خذلتني يا محمود درويش ؟

رنا جعفر ياسين

أتخطى صرختي , راكضة أخرس سذاجة مذيع النشرة , لكنها تنهشني و تنهش الفضاء الصامت , للنحيب مغزى مختلف يعلن الدموع الساخنة و هي تحاول مسح عناوين الاخبار المكتوبة أو تكذيبها على الاقل ( محمود درويش في ذمة الخلود ) .

لا .. بالتأكيد ثمة مسافة لتغيير معطيات الرقاد . أو هناك متسع لمحو النوم , هذه المرة .. انت تمزح معنا بوحشية يا درويش , لا نستحق منك تلك الاكذوبة النيسانية في آب الملعون بالشؤم .
الخبر كاذب لا محالة .

ربما تحاول اختبار العالم لمعرفة مداك يادرويش العظيم الأعظم .
تقول : ( لولا حاجتي الى الشعر لما احتجت الى اي شيء آخر )
ربما اردت قلقنا و خوفنا لتكتب قصيدة , اكتب اذن , العالم ينصهر حزنا من مزاحك الوحشي , كذب ذلك و انهض لنا بجدارية آخرى نتسابق اليها بلهفة , قم و اترك الاسلاك الطبية و اجهزة الاعاشة الكاذبة , روحك أجدر بكتابة الحياة لك يا درويش , لا يوجد ما هو أقوى من شعرك على مناهضة ملاك الموت , قل له بهمسك الساحر : ( على هذه الارض , سيدة الأرض , ما يستحق الحياة ) .

تسجى بنبضك , تنفس برئاتنا , و انتفض , لملم منافيك و مغترباتك و اصنع منها بوصلة تدلك الينا .. ففي زكام القلب ربما تتوه المقاصد فلا تميز بين حيطان لحمك و لحمنا و بين ظلك المرهق و هو يجرك نحو أينه الغائب في حضرة السراب.

تعال لنصلح شريانك بمسافات ننسجها من قصائدك و نفرشها بين أرضك الأم و سرير هدنتك الطويلة , نلم ما ترهل منه لكثرة ما قد تكدس فيه من وجع و اغتراب , و نرقيك , نعيد ما تهشم منه بأجزائك المغروسة فينا .

لا تخذلني بموتك يا درويش , مثلك أسأل:
- ما معنى كلمة لاجىء؟
سييقولون لك و لي : هو من اقتلع من أرض الوطن.
و ستسأل و أسأل وراءك :
- ما معنى كلمة وطن ؟
و سيقولون لك : هو البيت و شجرة التوت و قن الدجاج و قفير النحل و رائحة الخبز و السماء الأولى
و سيضيفون لي : النخلة و المدرسة و دجلة و الفرات و قبر امك
و تسأل انت أيضا :
- هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات .. و تضيق بنا ؟

تطاول يا درويش على رغبتك بالنوم و الحلم لكتابة قصيدة , آخرك الذي يعيش في الشعر مازال جائعا للتجلي و التجسد , يتململ تحت جلدك المطرز بالابر و هي تمدك بالدم و بمحاليل الحياة , دعه يا درويش ينتصر على هوائك الشاحب و رئتك المخدوعة بالاستلام للسكينة .. يحاول استفزازك بكلماتك :

اخرج معنا الى هذا الليل الخالي من الرحمة . ستعرف فيما بعد كيف تنضد الكواكب في خزانة الذاكرة , و كيف تعوض الخسارة بقوة العبارة و تنتصر . أما الان فلا تنظر الى النجمة لئلا تخطفك و تضيع , و تعلق بثوب امك .

اتبع يا درويش اوهامك و اوهامنا لئلا نضيع . تذكر مراسيم شعرك فينا و كيف و مع كل قصيدة تنمو بلاد , راوغهم و انهض الان لنا , انهض لأمسية في الجوار تقرأ لنا فيها ما رأيت في غيبوبتك القصيرة الاخيرة , و اضحك علينا ان رأيتنا نبكي و نحمل شمعا يطفؤه هبوب متكرر يعدنا يقدومك , ستسمعنا نناديك بصوتك :

تذكرْ لتكبر , نفسك قبل الهباء
تذكرْ تذكرْ
أصابعك العشر و انس الحذاء
تذكرْ ملامح وجهك
و انس ضباب الشتاء
تذكرْ مع اسمك , أمك
و انس حروف الهجاء
تذكر بلادك و انس السماء
تذكرْ تذكرْ.

و أمك يا درويش تمسح عن وجهها رذاذ بكائنا . ترعبها الهواتف النقالة و هي ترن لاسقاط تهمة الموت عنك , تمسك شالها الابيض و تمده باتجاه فراشك البارد هناك , تسندك لتنهض فلا تخذلها , ربما هي الوحيدة التي تعرف كم كنت تعشق عمرك .

اوجعتها ارتجافة خوفها الطاعن من عدم عودتك , ستصرخ أمك مثلي و مثلهم و تخرس الخبر . تذكرك طفلاً بيديه الصغيرتين يرسم وطنا ًبلون أبيض , تمسح عن جبينك ندباً امتدت لقلبك و تلملم من طفولتك حجارة ًً اعتنقتها كقرآن .. ستذكر الان وعدك و حنينك , تنتظرك أمك يا درويش كي تعود و ربما تجرجر نفسها على كرسيها المتحرك لترتيب مكتبك و اوراقك فلا تخذلها يا درويش لا تخذلها و تذكر وعدك :

أحن الى خبز أمي
و قهوة أمي
و لمسة أمي
و تكبر فيَّ الطفولة
يوما ً على صدر يوم
و أعشق عمري لأني إذا مت
أخجلُ من دمع أمي

لا تخذلنا يا درويش , لا تخذلني ..
أشبهك , تخضبت بوجع , و يحاصرني كابوس الذبح . شراييني تتسع و تتسع ليمر فيها المهجرون و المنكوبون و قصيدتي شهادة طبيب شرعي بخراب البلاد
فانهض من مزاحك القاسي هذا و دربني على استيعاب الفجائع

لا تخذلني يا درويش..
الابواب موصدة جدا , أيضا لا سراب نستطيع التشبث فيه .
اترك ( هناك ) يا درويش فمازال ( هنا ) متسع من الاسئلة : ما الفرق بين ان تكون فلسطينيا ً أو عراقيا ً و بين أن تكون انسانا ً ؟ و هل يحق لنا أن نحلم دون أن ننام ؟ و اذا نمنا و باغتتنا الكوابيس فأين ندفنها ؟ ما المسافة الفاصلة بين الوجع و القلب ؟ ما هو لون الوطن ؟ ما طعم الهواء الأول ؟ و كيف تحفظ الذاكرة جدران المنافي ؟ و هل يختلف مناخ القصيدة بين التهجير و الاستقرار ؟ كيف تكون موسيقى النص المولود في دوي الرصاص و المدافع ؟ متى يحق لنا أن نعود للحياة ؟
و قد أكرر سؤالك أنت : هل الموتُ نوم طويل , أم أن النوم موت قصير ؟

....... لم تجبني !!
لا .. لن أصدق أبدا ً.

تأخرت في نومك يا درويش ... فانهض .. انهض أرجوك
اترك لهم ظلهم و ارجع
علمني كيف أرسم وطنا ً في الخيال وأتطهر من الدم .

ranagallery@yahoo.com