يمثل الشاعر الكبير محمود درويش في نظري قوة تجديد للشعر الفلسطيني بشكل خاص، وللشعر العربي بشكل عام، يمثل قوة تجديد للشعر الذي يتجاوز النظم من جهة، والذي يطور الحداثة من جهة أخرى، بل ويدخل مرحلة جديدة من البحث الواعي، والتأمل العميق..
محمود درويش، رمز التجدد والبحث عن الاشكال الفنية الرامية الى التطوير والتفرد والتميز، وهو بهذا المعنى، ابن عصره، وفتى زمانه، ونسيج وحده.
أدخل محمود درويش الشعر الفلسطيني بوابة الابداع، وكان وريث المحاولات الحداثوية التي أنجزها إبراهيم طوقان، مطلق عبد الخالق، عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي، ومثل عنصر الاستمرارية لروح هذه الحداثة، وشكل إضافة، ونقلة، وانعطافة في تجربة الشعر الفلسطيني والعربي.
ولا نحتاج الى برهان لنعرف عمق الثقافة التي اكتسبها محمود من خلال قراءاته وتجاربه واندماجه في ثقافة العصر، فقصائده وأحاديثه تنم عن شاعر يمتلك ثقافة واسعة، ويمتلك وعياً ينحاز الى حركة الحياة وخطها البياني المتصاعد.
لم يتكئ محمود درويش على شهرة القضية الفلسطينية من أجل ان تشهره، فكثير من الكتاب والشعراء خرجوا من معطف العاطفة والقداسة والتداعيات التي تثير النكبة او الشتات أو الثورة، أما محمود فإنه، وهو ابن القضية، كتب انطلاقاً من مواقفه الوطنية، متسلحا بأدواته الفنية، ليدخل القضية الى عمق الوجدان الانساني، وهو بذلك قد ساهم في رفع القضية، واصبح أحد ابرز رموزها الثقافية، ويمكن ان نقول، بكل ثقة، أنه ارتقى الى المكانة التي وصل اليها بابلو نيرودا، ولوركا وناظم حكمت وسواهم من الشعراء الذين قدموا عن جدارة واستحقاق أوراق اعتمادهم الى حركة التحرير الانسانية.
متعة النص عند محمود درويش لا ترتبط بعنصر واحد، لا ترتبط بالشكل فقط، ولا باللغة منفردة، ولا بالمضمون وحده، فالنص لدى محمود هو تكامل بين كل العناصر، هو عملية استقطار، وهو تركيبة متناسقة من عطر الحالة الشعرية التي تنظم ميزانها الداخلي، وتوازنها الطبيعي، لذلك، يبقى لقصائد محمود عبقها وشذاها وتبقى حية في وجداننا، ولا أبالغ، إذا ما قلت إن لمعظم قصائد محمود حياتها الداخلية، فكثير من القصائد تبقى سجينة الكتب أو الدواوين، أما قصائد محمود، فهي طليقة تتنزه في ذاكرة الناس، ولعل بعضهم يحفظها عن ظهر قلب.
قلت في بداية حديثي إن محمود درويش دخل منذ وقت مبكر مرحلة البحث والتأمل، وفي فترة من الفترات دخل في التجريب الواعي، كتب بعض القصائد، فاتهمه النقاد بالغموض، وحدث ان منعت هذه القصائد في بعض الاقطار العربية، وتناولتها يد الرقابة بالحذف، وعندها كانت المفارقة، فالقصيدة لم يفهمها النقاد، وفهمها الرقيب جيداً..
وإذا كانت هذه الحادثة طرفة نتندر بها أحيانا، فان الحقيقة التي قربت محمود من قلوب القراء، هي ان شعره كان واضحاً، ولكنه لم يتنازل عن شروطه لصالح الركاكة والمباشرة، وظل يمتلك خصائصه الفنية العالية التي ترفع مستوى الذوق الفني، وتربي القارئ أيضاً على البحث والتأمل، وتدفع به إلى الصعود إلى أغصان الشعر العالية ليقطف لذة النص..
وفي الواقع، خطرت لي هذه الخواطر وأنا أتهيأ لكتابة شهادة عن محمود درويش، شهادة أردتها أن تكون شخصية جداً أسرد بها شيئاً من مواقف خاصة تبرز عمق الشخصية الإنسانية التي يتمتع بها محمود، فقد ربطتني بالشاعر صداقة عميقة منذ عام 1976 عندما انتقلت من دمشق إلى بيروت، وجمعتني به الصداقة والتجربة الوطنية، عندما كان الكفاح المسلح الفلسطيني لا يزال يمر بأغنى مراحله، وعندما كانت بيروت أزهى العواصم والحواضر الثقافية العربية.
وفي الشارع الرئيسي للفاكهاني، والذي اعتدنا أن نسميه الشارع الأخير، كان هناك الإعلام الموحد، ومركز التخطيط، واتحاد الكتاب والصحفيين، وإذاعة صوت فلسطين، ووكالة الأنباء الفلسطينية، ومكاتب فلسطين الثورة، والحرية، وغير بعيد مكاتب مجلة الهدف، ومركز الأبحاث، فضلاً عن مكاتب مختلف فصائل الثورة، ومكاتب قادتها.
وسط هذا الفضاء، كنت تستطيع أن تقابل كل يوم في الطريق كل من يخطر ببالك من مسؤولين، أو كتاب أو فنانين أو مقاتلين، وكانت هناك حركة ثقافية نشطة، فلسطينية لبنانية عربية، فكثير من الأدباء والفنانين العرب الذين أغلقت في وجوههم أبواب بلدانهم، جاؤوا يبحثون عن فسحة حرية في ظلال الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.. ومن بين هؤلاء سعدي يوسف، وفخري كريم، لميعة عباس عمارة، العفيف الأخضر، سليم بركات وغيرهم.
ومن بين الظواهر الثقافية العديدة، كانت هناك ظاهرة أدباء الرصيف التي أطلقها علي فودة، رسمي أبو علي، أبو روزا وآخرون.
واستطعنا في تلك الأيام إقامة أنشطة ثقافية ذات طابع قومي، مثل (ملتقى قلعة شقيف الشعري) الذي جمع نخبة الشعراء والنقاد العرب ومنهم أدونيس، امل دنقل، شوقي بغدادي، ممدوح عدوان، نزيه أبو عفش، سليمان العيسى، كما استطعنا تجميع لقاء ثقافي عربي لتكريم زيتونة فلسطين.. أبو سلمى.
كذلك استطعنا أن ننظم لقاءات لشخصيات ثقافية عالمية من بينها رسول حمزاتوف، وميكس ثيودوراكس.
وعلى هذه الرقعة الضيقة التي سميناها (شارعنا الأخير)، كانت مساحة الحرية واسعة، صحيح أن الأمر لم يخلُ من بعض المضايقات، إلا أن المساحة كانت اوسع من أي مساحة أخرى في الوطن العربي.
في هذه الأجواء، كتب محمود درويش قصائده التي مثلت علامات بارزة في مسيرة الشعر العربي المعاصر.. وفي هذه الأجواء كتب أيضاً معين بسيسو، وعز الدين المناصرة، ومريد البرغوثي وأحمد دحبور، ونزيه أبو نضال، ورشاد أبو شاور، وتوفيق فياض، وغسان زقطان، وزكريا محمد، ووليد الخزندار، وأمجد ناصر، ومي صايغ، وكاتب هذه السطور، وقائمة أخرى طويلة..
وكنت تستطيع في الوقت نفسه أن تلتقي بكل هؤلاء الناس في الشارع أو المقهى أو المطعم أو المكاتب، ولم يكن نبيل عمرو مدير الإذاعة آنذاك، على سبيل المثال، بحاجة للاتصال التلفوني ليحثنا على الكتابة للإذاعة ، فمن شرفة الطابق الذي يعمل فيه، كان يستطيع أن يلتقي من يشاء ويدعوه للصعود، لشرب القهوة، وتقديمه إلى الميكروفون.
ذكريات تلك الأيام، لا يمكن اختزالها بكلمات سريعة، وعندما نفتح حديث الذكريات ذات يوم، فثمة ما يمكن قوله من دون اقتضاب.
وفي هذه الأجواء عاش محمود درويش وانغمس في حركة الأشياء، وحافظ على شروطه في الحياة، ودافع عن الحرية، حرية ثورته ووطنه وشعبه، كما دافع عن الحريات العامة، وتصدى لمحاولات الإرهاب الفكري.
عاش في بيروت واحبها، على الرغم من السيارات المفخخة وكواتم الصوت، والقصف العشوائي.
ربطته صداقات خاصة مع الأخ أبو عمار والأخ صلاح خلف (أبو إياد). كان الأخ أبو عمار آنذاك هو القائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، وفي أغلب خطبه كان الأخ أبو عمار يستشهد بأبيات من الشعر العربي القديم، وبعد انتهاء الخطاب، كان يحلو لمحمود أن يمازحه، ويطلق عليه لقب: الشاعر العام.
كان محمود يحب (الختيار)، ويزوره في مكتبه بالفاكهاني، لعله مثل أبي الطيب المتنبي كان يبحث عن رمز، وعن صورة للبطل والقائد الذي يعيش في خياله، وأذكر أننا ذات صباح، كنا على موعد مع القائد العام، فتوجهنا أنا ومحمود للالتقاء به، وقبل أن نصل، ملأ أزيز الطائرات الأرض والسماء، ثم دوت الانفجارات التي هزت البنايات العالية عند (دوار الكولا).. كانت غارة إسرائيلية.
هبطنا من السيارة على عجل، وانتقلنا إلى أقرب مدخل في العمارات المحاذية، وقال محمود بقلق: إن الغارة تستهدف مكتب أبو عمار.
ولم ننتظر إلى أن تنتهي الغارة، وركضنا باتجاه مكتب قريب يديره الأخ عمر الخطيب (أبو شامخ) للاستفسار عما يحدث، وهناك علمنا أن الغارة كانت تستهدف القائد العام فعلاً، ولكنه لم يكن قد وصل إلى مكتبه بعد.
وبالمقابل، كنت شاهداً على موقف آخر، من زاوية أخرى..
فبعد خروج المقاومة من بيروت عام 82، أصرّ محمود درويش على البقاء.
ظل مقيماً في بيته إلى أن اجتاحت إسرائيل مدينة بيروت ودخلتها، وبدأت تبحث عن فلسطينيين مطلوبين.. اقتحمت مركز الأبحاث الفلسطيني وصادرت محتوياته من كتب ووثائق، واعتقلت عدداً من المطلوبين، وبدأت تبحث عن محمود درويش لاعتقاله.
كنّا أيامها في دمشق، وكان الأخ أبو عمار يتابع أخبار محمود بقلق كبير، وعندما التقطنا خبراً عن وجود محمود في مكان آمن، واخبرنا به أبو عمار الإنسان، فرح هذا القائد فرحاً ليس له مثيل، وقال إن محمود قيمة ومفخرة للشعب الفلسطيني.
أبو إياد، كان أقرب القادة إلى المثقفين الفلسطينيين..
كان قائدنا وصديقنا، كان مثقفاً وديمقراطياً.. ولا أستطيع أن أصف في هذه العجالة دفء روحه، وعلو قامته الإنسانية، أتذكر آخر أمسية أقمناها في تونس قبل عودتنا إلى أرض الوطن، حين غصّ محمود درويش بالكلمات، وبكى وهو يوصي الشعب التونسي بشهدائنا الذين يرقدون بالقرب من حمام الشط..
وأحسب أنه تذكرهم جميعاً، وتذكر بشكل خاص أبو إياد..
وأحسب أن محمود الذي أثخنته الجراح، لم يعد يحتمل رحيل المزيد من الأصدقاء، ولا أنسى صرخته في إحدى قصائده التي كتبها قبل خروجنا من بيروت: أصدقائي.. لا تموتوا..
ولكنهم ماتوا، رحلوا، ومن بين الذين رحلوا في تلك الأيام، الصديق والقائد والإنسان ماجد أبو شرار..
استشهد ماجد في روما عام 81 وكنا معه نحضر مؤتمراً عالمياً لدعم الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، نظمه اتحاد الصحفيين العرب بالتعاون مع جهات ثقافية إيطالية. كان يحب روما، كان يقول: روما متحف كبير، ولم يدر بخلد ماجد أن الموساد يترصده، لذلك جاء إلى روما دون أن يصطحب أحداً من مرافقيه أو حرسه الشخصي.
تصرف كمثقف يشارك في مؤتمر للمثقفين.
وضع عملاء الموساد المتفجرات تحت سريره. عندما استشهد ماجد، قررت الشرطة الإيطالية نقل المثقفين المشاركين الذين يعملون في أجهزة منظمة التحرير إلى فندق خاص، كي تسهل عملية حمايتهم إلى حين رحيلهم عن روما في اليوم التالي.
وضعونا- محمود وأنا- في غرفة واحدة. غرفة مغلقة النوافذ، يقف على بابها جندي في حالة استعداد.
كان محمود حزيناً، جلس على حافة السرير ودوّن بعض الكلمات، صمت قليلاً ثم ذرع الغرفة، وبعد حين فتح النافذة ثم أغلقها. كان يتساءل إن كان جهاز الموساد حقاً يترصدنا، وينتظر اللحظة المواتية ليطلق علينا الرصاص.. نحن هنا بمأمن، ولكن إذا خرجنا، فإن الحكومة الإيطالية لن تكون مسؤولة عن حياتنا.
وفجأة، قال لي محمود: ما رأيك في أن نموت...
قررنا الخروج على مسؤوليتنا الشخصية، وعندما خرجنا، نظر إلينا الجندي بدهشة، لكننا لم نعره اهتماماً، هبطنا في المصعد، وخرجنا نبحث عن مكان نشرب فيه فنجان قهوة..
كنا ننظر بريبة لكل من يحدّق بنا، لعل القاتل يختبئ وسط الزحام، لعله يظهر فجأة ويلقي علينا قنبلة أو يمطرنا بزخة رشاش. وبعد القهوة، قررنا أن نمشي، وأن نضيع في الزحام. مشينا في شوارع لا نعرفها، وفي دروب نجهل إلى أين تفضي، كانت روما في تلك الليلة مدينة بلا قلب. وعلى الرغم من سعة هذه المدينة الكبرى، فقد كانت في تلك الليلة أضيق من أن تتسع لأحزاننا وهواجسنا.
صمتنا لفترة طويلة أثناء سيرنا، وفجأة سألني محمود: هل تألم ماجد عندما حدث الانفجار ومزق جسده. ثم أضاف: أعتقد أنه أدرك ولو لثانية صوت الانفجار قبل أن ينتهي كل شيء. كيف شعر في تلك الثانية؟
أحسست أن حواراً إنسانياً، حواراً وجودياً يدور في أعماق محمود، أحسست أن أبواب المأساة الفلسطينية تنفتح في تلك اللحظات على سعتها في شغاف قلبه المرهف.
في صباح اليوم التالي، جاء العميد سعد صايل، جاء من بيروت ليصطحب جثمان الشهيد ماجد.
التقيناه في مبنى السفارة الفلسطينية في روما، سعد صايل قائد عسكري فذّ، قائد خبير في إدارة الأزمات، يمتلك أعصاباً حديدية، ومعنويات لا تهتز، لا يبتسم ولكنه يمتلك ملامح مريحة.
أصدر لنا أوامره دون أن يفسح المجال للنقاش، عودوا فرادى. غيروا المحطات على الطريق. نستطيع أن نجند مقاتلين في كل وقت، ولكننا لا نستطيع أن نخترع كاتباً أو شاعراً أو فناناً.
عودوا سالمين فنحن بحاجة إليكم، كان يخشى من عملية خطف للطائرة الخاصة.
كنا نحبه، ولكننا لم نطع أوامره، أردنا أن نعود معه على متن الطائرة التي ستنقل الجثمان إلى بيروت.
وفوجئ بنا سعد صايل (أبو الوليد) عندما زحفنا جميعاً إلى المطار لنرافقه في الرحلة. عرف أننا عصينا أوامره لكنه ابتسم ابتسامة لا تكاد تلحظ، وهز رأسه، ووافق على أن نرافقه وأن نرافق الحبيب ماجد.
***
كان صوت محمود العالي يهتف دائماً: تحيا الحياة..
لقد أحب الحياة بكل جوارحه، عاشها بكل التفاصيل...
أخلص للكتابة كما لم يخلص لها أحد. عاش مثلنا حالة رحيل دائمة في ديار الغربة والشتات. وأثناء زيارة له إلى فيينا، داهمته ذبحة صدرية، وادخل إلى المستشفى، إلى غرفة العناية الفائقة. زاره العديد من أصدقائه ومحبيه.
ذات يوم من أيام 1984، جاءنا الخبر..
سافرت لزيارته بصحبة الصديق جميل هلال.
زرناه في المستشفى، لم يكن مسموحاً لنا أن نكلمه.. كنا ننظر إليه من وراء الزجاج لمدة دقيقة واحدة.
وكنا نمضي معظم الوقت في صالة الانتظار.
أثناء تلك الزيارة، كانت معنويات محمود هابطة، فلقد رحل خلال أيام قليلة ثلاثة من نزلاء المستشفى.. توقفت قلوبهم عن الخفقان، ورحلوا إلى الأبدية..
في صباح باكر، اتصل بنا سفيرنا في النمسا آنذاك، الصديق داود بركات، وأخبرنا أن هذا اليوم يصادف عيد ميلاد محمود، وسوف نحتفل مع عدد من الأصدقاء بهذه المناسبة على طريقتنا الخاصة.
لم نفهم معنى كلمة (على طريقتنا الخاصة) ولكننا عندما وصلنا المستشفى، وجدنا أن السفير داود قد أحضر معه زجاجة شمبانيا، وكعكة ميلاد.
بطريقة أو بأخرى، اقتحمنا غرفة العناية الفائقة حيث يرقد محمود.
كنا أربعة على ما أذكر، السفير، وجميل هلال، وغانم زريقات، وأنا.
نظر إلينا محمود بدهشة.. ما الذي يجري؟
قال له السفير: جئنا نحتفل بعيد ميلادك.
هل هزته الفكرة؟ هل كان يعرف أن هذا اليوم يوم ميلاده؟
لعل الفكرة أعجبته، فقد طلب أن نسنده، وأن نضع وسادة وراء كتفه.
وضع السفير الكعكة والزجاجة على الطاولة الصغيرة التي يتناول محمود عليها طعامه، ثم أخرج من جيبه عدداً من الكؤوس.. بدأ محمود يستيقظ، بل إنه بدأ يبتسم.
وعند ذلك دخلت الممرضة، دخلت وارتسم على وجهها الغضب.
ما الذي يجري هنا؟ وكيف نتجرأ على اقتحام مكان يخضع لسيطرتها؟ ماذا تفعلون هنا؟ قالت والجنون يشتعل في عينيها؟
خاطبها السفير بدماثة ورقة: اليوم عيد ميلاده.
أجابته بصرامة: ممنوع.. من فضلكم.
لم يأبه السفير لكلامها، وعمد إلى الزجاجة فتناولها، وأخذ يعالجها.. انطلقت السدادة ودوى صوتها في الغرفة الصغيرة، فصاحت الممرضة مرة أخرى: ممنوع.. لا يجوز أن تفعلوا ذلك.
ثم خرجت، ربما لتطلب لنا الشرطة.
غير أنها عادت بعد قليل بصحبة الطبيب المشرف على العلاج.
تحدث معه السفير بالألمانية، أصغى الطبيب باهتمام، ثم هزّ رأسه وسط دهشة الممرضة.
سمح لنا بأن نواصل الاحتفال.. وقال للسفير:
إن هذا الأمر لا يفعله إلا أناس تمتلئ رؤوسهم بالجنون.
وزاد بأن شرب كأساً نخب محمود، وسمح لنزيل غرفة العناية الفائقة بشرب قطرة واحدة من الشمبانيا.
كانت لمسة لطيفة تلك التي بادر إليها الصديق الطيب داود بركات، لمسة هزت مشاعر محمود، ورفعت من معنوياته، وقد تكون ساعدته على الشفاء العاجل..
***
لم يكن محمود متطرفاً في يوم من الأيام..
كان دائماً ينتمي إلى تيار الواقعية السياسية، ولكنه لم يستطع أن يستوعب ما حدث في أوسلو..
لم يكن متطرفاً في يوم من الأيام،ولذلك اكتفى بمعارضة الاتفاق، وعبر عن رأيه من خلال موقف عقلاني.
عندما كنا نتهيأ لمغادرة تونس، والعودة على أرض الوطن، فضل محمود التريث والانتظار.
عدنا، وظل محمود يتابع أخبارنا..
بعد عدة أشهر، اتصلت به من رام الله، وكان مقيماً في باريس.
جاء صوته عبر الهاتف حنوناً، دافئاً، متلهفاً:
كيف أنتم؟ الناس هنا يسألونني ماذا تفعل، لقد عاد الجميع إلى فلسطين.. ما الذي يحدث عندكم؟ هل زرت قريتك سمخ؟ ما هو انطباعك؟
قلت له: زرت سمخ، وعلى الرغم من مرور خمسين عاماً على احتلالها، فإنهم لم يستطيعوا نقل بحيرة طبرية من مكانها.
وقلت له: هل تتذكر يا محمود ماذا قلت في قصيدة مديح الظل العالي؟ لقد تذكرت بيتك: وحدي هنا أدافع عن جدار ليس لي.
أما الآن، يمكن أن تقول:
لست وحدي
وأدافع عن جدار صار لي.
كانت مكالمة حميمة، شعرت بعدها أن موعد عودة محمود سيكون قريباً.
وبالفعل، عاد محمود أخيراً إلى أرض الوطن، عاد الحصان الذي تركناه وحيداً..
عاد ممتلئاً بالصهيل.
***
عاد محمود إلى وطنه. لم يعد إلى البروة حيث ولد، أو إلى الجديدة حيث تعيش أسرته، لكنه عاد إلى بقعة ما في وطنه.
سكن رام الله، أحبها..
لقد عاد، لعله سئم الرحيل المتواصل، سئم العواصم الكبرى، والشوارع المكتظة، والمطاعم الفاخرة، والمطارات العملاقة، والمؤتمرات الدولية، والقاعات الواسعة، والأضواء الساطعة، لعله سئم الشهرة والمجد، وحنّ إلى الحياة العادية البسيطة، مع الناس الذين نذر حياته من أجلهم.
عاش محمود حياة حافلة، حياة مليئة بالتفاصيل، ولا أزعم أن هذه الشهادة القصيرة يمكن أن تلم بهذه الحياة الحافلة، وإذا كنت قد ذكرت بعض الأحداث العابرة في حياته، فإن ذلك جاء في سياق الحديث عن جوانب إنسانية، وربما جاء ذلك، كما يقولون، على سبيل المثال لا الحصر.
حياة محمود أغنى من أن تلخص في صفحات قليلة، وأعمق من أي حديث عابر، وأوسع من أن يحدّها إطار.
لسواي من النقاد أن يدرسوا شعر محمود ودلالات حياته الحافلة، أما أنا، فمن مقاعد المعجبين والمحبين لمحمود، أكتب.
القدس العربي
02/10/2008