نعى محمود درويش نفسه بنفسه في كتابه في حضرة الغياب، حيث تأمل حياته وخاطبها مفتتحاً كتابه بمالك بن الربيب :
يقولون لا تبعد ، وهم يدفنوني
وأين مكان البعد إلا مكانيا ؟
ولكأنه يرى نفسه مسجياً على لوح بارد في ولاية الرئيس الأمريكي بوش – تكساس- ومن ذلك البعد يرتحل عائداً إلى ما كان دائماً بعيداً عنه رغم قربه منه فلسطين.
يقول درويش : " فلأذهب إلى موعدي ، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي ، بشاهدة رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف إسمي ، كما سقط حرف الياء من إسم جدي سهواً".
الشعراء والأدباء وأهل الحق يتحركون في عالم من الحرائق ، والخرائب ، والدمار ويسيلون أرواحهم بحثاً عن الحق ، والخير ، والجمال. ومحمود درويش هو أحدهم يمشي مع محمد الماغوط ، ومي غصوب ، ونزار قباني ، وعبد الوهاب المسيري ، ومحمد عودة، وفاطمة إسماعيل ، ونجيب محفوظ ، وعبد الرحمن المنيف ، وغيرهم الكثير ممن فقدناهم ، غير أنهم لم يفقدونا. لقد تركوا بصماتهم على أرواحنا وأفكارنا وأحلامنا. وسوف تتغذى أجيال جديدة على ذلك زارعة نبتها الجديد – القديم المتصل بالمقاومة : مقاومة القبح، والشرور ، والإنتهاك الشرس لطمأنينة الإنسانية.
محمود درويش يخاطب نفسه في حضرة الغياب على أنه إثنين : " فلتأذن لي بأن أراك ، وقد خرجت مني وخرجت منك ، سالماً كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك ". ويقول : " أنت إلى حياة ثانية ، وعدتك بها اللغة ، في قارئ قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض. وأنا إلى موعد أرجأته أكثر من مرة ، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد".
وقد كان محمود درويش أكثر من واحد بالتأكيد. من طفل الفقر واللجوء ، إلى الفتى الغاضب والصارخ في برية الإنسانية إلى الشاب المدلل للثورة والمنظمة في عواصم بيروت ، والقاهرة ، وموسكو، وباريس. إلى العائد المخذول مقيماً على حدود " الدولة " ما بين فلسطين والأردن. من الثائر ، إلى الطاووس المتأنق ببدل بييركارديان ، إلى المتعب والمنحني مرتدياً بدلة لا ربطة عنق لها وحاصلاً على جائزة الشعر العربي في مؤتمر جابر عصفور للشعر منذ عامين في المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. كم مر من الزمان ، ومن الأحوال ، والتغييرات ، والأحلام ، والخيبات. وكم صنع من المحبين والمريدين والأعداء والغاضبين أيضاً.
تتوارد مشاهد درويش أمامي وأنا أراه يفتتح جلسة المجلس الوطني الفلسطيني في دمشق بقصيدته مديح الظل العالي في عام 1981 ومع الخروج الأوديسي للفلسطينيين من بيروت والمذابح التي طاردتهم. وأراه زاهياً بنفسه في ثمانينات لندن ، وباريس وهو يقرأ الشعر عالياً ، لامعاً وبراقاً بحذاء نظيف وجديد. وأراه في القاهرة وقد تواضع كثيراً ، غير أنه تواضع التعب ذلك الذي قاده إلى شعر يختلف عن شعره المؤسساتي الثوري الصارخ إلى نص أكثر حميمية وأقرب إلى الأجيال الجديدة وقصيدة النثر في كتبه الأخيرة سرير الغريبة ، ولا تعتذر عما فعلت ، وكزهر اللوز أو أبعد.
لم ينجح محمود درويش في الحب وعاش طلاقات متعددة ، وقصص غرام فاشلة ، ولم ينجح في الصداقة فلا زلت أتذكر إنقسام اتحاد الكتاب الفلسطينيين في دمشق واليمن والعراق في عام 1984 – 1985 والحروب والشتائم المتبادلة. ولا ننسى مصير رسام الكاريكاتير الفنان – المناضل ناجي العلي الذي أغتيل في شوارع لندن عام 1987 وكان درويش قد هاجمه في مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وكان يكتب فيها صفحة أسبوعية. وإنتهى ذلك الإغتيال بأن يعلق شيء غامض منه بدرويش والمنظمة آئنذاك.
مضى محمود درويش بحبه وحزنه ، حلمه وأمله ، آلامه وخيباته إلى البارئ الرحمن. كان أوديسياً في رحلته ولامسته خطى المسيح وتشتت موسى وبركة محمد.
يقول : " منذ اقتبست من البحر إيقاعه ونظام التنفس / حتى رجوعك حياً إلي/ فأنت مسجى أمامي / كقافية غير كافية لإندفاع كلامي إليك / أنا المرثي والراثي / فكني كي أكونك/ قم لأحملك / أقترب مني لأعرفك / إبتعد عني لأعرفك ! "
11/8/2008
القاهرة