آمال نوّار
(لبنان/أميركا)

(إلى محمود درويش)

طائرُ الزئبقحملكَ الليلُ إلى جُرحِه المُضيء
لترى كيف حجارة الموتِ تتفتّح
ومن غفواتِها الأَعْمَق
يصحو جناحُكَ القديم.
يا دمكَ
يا حبْرك
يا ناراً من عُشْب
من فوقها بَرْد
ومن تحتها حفيف،
أيّ خشبٍ سيُلامسُ الأسى
دون أن تبريه شَفْرةُ بَرْدِك؟
أيّ ترابٍ...
إذ يتقشّرُ جسدُكَ
صليباً تلو صليب؟

الآن، ها قد دخلتْ عيناكَ الجَبَل
وقدماك حواسَّ الريش،
أخبرني عن لَوْن الريح في اليقظة لا في الحُلْم،
عن معنى أن يكونَ الألمُ أبيضَ رغم الدَّم.
(ما أجملكَ في المجهول)
أخبرني،
كم يلزمنا من نَسْغِ الطُيور لِمَلْءِ غيابِك،
من رقائق حنينٍ سُمْر،
من لحمِ أَمَلٍ، ولُبَابِ قُبَلٍ، وبكاراتِ صَمْت؟
ومن أين لنا بَعْد بذاكَ الحليب الأزرق
حين كان لعابُ قلبِكَ يسيلُ في الحديد؟!

سنصغي إلى كلماتِك عبْر الضوءِ والموج،
ألم يكنْ صوتُكَ رحلةَ النَسْغِ في الجُرْح،
ومعانيكَ، العاصفةَ العميقة،
حيث الفؤوس بجَماجِم وَرْد.
سنتفاقمُ بك
غيمةً فوق غيمة
جناحاً فوق جناح
وبأحشائنا الفاغرة ننتظر،
ولن يغوينا نهرٌ يَفْلَتُ جَسَدُه من يدِه،
ولا جبلٌ يقومُ على فكرة مِطْرَقة.
لن تغوينا مرايا لا تتّكىء على هشاشةِ قلْبها.
هكذا دائماً سيهدينا قلْبُكَ،
ذاك الذي في بَرْدِه الأَعْمَق
لايزالُ يُزْهِرُ برتقالُه،
ذاك القلبُ المَجَاز
الذي لا تكلّ أمواجُ صمتِنا من تأويله.

أنتَ الآن في الشجرة التي كنتَ تبحثُ عن ظلّها،
وفي الحَجَر الذي يغنّي عالياً دون يَدَيْك.
أَمِنْ ثقبِ قلبكَ نَفَذْتَ إلى الموت
ومن ثقبِ الموت نفذتَ إلى قلبك؟
أنتَ الآن ماسَةُ الرَماد،
يُخَضِّبُ عينيْكَ أقمارٌ قديمة
وكل ما ابتلَعَتْه الأرض
من دروسِ غُبار،
ويُلطّخُ قلبَك نجومُ بئرٍ
كانتْ تغلي في محاجِرها
قبل أن يُطْفِئها الليلُ بمنقاره.
ولن يعْييكَ بَعْد، خريرُ الظَمَإِ الأَسْوَد،
ستشربُ بقشّةٍ ما لم تشرَبْه بعينيْك،
وبفمكَ ستقبضُ على طائر الزئبق.
هكذا، دون صَمْتٍ، دون كلام،
دون نارِكَ المقدّسة،
ستحيا بهذا الضوء الجوفيّ لغةً بيضاء،
حيثُ المعرفة قَعْرٌ لا يَسقفه تِيْه،
حيثُ العين تطفو على نظرتِها
والزائل توأمُ الأزليّ.

ما أجملكَ في اليقظة،
لحظةُ انخطافِكَ لم نَرَكْ من كثافة رؤياك.
نحنُ أسيادُ الغياب،
وقد عُدْتَ نواةً بريّةً ترضعُ من حليب الأَزَل.
نحنُ أجدادُ الموت،
وقد جعلتَ في بُطون الشَوْكِ أَمَلاً
يصرخُ ويجوع
ويعبرُ الجسور
من سرابٍ إلى سراب.
نحن أربابُ العَدَم،
وقد بانتْ أكداسُ الحياةِ في زُهْدِك،
يقسو الشريانُ المُمِيتُ على نَفْسِه،
ينفضُ العصافيرَ عن دَمِك
لتبدأََ من بذرةٍ عارية
دورة حياةِ الرُخَام.
نحنُ النِيام،
لا نرى في مرايانا غير عَجَز الضوء
وظَهْر الزمن من أمامنا وخلفنا.
في جمرةِ عَمائِنا نشيخ
وقِشْرتنا بَعْد رقيقة،
ونُسَمّي تلك الفُقاعة الحمراء
فوق رؤوسِنا:
الحقيقة!
نحن الآن لا نراكَ وأنتَ في نبيذِكَ الأنقى،
تهزُّ أجفانَنَا،
جليدَنا،
شعرةَ الحُبِّ الوحيدة
النابتة تحت جلدِنا،
تهزُّ خريفنا المحفوظ في زُجاجات
وصِمْغَ وَحْشَتِنا العتيقة.

يا لعينِ موتِكَ الكبيرة،
يا لتفتُّحِنا المُظْلم وانغلاقِكَ البَرْق.
لم يعدْ يلزمكَ حُلْمٌ لِتحْلَمَ
ولا زيتٌ لحِفْظِ نداوةِ اللُبّ،
لم تعدْ تلزمكَ سوائلُ الحُبِّ تِلك.
ها هي السُنبلة التي أَقْسَمْتَ برأسِها،
ها هي أيضاً خُرَافةُ الطريق،
ها هي الكلمةُ التي يصْعبُ فصْلها عن العَظْم،
وثمةَ أشياءٌ كثيرة غيرها
لاتني تشبُّ من اليَأْس.
لقد وهَبْتَنا مَتاعَكَ كلّه ومضيْت
مُقمّطاً بالأثير
دافعاً أمامكَ عَجَلة القَلْب.

***

21-8-2008