في وحشة الغياب وفي سديم الحضور، رمتني رياح النزوح الأخير فانهالت عليَّ الشجون وأنهكتني الدموع، دثَّرني الضياع، باغتتني الحيرة وعانقتني الشموع. فراغ فسيح أَلقى عليَّ ظلاله، طقس موغل في الجوى تمكَّن مني، والنَّوى طحَّن مهجتي كسَّرني وبعثرني ودسَّ بوحا في الرماد. همست في صمت دفين: بعدما ضلَّ الموت الطائش الطريق إليه وأجله، هو لم يمت هو لن يزول، لعله قام من بين الأحلام وغاب في الأبدية الزرقاء؛ ناصع الحزن نقصته.. وأنا حضرت لأكمله.
شعرت منذ أن تلقيت نبأ الفجيعة، بمحنة الكتابة عنك، ولكن، من حسن ارتباكي وحرجي منك، حسبت في البداية أن لكل شيء أوانه إلا موتك، وما بين البداية والنهاية خانني حلمي.
تكسّرت روحي وأضنتني بكائيات جزعي عليك، وأنت أيها الخاص مسجّــى على مفترق الرخام، ممتلئ بالبحر والإيقاع في حضرة الحضور؛ لم تكتمل رؤاك بعد، لكنها وصلت إلى أقصى حالات تجليها المتوتر. طقس كتابتي لم يبدأ بعد، كأني فقدت خبايا اللغة في هذا المشهد العبثي الخارج عن المألوف. هل يكفي أن أستعيد في هذه الشطحات خفايا الحنين إليك.. مع شاعر كبير، وسيم، قلق وأنيق، له وجوده المدهش في حياتي وعلى هذه الأرض التي عليها ما يستحق الحياة!.. لا، لأن حادثة موتك الخرافي بالنسبة لي تتمايز بأنها سابقة تراجيدية داهمتني دفعة واحدة دون استئذان، فموتك جاء كعاطفة عاصفة تمسِّد غموض حياتي. كيف يمكن النظر في واقعنا الآن؟ وأنا اقرأ مأساة فقدك، فإذا كان الموت قد اختارك لان يخرجك مكلَّلا من زحمة الزمان الدنيوي ليأخذك إلى العلوي، كأن هذا الموت يخبرنا بمدى التصاقه فينا حين دلَّتني عليك تلك الفراشة المحلِّقة التي هزَّت جناحها في مكان ما وسببت إعصارا في مكان آخر من هذا العالم.
من منفى إلى آخر ،كان سؤال الحياة، العشق، الأرض، المرأة والموت سؤالك ما دمت تكتب... لقد كنت شاعرا في زحامك ومزدحمًا في شعرك، وأنت الذي عثرت على كنوز الشعر في طين الحياة ووحشة الغياب، جعلت من تجربتك مرجعية ثقافية، ثورية، وطنية،وجودية متمردة قابلة للحياة رغم استعارات الموت الناهضة، حتى صغت من ماء الحضور وقسوة الغربة ألواح الشعر وجمالياته، وكنايات الدفاع عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئا على الأحياء؛ وها أنت الآن في غيابك، أقل موتا منا، وأكثر منا حياة !.
لن أجرؤ هنا على الحديث عن موت ملهم عشت معه مجازا زمنا من المكاشفات الصوفية والاتحاد الروحاني، الذي لن تكفيه همسة بارقة، تسنح بالمرثاة المتعثرة هذه أن ترسم حدسا، عن بطل مأساوي سكنته فلسطين ولم يحرم من إضفاء خصوصيته على المشهد الإنساني العام، عن شاعر شامخ طالما سكنه هاجس البحث عن الفناء والبقاء.
غاب سيد الشعراء في نشيده الطويل نحو الأزلية البيضاء، غاب كسير الروح بعد أن حقق معنى الأسطورة، غاب وليس ثمة من عزاء إلا فيما تركه لنا من فراديس إبداعية مدهشة، وكشف يقين لشاعرية راقية وأسى يتضخم كل برهة، لن أتحدث عن وسائله في خلق سيرة من الحداثة والتجريب والإدراك كابدت، كي تبحث عن العدالة والحرية هنا أو هناك في تلك المنطقة السادرة، لن أتحدث عن إيمانه بجدوى الأمل والألم والمحبة المشتهاة، لن أتحدث عن حياته التي غدت ذاكرة جماعية جمعها في سنوات قضاها في حزن المكان والزمان، ذلك الحزن الذي هزم قلبه المرهف وأصبح سببا حقيقيا لمعانقة صفيح الوطن ومكمن الرحيل. رجل سنايا، ترك لنا الشعر والنثر مجتمعين في أفق ملحمي، ترك تلك الابتسامة الموجعة تربت على ذائقة جمعية تليق به، على سكينتنا اللاهثة المأزومة، فكم شاق عليَّ شخصيا أن أفكر في فراقك، نحن الأحياء مجازا وأنت الميت مجازا.
سبايا نحن في هذا الزمان الرخو، لا البقاء ولا الخلود هو المبتغى... لكنها حسرة الناسوت في النقصان.. لكننا نراك في كل مكان، تحيا فينا ولنا، وأنت لا تدري ولا تعلم، فهل حقا لا تدري ولا تعلم؟ لست أدري؟ هل حقا لست أدري؟
في كل واحد منا شيء منه، هو لا يُرى، هو لا يزول، هو جاذبية غامضٍ يستدرج المعنى ويرحل حين يتضح السبيل، هو خفة الأبدي في اليومي.. أشواق إلى أعلى وإشراق جميل.