رجاء غانم دنف
(فلسطين)

رجاء غانم دنفكنت مشغولة للغاية بالمقابلة المصورة التي سأجريها معه التفتُّ إلى ملابسي رتبت شعري للمرة الاخيرة ونظرت إليه طويلاً : هذا الرجل الوسيم الذي رافقني طوال سنوات طويلة بكلماته وشعره وحزنه وقوته انتبهت إلى حاجبيه وشعره وقد توغل الشيب فيهما أذكر هذه اللقطة وكأنها مثبتة الآن في خيالي صورة محمود درويش بابتسامته وشيبه ونظارته عندها وجدت الجملة الأولى التي سأقدمه بها : الشاب الذي لا يشيخ الشاب الذي لا يشيخ ...

هذا كان جزءاً من حلمي الطويل والغريب في ليل 7/8 /2008 أي قبل يومين من رحيل محمود درويش.حلم طويل ربما استمر ليلاً بطوله تحدثنا فيه عن الشعر والقهوة واثاث البيت واشياء كثيرة. حلم حي غني بالتفاصيل والحوارات الطازجة قلت له :لست مغروراً على الإطلاق كما كنت أسمع ، ضحك مطولاً واخبرني أنه يرتبك فقط .
تذكرت هذا الحلم بكل تفاصيله عندما سمعت الخبر المحزن مع كل من سمع، بعد يومين فقط من حدوث هذا الحلم الرؤيا.

مات محمود درويش وبدأت أحاول تقبل هذه الحقيقة في سنة كانت الأثقل والأشد ألماً على قلبي وروحي لكثرة من جرفت في تيارها من الأحبة.
تذكرت بيروت والحصار وتذكرت تونس والمحطات الاخرى العودة وما رافقها من خيبات وآمال وتعب وتوقعات. تذكرت كل ذلك وكأنني استعرض تاريخاً شخصياً لي أو لكل فلسطيني عاش المنافي حتى أضحت جزءاً من تكوينه وذائقته ووعيه لهويته الذاتية والجماعية.

كم ستتغير كل الاشياء منذ الان أعتقد أنه برحليك رحلت فترة عذبة وقاسية من حياتي ولكنها محببة ومؤسسة ربما لجيل كامل من الفلسطينيين.فعندما كنت موجوداً كنت على الاقل اكتفي بمتابعة أخبارك وأنك هنا أو هناك مع الناس والقراء توقع كتاباً جديداً ،أو تشدو أشعارك التي كانت بكل جلال حزنها تمنحني فرحاً خفيفاً وقوة وهذا هو سرُّكَ الاكبر.
صانع الفرح ومانح القوة برغم كل ما مررت به من تراجيديا فلسطينية بدأت منذ الطفولة منذ الشتات الأول في الجبال .وأخذت شكلها المتتابع الذي هو عمرك. لم تسقط في بئر اليأس والظلمة ولكن التجارب منحتك قوة قرأتها في شعرك حتى ذلك الذي تحدث عن الموت والمرض كنت قوياً وفرحاً برغم كل شيء. ربما لأنك أبصرت ما لم أبصره أنا . أبصرته بعمرك وتجربتك ورؤيتك الشفافة لكل شيء. برغم كل شيء قدمت قصائد تحتفي بالفرح والأمل والذي كنت ماهراً في تربيته والحياة الإنسانية الأغلى والأعلى قيمة.

ماذا يعني غيابك الان تحديداً ؟في قمة تراجع كل شيء ؟ في قمة إحباطي ويأسي من أسئلة الوطن والثقافة والفن والانتماء وكل شيء؟ ماذا يعني أنني لن أراك فجأة في بلد ما تبتسم بهدوء وتخرج للناس تقرأ شعراً .أنت الذي صنعت من الشعر مادة للإنصات والاستمتاع والسكينة؟ ماذا سيعني أنني سأفهم أنك غادرتنا كما أشياء كثيرة جميلة وأصيلة تغادرنا بصمت ومرارة؟ لم يكن ينقصنا غيابك الان يا محمود ونحن في أشد أوقاتنا غربة ووحشة ووحشية، لأنك بغيابك تأخذ مراحل من عمرنا وتأخذ من أحلامنا فتراتها الاشهى التي كنا نرى فيها من خلال كلماتك المستقبل وهو يشرق من جديد بالكرامة والحرية والانعتاق.

تسألني صديقتي اليوم على الهاتف :لو أحضرت بعضاً من صدف بحر حيفا فهل يقبلون وضعه في قبر محمود؟
أشياء كثيرة نحفظها في قلوبنا لك سنودعك إياها في لحظة صعودك إلى الأرض وسنحتفي بك وبقصائدك وبفرحك دوماً ،تارةً بأصدافٍ جميلةٍ من شط حيفا .وتارةً في زيارة إلى قريتك المدمرة البروة والتي شهدت خروجك للدنيا ولنا وكنت أتمنى أن تسند رأسك للمرة الأخيرة فيها بعيداً عن صخب السياسة ومدنها.
ستظل كلماتك هنا .وقوة الفرح التي منحتني إياها قصائدك لأستعين بها وأجعلها مادتي الاولى في تعود غيابك .