارتفاع فيرسل بنوارسه لتجسّ المسافة ما بينه وما بيننا وتحمل هي إليه صدى أشواقنا.
وأنت كنت بينهما محايدا، فلا البحر كان يغريك بالغوص فيه، ولا الجبل بالتأمل عليه عندما تكون بي منشغلا. وأذكر كيف أنني كنت غوصك الأجمل، أذكر فقط كيف كنت أنا تأملك الذي لا تنتهي.
فوق "البحري"، كل شيء كان صوتا، كان صراخا ما بين صخب النوارس وأزيز الريح ما بين حفيف الشجر وهدير البحر القريب، وكان الصدى، صدانا، بهجة "البحري" غير المحتملة.
يدا في يد والنظرة تتلاشى في الأعين الصامتة، كان البحر يغرينا أحيانا بالهبوط لنحتمي مثل نوارسه المهاجرة بصخرة بعيدة، فتهمس لي هناك عشقك بشقتك القريبة، ولكن "البحري" الغيور اللعين يسرع فيهشّ صداه، يستعجل غروبه ويرسل بريحه الباردة فنعاود الصراخ، نعاود النداء ويجيبنا الغيور بحنينه الذي لا يتوقف، ويغلفنا بحزنه الشفيف فنبدو للبحر من بعيد، تمثالين أرجوانين، تمثالين صارخين هناك في المرتفع المشتهى العنيد.
"البحري" كان لعبتنا المفضلة وكان الحبّ فيه صراخا وصدى تحت العيون الساهرة في السفوح الهابطة، عيون الجدّة والجدّ وهما ينظران برفق من هناك إلى خيالين عاقلين على "البحري" هناك، يتأملانها بحبّ، ويدركان جيدا أن الخيالين يتأملان البحر لا "البحري" ويحلمان بالغوص فيه والتلاشي.
على "البحري" كان الصمت لا يجدي، كان البوح لا يجدي، فقط كان الصدى اللعبة المفضلة، وما تزال مفضلة فكلما تسلقت المرتفع هناك، وحدي دونك هناك، ناديت "خالد" فيجيبني هو "ليلى".
-3-
وأراك بعيني تبتسم بين كلمات جيل دولوز وروني جيرار اللذين كنت تعشق، أراك تتوقف بينهما لحظة لتمسح بنظرتك الحانية المتأسفة شرودي المفاجئ وتقول لي بهمسة صغيرة: أعتذر لعينيك الجميلتين كوني خضت في حضرتهما حديثا في الثقافة.
وأضحك أنا ملء عيني، وأنا أتأمل "الباهية" فيك، أتأمل الأغصان الخضراء وراءك وطفلا يشاغب أباه في الطاولة المجاورة.
يصعب أن أرتاد "الباهية"، مقهانا، في غيابك دون التفكير فيك، دون أن ألامس حنوك تجاهي فيها، دون أن استحضر قلبك المحتفي دائما بيدي الصغيرة وهي تمسك بفنجان القهوة وأتساءل بوجع كل مرة بخصوصك، هل كنت يوما حقيقة ما حقا؟
معك الحبّ لم يكن صعبا ولا شائكا ولا معذبا، فقد كانت ابتسامتي الصغيرة تكفي لتجعلك سعيدا وكان حضورنا معا يكفي ليجعلنا حالمين وعاشقين كإلهين من الزمن الرائع الغابر.
في "الباهية" الآن وحدي، أجلس على مقعدنا نفسه، أطلب الفنجان نفسه، من النادل نفسه، ولا أستغرب كل مرة كيف يخطئ نادلنا الطيب فيضع بحكم العادة، قهوتك السوداء مع قهوتي بالحليب ويضع معهما كوبين من الماء وقطعتين من بونبون وكيف كل مرة، أرى نفس الدموع الصامتة في عينيه وهو يرفع الكوب الثاني مع فنجانك ويمضي منحنيا بحزن، تاركا قطعتي البونبون ودموعا في قلبي فلم تكن لسوء حظي من الذين يمكن نسيان طلباتهم في "الباهية".
"الباهية" هي وجهك المتورد حماسا وأنت تتحدث في السياسة والمجتمع والفلسفة وأنت تسطر بيدك في الفراغ شكل الدفء في قلبك وعدد الأمتار المطلوبة ليمنح لحبنا جدارا داخله نافورة ماء صغيرة كتلك التي كانت أمام طاولتنا، كتلك التي تحولت لعيني بعد وفاتك.
حبّك لي في "الباهية" كان له صفة الحلم المستعصي، خاصية الضحك الصافي وحديثا مستغرقا في كل شيء إلا فينا، حبّا لا مكان فيه للذنوب ولا للرتابة ولا للقسوة فتلك أشياء لم أعرفها إلا بعد رحيلك عنا، إلا بعد أن تسرعت فأسرعت إلى نهايتك المفجعة وتركتني أنا للاغتصاب الأقسى.
أكان عليك أن تسوق بذلك الجنون لتموت بعيدا عن "الباهية"؟
الباهية" مثلي شاردة هذا الصباح، وهي تتأملني تحت سقيفتها الأرابيسكية، المزلجة داخل السور القديم لباب الأحد، أرى في شرودها نوعا من الغيظ منك، نوعا من الأسى عليك ومثلي أتصورها تتساءل بحزن أخير: أكانت على الأقل آخر ما خطر إلى بالك وأنت تغمض عينك عليها بألم وإلى الأبد؟
-4-
طوليا مدينة احتمالية، مدينة ما كنت سأراها كما ينبغي، ما كنت سأتسكع في شوارعها كما يجب ما دام السفر إليها كان سيكون فقط لغرض التسكع في عينيك أنت.
طوليا مدينة مشروع لن يتحقق، رحلة في كلمات اللغة تقررت ذات تهور جميل ما بين ضحكة قلب وأخرى.
طوليا كنت قد اقترحتها أنت لحبنا قبل أن ترحل وتخلف وراءك طعما أرجواني اللون على طرف الذاكرة.
حين أعود بتفاصيلي لتفاصيلك، تبدو المسافة أقصر من جرح ينزّ دون سبب، أقصر من كتفين مسنودتين إلى جدار متهاوِ عن كثب.
طوليا تتمرد على رغبتي، تقصيها بقسوة وتسافر في كلماتك المسدودة بنزق شديد.
عن طوليا يتوقف وصفي ليحتضن بنشوة هادئة، البحر وزرقته التي تشبه عينيك الحالمتين على الدوام، يحتضن عمقه الذي استقر إلى الأبد في يدك الحانية.
لا شيء يقلق كفضاء تعجز الكلمات عن تحيينه في الهنا/الآن، لا شيء يقتل غيضا كحلم تلاشى من الهناك/الآنذاك.
أحاول أن أفهم قليلا طوليا لأفهم رحيلك المفاجئ فأسقط في عجز اللغة وأكتشف بدهشة أن مخزونها لا يستقر إلا في حلم وفي قدرته على سبق رحلة محتملة.
مع طوليا أتذكر جورج بيريك وجزيرته "واو" الخيالية التي جاءت لنجدة ذاكرته العاجزة عن الإمساك بذكريات طفولته، تلك الطفولة المستحيلة، المبعثرة، الممزقة والمنظومة من طرف حكايات آخرين من غير أن تسجلها الذاكرة.
مثل بيريك أهرب الآن إلى طوليا المتخيلة، المدينة التي ما عرفتها بعد، التي ما عرفتني بعد إلا كمكان كان سيكون فضاء لقائنا المشتهى.
أهرب إليها لأحتمي فيها من ذاكرة ناقصة
أقول ناقصة لأنها لم تستطع بعد أن تمسك بقصتنا المبعثرة الممزقة والمنظومة خارج قلبي وخارج لغتي.
طوليا اسم يحرق شفتي كلما نطقته سرا بنبرة حلم مجهض: أكان يجب عليك أن تترك هذا الحريق على فمي وترحل؟
كان الإنسان الأول يضع تمائم في عنقه مرسوم عليها كل ما يخيفه من أشياء ومن عناصر الطبيعية لعله بذلك سيسيطر عليها، لعله سيتغلب لا على خوفه ذاك منها فقط ولكن أيضا عليها هي وأنا مثله أحس أن طوليا تميمة أضعها على مسامات جلدي لتحميني منك ومما يرعبني أكثر: صمتك الذي لا ينتهي.
في مساحة تحسّ ولا تدرك، أقول إن غيابك ليس سوى وهم، أقول إن اعتزالك العالم، عالمي الذي تعرف، ليس سوى استراحة تلتقط فيها أنفاسك التي تسكنها طوليا البعيدة، التي أسكنها أنا القريبة وهنا يتلاشى شرودي، هنا تعود ثقتي بنفسي إلي فأطل على طوليا التي تطالعني في دليل السياحة كمشروع ممكن، ككتابة قارة عن مكان ثابت وحقيقي، مكان سيحفظ قريبا نبرة ضحكتي وخطواتي التي تصفها أنت بالمدللة.
ولكن ضجيج صمتك يتعالى، غيابك يعربد في قلبي فأصمت بدوري مستسلمة لحقيقة أخرى أهزّ معها كتفي بلا مبالاة مستهترة.
مع صمتك، أنا لا أتألم ولا أشكو ولا أحزن، لأنني لست مسؤولة عنه ولا عن تراجع صوتك.
تلك أشياء خارج نطاق إرادتي، تلك أشياء خارج احتمالات قلبي.
أهزّ كتفي دون مبالاة قاسية لأنني أحب طوليا في حلمي وأحبك في ذات الحلم خارج ثنائية الغياب/الحضور، ثنائية الموت/ الحياة.
القلب كطوليا يمسك بالممكن وبالمستحيل بنفس الشراسة ووحده الذهن يحاول التمييز بينهما ولكن ذهني أنا، أمام صمتك، اعتزل نفسي وتوقف عن التفكير فيك بعيدا عن طوليا.
أعلم أنك هناك خارج اللغة الآن، خارج الحلم، خارج الزمن السائل، ولكنك ما تزال تمنحني إمكانية إعادة الحلم، إمكانية أن أحلم بما حلمنا به معا ذات يوم تحت سماء احتمالات غير محتملة.
* كاتبة وأستاذة جامعية من المغرب

************

◘ محاولةٌ لاعتناقِ السرابْ

عماد نجار*

عبثاً أحاولُ أن أهاجرَ
عن بساتينِ الصنوبرِ
فوقَ كفّيكِ.. ولكنْ
ليسَ يسعفُني القرارْ
عبثاً أحاولَ أن أضمَّ الذكرياتِ
وقد رحلتِ الآنَ عن جرحيْ
فمَن سيضمُّني في البردِ؟
مَن يلقي إليَّ بمعطفِ الأشواقِ تسكنني؟
أنا أوليسُ
مجدافيَّ قد كُسرا مراراً
ما يئستُ منَ الشواطئِ
علّمتْني الصمتَ في شغفِ الغروب
ووشوشتْني مَن أنا..
جرّبتُ بعدَكِ
أن أخبئَ لهفَتي في الريحِ
أن أقتصَّ من جسدي
لأصرخَ مرّةً أخرى
أحبّكِ
آخرُ الكلماتِ ترهقنيْ ‍
تُرى
ماتَ الكلامُ على شفاهي
أم تعمّدَ
بالأماني البائساتِ وبالفرارْ
أنا لا أحبّكِ
بل أحبّكِ
علّميني
كيفَ أهربُ
من حطامِ اليأسِ حولي
كيفَ أجمعُ ما تناثرَ
من رمادِ الروحِ حولكِ
علّميني
كيفَ أُرجعُ ما تمرّدَ فيَّ
مذ غنيتِ قربيْ
كيف أَجمعُ بعضَ حزنٍ ليلكيٍّ
مع جبالٍ منْ ألمْ
علّميني
كيفَ أكتبُ سيرتي الأولى
لأسقطَ ما قصصتُ على البيادرِ
حينَ أغرقَ شَعرُكِ الليمونُ وجهيْ
فانتمى للانتظارْ
عبثاً أحاولُ أن أبادلَكِ الوداعَ
رفيقتي في الهمِّ
والتسهيدِ
والدمعِ المعطّرِ بالجنونْ
هل تستطيعُ الغيمةُ البكرُ
التبسّمَ
والتكلّمَ
أم لها نزفُ المياهِ
مرّةً فكّرتُ بالإمطارِ فوقَ القحطِ
إنباءِ النوارسِ عن أجنّتها
وحبسِ الضوءِ في عينيَّ
لكنْ
ما استطعتُ سوى البكاءْ
***
هي آخرُ الآياتِ
أن لا حبَّ لي إلاكِ أنتِ
وأُشهدُ الأكوانَ
أن لا زيزفونَ يضوعُ قربي
من فضا عينينِ
إلا ما ذرفتِ من الدموعِ
على شفاهي
وأنّ عينيكِ.. إلهي
***
هي آخرُ الطلقاتِ
أُطلقُها
وأعلمُ أنني المقتولُ
إن غادرتِ عنّي
لن أقولَ كما يقولُ الأغبياءُ
ستخسرينَ ولن أبالي
فالليالي ليسَ تنكرُ عتمَها
وحدي سأخسرُ
إن خسرتُكِ
ألفَ عامٍ من ضَياعٍ قرمزيٍّ
ألفَ بحرٍ من عنبْ
وحدي سأبحثُ عن معذَّبَةٍ
ألمُّ جراحَها وتلمُّ جرحي
غيرَ أنّي
لن أُحِبَّ
ولن أُحَبْ
* شاعر من سوريا

************

◘ حديثُ حُفرةٍ

منى وفيق*

هناك من يقع في الحب
وهناك من يقع في الحزن
قدمي زَلِقةٌ
أنا
وقعتُ في الاثنين
منسحبة إلى الداخل
أتلكأ
كما يفعل مساء
ليلجم نفسه
عن السقوط
فوق الوقت
والسماء
وما توفّر من الصمت ..
فأن تَعُمّ
لا يعني أنّك فضتَ بما يكفي
المرارةُ تنكسرُ لتسيل
أملا في الخلاص
وفي أن يقال بأنّها تنجو بنفسها بسرعة ..

عندما حدث وأحببتُهُ
تمنيت لو أن الذئب يذبح ليلى
ولو لمرة واحدة !
ونسيتُ
أن الحبّ يذهب إلى النوم دون أن يقول شيئا .
خائفا عندما ينام، خائفا عندما يصحو،
خائفا عندما يجوع، خائفا عندما يفطر
يشنق القلوب كي يحيى
ويحيى

مهلا
يا كمشةَ الحب،
كيف ألومك على
لَوزة واحدة مُرة؟

قلبي مرآة لا تكترث لمِا تعكس من لاَ حُبٍّ
أنا فقط أحب.. أحب،، أحب
قلبي صادحُ بالأغنيات.. لا يفلسُ،
ويُعطِب أيَّ ميزان حرارة .

متورّطة في شرود الأسئلة
أتبدّدُ
لحاقا بذاك الحب الذي قبّلني بين عينيّ.
وذهب بذلك الاتجاه. نعم بذلك الاتجاه.
وتركني في حاجة بليغة إلى عناق بدائي
لا أقل، ولا أقل !

هناك من يقع في الحب
وهناك من يقع في الحزن
قدمي زَلِقةٌ
أنا
وقعتُ في الاثنين

الجروح
تلتئم
وإلى
ذلك
الحين
فأنا
على
شكل

هلال.
* شاعرة من المغرب

************

◘ أيّ روح تلك التي أحتاج؟


سعد الجوير *

أيها الرّفاقُ،
سأتحدث قليلاً عن السماء الضيقة
وكثيراً جداً عن شساعة القفص.

لأنّ أقدامنا التي نجرها خلفنا لنكمل الطريق
تأخرت فجأة أيّان أحبت اللهو بخطوتين إلى الوراء
ونسيت حينها إبهاماتها عالقة في غيابات التراب
أصبحت تنتظر أنسة القبر ككفن الغريب!

لأن أعضاءنا بدأت تغيب قبل غيابنا
ولم تعد تستجيب لإشارات المخ
كل شيء بات متناقضاً
مثلا، لو شعرت بالسعادة ستبكي!

الطريق ذاتها التي ما عادت أقدامنا تستجيب لاجتيازها
طريقٌ أراني معلقاً على ناصيتها
كمسيح لا يغير الواقع
بقدر ما يزيده كآبة وظلمة
لكي يقول الحقيقة،
الحقيقةُ التي في النهاية يصير معها الناس أكثر حباً لحيواتهم العابثة،
وأبعد ما يكونون عن النظر إلى جسد يتقاطر منه النفي الذاتي
ويفسح النور لذوات أخرى.

توقفوا لحظة
قررت البحث عني في غيابي الأخير
ولكن كم أحتاج لأن أكون أسود
لكي أبدأ البحث
وكم عليّ أن أجعل مزاجي
مرآة مكسورة

توقفوا لحظة
قررت أن أبقيني لستُ هنا
رحمة بالمرايا!

أي روح تلك التي أحتاج
لأكون بها آخرين بقدر ما أكونني؟

لكي أكون قادراً على إقناع العصافير
بأن القط الذي يتربص ولا يملك إلا أن يمؤ في الخارج
يصير قبيلة قادرة وفاتكة..

أي روح تلك التي أحتاج
لكي أكون قادراً أن أضع يدي على جرح الغابات
وأُعلمها أن الأشجار التي تشرئب إلى السماء
بدأت تتقزم
وأن النوايا تصير مثل ملح البحر حقيقية وفاعلة

لنعدها على أصابع يد واحدة يا رفاقي
واحد:
عليّ أن أقنع طفلة في الشارع
أن تكفّ فجأة عن اللعب
ولا يتوجب عليها العودة إلى البيت هذا المساء
لأنه بدأ ينبت من أضلاع أمها جناحان أسودان.
اثنان:
عليّ أن أمشي في هذا العالم وحدي
وعليّ أن أكون مؤمناً
بأنه لا داع لإخوة
أو حتى لظلال تتبعني
لكي أصير مفضوحاً تماماً في المجزرة

توقفوا لحظة
أين الوسطى والسبابة والإبهام
كانوا هنا
هل أضاعتهم كفي هذه المرة أم ضيعوها ليلحقوا مستعجلين إلى الفراغ؟

صديقي ذئب ووطني غرابٌ
بدأت أخرج من إطارات الصور الجماعية المعلقة على جدران غرفتي
لا يحزنني أن أكون وحيداً فيما أعدد خسارات شخصية
الشوارع التي تعبرني
تفتح عليّ مشاهد لموتى عزيزين
كلما سقط واحدٌ
نبت من إبهام قدمه اليمنى في الشغاف

عليّ أن أغني أجمل أغنياتي
فيما أموت
وأفتتح الفضاء الذي أثثته طيلة حلمي
لآخرين ما عادوا هنا..

عليّ أن أقنعني أنني لست هنا
وليس أحد هنا
لكن..
أي روح تلك التي أحتاج
أي روح مثقلة بالكوابيس!
* شاعر من الكويت

************

◘ لهفة

فيوليت أبو الجلد *

تعزفني الأصابع
التي فرفطتْ حبّاتِ العنب
ذات مساء
وتذوّقتْني
الأصابع التي انسكبَت في خوابي النبيذ
وخمّرتني
الأصابع التي تلمعُ من خلفها
زوارقُ النجاة... مراكبُ الحضور
والفيروز الذي يموجُ بي
الأصابع التي تتدفّقُ نحوي
تؤرجحني بين زَبَد وضباب
ولا جناحان لي لأصير سحاباً
ويعلو
ويعلو عزفُ المساء
حتى تبلغَ الأصابعُ
نشوة اللحن المُذاب
وحبة
حبة
تتساقطُ الآهات في كروم اللهفة.
* شاعرة من لبنان

************

◘ دعوة مفتوحة للبكاء

جلال الأحمدي *

أجلس الآن وحيداً حول طاولةٍ مستديرةٍ
أجلس الآن مستديراً حول نفسي
أجلس الآن كطاولةٍ ليس عليها أحد
أجلس الآن
ولا أعرف كيف
تفوح مني رائحة التبغ والخسائر
قلبي دولاب محشوّ بعلاّقات الملابس
وبعلاقات شبه تذكارية
رأسي علبة سردين صدئة
كلّما هزّته ريحٌ
سمعتُ داخلي مواء قطٍ تائهٍ
كلّما رشقني الأطفال بالحجارة
تدحرج مثل كرةٍ نحو برميل القمامة
كلّما سألتُ عن الوقت
انفتحتُ على العدم
وكلّما سألتُ
صرتُ خفيفاً مثل لا شيء
عن يميني ريح
وعن يساري ريح
تأخذني ريح
وتحطّ بي ريح
وكلّما ارتفعتُ عن سطح الفكرةِ
كلّما ازداد حنيني للسقوط على حقيقةٍ حادة
أنا حجرٌ يفكّر بالطيران
أجلس كآلهةٍ قديمةٍ على عتبة حزني
وأفكّر بكتابة قصيدةٍ جديدةٍ لامرأةٍ لا أعرفها
أفكّر برسم صورةٍ لامرأةٍ لا تجيء
أفكّر بالطريقة التي سأدعوها بها إلى كوب من الشّاي
أفكّر في الطّريق الطويل المؤدي إلى باب بيتي
أفكّر في الطّريق الطويل المؤدي إلى بيتي
أفكّر في الطّريق الطويل إلى بيتي
أفكّر في الطّريق إلى بيتي
أفكّر في بيتي
ثم أفكر بشراء مقبضٍ للباب
وبابٍ للجدار
وجدارٍ لنا
لكنّني الآن جائع
وأريد أن أنهي هذه القصيدة
ثم أريد أن أبكي لـ وحدي
وأنام.

* شاعر من اليمن

************

◘ أغنية للسياب

ليلى السيد *

يكنسون المطر
وأنا ألتحف به جغرافية حبّ
تغتسل المنازل كفراش ليلي
يمضي بغبارها إلى قلوب
... تهوى الغبار وتقطفه
بينما تصبح المنازل وصيفات عرس صباحي
شوارع وطني لا تكنس مطرها
تهبه لعذارى ينتظرن صباحات مبللة
بيني وبينه مناخ بحري
وقدم أزرق تلتحف بحبّ سمسمي
مطر يا سياب
وآلهة حبك تقرضه
قرضا لمن يهوى
مطر يرخي مسام حبك
في لا زمن
في كل الأمكنة

1
مطر في اتجاهات كونية
وانا أنثاه بين بين
مطر لا يغيب عن جسدي
بأناقة عالية
يغرقني في حديثه عنك

2
بماذا أشبهك
وأنت تزركشني
بأجنحة حبّ
تطهرني
من كراهية
تغزلها عقولهم غزلا يدويا
وتهجر بي عن مودتهم
قبيحة الأرض بدونك
لا طهر إلاك
حرر سمائي من كراهيتهم
وطرزني بين بين

3
مطر يخبأك
في خدعه البلهوانية
وألتقطك قطرة فقطرة
فتصلني صلاة ماء.
* شاعرة من البحرين

************

◘ من يوميَّات "آدم الدمشقي"

صهيب عنجريني *

لعلَّ الغريبَ إذا ماتَ
أفلحَ في لمِّ شملِ الأحبَّةِ حولَ العشاءِ الأخيرِ
لعلَّ الغريبَ
لعلِّيَ
إن سار نعشي
استرقتُ – على غفلةٍ من ملائكةِ القبضِ –
نظرةَ شوقٍ إليكم
فألفيتُكم سائرينَ معاَ في وداعيَ،
ثمَّ ابتسمتُ على حينِ موتٍ،
وقلتُ لتلكَ الجنازةِ: - هوناً،
على مهَلٍ فلتسيري
غريبٌ أنا
مثلما لم أكنْ ذاتَ عمرٍ أظنُّ،
غريبٌ
وآليَ أدنى إليَّ من القلبِ،
لكنَّ وقراً بآذانهم
وعمىً حالَ بينَ رؤاهم.. وفهمِ مصيري
.. هنا
إذ تغشتنيَ الآنَ صحوةُ ما بينَ موتين،
جُلتُ بأرجاءِ روحيَ
أفزعني أنَّ سربَ الفَراشِ استحالَ حديداً،
وعصفورةً راقصت نرجسي مُذ ربيعينِ
أمستْ قذيفة
هُنا.. لم أجدْ ما رأى شاعرٌ:
لا "سياجَ حريرٍ"..
وكانَ حَمامٌ..
فمنْ أبدل الحاءَ فتحتَها كسرةً؟
أبدلَ القلبَ بهجتَهُ حسرتينْ؟
وكيفَ يضمُّ أبٌ قرَّتيهِ،
ولا ظَلَّ صدرٌ..
وما من يدين؟؟
... ...
تموتُ إذاً؟
قلتُ: - فاقبضْ،
لعلِّي أراهم معاً قربَ لحدي
ولكنَّ صوتاً خفيفاً.. خفيفاً
كشحِّ بنوَّتِكمْ راحَ يهمسُ:
مهلاً
إذا مِتُّ.. أينَ ستحيونَ بعدي؟؟
***
♦ يتيمُ غيابك
ـ 1 ـ
ذهبتِ..
ـ 2ـ
.. ووحديَ في ليلةِ العيدِ،
رحتُ أمشطُ شعرَ العدَمْ:
غداً لا تضعْ في الجيوبِ سكاكرَ،
ثوبُكَ أبيضُ،
ليسَ عليكَ معانقةُ العشبِ،
ألقِ التَّحيَّةَ رمزاً
وخفَّ الخطا في ممرِ المشاةِ،
وكن مثلما ينبغي للصَّبيِّ اللطيفِ:
إذا مسَّهُ البرقُ.. قبَّلَهُ وابتسمْ
..غداً،
لا تراقصْ رفيقَتَكَ الغجريَّةَ تحتَ المطرْ
.. وعُد باكراً،
ليلُ تشرينَ يأتي على غفلةٍ،
فجأةً يوحشُ الدَّربُ..
فارفقْ بروعيْ،
وعُدْ مثلما سوفَ تذهبُ:
ثوبُكَ أبيضُ من غيرِ سوءٍ،
فإنْ مسَّكَ الموتُ ليسَ عليكَ جُناحٌ،
فقطْ كنْ كما ينبغي للقتيلِ النَّبيلِ،
ومُت باكراً كي نقيمَ عزاءَكَ قبلَ العشاءِ،
_ فثمَّةَ جيرانُ يزعجهمْ أن يطيلوا السَّهرْ _
ـ 3 ـ
ذهبتِ
ولمْ يبقَ ما يجعلُ الليلَ أخضرَ،
لمْ يبقَ لي ما يُخفِّفُ هولَ الحقيقةِ:
"في أولِ الأرضِ دَمْ،
وفي آخرِ الأرضِ دَمْ"..
ـ 4 ـ
وَ.... وحدي أُمشِّطُ شعرَ العَدَمْ.

* شاعر من سوريا

************

◘ صفحات

غادة نعيم *

كل الصفحات
سماءٌ تضمني كلما تسللت
كي ألقاك عليها
لوقتٍ قصير
ما أصعب أن أسرق السفر إليك
وأن استعيض عن جنوني بك
بانكسارات الموج على الشطآن
كل الكلمات التي سأكتبها، تبحث عن حالة شعرٍ معك
وأنا ابحث عن رغبتي في الصراخ بين الضحكات
أجهل حالتي المرتعشة هذه
وأقنع الصفحات
بأنني لست مزاجية
وبأن اهتمامي بها باقٍ
بدون احتجاجات
فالحبّ بيننا ليس معلقا بثورةٍ
أو صور... أو لافتات
وبأنني كلما تصورتك
مازالت ترقص الفراشات
ومازلت تلك المرأة المصنوعة
من البخور والنور وكل العطور
وفمي مازال صوتي
وحبري هو دمي
وجفني بقي مسرحاً
فيه تنام وتصحو
بماذا أفكر
لا أدري
فالقضية كلها
انني
أحبك
أحبك..
على الصفحات.
***
♦ أجنحة

قبلك كنت أتمتع بالنظر إلى رسومٍ مترهلة
وأحسب أنها امتدادٌ لمرافئ فرحي
الآن لا أذكر منها سوى الألوان
لأنني احترفت الفرح
فلا هناك شهوة تشهد لي بأن الأوهام طريقٌ للنجاة
ربما كان من الغباء أن احتسي كل ذاك الجنون
وأن أهرب إلى شرفات الطفولة وشبابيك الهوى والألحان
دون أن أتعلم العشق على أصوله
والقبلة كيف تكون
إني أكتب الآن وقد اختلط الصحو بالنوم
والثلج بالنار
واللقاء بالموعد.. والموت بالحياة
وقد أصبح الشتاء أكثر حناناً على الأزهار
والبحر أكثر نعومةً وأكثر هيجانا
وأصبح حبّك يطهرني من كل التعاريف والأسباب
فأبحث يا حبيبي الآن عن خبرٍ جديد يسقط المطر
وأشعل القمر بضوءٍ آخر يطيل السهر
فأنا باقيةٌ هنا
باقيةٌ أصافح الطيور
ولن ارحل.
* شاعرة من لبنان

************

◘ اللُعْبَةُ التي اشْتَراهَا أَبى..
بخَمْسةِ دنانيرَ عِرَاقِيَةٍ

محمود سليمان *

أَنا صَاحِبُ الدَرَّاجَةِ التي تَقوُدُها
الحَرْبُ
وتَمشِي عَلى المَاءِ
حِينَ سَرَجتُ عَجَلاتِها كَمَلاَّحٍ
أَعْمى
صَارَ ثَمْةَ مَنْ يَدقُ بأزمِيلٍ
كانَت اللعبة التي اشتراهَا أَبي
بخَمْسَةِ دنانيرَ عِرَاقيةٍ
قَدْ تَهَشَّمَتْ
فَبَكَى
لأنَّ المَطرَ لَمْ يَعُدْ صَالِحَاً لِلَّعِب..

أبي.. تَرَكَ جَواربَهُ النَتِنةَ
بجوارِ تِمْثَالِ المنْصُور
بَعْدَ لِقَاءٍ أخيرٍ مَعَ فَتَاةٍ مِنْ الغَجَرِ الأحْمرِ
قَالَ لَها:
عَلى العَالَمِ أنْ يَكونَ مُكتَئباً الآنَ
وَوَدَّعَها
وهو يَلومُ الشَوارعَ التي تَرَكَتْهُ
لِيقطُنَ بَعِيداً عَنْهَا
أبي...
كَانَ يُوَدِّعُ فتَاتَهُ بِقُبْلَة
وأنا أَفُكُ أزرارَ قُمصَانِها
كَمْنْ وَجَدَ نَفْسَهُ بالصُدفَةِ
في مُظَاهَرةٍ ما

صَارتْ الدِيمُوقراطيةُ
تُجرِّبُ حظَها فِي أجندتي اليومِيّةِ
وتُوَقِّعُ بأحْرفَ حَمْراءٍ
9 أبريل 2003
يومَها فقط
اخْرَجَ لسَانَهُ للدباباتِ
وهو يَنفُسُ العُشْبَ الأخيرَ
من نرجِيلةِ صديقهِ البابلي
فعلى الديموقراطيةِ أنْ تَتْرُكَ فتاتَهُ
وشأنها
تَارةً تَكُون دَرَّاجَةً
وتَارةً تَكُون مَمْشَى
لا يُمس جَورَبُها
كي لا تضيعَ بَابلُ وحمورابي
وأبناءُ كنعانَ المُشَرَّدُونَ
عَلى مَقاهٍ وئيدةٍ
مَقاهٍ بَاردةٍ
نَرَاجِيلَ مُطْفَأَةٍ
تَنَاسُلِ القَرَضّةِ والسَلاحِفِ الهَائجةِ
مُعسكَراتِ الكنعانيين الأوائل
غَابَةِ المَطَّاطِ
ألبومِ صُوَرٍ وَحِيدٍ في مِقبرةٍ جماعيةٍ
صُحفٍ قَادِرةٍ عَلى لَمِّ الشَمْلِ
في حِذاءِ كَاتِبٍ مَغْمُورٍ
خرافٍ مهضومةٍ
في عينيّ ذئبْ.
يا لحِدَّةِ الصَحارى التي تتمددُ
كَسقفٍ من الكونكريت
فيما يُداري المنصورُ عَورتَهُ
ويسألُ عَنْ عَسل جلجامش
ذَلِكَ الذي تَركَتْهُ
يَرتَكِبُ الفَاحِشَةَ في نهار بغدادَ الآثمِ..
هل تَخلَّى أبي عَنْ فَتَاتِهِ
مثلما تخلَّى الحَجرُ عَنْ آلتِه
وأكاذيبه اليوميةِ
في طابورِ الصباحِ المدرسي
وتَرَكَ الأزقةَ لحكمةِ الكونفوشيسيةِ
واحترامِ حَقِ الآخرِ
هل أتخلَّى
لأجلِ خيانةٍ على طَرفِ لساني
قرأتُها في صومعةِ شاعرٍ
من الناصريةِ
كَانَ يَرمي قُبلَتَهُ ورقةً
في طَرِيقِها
فيما هي جُثةٌ طَافِحَةٌ
عَلى السِكَك
وهل تضيع دَرَّاجَتي
لأنَّ الشوارعَ أضيق مما تخيلت
وانَّ كوميديا شارلن شابلن
تَتَربصُ بالعِيالِ أمامَ فُندقِ الرشيد
من يشتري راكاً
ويبع دراجةً
مَنْ يُقبِّل فَتَاةً مِنَ الغَجَرِ
مَنْ يَسد ثُقباً في خَلايا جَبينهِ
ومَنْ يَدُقُ بِإزميل عَلى كُلِ ذَلِكَ.

تُرى
عَلى هَذِهِ الأرض
تَجلسُ الديموقراطيةُ بِلا إزارٍ
فيما اختزلَ العالمُ آلاتِهِ
وقضبانَهُ الهرمةَ وتوازناتِهِ
وتركَ بغدادَ
للصحارى
وبائعي التبغ وشرطةَ الآداب
ونسى دُونَ قَصْدٍ مَا يَشُد إزارِهِ أيضاً
ها هي الديمُوقْرَاطيةُ
تَنَامُ بِلا إزارٍ
وأبي مَلاحٌ أعْمى.

* شاعر من مصر

************

◘ ليس كمثله أحد ...

نجوى شمعون *

ضبابٌ على صرّتها يصنع قهوته ويرحل
هو الحبّ
احدى صفات الآلهة
لا يشبهك هناك / وليس كمثله أحد
هو الحبّ يغرقنا
يرجعنا لسيرته الأولى في زحام الدنيا عليّ
ضباب على صرتها هو الحبّ
ملتبس "وشائك/ وحر" في الغواية
حزنك طريد مثلي / ككل بلاد العرب
سوف أبكي... أشهق / مثل مطر / وحدتي فيك
رؤيايّ لي أم عليّ
شكت نرجسة في انفصام ظلها / حزنك المنفى
صوتي فزع الماء من تكسر الجليد
لا تسقني اللحن وترحل يا عود
ليس أكثر من اشتهاء للحياة وسط كومة الموت المنفلت
أنا أحيا فيما الهواء يختنق
من صورك لتندلق في الأشجار في خضرة الجسد
ليس أكثر.. من شهقة انهالت عليّ
عطرك يا ليل على الجدران يكتب دمه
هذا الهواء المتكدس كغيمة لا ينير القلب
هذا الهواء المنفعل / أجسّ الضوء في ماء شغفك
ينتقم من صورته في المرآة
هذا الهواء ليس لي / هذا الكون ليس لي
أنا امرأة حرة / هاجسي لي وإن غاب مني ظل لأتبعه
تقول حبّة كستناء لصوت تكسر قشرتها
كان ينقصني فحيح قلبك / كتمت ضحكتها في المرآة / وانتشت
آنية من فضة وعسل
بعض الحنين مخيف وهادئ
لنتعارك على دمنا... أو نتصالح
قال الذئب لصورته في الماء
أراود نفسي لأعلمها الصبر في الحرب وفي الوحدة التي تكبر لتأكلني
وحيدة في مرايايّ أمشط الوقت ليذهب عني
أسقط في فخك / وأصحو على وقع دمعي /
عدت من جسدي حرة كلما هددتني بذاكرة الصور
ولم يكن من هواء بيننا - كان رشق كلمات
كدت أن أُقتل في الحرب - حربنا الطويلة
وردة للحرب الباردة سأقتلك وأعلن مولدي
هكذا أغفو في عسلي / عسلي لي وحدي
لا شأن للوردة غير العطر لتشتهيك / من وصايا وردة للعطر
بعضي على بعضي يتكوم من حبات الرمل لأجهش بالبكاء الحار
سلس ويغرق في الأنوثة يعيد الفارين لبلادهم
أنا مثلك أشتهيني
يكاد يلتبس اسمي على اسمك يضللني:
الذكر الذي أمسك بنهدها - كما يمسك كأس الشراب
شرب حتى الثمالة وعاد طفلها الذي ضاع ولم يتعرف عليه أحد
نبذته والنساء / قال العطر يدوخ ولا يمل من الضياع
عاد بلا هوية – فقط يحمل عطرها ويدوخ.

* شاعرة من فلسطين

************

◘ خلعوا الليل من الشجرة

نصر جميل شعث *

♦ عن الجثث

1
لو يسمحِ الله للميتِ بالبكاء على نفسهِ؛
لتحوّلَ جُثمانُهُ قاربا!

2
البكاءُ على الميّت لا يُحرّكُ ساكنـًا.

3
أنجع الحُلولِ لإخْصابِ الصحراء
دفنُ الموتى فيها.

4
الميتُ يُباشرُ بكاءَه تحت الأرضِ،
هذا ما يُفسّرُ نماءَ الأعشابِ في المقابر.

5
قال مُزارعٌ:
أخصبُ الترابِ
ما آلت إليه الجثثْ.

6
لأنّ للترابِ احتمالاتِ الطهارة والنجاسة؛
يَلْقَفُ كلَّ الجثث.

7
لأنّ البحرَ طاهرٌ بذاتِه،
يلفظُ موتاه.

8
مِن حكمةِ البحر:
أنّ لجثثِ الغرقى دليلاً واضحًا.

9
النهرُ أقلّ حكمة منَ البحر،
في التعامل مع موتاهُ .

10
كانَ غرابُ اللهِ صاحبَ حكمةٍ،
بهذا الشأن.

11
كانَ يَمشي،
بمحْضِ الصُّدفةِ صارَ جـُثّةً؛
الصُّدفةُ خَرْقٌ فاضحٌ
لِطوْقِ النجاة!

12
المستنقعاتُ جاهلِةٌ جدّا،
وأخطرُ الصمتِ
صَمتُ المستنقعات.

13
لولا انفعالُ البحرِ ومِلْحُهُ...
لضاعتِ الحكمةُ .

14
لكنّ البحرَ عدوٌّ غامضٌ،
بالذات، وهُو هادئ،
وانْفعالُهُ يَكشِفُ عنهُ.

15
البحرُ عَدوٌّ قَوِيٌّ وخَلُوقٌ وجميلٌ
يَحرِصُ على تسليمِ الجثثْ.

16
البحرُ واللسانُ:
يتماثلان في وظيفةِ اللفظِ،
يختلفان في النيّةِ واللغة.

17
ثمّةَ فرقٌ أيضًا:
البحرُ يَلفظُ عن حكمةٍ؛
اللسانُ ليس، دائمًا، صاحبَ حكمةٍ.

18
العينُ بحر ...
يتطّهر من تلقاءِ حِكْمتِه.

19
القلوبُ في الأرض،
داخل رُمّانةٍ؛
جَرّافةٌ عَلى الترابِ،
وأرئيل شارون في الطائرة!

20
لهُ التجلّي في الفراغ،
لي الهبوطُ إلى فراغ القبو،
للبياضِ مَحْبَرَةُ النِيّة.

21
يَرتدِي قميصًا ناصعًا
بيد أنَّ أمَّهُ تَخافُ عليهِ
مِن بُقَعِ التفاحة!

* شاعر من فلسطين

************

◘ حزنُكِ المثاليُّ

يونس عطاري *

حزنُ السيداتِ اللواتي اجتمعن عند قبرِ وليٍّ صالح
واتكئن على أغصان ليمونةٍ
حيث اختبأتْ تحت جلابيبهن السود العصافيرُ البرية
هرباً من الصياد
هذا الحزن يزهر كل لحظة سوسنة
فأميل ما استطاع قلبي من فرحٍ
أن أتوجَ رأسكِ بالقُبلِ فيموج الحزن للأعلى
كي ينتشلَ الغريقَ ويوقظَ النائم ويُحيي الميت.

حزنكِ بوابةٌ دمشقيةٌ في العصر العباسيّ
ينبش جراح البنين والبنات
ويزور قبر "خالد بن الوليد"¹ في المسجد الأموي
لحزنك آذان أهل البيت وبكاء الكربلائيين.

في المسجد الأموي علقتُ صوتكِ أيقونة مريميّة
وأصبحت أعيد على قلبي كلام العارفِ الواقف
والورّاقين القابعين خلف "بن عربي"
فصار كلامُكِ الحزينُ مرثيةً إلهيةً تشغل الناسَ النُّسكّ بمواجعِ الخليقةِ
وأكونُ كأيِّ معاصرٍ لا أتوّجُ بالفرحِ إلا قليلا.

غريبٌ عن المطرِ ودارُكَ منهلٌ يسحُّ منه ماءُ الورق
وأقوالُكَ تسقط في الريح
يسدُّ نسجُكَ باللغةِ كوةً كمن يرتّقُ ثوب "الخطاب"
دوّنتُ كالورّاق جسرا من الحرف أو التنك
صيدُكَ حرفٌ قرب قلبك المنجلي يقطفُ الوردةَ الدمشقية
دون أن يرتفع ذلك المهماز في خاصرة الفرس

عُدْ معي للمطر
واشتعلْ في أسفل شجرة واقفة
ان المطر يهرُّ إليكَ أيها النائم في ظل قمر كونيٍّ و قرويٍّ
منفصل
عند ارتطام سماء الأرض بصخرةٍ ساجدةٍ على عتبة بيتكَ الضائع
كيف سار الهواءُ قربكَ وجرح النافذةَ الملتقى
وهربتَ في الشوارع تمزق قميصكَ بيديك
وتشعل غصنك كسيجارة مرت بها النار فبكت
عليك وعلى كأس الشاي اللذيذ

قمْ وانهرْ بحروفك عنقَ الأفق
كي لا يستقر في حجرها حزنُ السيداتِ الشهيراتِ
وكي لا يهزّ ذئبٌ جائرٌ بيوتَ الصحراوياتِ
ويجيّر تفاصيل دربٍ هالكةٍ من رمادٍ لا يقوى على نارٍ أخرى
فتنوحُ بناتُ آوى على سفحٍ يغشاه الليلُ والوجدُ
وتفاصيل غالية تحيلُ حزنكِ لقيامةٍ وشجرٍ مائلٍ
فتنحتُ ريح صرصر قلبيَ وحوافر الأحصنةِ
فالفارسُ يحاربُ في "البسوس" ويؤوب الليلةَ أكثر حزنا وأشدْ
يسري حزنكِ كالسلكِ النحاسيِّ
يعلّقُ وجهكِ قمراً وردياً في القرى
وأكوّن الفراغَ
كي تكتبَ الروائيةُ فيكِ ملهاةَ الحبِّ في المدن التي أصاخت إلى صوت الكمنجات
ونداء كالعويل وكالوداد.

حزنك بوصلة الهارب وصلاة الله على الأنبياء
فعندما تحزنين ينام الكون كالرضيع على صوت ينهمرُ من ساعةِ الحائط.

حزنك إبرة
وشرشفٌ ابيض
حزنك كلّ لغات العالم
لغة الريح حزنك
ولغة سينمائية
حزنك يغيرني
حزنك مهمازٌ وقلبي فرس الشمال
حزنك خمرة
وكأس
حزنك يجاهر بالحدث الجليل
حزنك شلل المقاتل
حزنك سُمٌّ جديد لكيلوبترا
حزنك لا يطاق.

* شاعر من فلسطين
************

◘ كافييّن ...
مما يقال في مقهى الحياة

حنين عمر*

جميعُ المقاهِي ستَغلقُ أبوابها كي نموتَ بلا ثرثرات
بلا سُكّرٍ زائدٍ في النّزيفِ
بلا الـ "كافيين" التي لا تحبُّ الفناجينَ والعابرينَ هُنا.
يُقالُ الشّوارعُ تبقى / ونَرحلُ نحنُ وصوتُ الخُطى العابِراتِ بها / يُقالُ الشّوارعُ لا بُدَّ أنْ تحتفِي بالمقاهِي/ لأنَّ المقاهي احتفاءُ الفناجينِ بالطُّرقاتِ التي تحتفي بالحفاةِ الذّين لهم رغم ذلكَ أحذيةٌ فاخرٌ جِلدُها / ولكنَّها...
فقدَتْ قُدرَةَ السّيرِ نحوَ الأَمامِ/ وأقدامُهُم نَسيَتْ طعمَ أَنْ يرجِعُوا للوراءِ / لأحضانِ حلمٍ قديم لهُ نكهةُ الحبّ والصّدقِ والأغنِياتِ.

سَنشربُ شايًا محلّى بدمعٍ
سنبكي طويلاً على نِصف كأسِ الفراغِ المخادعِ
نبكي طويلاً دُخانَ الأَراجِيل والطّاولاتِ التي هاجَرتْ بالكَراسي إلى ما يغيبُ من الذّكرياتِ التي لم تعدْ ترتدِي ثوبَها.
ونبكي فناجينَنَا حينما أفلتَتْ من يدينَا فماتتْ / ونبكي على وطنٍ من زجاجٍ تَكسّرَ فينا.../ ونَسْألُ: من أين نمسِكُ بالصّبرِ؟ / والصّبرُ ليس له عُروةٌ مُطلقا../
سنبكي طويلاً/ ومِنْ ثمَّ نَلعنُ هذي الحَياةَ ونَنسَى !

يُقال: الحياةُ بلا الحُبّ تُشبهُ أنْ نَتَجَرّعَ فنجانَ قهوتنا باردًا مُقرفًا/
وهذي المطارت كالـ نيسكفيهْ: سريعا تُحَضِّرُنا للمنافي/ وأدمُعُنا الماطراتُ كهيلٍ بِنوعِيةٍ فاخرٍ أَصلُها / وأقدارُنَا الظامئات سَرابٌ مقيتٌ لهُ شكلُ قارورةِ الماءِ... تلكَ التي فرِغَتْ منذُ عامٍ وظلّتْ تُراوِدُ بعضَ العطاشَى بوهمٍ غبيٍ / وأحلامُنا كالملاعقِ... كُلّ المرادِ بها:
أنْ نُحرِّكَ فنجانَ هذا الوجودِ الذي لا يحبُّ المقاهي.

يُقالُ المقاهي...
إذَا ما أضعنَا البلادَ التي نشتهيها تصيرُ انتماءً لنا.
يُقالُ الكراسي إذا ما تَعبنا منَ المشي نحو المنافي التي لا مكان لها في هَوانا تَصيرُ ارتياحا يؤثث أحلامنا في الجلوسِ الطويلِ.
يُقالُ الفناجينُ... لا شيءَ إلا الفناجين ملأى بياضًا وبُـنَّاً وحَظًا...
سَتشربُ هذا الزمانَ الرّماديَّ فينَا وتمنحنا شبهَ شيء يسمّى "الأمان" الذي ضاعَ من طعمِ أعيُنِنَا الخائفاتِ.
يُقالُ: العيونُ...
مرايا النفوسِ التي أسبلتْ سرّ عتمتها في سُكوتِ الشّفاهْ
يقالُ البكاءُ: ارتياحٌ شجيٌّ نمارسُ تأثيمهُ في الخفاء / وعندَ انحدار الدّموعِ ابتداء انكشافِ الحقيقةِ / كلّ الحقيقةِ.../ رغم ارتباطِ الحنين بوهم ٍ كبير يُسمّى هواهُ.

يُقال الهوى حجرٌ عثّرته المكاتيبُ فينا/ وشجّ القلوبَ التي قد أضعنَا مفاتيحها على دربِ من أخفقوا في الحياةِ /
يقالُ [الحياةُ: ممارسةٌ للتفاهةِ في وضح الموتِ / والموتُ: حزنٌ يُؤجلنا من قَبيل التّسَالي.
يُقالُ كثيرًا.../ ونحنُ نُصدِّقُ! ليس لأنَّا نرى ما يُقالُ لنا من صميمِ حقيقتنا إنمّا:
[لأنّا: تعوّد فينا التوهمُ ألا يُكذّبَ أتباعهُ المخلصينَ له في اختراعِ القصيدةِ والفلسفات] !

* شاعرة من العراق
************

◘ سيرة كائن

باسكال عساف*

لم يكن يدري كم من الوقت كان يجري في أرجاء حياته، باحثاً عن راحة، عن سكينة مفقودة، لكنه في تلك الليلة، حمل ورقة، توجّه إلى طاولته للمرة الأولى، وطفق يكتب، عن كل ما لم يفهم، عن حبه لتلك المرأة الجميلة، عن شوقه لوالده، عن حيرته بين الخير والشر، وأي منهما يخاف أكثر...
خطّت أصابعه المرتجفة حقائق عارية من الكذب، ولكنها بشعة، كدفق من الشعر المحكوم بالنسيان.
ترهّلت أنامله، كتب حتى سالت منها الدماء، ثم فجأة، تلاشت يده، ذراعه، الذراع الأخرى، الساقين، بدأت أطرافه بالامحاء، قلبه تالياً، صدره، ما تبقى من أسفله، ودّع الرأس الكتفين، بقيت الجمجمة تحدّق بما كان في الماضي بياضاً ساذجاً، لتتشقق إلى فتات، ثم غبار تطاير من الشباك الوحيد في الغرفة.
العقل كان آخر البقايا من ذلك الرجل، لكنه لم يختف كسائر الأطراف، تحوّل تدريجياً إلى عقرب، عقرب مذعور يهرول بين الزوايا الأربع، يفتش عن شيء، عن فسحة ضيقة ليموت عليها، كأي توقيع آخر.

* شاعر من لبنان
************

◘ صباحات النسكافيه

سامح كعوش*

♦ صباح أول
صباحُ اسمِك
أبدأ به العامَ الجديدَ
أمرّرُ رأسَ السنةِ هذه المرّة
بدون ويسكي ولا قهوةٍ مُرّةٍ بعدَها

♦ صباح ثانٍ
أستفتح بك
صباحاتِ النسكافيه بالحليب
أزيل الرغوةَ البيضاءَ
لأكشفَ عن نهدٍ تخبئينه لطفلٍ
عن شفتين تسلّمينَهما لشفةِ الفنجانِ الغبي

♦ صباحٌ ثالث
هذا الصباح
أرسم في فنجانِ النسكافيه شمساً تضحكُ
قلباً بحرفِ اسمكِ
ليعلوَ وجهُكِ قمراً من حليبٍ على الطاولة

♦ صباحٌ رابع
صباحٌ لجريدة الصباح
ألوِّنُهُ بكِ
لتختفي عناوينُ السياسةِ
مانشيتاتُ القتلِ والحروبِ
يفرحُ الورقُ بحكاياتِ الأميرةِ النائمةِ
وفارسِ الحصانِ الأبيضِ

♦ صباحٌ خامس
يكفيني هذا الصباحَ
أن أنثركِ في فنجانِ النسكافيه
وأراقبَ كيف تذوبينَ
بي

♦ صباحٌ سادس
صباحَ الصحوِ
يكفيني أن أنثركِ في الحقولِ
لتؤجلَ اللقالقُ هجرتها
ويحمرَّ الوردُ مقلداً شفتيك
مستعيراً ما عطّرْتُكِ به قبلاً

♦ صباحٌ سابع
يا وردُ
أنا ديكُ جنِّيكِ الحمصي
أنكرني وأعلنُكِ
أُسقطني وأعليكِ
أقتلني وأحييكِ
حارسُكِ وأخيفُني
أسمّيك بما لم تقلُهُ اللغات

♦ صباحٌ ثامن
باسمك تبدأ الجملُ الإسميةُ كلُّها
كأنتِ حبيبتي
كأنا أحبكِ
كنحن كلَّ عامٍ عاشقان

♦ صباحٌ تاسع
لكلِّ ما أسميتكِ باسمهِ
ترتدي الحروفُ قمصان نومها
تكحّلُ عينيها بليل شعركِ
ابتسامةُ الثغرِ لمرورِ أناملي
تبتسمُ الزنابقُ بفضةِ الصدر
وتغنج السماءُ لدفءِ الأزرقِ
يحفر النورسُ في الصخرِ
سيرتَكِ المائيةَ

صباحٌ عاشر
تزورينني كهدية بابا نويل
كدمية وحيدة لفقير
دميةٍ يتعلم منها الابتسامَ والضحكَ
تترددين كأغنية السيرانا للبحارةِ

صباحٌ حادي عشر
يا ليلكةَ الماءِ
أنا أميرُكِ المسحورُ
استجدي القبلةَ المؤجّلةَ منذُ ما قبلَ ميلادك
لمستك لأستعيدَني
أنا القابعُ في القعرِ
ماردُ القمقمِ
أسيرُ الأساطيرِ
لي قبلةٌ منك تحرّرُني
لي لمسةٌ تحيِّرُكِ
وأكتبها كشهادةِ السبّابةِ

صباحٌ ثاني عشر
يشبهُكِ هذا الصباحُ
ضبابيٌّ ودافئٌ
قطنيٌّ ومزغِبٌ
ورديٌّ ومزهوٌّ بما لديه من وعود
كأنه العام القادم كله
كأنك كلُّ النساء

صباحٌ ثالث عشر
تتأخر عربةُ الظباءِ المثقلةُ بالهدايا
يشيخُ العمرُ
يبيضُّ شعرُ اللِّحى أولاً
يكبرُ الأطفالُ
تظمأ الابتساماتُ عند ثغرٍ يحرسه شاربانِ
تكبر الهمومُ
وحدك تصغرينَ
تصيرينَ النهر كما أولُ النبعِ

صباحٌ رابع عشر
هذا الصباحُ طفلٌ
يحبو كأول العمرِ
يتهجأ الأسماءَ
يكبر على يديك ويرضعُهُما
يدّعي النومَ ويكذبُ
ليس أجملَ منكِ
ليس أدفأَ من ذراعين
وصدرٍ كلّلهُ الزّنجُ بالليل

صباحٌ خامس عشر
صباحٌ في انتظاركِ
يعدُّ الخطوَ متناغماً ودقاتِ القلبِ
يمارس اليوغا ليستطيعَكِ أكثرَ رفقاً وليونةً
صباحٌ يرتشف النسكافيه
يحلّيها بسكّرِ الريجيم
حتى في العشقِ
نتّبعُ الأساليبَ الصحيةَ للتغذية

صباحٌ سادس عشر
صباحٌ مائيٌّ
أصلّي فيهِ للمطرِ وقدومِكِ
أغتسلُ قبلَ اللقاءِ
أغتسلُ بعدهُ
وبينهما، أغتسلُ بكِ

صباحٌ سابع عشر
السماءُ أعارتكِ ثوبَ نومِك الشّفافَ
الأزرقَ لأعبرَهُ
يدي قصيرةٌ
وصبري طويل

♦ صباحٌ ثامن عشر
صباحٌ يشبه الصباحاتِ الأخرى
نسكافيه بالحليب وفمكِ كذلك
أرتشفكِ بما يليقُ بكِ
أمصُّكِ
كأنَّ قصبَ سكّرٍ في فمي
أو شفتينِ من حليبٍ
برزتا فجأةً أمام طفلٍ جائع

♦ صباحٌ تاسع عشر
صباحُكِ هذا الصباحُ
لونُ الزّهرِ لتلكَ في الشعرِ فوقَ الأذنِ
لونُ بياضِكِ في الحليب
الذهبُ لشمسكِ حينَ تجيئينَ في الظلِّ
تستلقينَ في العتمةِ
صباحُكِ زهرةٌ تلتصقُ بفنجانٍ
لتدفأَ بشفتين

♦ صباحٌ عشرون
للصباحِ صياحٌ
ولكنّ ديكاً سرقهُ ذاتَ صباح

♦ صباحٌ واحدٌ وعشرون
للصباحِ امتدادٌ حتى المساء
يخاتلهُ أحياناً فيسمّيهِ يومَه
أحياناً نومَهُ
لكنّه عند كلّ صباحٍ يستيقظُ كعادتهِ

♦ صباحٌ ثانٍ وعشرون
للصباحِ حكاياتُ شهرزاد
ولهُ سطوةُ شهريار
كما أول الحكايةِ
كما أولُ سكين

♦ صباحٌ ثالث وعشرون
صباحٌ لأمي التي تعدُّ ورقاتِ الزّهرِ في الغيابِ
يعودُ ولا يعودُ
كأنها استعارت وجه ساعة الحائط
بعينينِ مغمضتينِ على صباحِ المرةِ الأولى
بيدينِ مرتجفتينِ
تخيطانِ للغائبِ حجّتَهُ

♦ صباحٌ رابعٌ وعشرون
صباحٌ يغمضُ عينيه عن شاشة التلفاز
المراقبُ لا يراقبُ
الجدارُ لا يُخفي القتيلَ عن قاتلهِ
بينهما مسافةُ حلمٍ بغدٍ
يفصّلهُ كلٌّ منهما على قياسه

♦ صباحٌ خامسٌ وعشرون
للماءِ ذاكرةٌ
لا تعبّئها الخراطيمُ
ولكن تلوّنها دماءُ ضحايا الشعارات

♦ صباحٌ سادسٌ وعشرون
صباحٌ يقرأ في كفّهِ حتفَهُ ويبتسم
يرى وجهاً بلا ملامحَ ويسمّيهِ
رقبةً بلا رأسٍ ويضع لها عقداً
رِجلاً مبتورةً ويعلّقها بخلخال
ما أطول بالَ هذا الصباح

♦ صباحٌ سابعٌ وعشرون
صباحٌ للعاشقينَ
والحالمينَ
والمؤجّلينَ الحلْمَ لصباحاتٍ أخرى

♦ صباحٌ ثامنٌ وعشرون
صباحٌ يقرأ في كتاب السماء
يحفر في ضلعه ليفسح للشمسِ إشراقتها
يستعجلُ الوقتَ ليحرّض الغيمة
كي تنجبَ
عصفوري حبٍّ ووسادةَ ريش

♦ صباحٌ تاسعٌ وعشرون
الصباحُ طفلٌ يرضعُ الهواء
تتمطّى المسافةُ بينهما ليعذبَ النومُ
الواقفانِ في العتمةِ يتهامسانِ
تُطلُّ الخرافةُ برأسها
تتراجعُ اللغةُ
يحلمُ الجدارُ بحديقةٍ
بسماء

♦ صباحٌ ثلاثون
هذا الصباحَ
لا تلحّي على الحالمِ
طفلُكِ طريقهُ السرُّ يتعلّمُهُ
المسافاتُ يطويها بحزن
عيناهُ التضاريسُ الواقفةُ بينكما
يدهُ الريحُ ليصلَ
قبلتُهُ فمُكِ المرسومُ
ذراعُكِ موشومٌ باسمه فلا يغيب

♦ الصباحُ ما قبل الأخير
هذا الصباح
أستيقظُ عن وعيٍ مطلقٍ بالأشياء
قهوةُ صديقي عربيةٌ وحبيبتهُ إسبانية
للجبنِ الفرنسيِّ قلبٌ تملؤه الثقوبُ
النبيذُ لذيذٌ لأنه معتّقٌ
وأنا كذلك

♦ صباحٌ أخير
هذا الصباحُ أجمل
ليس مساءً يرتدي زيَّ المرضى
الشمسُ ليست قمراً بعمليةِ تجميل
السماءُ ليست بالصفاءِ المأمولِ لنخرج معاً
تعالي نشعل جمراً
ونشوي الكستناءَ
تعالي نحتسي كؤوسَ البداياتِ

♦ الصباحُ ما بعدَ الأخير
الحياةُ لم تكن بهذا السوء يوماً
لكننا نحيا.

* شاعر من فلسطين
************

◘ كان يمكن.. لولا...

مهدي منصور*

بيتٌ...
وأولادُ يحبّونُ البيانو.. والسكاكرَ
يكرهون معلمات الخط
مثلك منذ أغنيتينِ

طفلٌ لا ينامُ ولا يخلّينا ننامُ معارضٌ في كلٍّ شيءٍ
غيرِ حلمة ثديك اليمنى
تماماً مثل طبعي في النساءِ
قصائدٌ لم تكتملْ باسم الأبوّةِ
)سيريلاك(
ثورة جديتنِ على فكاهتنا بتدريب الصغار على السبابِ
على دخانٍ أجنبيٍّ في فضاء البيتِ
غيرةُ جدة من جدةٍ في السرِّ
أفكارٌ لجدٍ موغلٍ في السردِ معترضٍ على نمطٍ الحياة
على اللباسِ..على انسدال الشعر.. فوق عيون حامل اسمهِ العربيِّ
زوّارٌ مسائيون ينتعلون أحذية النميمة
زوّار يريقون النبيذ بلا هوادةَ فوق طاولة الزجاجِ المستطيلةِ
أصحابٌ يساريون لا تتحملينَ جنونهم في أكثر الأيام أشغالاً
كتابٌ لم يقل لي ما لديه بعدُ
(سيديهات) لم تكملْ بقلبي بعدُ دورتها
مجاملةٌ لجارٍ مصرفيٍّ
بخشيشٌ لناطورٍ عجوزٍ
هاتفٌ قلقٌ علينا أو على الأولاد من عمي المقيم بـ"أوتوا"
يقضي علي حبي إليكِ بمهدِ ليلٍ عاطفيٍ
كل هذا يا غريبةُ
كلُّ هذا ...
يا التي لا أعرف اسماً أو مسمّى ما لفتنتها
الحكاية لا تهادنُ مثل نثرٍ عبقريٍ
كل هذا كان يمكن أن يكون الآن
لولا أشفقتْ صدفُ المسافة بيننا يوماً عليْ
يوم كنت بشارع الحمراء أعبد وحدتي
والشعرَ
واتسع المدى بيديْ
وعبرتِ في الطرف المقابل للرصيف المخمليّ
الآن.. كان يمكن أن أكونَ أقلَ شعراُ
أن أكون أقل شوقاً..في جنون العمر
لولا كنتِ من جهتي بذاك اليومِ
أو كان الزحام أقل ناساً بيننا
أو كنتِ..
- يا للحظ - تبتاعينَ فستاناً من الصف المحاذي للقصيدة في الجنونِ الموسميْ

* شاعر من لبنان
************

◘ الموسيقى بيننا
علي السقا*

الموسيقى روح هائمة. أعلم أنك توافقينني الرأي، وأنك مقتنعة هذه اللحظة، مثلي تماماً، بأني لست أجدّف. أن أجسادنا مساكن غالباً ما تعجز عن الاتساع للموسيقى. وكيف أن هذه الروح التي تنفذ من ثقبين صغيرين في الرأس حتى تلج الجسد، لا يلبث جسدانا يتحركان معها. يتراقصان وهي تهمّ بالانعتاق منهما رويداً رويداً. نحن نتشارك هذا الرقص كل مساء.
الموسيقى طفل. قوتُه في أذنين مفتوحتين على وسعهما. الموسيقى طفل بجناحين كبيرين لا يكف عن التحليق حتى نتوقف، فيموت. لا يموت إلا ليولد ثانية أكثر جمالاً. الموسيقى موتنا الصغير. نحن نتشارك هذا الموت كل مساء.
الموسيقى دفء. دفء مباغت لم نبخل في البوح عن حاجتنا إليه. لكنك تعرفين، ولا تفصحين لي عن ذلك، غيرتي من هذا الدفء. لا تتركي للبرد سبيلاً إلى جسدك. أطلب إليك. جسدي دافئ. تجيبيني. لو أقدر أن أكون إلى جانبك هذه الساعة فأضم قدميك الصغيرتين بيدي هاتين ثم أمسح عنهما البرد. أقول لك. تضحكين بخفر. نحن نتشارك رعشة البرد هذه كل مساء.
الموسيقى سرّ في ذاتها. تتفشى في حضورها كل الأسرار. سرّي وسرّك حثتهما الموسيقى على الانكشاف.
"اشتقت إليك يا صغيرة" أبوح لك. "إلَك فقدة". تردين بشيء من المكابرة. لم تطل الأيام وبيننا الموسيقى.
"أريد أن أقول لكَ شيئاً لكني أجهد في كتمه". الموسيقى بيننا. يمر وقت والموسيقى لم تزل بيننا."اشتقتلك"، تفصحين. نحن نتشارك هذا البوح أمام الموسيقى كل مساء.
الموسيقى رؤية. لقد رأيتك في الموسيقى، كما أراك الآن، مكتملة. الموسيقى بيننا والحضور كثيف. كنا أنت وأنا. "شعرِك حلو هيك". "على بالي غيرلو لونه". "حلو هيك على طبيعتو". أقترب منه. أشمّه وأغرق.
تضحكين. كل شيء هنا يضحك لضحكتك. "ايديي بردانين". امسكهما. أعانقهما. "... ايديكي دفيانين".
الموسيقى وجنتان. وجنتان متوردتان. ساخنتان ملتهبتان كخبز طازج. الموسيقى بيننا وأنا جائع. أقبّل وجنتيك طويلاً ولا أشبع. سأقبلهما ولن أشبع.
الموسيقى عناق. عناق أشعر معه بهذا الكون وقد تناهى صغيراً بين ذراعي. جناحان تحسست نشوءهما وأنت ملقية برأسك إلى صدري، وأنت تذوبين بطيئاً أريجاً داخل مساماتي. أطير وطوق الياسمين يلتف حول جيدي.
الموسيقى التماع. التماع عيني وهما تنعمان النظر إليك. "عينَاك جميلتان" تقولين. "احساسك أجمل، أحبّ فيك الكثير" أردّ. "أحبّ حركة الكسرة" تقولين. "للكسرة انحناءة. انحناءة تبجيل الأميرة في حضورها، أحب حركة الفتحة، تزينينني بها كأنها التاج" أجيب. الموسيقى بيننا. "عندما نلتقي، لا تنتعلي الكعب العالي كما في أول مرّة" أطلب إليك." أريد لقدميك الصغيرتين أن تعانقا الأرض. أن تجتازي في كل خطوة نصف الأرض. هاتان القدمان أعشق رؤيتهما حافيتين" أقول لك.
الموسيقى سهر. عيناي الساهرتان تمسدان عيون الصغيرة قبل النوم. نوماً هنيئاً وصباحاً توقظين فيه نجمة شاركتك الوسادة. المساء جميل والموسيقى لم تزل بيننا.

* شاعر من لبنان
************

◘ خردة


مازن معروف*

لكنكِ حزينةْ
وأنا
ليس عندي جوربٌ إضافي
أبتاع به
ابتسامة لكِ..
ولا شاشة تلفزيون معطّل
أرسمك داخلها
فتاةً
تحمل دبّها المفتوق
الذي يبكي
لسبب لا نعرفه.
وأنت حزينة
وأنا
زيز مقلوب على ظهره..
ولأن الطقس مسالم
تُضاف نباتات قطن إلى المشهد،
وتجلس الفتاة على ركبة الحديقة
تعلّق على وجه الدبِّ
غمازتين..
يمتلئ بطنه بالقطن
وعيناها بالدموع..
لكن الزيز
ينهض فجأة
مغادراً المشهد بلؤم
في أول عربة خردة
لأنه تَعِبٌ
من فشل التحوّل
إلى زرّ
بالنظر بهذه الطريقة إلى السماء.

* شاعر من فلسطين
************

◘ قلبُه حَبيبي

ابتسام بركات*
(من نصوص امرأة ولغة)

قلبه حبيبي جرحٌ عميقٌ
نهر على الخارطة الصّعبة
كل يوم يَنهَر الحُبَّ بعيداً عنه
قلبه بَرَدى ببَردِه الشّتائي
ودجلة يُدَجّل في حبّه لهذه يُمنَة
ويا لأسراره حين يُدَجّلُ يُسره
قلبه فراتٌ يَفِرُّ كقطيعٍ من الغزلان
كقطيعةٍ
قلبه نيلٌ طويل من منبَعِه الى مَصبّه
لكن لا ينال الحبُّ منه قُبلة
قلبه مخفي كَجُحْرٍ في الأرضِ
خَلفَ قفَص "اتّهام" صَدري
قلبه حبيبي حَجرٌ أسود
احترق من كَعبِه إلى أعلى عشقه
قلبه مع كلّ صِلة معَ كلّ كلمةٍ
يحترقُ أكثرَ فأكثر
قلبه حبيبي "شهر أيّار"
يذبح من هذا الشهر أو ذاك
ما زاد حباً أو ما نقص قِصّة
قلبُه شهرُ "حُزَينان".. وأيلول
أيُّ ويلٍ حين تَعصِفُ بالسّقوطِ
أو بالسّكوت أوراقُه
قلبُه مَج(نون) النّسوة
قلبه مُتقلبٌ ككثبان الصّحراء
التي صَحى فيها أهلي وأهلُه
وحجّ لا يستطيع الحبُّ إليه سبيلاً
ومحلٌ لا يستطيع الشتاء إليه سيولا
وقلبُه حبيبي لا يستطيعُ قلبي فيه قولاً
سوى أحبك
كان عليه نبي الحبّ
أن يقولَ مرةً بعدَ مرةٍ
مرّةً بعد مَرارَةٍ ومَرمَرةٍ:
أحبّوا أعداءَكم كي تتمرّنوا
في حروب الحبّ
فتستطيعون المشقّة إلى قلوب بعض من أهليكم وعُشّاقِكُم.

* شاعرة من فلسطين
************

◘ نسوة في المدينة

أحمد قران الزهراني*

(1)
كأني أراكِ تؤوبين من وطنٍ في المجازِ،
تؤوبين محمومةً بالحنينِ إلى يرقاتٍ من الوجدِ،
تأتين كالوحي يستقرئُ الغيبَ،
حين تقولين:
هذا كتابٌ صفيٌ يقدّسُ سرَّ الخصوبةِ،
خذْ ما تبقى من الوعدِ،
واتركْ سريرتَك الحلمَ للعابرين إلى مقتضى الحالِ،
لا تبتئس بانقطاعِ المسافاتِ بين الجوى والهوى،
علّ بعضاً من النسوةِ المستفيضاتِ في عتباتِ المدينةِ
يمنحن وقتَك ما يشبه السرّ،
هذي شمالك لا لون فيها فخذْ ما تيسر من وقتِك الغضِّ،
سرْ بي قليلا إلى ظُلّةٍ نستكنُّ بها حيث لا نستضام من البعدِ،
هذي يمينُك بيضاءُ تقرعُ بابَ الوشاياتِ،
سرْ بي إلى شجرٍ حاسرِ الرأسِ يحمي من القيظِ،
سر بي إلى وطن مشتهى ونديم.
***
(2)
هي القريةُ الأم،
نمكثُ في حضنها ما نشاءُ،
ونرحلُ عنها بلا رغبةٍ في الرحيلِ،
وتوحي بأن السماءَ البعيدةَ تدنو إلى فلكِ القريةِ المستكينةِ للبوحِ،
نقرأ فيها توجسَ أبنائها المارقين،
عقوقَ الصبايا اللواتي أذبنَ نضَارتَها في المدينةِ حتى نسينَ الوجوهَ،
وأسماءَ أجدادِهنَّ،
ومن كان في خلوةٍ يستبقنَ هجوعَ المساءِ إليه،
نرقُّ لأقراننا العابثين،
نعاتبُ من يستلذ العتابَ،
ونرخي زمامَ الحديثِ مع المتعبين،
ونلمحُ فيها شقاوتَنا في الطفولةِ،
نسترجعُ الرغباتِ الحرام،
ومن كنَّ راودننا خفيةً،
واستملنَ عواطفَنا النرجسيةَ،
نُشرعُ أحلامَنا للأخلاءِ،
نفضي بأسرارنا كبرياءً،
ونسترقُ السمعَ من أجلِ أن تحتوينا،
وتُشعرنا عنوةً أنها تسكنُ فينا وإنْ شردتنا الحياة.
***
(3)
أرى قرويا تشهّى المدينةَ مذْ عابثته بأضوائها،
فـأحالته سبعَ سنابلَ،
في كلِّ سنبلةٍ وجهُ أنثى،
كثيرٌ نساءُ المدينة،
يمكرنَ أكثرَ من غيرهن،
يعاتبن أكثرَ من غيرهن،
ويعشقن أكثرَ أكثرَ،
يسرقن معنى القصيدةِ من شاعرِ لم يجدْ وطنا ماثلا في كلامِ النساءِ
اللواتي شققن أكفَّ الضراعةِ عن مبتغاهن،
لا يحتكمن إلى الشكِّ،
هن الأنيقات،
يشبهن ما شف من حكمة القروي النبيل.
***
(4)
أرى قرويا تشهى المدينةَ حتى أفاضت بأسرارها البكر،
أغوته لما تشبثَ بالنسوةِ الــ يحتكمن إلى الغي،
كنَّ نساءُ المدينةِ يحملنَ خبز الصباحِ إلى بعضهن،
يثرثرنَ عن ليلةِ العيدِ،
والغرباءِ الذين أتوا من قرىً أهلها يلبسون التمائم،
والعابرين الأزقة بحثا عن الفضلات من الزعفران،
وعن نسوةٍ لم يجدن كساءَ الشتاء،
وعن بائعاتِ الخضارِ اللواتي قدمن من الريف لا يكترثن بنوع الرداء،
ولا لون وجه العميل،
ولا رتبة العسكري،
ولا ما سينشر في صحف اليوم،
عن عانساتِ المدينةِ..
إذ كيف يصبرنَ عن لذةِ الجنسِ،
هنّ كثيرٌ نساء المدينة،
يمكرن أكثرَ من غيرهن،
يعاتبن أكثرَ من غيرهن،
ويعشقن أكثرَ أكثرَ،
يقرأن شعرا على ملأ ليس عاداتُهم أن يروا نسوةً حاسراتِ الرؤوسِ..
يغنين ما يستبيح العواطف منه،
ويرقصن في ساحةِ الزارِ،
لا يعتنين بعاداتِ أهل القرى والمدينة مادمن في شهواتِ الفرحْ.
***
(5)
كأني أساور بعض نساء المدينة مذ جئتهن صبيا لكي نرسم الحب،
لا أنا من يعبر البحر دون ارتباك النوارس،
لا هن من يستملن الرياح إلى وجهة لا فضاءات للعيش فيها،
ستأخذنا الريح،
أين ستأخذنا الريح؟
لا علم لي أين وجهتها في المدينة،
إنا بدأنا الكلام ولم ننهه،
سوف نمضي بلا رجعة في البكاء،
كأنا جدار يئن على جاره المستكين،
كأنا عبرنا الظلام إلى نقطة البدء،
نعشق لون البدايات،
يسكن فينا كوشم على الكف،
نشقى ويرتاح من لم يكن في الشتات،
لنا وجع في المدينة،
نقبض كالجمر أوجاعنا،
ثم نلجأ في غفلة للجدار لنرسم أشكالنا كالرموز،
يئن الجدار لبعد المسافات بين الأخلاء،
يسجد من رهبة البعد،
لا سر بين الحروف التي كتبت في الجدار القديم،
ولا سر يفضي لفعل الكتابة،
هذي تفاصيل لا ينبغي أن تعيد الحديث إلى بدئه،
ربما الريح جاءت لتقرأ سر الجدار القديم.
***
(6)
كأني أنا..
أو كأنكِ أنتِ مثارَ السؤالِ عن اللا وجود،
إذا أين حدُّ الأقاويل،
أين مسار الحديث الذي لم يدرْ بيننا..
حيث لا قولَ يحكمُنا في التفاصيل،
لا أنا من يستكينُ إلى صورةٍ في خيالِ القصيدة،
لا أنتِ من يتغشى الكلامَ على غير ما علة في الحديث،
كأنّا بدأنا تعشقنا،
أو كأنّا بدأنا تألهنا،
أو كأنّا بدأنا التوحد في الجسدَ المستحيل.
***
(7)
أرى...
لا أرى في المدينةِ إلا خطا القروي النبيل،
نساءً يراقصن عشاقَهن،
شيوخا تماهوا مع الوقت يسترجعون الحكايا عن الحب،
بائعَ خبزٍ يداري ندوبا على وجنتيه،
ونادلَ مقهىً يباشرُ مستشرقا
لا يبالي بمن حوله،
صبيا يرتبُّ مستودعا للقماش الدمشقي،
أمّاً تداعبُ مولودَها بانتشاءٍ وتضحكُ،
تضحكُ من فرطِ نشوتها،
سلالمَ تفضي إلى هجرةٍ للمكانِ،
مآذنَ تلجأُ للصمتِ،
أرصفةً لا ملامحَ للحبّ فيها،
ميادينَ تخلو من العشبِ،
صورتَها في الجدارِ الموازي لدارِ المسنين،
نقشاً يحاكي امتثالَ الرقيقِ لأسيادهِ،
وقولَ حكيمٍ يخالطه الهزلُ,
نافذة لا ترى العابرين الحفاة.
***
(8)
أرى..
لا أرى في المدينة إلا ملامح أمي،
وظلَّ أبي،
وروحي التي سكنتها النساء،
فتى آبقا عن عيون الجواسيس،
وجه غريب يعانده الحظ مثلك،
بعضا من النسوة الحاسرات الرؤوس،
وضوء قناديل من فضة،
وقوسَ قزحْ.

* شاعر من السعودية
************

◘ ترنيمة درويش العَالِي

ياسر حجازي*

تَأَخَّرَ حُزْنِي عَليكَ طَوِيلاً،
كَأُمِّي الَّتِي لَمْ تُصدّقْ غيَابَ أَخِي مُنْذُ عَهْدٍ مضى، لَمْ يَطُفْ حَوْلهُ قَمَرٌ عَابدُ
تَأخَّرَ حُزنِي عليكَ كحُزنِ النخيلِ على أَهْلِهِ،
تأخَّرَ حتَّى تعودَ إلى الشَّمسِ حِكْمَتُهَا؛
أَنَّكَ الميِّتُ الحيُّ، والحيُّ فِي الحيِّ،
والحيُّ فيما تبقّى على الأرضِ من رئةٍ،
يتنفَّسُهَا خالقٌ زاهِدُ
هلِ اسْتَوَتِ امْرأةٌ في الصِّرَاطِ، تدلُّ الخلودَ عليكَ،.....
وضمَّكَ في رفقةٍ سَاعدُ؟!
أَيُّ رفَاقِكَ كانَ هناكَ علَى درجاتِ الغَيَابَةِ؟
هَلْ شُفْتَ سيِّدَنَا بانْتظَارِكَ؟
لَمْ يَبْكِ إلاَّ عليكَ وأَنْتَ الَّذي مِتَّ بَعْدَهُ،
قَدْ هرّبَ الدَّمْعَ قبلَ الرحيلِ، ولَمْ يَنْتَبِهْ مَلَكٌ سَاجِدُ
**
أينَ يُمْضِي بِكَ السبتُ ساعاتِهِ؟
أينَ تمضي الظهيرةَ..؟
ساحَتُكَ الدائريّةُ في بلدِ البرتقالاتِ
تُلقي المراثي على الوافدينَ حماما
وفي رئتيكَ رحيقُ القياماتِ
يرمي الأغاني على الخالدينَ سلاما
فهل طرقاتُ القيامة تفضي إلى مللٍ أَمْ هُوَ الشوقُ؟
يَمَّمَ قلبَكَ تيهاً ليأوِي شآمَه
يا ابْنَ أَنْتَ،
وجودُكَ مِنْ جُودِكَ اسْتَلَّ مَعْدَنَهُ،
وعلامتُكَ امرأةٌ في سلالِ الوُرُودِ تبيعُ الوُجُودَ بِسِعْرٍ زَهيدٍ،
على خدّها شامةٌ من هوَى اللهِ شاهقةٌ،
أيّ شامةْ!
فأَيُّهُما أَمُّكَ الآنَ: والدةُ الجسدِ الآدميِّ، أَمِ امْرأَةٌ في وجوهِ المعزّيْنَ؟
تُشبهُ كلَّ البناتِ اللواتِي عشقْنَ فلسْطِيْنَ كرمى عيونكَ،
حُبّاً،
وفِضْنَ هُيَامَا
كيفَ تقضي المساءَ هناك؟......
وهل في القيامةِ محمودُ مَنْ يفهمُ الشعرَ أو يستطيبُ كلامَهْ؟
فحدِّثْ فؤادِي،
وحدِّثْ إِمَامَهْ
قليلاً من الغيبِ، يا شَاهِدُ
**
أنتَ أُمُّ كلامي إذَا قلتُ قولاً جميلا
وأُمُّ سلامِي إذَا القلبُ سلّمَ سلماً نبيلا
وأُمُّ شآمِي إذا القلبُ يَمَّمَ شطراً جليلا
وأنتَ إذا شئتَ أنتَ ...
وأمُّ البلادِ عروساً إذا شاءَهَا الخالدُ
**
أينَ تمضي الصباحَ إذا شئتَ أنْ تقرأَ الصحفَ الدُّنْيَويّةَ،
أَو شئتَ مقهى يضجُّ برائحةِ البُنِّ شارعُهُ؟
أيُعِدُّونَ في الأبدِ الأرجوانيِّ قهوتَنا،
كيفما نحن نصنَعُهَا في البلادِ، نقلّبها جيّداً، فوق نارٍ تكادُ تبينُ..
ويُسمع فيها نبيٌّ يفتّش عن قبسٍ وهُدَى
فسلامٌ عليهِ إذَا أخَذَ القوم عن دَارِنا واهْتَدى
وسلامٌ عفَوْنَا...
فلسنا من الجهلِ حتّى نورّثَ سيفاً إذا طابتِ الأرضُ دورتَهَا تحت أقدامنا
واسْتَوَتْ كلُّ آلهةِ الناسِ راضيةً، تشتهيها المَعَابدُ
سلامٌ عفَوْنَا
لنا موعدٌ في البيادرِ،
ما بالُ أعدائنا لا يُجيدونَ حتّى المواعيدَ،
ما هزَّهُم شَغَفٌ زائدُ
سلامٌ عفَوْنَا
لنا موعدٌ معنا،
نحتفي بالحياةِ ونقرأُ طالعَنا في العشيّاتِ،
نضحكُ حتّى الضُّحَى
فمقيمٌ وشاردُ،
**
غافلَتني عُيُونُكَ حِينَ مَرَرْتُ علَى بَائِعِ الصُّبحِ،
كَان يغنّي: "سَنَرْجِعُ، خَبَّرَنِي العَنْدَلِيْبْ.."
والبلادُ تصدّقُ أنَّكَ مِتَّ..
نعاكَ الغيَابُ، يصُكّ خدودَهُ ندْباً عليكَ
بكَاكَ الترَابُ، يشقُّ ثيَابَهُ حَرّاً إليكَ ...
وناحَ: أضمّكَ؛
لا باركَ اللهُ فيّ،
طَوَيْتُ الحبيبْ
والمقَاهِي علَى ضَجّةِ السَّبْتِ مَلَّتْ تُهَدْهِدُ للغُرَبَاءِ، لعلَّ اتِّفَاقاً يُصَاغُ بأنَّكَ سوفَ تُؤَجّلُ موتكَ حتَّى تعودَ المنافي إلى أهلها، ثُمَّ نَدْفُنُ مَنْ ماتَ في المهجرِ القَهرِ تحتَ ترابِ البلادِ الشقيّة؛
ماذَا سَيَخْسَرُ إِنْ عَافَكَ الموتُ حتَّى تَرَى الجدَّ فِي القُدْسِ يستقبلُ الحجَّ، يستغفرُ الفقراءَ وأهلَ البلادِ!!
لعلَّكَ سوفَ ترى ابنَكَ في المهدِ يَهْدِي إِلى شاهدٍ،
يقتفي ضوءَهُ وطنٌ عائدُ

أنتَ إِنْ شئْتَ أنتَ، وأَنتَ لأَنَّكَ أَنْتَ، البلادُ، القصائدُ
أنتَ أمُّ كلامي،
وأمُّ سلامي،
وأمُّ شآمي،
تُنَبِّئُ بالشِّعْرِ، ثُمَّ تُنَبِّئُ عنكَ النجومُ الأَوَابِدُ:
أيّها الشاعرُ الأَحَدُ الوَاحِدُ
أيّها الشاعرُ الابْنُ والأمُّ والوَالدُ.

* شاعر من السعودية
************

◘ كلّك لي

كامل فرحان صالح*

أنحني أمام زعلِك كقافلةٍ من الأعشاب
كأني مزاجكِ المصلوب على كفِّ الريح
تقودني إليّ غزلان روحكِ
أسكب في الكشف ولهي
وفي القهوةِ أشمّ صوتك
فأضحك كنبيّ رأى الله
كلّك لي
من عتمة عينيك حتى طلوع الشمس من أصابعك
يا عمري أحسب اني أحبك، فأحبك كما لم أحبك
***
سأسميك تفاحة وأسمّي نفسي آدم
هكذا أستعيد فرح الخروج معك
فمهمتي أن أجعلك تضحكين
لتنام الأرض على ظهرها
وعلى اصبعك الصغير تدور لتقع
فتثقبين السماء
***
على سفوح كرزك أسعى بين نهارين
أتأملُ في الظهيرة نهرَك كقادرٍ على التعب
أنتِ كمكان يرحل معي
ككرة أرضية تهدهدني لأنام
علّني أنام
لماذا عندما تكتئبين يمسي ليلي ليلا؟
***
بالزيت والعسل والزعفران سأفرك أصابعَ الصباح
ليقودَكِ إلي في هذا البرد
كي أحبّك أكثر.. ربطتُ الشمسَ بمقام البارحة
***
في الدرب إليكِ أنثر فتات ولهي
كي أتكئ عليها عند عودتي وحيدا
لا برّ لي سوى البحر
كنورسكِ
وفي نهارك استرخي كسهل البقاع
إن أردت أشرب نهر النيل ليغضبَ المحيط الهادئ
أعلّمُ العصافيرَ الكلام
علّني أنجو من كمالكِ في التفاصيل
***
هكذا أنا
أرمي شباكي الممزقة لاصطاد البحر
***
في بيوتكِ الكثيرة نواح غريب يخدشني ثم يخفت ويمضي
وأدرك أن الحبّ نصف الجملة
والنصف الآخر على اصبعك الصغير
***
تعبرين صحرائي كسفينة
كراقصة سامبا تفجّر ينابيع الماء
كسؤال عن السؤال
وأنا صفحة مطوية في كتاب
يا الله
لماذا بحرُكِ واسع وأرضي ضيقة كالمسافة بين اصبعين؟
***
رائحة القهوة أطيب من القهوة
كرائحتي فيكِ أجمل مني
لذا ألملم المحيطَ الهندي في منديل
وأدخل إلى الوجع بعيون مفتوحة
أنا معكِ كهذا المطر
كهذه الرائحة المتواضعة
كهذا الكون المتثائب على كتفك
***
لكِ ولي شرفة صغيرة
كنصف قمر يرعى النهار في جبال لبنان
تباركين اتساعي بك كسهل حوران
وأنا كراهب الدير
أبحث عن ربّ يدخل في خرم الابرة برشاقة النور
لك كل هذا الصباح يرفع قبعته
فأفرك ظهرك بزيت الزيتون الساخن
أخبرك بأن العنب سيغلبني مرة أخرى
فتضحكين حتى يبرد الزيت
***
يا لهذا المطر الذي لا ينتهي
يا لهذا القلب الذي يحبك ويحبك ويحبك
***
نامي في روحي كمدينة مقدسة
الدكتاتور يقتل الله بدم بارد
ارسمي دربي بشغفك
علّني أعيد حياكة الدنيا كولد عنيد
يا كلّ الموت الشاسع وحدك تمسد أشلاء الابتسامات
تمنع الأرواح عن السماء
ووحدك تضحك كحقل من العفن
يقسمني النواح يا عمري كامرأة ثكلى
تجمع في الروح ما قد نام إلى الأبد
ألتحف حبّكِ وأبكي
كلما زاد القتل على هذه الأرض
نامي كي تحلمي بي فأنا في الحلم كامل
***
لا معنى للمعنى سوى أنك في قلبي تكبرين كحديقة
وأحبّك أكثر
ما أبهى ولادتُكِ
صراخُ مولدِك يربك الدنيا ويهزّ عروشَ آلهة الصدأ
فافرحي
مع كل شهقةٍ تزدادين وسامة
***
لم يكن في القهوة غيرُ صوتِكِ
أحبك كإله فقد الايمان إلا بكِ
فكوني خلاصي وطهريني بماء شهوتك
منذ 25 عاما أكتب
وعندما مسّني نورُك أدركتُ كم أنا جاهل
***
أصبح دورانُ العمرِ رشيقاً
لأني أحبّك
وعروسة الزعتر أطيب
**
سأضبضب عن جسدي عطرَك
أمضي إلى كسرةِ الخاطر
لأتوقف عن الدهشة التي تُغرق جسدي
سآخذ كالعادة نفسًا من آخر الأرض
وأقفُ في منتصف الأشياء كحرف الألف تماما
علّه يمكنني أن أقولَ: أحبكِ
**
يا لقدرتي على الكآبة حتى عندما أريد أن أبكي أضحك
لا قدرة لي على الحنين
في الريح عبق المحاولة
في الريح قبلةٌ مني لم تصلكِ
لم أعد أتوقع منك الكثير
كأن تهديني: صباح الخير لا أكثر.
شتاء 2012
* شاعر من لبنان
----------------------------------------

ملف من اعداد "كامل صالح"-مجلة الحداثة - السنة العشرون - الأعداد 151 -154 ربيع - صيف 2013