آخر تحديث: السبت ,23/08/2008
أيام قليلة فصلت بين وفاة الكاتب الروسي ألكسندر سولجنتسين ووفاة الشاعر الفلسطيني محمود درويش. ورب صدفة خير من ميعاد! إذ إن صلة تجمع بين الكاتبين، على الرغم من تباين مواقفهما السياسية. فلو اتبع القارىء مسار الروسي لوجد أنه، بعد مقاومة وسجن، خرج من الوطن طوال سنوات إلى النفي قبل أن يعود إليه من جديد.
وهو ما فعله درويش نفسه، بل يمكن الحديث عن صلة بالسياسة طلبتها كتابة كل منهما، باحثة عن "العمق الوجداني" للشعب، في نوع من بناء مقاومة داخلية إزاء ما كان يتداعى وينهار في سياسات الحاكمين الظالمين. قيل عن سولجنتسين إنه "كبير المنشقين"، وعن درويش إنه "كبير المقاومين"، على أنهما، في الحالتين، بحثا عما يبني "شرف" الكلمة، وفعلها الروحاني والجمالي في مصائر الشعوب.
وهي الصلة التي جمعت، بكيفية أخرى، بين المتنبي ودرويش، الذي ما كان "ديوان" المتنبي يفارقه في حله وترحاله، على ما أفادني ذات يوم، على متن طائرة بين بغداد وباريس. ومن يعود إلى شعر درويش يتحقق من أثر المتنبي الجلي فيه، ومن الإحالات العديدة على شعره، ومنها ما قاله، بعد المتنبي، في الخروج من مصر في نهاية السبعينات من القرن المنصرم. وهي صلة تحتاج إلى تبين أشد في العلاقة بين الشعر والسياسة، حيث إنها ما خلت من مكابدات وقربى وابتعاد وغيرها من العلاقات المتواشجة بينهما في عالم العربية، في قديمها كما في راهنها. ففي غير قصيدة، وفي غير مجموعة شعرية، توجه درويش إلى أكثر من حاكم، ومنها إلى ياسر عرفات نفسه، الذي كتب له أجمل نصوصه السياسية، "التأسيسية"، إلى أن قال له: “لماذا تركتَ الحصان وحيداً؟".
وقد يكون أجمل النصوص في "“أب" الشعب الفلسطيني هو ما كتبه درويش عنه بخط يديه، في "فندق فرونتيناك" في الجادة الثامنة في باريس، عندما طلبتُ منه، بعد حديث صحافي حملته إحدى المجلات التي كنت أعمل فيها على صدر غلافها مع العنوان التالي: “أصبحت قادراً على القتل"، إثر خروجه من بيروت بعد الغزو "الإسرائيلي” في العام 1982. يومها، تنبهت في طريقي إلى فندق درويش، إلى كوننا لم نذكر عرفات بكلمة في الحوار المطول، فيما كانت وسائل الإعلام، مع أجهزة الاستخبارات "الإسرائيلية"، قد فشلت في رصد حركة عرفات في بيروت، فكان أن أمسك درويش بقلم الحبر، وجلس إلى المكتب الصغير في غرفة الفندق، وشرع بكتابة "بورتريه" لعرفات في الحصار، هو من أجمل ما كتب، ومن دون أن ترتبك يده أو تستعيد كلمة أو عبارة.
وهي العلاقة عينها التي ما لبثت أن انقلبت بعد "اتفاقية أوسلو"، وخروج درويش من منظمة التحرير، ومن العمل السياسي المؤسساتي تماماً. وما يجب قوله في الشاعر هو أنه ظُلم كثيراً في ما قيل عنه، سواء عن علاقته بأبي عمار، أو عن تعويله على السياسة والمنظمة في صيته الشعري. نسي الكثيرون، أو يتناسون اليوم ما قالوه فيه، وما وجب قوله في هذا السياق هو إن درويش احتفظ بموقف سياسي رافض، ولكن منخفض النبرة، بعد "الاتفاقية" الشهيرة. كان في مقدور غيره أن يصرخ، أن يندد، أما هو فرفض متنبهاً إلى أن "لعبة سياسية كبرى" تدور رحاها، وتطاول وطنه، وهو مشمول بنتائجها. فالبعض اتهمه بالميوعة والتهاون مع العدو، في عمله الدؤوب لإجراء مفاوضات سرية عديدة معه، إلا أنه رفض الاتفاقية المذكورة. ذلك أن درويش طلب تسوية، مشرفة، وتاريخية، لا جزئية وتجعل باب الدخول إلى الوطن "واطئاً إلى هذا الحد". كان يعمل على التسوية، من دون أن يعني هذا الاعتدال تهاوناً أو رخاوة في الموقف. ولقد أتت وقائع السياسة لتشهد بصحة ما كان يقول.
إلا أن ما يجمع بين الكتاب الثلاثة يتعدى السياسة، ويبلغ العلاقة مع الزمن. تحقق المتنبي عاجزاً من تفكك الخلافة، وما خففت صورة سيف الدولة المشرقة من هزال مما انتهت إليها الإمبراطورية. وهو ما عرفه سولجنتسين إذ طلب أن يعيد إصلاح ما أفسده الدهر، ما أفسدته السياسة، ولا سيما الثورة البلشفية، التي قلبت ب”العجلة الحمراء” “عنوان مشروعه الروائي ذي المجلدات العديدة” وقائع التاريخ الروسي. وهو ما طلبه درويش إذ طلب ان يكون لفلسطين وطن، في القصيدة على الأقل، في البناء الجمالي. بل سعى درويش إلى أكثر من ذلك، إذ طلب استعادة إرث الشعر العربي، القديم مع المتنبي، و"الحديث" مع رواده، عاملاً على استيعابه والإضافة إليه. وهو ما جعل درويش، في عمارته الشعرية، يبني "كلاسيكية" القصيدة العربية المقبلة، منذ اليوم.